؛؛ اذا اخذ افراد الجمهور القانون بايديهم فسوف ينتهي السلم الاهلي ونعود الى قانون البحر: السمك الكبير ياكل السمك الصغير؛؛
كل قرار تتخذه جهة حكومية يفيد شريحة من الجمهور ويضر اخرى ، والفرضية الثابتة ان تكون الشريحة المستفيدة هي الاغلبية العظمى . ويندر – بل ربما يستحيل – ان لا يكون ثمة متضرر من اي قرار . كما يفترض ان يلحظ صاحب القرار الوسائل التي تعوض الاقلية المتضررة او تخفف الاضرار التي لحقت بها. ترى ما هو الاساس في تحديد الفائدة المفترضة وحجم الشريحة المستفيدة؟.
اهمية هذه السؤال تنبع من الحاجة الى اقناع الجمهور بان القرارات التي تتخذها الدوائر الحكومية تستهدف – فعليا – ضمان مصالحه . ثمة قرارات تراها النخبة الرسمية ضرورية ، لكن الجمهور ينظر اليها بارتياب ، او ربما يرى فيها اضرارا بمصالحه . وربما تفيد شريحة واسعة وتضر اخرى . في كلا الحالتين ، فان تكرار هذه الممارسة ، دون الاخذ بعين الاعتبار وسائل التعويض عن اضرار القرار ، قد تؤدي الى تبلور فكرة " ما حك جلدك مثل ظفرك " . هذه الفكرة العميقة الجذور في الثقافة الشعبية ، هي الاساس لما يوصف اليوم باخذ القانون باليد . وهي تتبلور اذا شعرت شريحة من الجمهور بان صاحب القرار لا يسمع صوتها ، او ليس مهتما بمصالحها ، او عاجز عن حمايتها . عندئذ يتنادى البعض الى فرض قانونهم الخاص ، اي اخذ ما يعتبرونه حقا بيمينهم ولا يلقون بالا الى القانون العام او هيبة الدولة .
كل مواطن ، سواء كان في السلطة او خارجها ، معني بتوفير الوسائل التي تضمن النظام العام ، وفي ظني ان ابرز تلك الوسائل هي رضى الجمهور.
في مثل بلادنا فان ما يفيد الجمهور وما يضره يتقرر في اجتماعات تضم عددا محدودا ممن يوصفون بالنخبة ، وهم اما موظفون تنفيذيون او مستشارون. في كل هذه الحالات فان صوت الاغلبية العظمى من الشعب ، اي الشريحة المستهدفة بالقرار ، غائب تماما . وهذا يثير امامنا السؤال الذي طالما أرق علماء السياسة : هل تستطيع النخبة الاحساس بحاجات الجمهور العام كي تقرر ما يصلح له وما لا يصلح ؟ . بديهي ان بعض قومنا سيجيب بسؤال آخر : وهل يستطيع عامة الناس تقرير ما يفيدهم وما يضرهم ؟ . او – بكلمة اخرى – : هل بلغوا سن الرشد ؟.
- منذ زمن طويل افترض الفلاسفة اليونانيون (ارسطو وافلاطون مثلا) ان العيب الاكبر للديمقراطية هو مساواتها راي رجل الشارع براي العالم حين يتعلق الامر باتخاذ قرار او وضع قانون. وتأسيا بدعوة افلاطون الى حكومة النخبة ، فقد مال معظم قراء التراث من قومنا الى هذا المنحى ، ذلك ان افضل ما في الفكر السياسي الذي ورثناه ، لا يعدو ان يكون اعادة انتاج لما ترجم عن الفلسفة اليونانية.
بين تلك الازمان وهذا الزمن ، حدث تغيير في غاية الاهمية ، ربما لم يلحظه كثير من قراء التراث ، الا وهو تحول قاعدة الحق او ما يسمى اليوم بمصدر السلطة . قاعدة الحق هي جواب على سؤال فحواه : باي مسوغ يجوز لزيد من الناس ان يأمر وينهى ويتصرف في حياة الغير واموالهم ، اي يمارس السلطة ؟ . وفي الماضي كان الجواب على هذا السؤال يقول ان الكفاءة هي التي تعطي هذا الحق . وبالتالي فان النخبة ، لا سيما تلك التي جرى استيعابها في اطارات الدولة المختلفة ، هي الموصوفة بالكفاءة ، والتي تملك – بالتالي – الحق في تقرير واجبات الناس وحقوقهم . في العصور الحديثة تغيرت هذه القاعدة كليا ، فتحولت من مصدر للحق الى شرط لممارسته . اما مصدر الحق فاصبح رضى الجمهور. بكلمة اخرى ، فان حق زيد في ممارسة السلطة قائم على رضى الجمهور بزيد وقبولهم بممارسته لهذا الحق ، اما الكفاءة فـتأتي كشرط فرعي او متأخر.
- سيقول سائل : ان هذا التحول ليس تطورا الى الافضل ، بل ربما هو اقرب الى التراجع ..
وقد اجيب عليه بان التحول المذكور نتج عن تطور سابق ، الا وهو تحول مفهوم الشعب من وصف "الرعية" الذي اشتهر في الازمان القديمة الى وصف "المواطن" الذي اصبح من اركان علم السياسة المعاصر. مفهوم الرعية يوحي بالتبعية المطلقة ، وهي تنطبق تماما على جمهور غافل القى ازمة امره الى سيد ذكي ينوب عنه في التفكير والتخطيط وتحديد ما هو صحيح وما هو باطل .
في الازمان الحديثة ، فان كل فرد من الشعب هو مواطن ، يتساوى مع غيره من المواطنين على قاعدة المشاركة في التراب ، اي المنطقة الجغرافية المحددة باعتبارها دولة قومية. بناء على المساواة المذكورة ، فانه لم يعد لشخص محدد الحق في ان يقرر بمفرده انه متفوق على الغير . لا بد ان يوافق الاخرون على هذا التصور فيمنحونه الحق في امرهم ونهيهم . هذا المفهوم هو ما يسمى اليوم بالشرعية السياسية . ان شرعية القرار تنبع من قبول عامة المواطنين بالاساس الذي يقوم عليه.
لا بد ان تكون المصالح المنظورة في اي قرار مقبولة من جانب اغلبية الشعب ، ولا بد من تعويض الاقلية عما سيترتب عليها من اضرار من جراء تطبيق القرار . وهذا هو السبيل الوحيد – ضمن الظروف الحالية – لتلافي ميل الجمهور ، او بعض فئاته ، الى اخذ القانون بيدها بدلا من الخضوع للقانون العام الذي يفترض ان يتساوى تحته الوزير والغفير. ان الشرعية السياسية مثل الكائن الحي ، تقوى وتضعف وتتأثر بعوامل البيئة المختلفة ، ولا بد اذن من الاهتمام بصيانتها ، لانها الاساس في تثبيت استقرار البلاد ونظامها العام.
عكاظ 29 -11- 2003
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق