17/01/2006

من يدلنا على فقيه شجاع ؟


 لا بد ان الكثير من الناس قد تساءل بعد الفاجعة الرهيبة التي شهدتها منى ثاني ايام العيد عن الحكمة من الزام الحاج برمي الجمار في هذا الوقت الضيق ، من الزوال الى الغروب . وهو رأي فقهي تركه كثير من الفقهاء من القدامى والمحدثين ، لكنه لازال الحكم المعتبر من جانب الاكثرية . لا يوجد دليل قطعي لا نقاش فيه على منع الرمي في الاوقات الاخرى ، ولهذا فان بعض الفقهاء المعاصرين اجاز الرمي ابتداء من الليل ، وقال آخرون بجوازه بدءا من طلوع الشمس .

حتى اليوم فان العدد الرسمي للقتلى قد تجاوز 360 شخصا ، وهناك المئات غيرهم في المستشفيات ، نسأل الله لهم العافية . وللاسف فان هذه المشكلة قد تكررت في معظم الاعوام الماضية. وهي تجربة تؤكد استحالة السيطرة الكاملة على حركة ما يقرب من مليوني شخص ، يريدون جميعا اداء الرمي خلال اقل من ست ساعات.
ومن المحتمل ان تتفاقم المشكلة ، مع تزايد عدد الحجيج في المستقبل ، حيث تشير التقديرات الى زيادة سنوية ثابتة لا تقل عن خمسة بالمائة . اي اننا نتحدث عن حوالي مائة وخمسين الف حاج اضافي كل عام .
كي نسهل لهذه الاعداد المتزايدة اداء النسك ، فاننا بحاجة الى استعدادات مناسبة ، على مستوى الاسكان والنقل والغذاء والطاقة والامن وغيرها . لكن ماذا عن الجانب الفقهي ؟.

في ازمان سابقة ، حين كان الحجيج قلة ، وكان الامن معدوما ، اجاز الفقهاء الرمي مبكرا او متاخرا اتقاء للحيوانات المفترسة او قطاع الطرق . وهي مشكلة غير قائمة اليوم ، لكن الحكم فيها يعد اشارة الى عقلانية الفقيه في التعامل مع موضوع الحكم الشرعي . من البديهي ان الشارع  يريد حكما قابلا للتطبيق على النحو الامثل . ولهذا قيل بان الاجتهاد لا يعني الحصول على حكم فقط ، بل الحصول على حكم في تطبيقه مصلحة بينة . ولا شك ان ازهاق النفوس هو اكبر المفاسد . اشرت آنفا الى انه لا يوجد سبيل لضمان سلامة مليوني حاج يتحركون في مساحة محددودة في وقت ضيق يقل عن ست ساعات . وليس من الحكمة – ولا من الممكن – منع الناس من الحج . ولهذا فان الحل الوحيد الباقي هو توسيع الفسحة الزمنية المسموح بها لرمي الجمار كي تبدأ من مغرب اليوم السابق ، على القول بان المغرب هو اول اليوم او من منتصف الليل الى منتصف الليل على القول الاخر.

اقول ان هذا الراي الذي توصل اليه بعض الفقهاء الان ، يحتاج الى تعميم ، ونتوقع من جميع الفقهاء الاخرين ان يفتوا به ، خاصة مع عدم الاجماع على خلافه.

نشير لهذه المناسبة ايضا الى مسألة التضحية ، فطبقا لتقديرات شبه رسمية فان سبعمائة الف من الاضاحي تذبح ثم تحرق او تدفن ولا يستفيد منها احد . والسبب في ذلك هو - مرة اخرى - العدد الهائل للاضاحي في وقت ضيق جدا . ومنذ بضع سنوات نظم بنك التنمية الاسلامي مشروعا ضخما لاعادة توزيع الاضاحي المذبوحة على فقراء المسلمين ، لكن هذا المشروع لا يفي بالغرض لا سباب فنية واقتصادية . ان اقصى ما يمكن اعادة نقله الى الدول الفقيرة لا يتجاوز في احسن الحالات ربع الاضاحي ، وتتوزع نسبة قليلة على فقراء الحرم والجوار ، اما النسبة الغالبة فتذهب الى المدافن او المحرقة . 

وفي هذا الوقت فان مئات الالاف من الناس ، من المسلمين وغيرهم يموتون من المجاعة او سوء التغذية في بقاع اخرى من العالم . ترى اليس من العقلاني ذبح بعض هذه الاضاحي في كشمير لمساعدة ضحايا الزلزال الاخير الذين فقدوا كل مقومات حياتهم . وذبح البعض الاخر في النيجر التي مات عشرات الالاف من المسلمين فيها ، ولا سيما من الاطفل بسبب المجاعة وسوء التغذية ؟ . ان الاضاحي التي تدفن او تحرق في منى يمكن ان تطعم ملايين من البشر في الدول الفقيرة طيلة عام كامل ، فتحفظ نفوسا بريئة هناك ، وتعمم بركة الحج على المساكين وذوي الحاجة في كل مكان من العالم .
نتيجة بحث الصور عن ‪sheep cattle‬‏
قبل بضعة اعوام اجاز اية الله الخميني للحجاج الايرانيين دفع قيمة اضاحيهم لضحايا زلزال كان قد ضرب غرب ايران . وسجل بذلك سابقة في الربط بين الحكم الشرعي والمصالح العقلائية المبتغاة من ورائه ، فهل نرى اليوم فقهاء آخرين يتحلون بالشجاعة والقدرة على اعادة تاسيس الاحكام الشرعية على المصالح العقلائية الواضحة للمسلمين ، كي يفتوا للحجاج بتوجيه قيمة اضاحيهم لاعادة اعمار مدن المسلمين المدمرة في اندونيسيا وكشمير وافغانستان والشيشان ، وتوفير المياه الصحية والدواء للمسلمين في النيجر وتشاد ومالي وغيرها من المجتمعات المسلمة التي يموت اهلها بسبب المياه الملوثة وسوء التغذية والفقر ؟.

الاسلام اليوم بحاجة الى نهضة ، ليس في المجال العمراني والثقافي فقط ، بل في المجال الفقهي ايضا ، ولا سبيل الى ذلك غير التحرر من القوالب الضيقة المتوارثة في الفقه ، واعادة الارتباط بين الاحكام الشرعية وواقع حياة المسلمين .

الايام 17 يناير 2006
مقالات ذات علاقة



03/01/2006

ان تكون عبدا لغيرك

كلنا يريد الحرية وكلنا يخاف منها.  نريد التحرر من سيطرة الاقوياء ومن الانظمة الضيقة النظر ، ونرى ان من حقنا ان نعيش كما نريد. لكن ، حين يأتي وقت التطبيق ، ولا سيما حين يمارس غيرنا حريته على نحو يخالف ما ألفناه وما نرغب فيه ، فاننا نشعر بالقلق وقد نكتشف في الحرية التي طالبنا بها ، جوانب مرعبة  تبرر لنا التراجع عن ذلك المطلب ، وربما التنازل عن حريتنا الخاصة.
نريد مثلا التمتع بحرية التعبير عن ارائنا من دون قيود. نريد ان يسمع الاخرون ما نقول في الصحافة والمجالس العامة والتلفزيون. لكن حين يأتي شخص آخر ويوجه الينا سهام نقده ، الى اشخاصنا او معتقداتنا او مواقفنا الاجتماعية ، فاننا ننظر اليه كتهديد ونتعامل مع ارائه كما لو كانت اعلان حرب. في حقيقة الامر فان ما فعله ذلك الشخص لم يكن سوى ممارسة لحق سبق لنا ان مارسناه او طالبنا به. 
بكلمة اخرى فان مشكلتنا مع الحرية تكمن في اننا نريدها لانفسنا فقط وليس لنا ولغيرنا في الوقت نفسه. يضيق شخص عادي مثلي بآراء الاخرين ويتمنى لو كان بيده القوة لمنع تلك الاراء البغيضة. ولو حصلت لي هذه القوة في يوم من الايام ، فلعلي لا اتردد في تحقيق تلك الامنية ، اي حرمان الغير من حرية التعبير عن ارائهم المزعجة. واذا لم تحصل لي تلك القوة ، فقد ابحث عن وسيلة اخرى مثل توجيه السباب الى ذلك الشخص واتهامه في دينه او اخلاقه او امانته او وطنيته ، على طريقة العربي القديم الذي لم يجد عزاء حين سرقت جماله سوى الشتيمة : "اوسعتهم سبا وراحوا بالابل".
ثمة اسباب متعددة لهذا السلوك الملتبس ، تاريخية واجتماعية وسياسية. ولعل ابرزها هو افتقار تراثنا الثقافي الى مفهوم يشبه مفهوم الحرية الذي نتداوله اليوم. وحسب تعبير آية الله شبستري ، الفقيه الايراني المعاصر ، فان مفاهيم مثل الحقوق الفردية والحريات المدنية ، هي جديدة تماما في ثقافتنا الدينية وقد اكتشفناها فقط حين اتصلنا مع الغرب[1]. صحيح انك قد تجد في تراثنا الديني اشارات الى حقوق طبيعية للانسان ، ومن بينها مثلا حرية اختيار دينه واختيار طريقته في الحياة. لكن هذه الاشارات لم تتحول الى فلسفة عامة في حياة المجتمع وفي علاقة الافراد مع بعضهم.
قامت فلسفة الحرية في الغرب على استقلال الفرد بنفسه ، وتحرره من تدخل أي طرف خارجي في صياغة حياته ، سواء كان عائلته او مجتمعه او حكومته. وقيل بناء عليه ان علاقة الفرد مع مجتمعه علاقة تعاقدية ، ومثل ذلك علاقة المجتمع مع الدولة. وعلى هذا الاساس جرى قصر تدخل المجتمع في حياة الفرد ، وتدخل الدولة في حياة المجتمع ، على الحد الادنى الذي يوافق عليه الفرد. 
ونتيجة لهذا ، اعتبر الدين والثقافة والسلوك الشخصي ونمط المعيشة ، امورا شخصية لا يحق للمجتمع او الدولة فرضها على الافراد. وذلك لان الافراد ارادوا ان يتحرروا من تدخل غيرهم في هذه الامور. ارادوا ان يعبدوا ربهم بالطريقة التي يرونها مناسبة ، وان يفكروا ويعبروا عن افكارهم الى المدى الذي تصله عقولهم ، وان يعيشوا حياتهم من دون انشغال بما يعجب فلانا او يرضي علانا. 
في حقيقة الامر فان الحياة والدين والثقافة لم تعد عبئا ثقيلا على الانسان ، بل ممارسة حرة مريحة. ولهذا فان المسلم الذي يعيش في الغرب ، لا يجد عسرا في التعبير عن دينه او رأيه ، او اختيار لباسه او نمط معيشته او العمل الذي يلائم خبراته.
اما في بلاد المسلمين ، فلا يستطيع المسلم ان يجاهر برأي يخالف الراي السائد ، او يلبس لباسا يخالف العرف السائد ، او يعمل عملا يخالف التنميط السائد. في نهاية المطاف فان حياة الانسان تتحول الى عبء عليه ، ولا بد ان يتكلف حتى يرضي الناس ويسلم من السنتهم او ردود فعلهم. الناس يريدونك ان تكون مثلهم ، تقول ما يقولون وتفعل ما يفعلون ، لان الجميع متفق على ان الفرد غير موجود ، واذا وجد فلا قيمة له ولا اعتبار. الجماعة هي الموجود الوحيد المعتبر ، وعلى كل فرد ان يذوب فيها او يعتزل.
نعود الى مقالة شبستري ، الذي يرى ان المسلمين قد تعارفوا على القبول بمفهوم الحقوق الفردية والحريات المدنية ، لان الفقهاء – بعضهم على الاقل – قد اقر بها ، فدخلت في النطاق المعرفي الديني وان لم يكن لها اصل راسخ في ماضيه. وهذا الاقرار يمثل خطوة اولى في طريق تحويلها من فكرة عامة غائمة الى اصل من اصول حياتنا وفلسفة تقوم عليها ثقافتنا ونظرتنا الى انفسنا والى الناس والعالم المحيط بنا. 
الحقوق الفردية والحريات المدنية تعني – في جانبها الفلسفي – ان كل انسان حر:  يولد حرا ويبقى حرا ، حرية لا يستطيع احد مهما بلغ شأنه ان يسلبها منه او يستنقصها او يحددها. هذه الحرية ليست فقط حرية الانسجام مع الاراء السائدة وانماط المعيشة المتعارفة ، بل هي في الاساس حرية اختيار هذه الاراء والانماط ، فلو اراد شخص ان يخالف المجتمع ، كأن يغير معتقداته ، او اراءه ، او انتماءه ، او طريقة حياته  ، فذلك كله حق طبيعي له.
لكل انسان الحق في اختيار الحرية او اختيار العبودية ، وبطبيعة الحال فان غالبية الناس يأبوا ان يكونوا عبيدا لغيرهم ، لكنهم يستمرئون العيش كأتباع ، تبعية لا تختلف – من حيث الجوهر – عن العبودية. وقد يرون في هذا القدر من العبودية راحة نفس او سعادة او مصلحة. هم احرار في ان يفعلوا هذا لانهم احرار في اختيار نوعية حياتهم ، وغيرهم – بنفس القدر - حر في مخالفة هذا السبيل ولنفس الاسباب. تلك هي اولا واخيرا فلسفة الحرية.

[1] محمد مجتهد شبستري: الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
   الايام - الاسبوع الاول من يناير 2006

مقالات ذات علاقة


 ان تكون عبدا لغيرك

20/12/2005

الجدل المذهبي والعاب الفيديو


 ~بعض الدعاة ، من الشيعة والسنة ، حول الجدل المذهبي الى حرب واستثمرها لكسب المال والشهرة}


اريد الاشادة هنا بشجاعة الشيخ حسن النمر ، الفقيه الشيعي السعودي ، الذي اعلن صراحة انه يحرم ويجرم شتم صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام ، رغم انه لا يعتقد بعصمتهم ولا يمنع نقد التجربة التاريخية التي خاضوها . وبهذه المناسبة فاني اشيد ايضا بشجاعة فقيه سعودي آخر هو الشيخ حسن الصفار ، الذي سبق الى اعلان مثل هذا الموقف . ويتمتع كلا الرجلين بمصداقية تضفي اهمية خاصة على اقواله . فكلاهما مشهود له بسعة العلم ويحمل لقب حجة الاسلام ، وكلاهما يتمتع بنفوذ بين قومه ، وبثقة كبرى المرجعيات الدينية ، كما يحظى الصفار باحترام كبير بين شيعة العالم .
وتكمن اهمية تصريحات الرجلين في الظرف الخاص والمكان الذي شهد اعلانها . خلال السنوات الثلاث الاخيرة تبلور بين السعوديين ، الشيعة والسنة ، شعور عميق بان عليهم وضع حد للجدل المذهبي السقيم الذي اضر بوحدتهم الوطنية واوشك في الوقت نفسه ان يقوض أخلاقياتهم الدينية .
منذ زمن طويل تحول الجدل المذهبي الى تجارة رابحة لعدد من الرجال ، من الشيعة والسنة . وكان من الامور المعروفة في مجتمعات الخليج ان اقرب الطرق الى الشهرة هو خوض هذا النوع من الحروب الوهمية . فالداعية الابرع في اصطناع القصص حول فساد عقيدة الطرف الاخر ، هو الاقدر على النفاذ الى قلوب الناس . وكانت الكتب الاكثر رواجا هي تلك التي تسرد الجدالات التاريخية والمعاصرة بين الفريقين.
في الحقيقة فان كلا من الطرفين ، الشيعة والسنة ، كان قد تصور نفسه يخوض حربا ضروسا في الدفاع عن عقيدته . لكنها لم تكن – في حقيقة الامر – سوى حرب رمزية ، فيها من الوهم كثير ومن الحقيقة اقل القليل. فهم لا يتجادلون حول تطوير بلادهم ، ولا حول مستقبل اطفالهم ، ولا يختلفون على سبل التحول الى مجتمع صناعي ينافس المجتمعات المتقدمة ، ولا يناقشون سبل تطوير العلم والمعرفة في مجتمعاتهم ، ولا يطرحون ابدا اي مسألة تتعلق بسبل النهوض الحضاري واكتساب القوة الذاتية . بل ينصب همهم كله على اثبات صحة او بطلان ما جرى قبل اربعة عشر قرنا من الزمن ، وتحديد المسؤول عن تلك الحوادث التي مضى زمنها ومات اصحابها وأكل عليها الدهر وشرب كرات ومرات ، ولم يعد لها من وجود في واقع الناس ، سوى الوجود الرمزي اذا لم نقل الوهمي.  بكلمة اخرى فان هؤلاء الناس مشغولون بحروب بين كائنات رمزية ، لها مسميات ولها عناوين ، لكن ليس لها وجود مادي في الواقع . حروب يستوى فيها النصر والهزيمة ، فلا المنتصر رابح ولا المهزوم خسران . ولهذا السبب بالذات فان قادة تلك الحروب وجنودها لا يكلون عنها ولا يملون منها ، فهي اشبه بالعاب الفيديو التي يستمتع بها الاطفال ايما متعة فينتصرون او ينهزمون دون ان يتحركوا من اماكنهم .  
video gaming, video games
 لكن اخطر ما في الجدالات المذهبية هو انها تولد او تعزز ثقافة الاقصاء ، التي تقود بالضرورة الى احتقار الطرف الاخر وفي مرحلة اعلى الى تكفيره ، واخيرا الى استباحة دمه . وما جرى في الجزائر في اوائل التسعينات ، وبعدها في افغانستان واليوم في العراق هو مثال على النتائج الكارثية لمثل هذه الثقافة البائسة .

منذ العام 2003 شهدت المملكة العربية السعودية ظهور تيار جديد يضم عددا بارزا من رموز النخبة الثقافية والسياسية وقادة الرأي ، تيار يدعو الى صياغة جديدة للعلاقة بين الاطياف المتعددة ، المذهبية والثقافية ، التي يتشكل منها المجتمع السعودي ، علاقة تقوم على احترام التنوع والتعدد الذي لا يخلو منه اي مجتمع والتاكيد على الشراكة المتساوية للجميع في التراب الوطني .


وكما جرت العادة فقد ارتاب كثير من الناس ، في هذا الطرف او ذاك ، في اول الامر ، في مصداقية هذه الدعوة وجدواها ، وبدأ بعضهم يتحدث عن خطوط حمراء وصفراء لا يمكن عبورها . وكما هي العادة ايضا فان تجار الخيبة قد رفعوا اصواتهم بالتحذير من مفاسد الحوار بين الطرفين وخطره الداهم على عقائد الناس . لكن مع استمرار الحوار الايجابي وشجاعة الرجال والنساء الذين شاركوا فيه ، فقد نجج الطرفان في ايصال شريحة واسعة من الجمهور الى فهم مشترك ، فحواه ان الجغرافيا قدر ، فما دمنا موجودين معا على ارض واحدة فلا يمكن لاحدنا ان ينفي الاخر او ينكره او يتجاهله . وان الاخوة والمحبة هي السبيل الوحيد لكي نعيش في امان وسلام ، ولكي تكون حياتنا ومستقبل اطفالنا اكثر جمالا وازدهارا .

في هذا المجال فان جانبا كبيرا من الفضل يرجع الى مبادرة الملك عبد الله بتاسيس مركز الحوار الوطني الذي احتضن حوارات متعددة ساهمت في تظهير هذا التيار الاصلاحي وتطوير طروحاته وعرضها على الملأ . كما اشير الى الدور الحيوي الذي لعبته جريدة "الوطن" في تجاوز الاوهام الموروثة في الصحافة المحلية التي دأبت على اغفال التعدد الواقعي في الاراء والتوجهات والانتماءات . قامت جريدة "الوطن" خلال السنوات الثلاث المنصرمة بالتاكيد على تعددية المجتمع السعودي ودعت الى الاقرار به واحترامه وفسح المجال امام تعبيراته الايجابية .

تصريحات الفقيهين الفاضلين النمر والصفار ، قابلتها دعوات متعددة من جانب كتاب ودعاة بارزين وشخصيات سياسية محترمة من السنة ، تدعو الى التخلص من القيود الثقيلة التي ورثناها من اسلافنا ، القيود التي تشدنا الى الماضي وتحجب عنا رؤية الحاضر والمستقبل . القيود التي تعيدنا الى الجدال والصراع حول الاموات والمقابر كلما اردنا ان نتحدث او نمد ايدينا الى الاحياء .

يمكن لنا كسعوديين ان نقوم بدور ريادي في اعادة الصفاء واللحمة الى عالم الاسلام . قد لا نستطيع الوصول الى وحدة اسلامية كاملة . لكن ليس ثمة شك في ان تحررنا من الصراع المذهبي والجدل حول الاموات ، سوف يسمح لنا بتوجيه اهتمامنا الى اعادة بناء حياتنا والتفكير جديا في اصلاحها وتطويرها . اي ان نفكر في بناء المستقبل بدل انشغالنا النفسي والثقافي في الجدل حول الاموات. (تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) . صدق الله العظيم.

13/12/2005

الشيعة في زمن جديد



ثمة احداث تختصر قرونا من التاريخ الثقافي للمجتمعات التي تعرضت لها . واظن ان سقوط صدام حسين هو من هذا النوع من الاحداث . فيما يتعلق بالشيعة فان هذا الحدث يرقى من حيث الاهمية الى مستوى الثورة الايرانية لعام 1979 والتي كانت بدورها مرحلة فاصلة بين عصر ثقافي جديد وعصر قديم استمر خمسة قرون على الاقل.
قبل الثورة الايرانية كان الاعتقاد السائد بين الشيعة ينفي امكانية قيام حكومة شرعية قبل عودة الامام المنتظر ، وكانت فكرة انتظار الامام هي البديل الثقافي عن السعي للسلطة ، ولهذا فان جميع الفقهاء تقريبا مال الى تحريم او تقبيح المشاركة في اي نوع من الحكومات القائمة في مختلف العصور ، واجازها بعضهم في حال الضرورة ، ووضع اخرون شروطا على هذه المشاركة كي لا تتحول الى وسيلة لترسيخ الجور. لكن في جميع الاحوال فان الذين اجازوا المشاركة لم يصلوا الى حد اعتبار الحكومات القائمة شرعية بالمعنى الديني. ولعل المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء كان بين قلة من الفقهاء الذين ميزوا بين المشروعية ذات المصدر الديني وتلك القائمة على اساس عرفي (اعتبارها ضرورة لحفظ النظام العام ومصالح الجمهور) . العلامة النائيني تقدم خطوة اخرى فكتب في 1908 مطالبا بالتركيز على مؤسسة الحكم بدل الجدل حول شخص الحاكم . وقال في كتابه الشهير "تنبيه الامة وتنزيه الملة "  ان الحكم يمكن ان يكون مشروعا اذا التزم بدستور مكتوب وخضعت الحكومة للمحاسبة امام مجلس شورى منتخب ، بغض النظر عن شخص الحاكم  . لكن الحل الحاسم جاء على يد المرحوم الخميني الذي قرر ان السلطة هي الوسيلة الوحيدة لاصلاح شؤون المسلمين العامة ، ولهذا فان انتظار الامام لا يعني ابدا اعتزال الحياة السياسية .

منذ ذلك الوقت تلاشت الى حد كبير الفكرة التي تعتبر المشاركة في السلطة مساعدة للظالم او تشريعا للجور . ولم يعد الشيعة يرون حرجا في المشاركة في اي نظام سياسي . بل ان حزب الله الذي دعا عند انطلاقته الى ثورة اسلامية في لبنان ، لم يتردد في المشاركة في نظام سياسي علماني يحصر السلطة العليا في يد المسيحيين .

نجحت الثورة الايرانية في حل مشكلة تاريخية في الثقافة الشيعية ، لكنها جاءت بمشكلة اخرى ، او لعلها عمقت مشكلة قائمة . تلك هي الشعور بان الشيعة هم ضحايا لمؤامرة تاريخية كبرى قام بها الحكام الظالمون في الماضي وتقوم بها الدول العظمى في الحاضر. فكرة المؤامرة عميقة الجذور في الثقافة الايرانية وهي ترجع الى تاريخ طويل تعرضت خلاله ايران لغزو الجيران من الشمال والغرب والشرق والجنوب ، وخسرت في تلك الغزوات ما يزيد على نصف اراضيها . وقد اعيد انتاج فكرة المؤامرة في اطار ديني بحيث ربط بين تعرض ايران للغزو الخارجي وكونها شيعية المذهب . وانتقلت هذه الفكرة الى معظم شيعة العالم الذين ظنوا انهم يتعرضون لمؤامرة عالمية غرضها الوحيد هو القضاء على مذهبهم . وجاء توافق العالم الغربي على حصار ايران بعد الثورة ودعمه للعدوان العراقي عليها ليعزز فكرة المؤامرة التاريخية .

تعرض الشيعة في ظل صدام حسين الى مأساة لم يروا مثلها في اي وقت سابق . وشملت بالاضافة الى التصفية الجسدية لالاف من الرجال والنساء ، تهجيرا منظما طال ما يزيد عن ثلاثة ملايين مواطن ، اضافة الى تدمير البيئة الطبيعية كما حصل في الاهوار وتفكيك المؤسسات الاجتماعية الكبرى مثل الحوزة العلمية في النجف الاشرف . واستمر هذا النهج التدميري نحو ثلاثين عاما وصل معه شيعة العراق الى حافة اليأس من امكانية الوصول الى نهاية سعيدة لهذه الحقبة السوداء. ثم جاء الخلاص على يد الولايات المتحدة الامريكية ، الدولة التي اعتقدوا طويلا انها تقود المؤامرة التاريخية عليهم ، والتي وصموها لاجل ذلك بصفة "الشيطان الاكبر" .

لم يكن غرض الامريكان مساعدة الشيعة ولا الدفاع عنهم ، لكن حربهم مع صدام حسين ادت – موضوعيا – الى نهاية الحقبة السوداء . واستطاع الشيعة العراقيون ان يحصلوا على حقهم في حكم انفسهم للمرة الاولى منذ القرن العاشر الميلادي. لهذا السبب لم يجد الشيعة غضاضة في العمل مع عدوهم التاريخي المفترض ضد العدو الفعلي . لم يجد عامة الناس حاجة للبحث عن مبررات في كتب الفقهاء ، فالليل الذي انتهى اشد ايلاما من اي حاجة للتبرير.

بعيدا عن التوصيف السياسي لهذا الحادث فاننا امام حالة ثقافية جديدة خلاصتها ان فكرة المؤامرة التاريخية لم تعد موجودة في الاذهان . بكلمة اخرى فان الشيعة الذين سبق ان عزلوا انفسهم عن العالم ظنا بانه يتآمر عليهم ، وجدوا ان العالم ليس معنيا ابدا بصراع المذاهب وان ما يهمه اولا واخيرا هو صراع المصالح . اذا كانت مصلحة واشنطن معك فهي ستاتيك ، واذا كانت مع عدوك فهي ستذهب اليه. في اعتقادي ان هذا التطور يرقى الى مصاف الحوادث التاريخية الكبرى ، لانه انهي في اسابيع قليلة منظورات ثقافية سادت لقرون طويلة واعاقت الى حد كبير حركة مجتمع باكمله .

الثورة الايرانية كانت – بالنسبة للشيعة - بوابة لتشريع المشاركة في السلطة ، بغض النظر عن طبيعتها والقائمين عليها . كما ان المشاركة الامريكية في تغيير النظام العراقي هي بوابة للانفتاح على الحداثة وتياراتها النشطة في العالم .

يتحدث الشيعة العراقيون اليوم عن مفاهيم جديدة تماما على الخطاب العربي والاسلامي ، مفاهيم تنتمي بالكامل الى زمن الحداثة الثقافي . من ذلك مثلا اعتبار الحريات العامة خطا احمر لا يمكن تجاوزه باي قانون حكومي حتى لو قام على مبررات دينية . ومن ذلك القبول بالتعددية الثقافية من دون حدود او قيود ، ومنها المشاركة الجبرية للنساء في البرلمان والوزارة ، ومنها القبول بحكم محلي يتجاوز في كثير من الاحيان سلطة الدولة المركزية .

كل من الحدثين ، الايراني في 1979 والعراقي في 2003 يمثل فاصلة تاريخية بين زمنين ثقافيين . واظن ان من المهم ان نفكر في الانطلاق مما جرى فعلا لبناء منظومة ثقافية جديدة تكرس القطيعة مع تاريخ من المآسي الرمزية ، وتنفتح على عالم جديد رحب من فرص وامكانات التقدم . عالم عجزنا عن اكتشافه في الماضي ، لاننا سجنا انفسنا وعقولنا في صندوق رمزي مليء بالمآسي والهموم والاحزان.

الايام 13 ديسمبر 2005

07/12/2005

كي نتخلص من البطالة

مشكلة البطالة التي تواجهها دول الخليج واحدة من مشكلات كثيرة ترجع الى سبب واحد ، يتمثل في انعدام التاسيس النظري المناسب للنظام الاقتصادي في اقطار الخليج. لو وجدت نظرية عامة للاقتصاد فان استراتيجيات العمل الاقتصادي ، وبالتالي القرارات الحكومية ذات العلاقة سوف تاتي منسجمة، متناغمة ومتكاملة. وفي غياب هذه النظرية، فان كل قرار سوف يبنى على قاعدة منفردة ، بل وربما متعارضة في بعض الاحيان مع القواعد التي بنيت عليها قرارات سابقة، او متعارضة مع الاعراف السائدة في قطاع الاعمال مثل هذا التعارض لا بد ان يؤدي الى اشكالات غير مريحة: تعطيل القرار مرة وتعطيل النشاط الاقتصادي مرة اخرى.

هذا الاستنتاج ليس مجرد فرضية بل هو واقع محسوس ولعل اخر الامثلة عليه هو الاقتراح المقدم من بعض وزراء العمل الخليجيين ، وفحواه تحديد الفترة القصوى التي يسمح للعامل الاجنبي بالبقاء في المنطقة. وهو قرار غير منطقي وغير قابل للتطبيق، ولهذا فقد واجه معارضة فورية من جانب قطاع الاعمال كما ظهر في بيان غرفة تجارة الرياض مثلا.

الفرضية المعتادة ترجع مشكلة البطالة الى قلة فرص العمل، وهذا بدوره يرجع الى ضآلة حجم الاستثمار الحكومي او الاهلي. لكن دول الخليج لا تعاني من قلة المال. حتى في سنوات العسر الاقتصادي الماضية كان الحجم الاجمالي للاستثمار قادرا على توفير فرص عمل كافية. لكننا وجدنا ان معظم هذه الفرص ذهبت الى عمال وافدين. والسبب في ذلك كما يبدو لي هو عدم التوازن بين مستويات الفرص المتاحة. الشريحة الاعظم من الفرص تتعلق بوظائف قليلة العائد ولا تحتاج في العادة الى كفاءات كبيرة كما ان الشريحة العليا من الوظائف هي بطبيعة الحال ضيقة ولا تستوعب سوى نسبة صغيرة جدا من المؤهلين، وهي على اي حال ليست رهانا جديا للاغلبية الساحقة من طالبي العمل.

 اما النقص الحقيقي فهو في الوظائف المتوسطة التي تعادل عائداتها الاساسية ضعف المتوسط العام لكلفة المعيشة. ان الشريحة الاوسع من سكان الخليج ينتمون الى الطبقة الوسطى من حيث الكفاءة العملية ومستوى المعيشة ولهذا فان الوظائف المتوسطة هي خيارهم الطبيعي.

كانت امارة دبي هي الوحيدة في الخليج التي وضعت نظرية عامة لاقتصادياتها حين قررت ان الخدمات المالية والتجارية سوف تكون محور حياتها الاقتصادية. وبناء عليه فقد اعادت صياغة كامل منظومتها القانونية والادارية لخدمة هذا الاتجاه، ووجدنا كيف حققت نتائج مدهشة في فترة قصيرة. ولهذا فان هذه الامارة هي الوحيدة بين نظيراتها في الخليج التي لا تتحدث عن بطالة، بل عن فرص عمل متزايدة.

لو اردنا وضع نظرية كلية فلا بد ان تقوم على اعتبار البترول المحور الرئيس لاقتصاديات الخليج، ذلك ان الاحتياطي المتوفر والمتوقع سوف يكفي لما لا يقل عن نصف قرن. ويمكن لنا بالاعتماد على البترول وحده توفير فرص عمل كافية اليوم وغدا، بشرط ان يتحول الى صناعة متكاملة. رغم ان تصدير البترول يمثل في الوقت الحاضر المورد الاول والحاسم للدخل القومي، الا انه لم يتحول بعد الى عصب للحياة الاقتصادية. بكلمة اخرى فان صناعة البترول لا زالت محصورة جغرافيا في مناطق محددة وموضوعيا في قطاعات محددة، اما باقي القطاعات الاقتصادية فهي مجرد عالة على صادرات البترول وليست جزءا متفاعلا معها.

 ولهذا فان احد اغراض النظرية هو تنسيج صناعة البترول في كل اجزء الدورة الاقتصادية وتحويل هذه الدورة الى منظومة متفاعلة تدور حول الاستفادة القصوى من ذلك المورد. ويتحقق ذلك من خلال مسارين: الاول هو التحول من تصدير البترول الخام الى تصدير المشتقات البترولية والمنتجات الثانوية، والثاني هو التوجه نحو الاكتفاء الذاتي في التجهيزات والتقنيات المتعلقة بصناعة البترول. ونشير هنا الى الدعوات الملحة التي اطلقها اقتصاديون واكاديميون خلال العقود الثلاثة الماضية، لاستثمار العائدات البترولية في تنويع قاعدة الانتاج الوطني. هذه الدعوات تجاري قاعدة معروفة في علم الاقتصاد فحواها ان الاعتماد على تصدير المواد الخام يجعل المصدر اسيرا للمشتري، كما ان الاقتصار على محصول واحد يقلص مستويات الامان

فيما يتعلق بالمسار الاول فان التحول الى تصنيع البترول يتوقف على التوسع في انشاء مصانع التكرير والبتروكيمياويات وتتمتع دول الخليج بميزة استثنائية على غيرها من دول العالم هي توفر رؤوس الاموال اللازمة لهذه الصناعات التي تحتاج الى استثمارات ضخمة. التوسع في هذه القطاعات سوف يضاعف عائدات التصدير، ويوفر عددا كبيرا من الوظائف الجديدة، كما سيرفع المستوى العملي والتقني للبلاد في الحقيقة فان دول الخليج قادرة على التحول الى موفر رئيسي لمشتقات البترول والمواد الوسيطة للصناعات الكيميائية في العالم، مثل ما هي اليوم الموفر الرئيسي للبترول الخام ومع هذا التحول فان موقعها في السوق العالمي سوف يتعزز وسوف يوفر حماية اضافية لاقتصادياتها من تقلبات الاسواق الدولية.

اما بالنسبة للمسار الثاني، فان جانبا هاما من عائدات البترول الخليجي يذهب من جديد الى الدول المستهلكة ثمنا لاستيراد التجهيزات والتقنيات التي تحتاجها هذه الصناعة من المؤسف اننا لا نملك حتى الان قاعدة علمية مناسبة لتطوير التقنيات التي نحتاجها، كما لا نملك قاعدة صناعية توفر ما نحتاجه من عتاد وتجهيزات، على الرغم من وجود العديد من الكليات الجامعية المتخصصة والالاف من الشباب الذين درسوا في التخصصاات ذات العلاقة في الجامعات الاجنبية. واظن ان السبب وراء هذا النقص هو انعدام التاسيس النظري الذي اشرنا اليه.

لو ذهبنا في هذين المسارين، فان عائدات البترول سوف تقفز الى اضعاف العائدات الحالية، كما انها ستوفر فرص عمل ليس في مواقع الانتاج فقط، بل في كل مستويات الاقتصاد الوطني. ان صناعة البترول توفر اليوم اقل من عشرة بالمائة من الوظائف، اما النسبة الاعظم فهي ناتج ثانوي لعائدات التصدير. مع التحول المشار اليه فان صناعة البترول قادرة على مضاعفة الفرص الوظيفية، كما ان تضاعف العائدات سوف يلبي البقية الباقية ويزيد.

قلنا في البداية ان مشكلة البطالة تتعلق بالشريحة المتوسطة من الوظائف. ونضيف هنا ان طلاب هذه الشريحة سيكونون ابرز المستفيدين من التحول المطلوب. اذا نظرنا الى صناعة البترول والبتروكيمياويات الحالية فسوف نجد ان معظم وظائفها تنتمي الى هذه الشريحة. وبطبيعة الحال فان التوسع فيها سيقود بالضرورة الى توسع مواز في فرص العمل لهذا نعود الى القول بان مشكلة البطالة يمكن ان تختفي تماما من دول الخليج لو وضعت نظرية مناسبة للعمل الاقتصادي، نظرية تتواصل مع الامكانات القائمة فعلا وتبني عليها.

16/11/2005

خديعة الثقافة وحفلات الموت


سوف نخدع انفسنا اذا ظننا ان تشجيع العنف ياتي بالسلام. الشارع الاردني كان مصدوما هذا الاسبوع بالمجزرة التي حدثت في فنادق عمان. في الشتاء الماضي وجدت صحافة عمان مستمتعة باخبار القتل الجماعي في العراق. كأن السادة نسوا الحكمة العربية القديمة: من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته.
لعل مسؤولية الذي حمل القنبلة لا تزيد كثيرا عن مسؤولية السياسي والكاتب والمتفرج ما يجمع هؤلاء هو الثقافة العمياء التي نتكر الحياة بينما تفرح للقتل وتمجد القاتل
تأملت صورة الطفلة تولين التي اصبحت يتيمة في شهرها الثالث. لحسن الحظ فقد حصلت على رضعة مختصرة وودعت امها الوداع الاخير. من قتل ام تولين؟: الابوات الثلاثة الذين ارسلهم ابو مصعب الزرقاوي، ام الزرقاوي نفسه، ام اسامة بن لادن الذين عينه اميرا للقتلة، ام الكتاب والخطباء الذين برروا حفلات القتل اليومي، ام السياسيون الذين استثمروا قنابل القتلة ودماء القتلى، ام عامة العرب الذين استمتعوا باخبار القتل مثلما يستمتع المضاربون بمؤشر البورصة. كلهم مسؤولون بقدر او بآخر، ولعل مسؤولية الذي حمل القنبلة لا تزيد كثيرا عن مسؤولية السياسي والكاتب والمتفرج ما يجمع هؤلاء هو الثقافة العمياء التي نتكر الحياة بينما تفرح للقتل وتمجد القاتل.
يجب ان لا نخدع انفسنا فنبرئها من هذا العيب تنظيم القاعدة لم يخترع ثقافة الموت. ففي اوائل التسعينات، قبل ولادة القاعدة قتل المتطرفون ما يزيد عن مئة الف مدني في الجزائر، وفي السبعينات حصدت الحرب الاهلية اللبنانية ما يزيد عن هذا الرقم. انكار الحياة وتمجيد الموت هو ثقافة راسخة في تراثنا وتقاليدنا. وخلال القرون الماضية قتل الملايين منا وضاعت اسماء معظمهم، وسيقتل مثلهم في المستقبل، لأن ثقافة الموت هذه كانت ولا تزال حية نشطة، وهي تجد دائما من يعيد تجديدها وينفض عنها غبار السنين.
 كتب الدكتور محمد جابر الانصاري مرة ان المواطن العربي مستعد للخروج من بيته ملبيا نداء القتال لكنه غير مستعد لتنظيف الرصيف امام بيته هذا المواطن قد يكون انا او انت او اي شخص آخر. هذا المواطن قد يتحول الى صدام حسين لو وصل الى السلطة، او ابو مصعب الزرقاوي لو اصبح اميرا لكتيبة الذبح. لان الثقافة التي صنعت هذين الرجلين هي الثقافة التي نحملها جميعا.
من اين اتتنا هذه الثقافة؟.. هل هي رد فعل على سقوط حضارتنا القديمة، ام هي تجسيد لحيرتنا ازاء الحضارة المعاصرة، ام هي ثمرة التفسير الاعوج لتعاليم ديننا، ام هي نتاج انفعالنا بثقافة الصحراء التي ملكت البر والبحر من حولنا، ام هو العجز عن استنباط تجسيدات مدنية وحضارية للقوة والفخر والاعتزاز بالذات؟.
ايا كان مصدر هذه الثقافة العمياء فنحن المسؤولون اولا واخيرا عن افعالنا. مسؤولون عما يحدث اليوم وما سيحدث غدا. لقد طافت حفلات الموت في عواصم عديدة، وثمة اخرى على قائمة الانتظار. من بيروت الى الجزائر وبغداد والرياض واخيرا في عمان، ولا ندري من هي المدينة القادمة، لكن كل قادم قريب ما لم نتصد جميعا لكتيبة القتل الجوالة فقد نكون ضحاياها القادمين، وسوف تنظم اسماؤنا الى ملايين الاسماء التي ضاعت منذ ايام الحجاج بن يوسف حتى ايام ابو مصعب الزرقاوي.
نحن بحاجة الى اجماع جديد على ادانة كل شكل من اشكال العنف بدءا من عنف الدولة ولا سيما التعذيب والاهانة في دوائر الامن، مرورا بالخطب التي تمجد العنف.. وانتهاء بانظمة التربية المدرسية
سوف نسمع في هذا الاسبوع والاسابيع التالية اصواتا تندد بمجزرة عمان. وهي تنديدات غرضها في العادة رفع العتب. بل ان بعض الذين سيشجبون لن يخجلوا من القول مثلا: لا تذبحوا الناس هنا.. ركزوا جهدكم هناك.. الاردن ليست ارض جهاد، ارض الجهاد هي الحلة او كربلاء او كابل او غروزني او ربما صعدة او نيودلهي... «اللهم حوالينا ولا علينا». هؤلاء الذين يدعون بمثل هذا - صراحة او مداورة - هم جزء من كتيبة القتل وان لم يقتلوا.
نستطيع وضع نهاية لحفلات القتل الجوالة تلك اذا وضعنا نهاية للثقافة التي تبررها. نحن بحاجة الى اجماع جديد على ادانة كل شكل من اشكال العنف بدءا من عنف الدولة ولا سيما التعذيب والاهانة في دوائر الامن، مرورا بالخطب التي تمجد العنف في المساجد والحسينيات والقنوات التلفزيونية والصحف، وانتهاء بانظمة التربية المدرسية التي تخلق شخصيات عاجزة عن التكيف مع المختلفين والمخالفين، ولا ننسى مناهج التربية الحزبية التي تربط بين المجد والبندقية
يجب ايضا ان ندين وباصرح الالفاظ تلك المراحل من تاريخنا التي سادت فيها لغة السيف والدم، ندينها كي نتحرر من ثقلها المعنوي ومن هيمنة قيمها الحمقاء على رؤيتنا لانفسنا وعالمنا. نحن بحاجة الى اعادة النظر في علاقتنا مع بعضنا: هل نريد علاقة على اساس الشراكة في الارض فيكون لكل منا حق متساو مع الاخر في فعل ما يريد في حياته، في الاعتقاد بما يريد، في الطموح الى ما يريد، ام علاقة تقوم على تحكم شخص او فئة في مصير البقية، في حياتهم وموتهم.
نداء الحياة هو نداء للجميع اذا اردنا ان نعيش في سلام فيجب ان نلغي ذلك الجانب من ثقافتنا الذي يصنف الناس الى الى درجات، والذي يسمح لنا بالاستهانة بقيمة الغير لمجرد انه لا ينتمي الى قومنا او لا يصدق بمعتقدنا او لا يقبل بجميع افكارنا. لا يكفينا ان نقول - في معرض السجال كالعادة - اننا اهل تسامح وحوار، بينما نشكك في مجالسنا الخاصة في قيمة الاخرين وكونهم امثالا اكفاء لنا، لهم مثل حقوقنا وعليهم مثل ما علينا. ثقافة الموت تبدأ بتصنيف الناس الى درجات، وثقافة الحياة تبدأ بالايمان الكامل وغير المشروط بان الناس سواء. كي نستعيد السيطرة على مصيرنا، فلابد ان نسيطر على الثقافة التي تحتويها انفسنا، نحن بحاجة الى التخلص من ثقافة الموت قبل ان تجرفنا حفلات الموت في غفلة.

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...