09/07/1998

حـديـث النــــــــاس



رغم انشغال الناس بمتابعة مباريات المونديال ، فان الوضع الاقتصادي يحظى بنصيب كبير من الأحاديث التي تدور في المجالس والسوق ، لا سيما بعد القرارات التي اتخذت الشهر الماضي لخفض الانفاق في ميزانية العام الجاري ، وقد غذى الوزير النعيمي الآمال بتحسن قريب في الاوضاع ، حين بشر الناس بان اسعار البترول سوف ترتفع ، إذا التزمت الدول المنتجة باتفاقات تحديد الانتاج الأخيرة ، وان هذا التحسن سوف يبدأ بالظهور في اوائل السنة القادمة .

ونود ان نحمل تصريحات وزير البترول على محمل الجد ، فلنا حاجة في التفاؤل ، وانتظار الخير الآتي ، لكني آمل ان لا تؤدي هذه التصريحات الى اعتبار الامور طبيعية تماما ، أي ان لا يقول المخططون بأن الانخفاض الحالي في اسعار البترول ، طبيعي ويحدث في كل مكان .. الى آخر ما يقال عادة ، عندما يراد تطييب الخواطر القلقة في الازمات ، نأمل حقا ان تتحسن اسعار البترول في اوائل السنة القادمة ، لكن من جهة اخرى ، يصعب التصديق بانها سوف تتجاوز المعدلات التي سادت خلال السنوات العشر الاخيرة ، خلافا للتفاؤل الذي ساد اواخر العام الماضي ، بان الاسعار سوف تقف عند معدل 16 دولارا للبرميل .

كثير من الناس الذين يشغلهم هذا الموضوع ، وانا منهم ، يسمعون تصريحات متفائلة مثل هذه ، كما يقرأون ما ينشر ويسمعون ما يقال ، مما يخالف فحواها ، ويعلمون بان التطمينات وتطييب الخواطر لا تعالج مشكلة ولا تغير حالا الى احسن منه ، وان خففت من القلق الوقتي لدى القلقين . ما يهمنا الان هو النظر في المسألة ككل ، فالعاقل من يتعظ بتجارب غيره فضلا عن تجاربه الخاصة .

بدأت انعكاسات  الانخفاض الحالي في اسعار البترول ـ ومعها الدخل الوطني ـ تظهر تدريحيا في السوق ، فانخفض مؤشر اسعار الاسهم المحلية مع انخفاض الطلب ، كما تدور احاديث عن احتمال رفع اسعار الخدمات العامة مثل الكهرباء والوقود ، وهي اجراءات سبق ان اتخذت عندما واجهت البلاد ازمة مماثلة قبل ثلاثة اعوام ، ونجحت الى حد ما في اختصار عجز الميزانية ، لكن معالجة عجز الميزانية ليس دواء طويل الامد لاقتصاد البلاد ، الا اذا اردنا التوقف في المستوى الابتدائي للاقتصاد أي ابقاء الناس متكلين في حياتهم ومعايشهم على الانفاق الحكومي المباشر ، وهو أمر لا يريده أحد ولا يستصوبه أحد .

يقول أهل الرأي في السوق بأن ما نحتاجه اليوم ، هو حلول جذرية وسياسات واقعية واستراتيجيات طويلة الأمد ، تؤدي الى تحرير الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكلي والكامل على مبيعات البترول الخام ، واذا كنا قد وجدنا انفسنا مضطرين في بدايات معركة النمو ، الى التعويل على عائدات البترول ، والتساهل في ربط حياة الناس بصورة كاملة بالانفاق الحكومي ، فلا ينبغي الاسترسال في هذا النهج الى النهاية ، فهو يتحول  مع مرور الزمن ، من حافز للنمو الى مثبط لامكاناته ، في الوقت الذي لا تستغني البلاد عن مصادر جديدة لمواصلة نموها الاقتصادي والاجتماعي .

من ناحية أخرى فان رفع اسعار الخدمات العامة ، ليس محبوبا ولا مبررا عند أكثرية الناس ، لا سيما من الطبقات الوسطى والفقيرة ، صحيح ان الحكومة تدعم اسعار الكهرباء مثلا ، لكن من الصحيح ايضا ان الناس ليسوا مسئولين عن السياسات التي تتسم بالتبذير من جانب شركات الكهرباء ، والتي تتحول تاليا الى فواتير يتحمل عبئها المستهلك الذي لا ناقة له ولا جمل ، والحق ان الاحتكار الشامل الذي تتمتع به الشركة السعودية الموحدة للكهرباء (سكيكو) قد مكنها من فرض اراداتها الخاصة على جمهور المستهلكين ، وهناك من يدعي ان بالامكان اختصار فواتير الكهرباء  بصورة ملموسة ، لو وجدت شركات منافسة لشركة سكيكو ، وهناك من جرب فعلا وتأكد من هذا المدعى ، الامر نفسه يقال بالنسبة للوقود ، فنحن نعلم ان تكاليف انتاج البترول في المملكة ، تعتبر الاقل على مستوى العالم ، وان الحكومة لا تدعم اسعار الوقود ، أي ان ارامكو كانت تربح سابقا ، ولا تزال تربح من مبيعات الوقود ، والاحرى ان تخفض اسعاره  الآن ، تماشيا مع انخفاضه في السوق العالمية ، لا ان ترفعه كما يتوقع المتشائمون . الغرض ان التفكير يجب ان ينصب على سياسات اكثر واقعية ، وعدم رمي عباءة المسئولية على الحائط الواطئ للمستهلك البسيط .

منذ عدة أعوام يلح الخبراء على تخصيص شركات القطاع العام وخفض النفقات الحكومية ، باعتبارهما عنصرين جوهريين لتصحيح المسار الاقتصادي ، وقد بدأت أولى بشائر القبول بهذه الاقتراحات مع قرار تخصيص خدمة الاتصالات ، والحديث عن تخصيص النقل الجوي ، لكن الواضح ان الامر بحاجة إلى ما هو أكثر ، كما يحتاج إلى إزالة الصفة الاحتكارية التي تتمتع بها هذه القطاعات ، مع تحولها من مفهوم الخدمة العامة إلى الخدمة التجارية المدفوعة الثمن ، إذ لا يعقل أن تحافظ شركة الهاتف على احتكارها لهذه الخدمة ، مع أن التزامها الاول سيكون منصبا على مصالحها كشركة تجارية ، كما انه لن يكون منطقيا تمتع الخطوط السعودية بميزة احتكار خدمة النقل الجوي بعد تخصيصها ، واجبار المستهلك على دفع قيمة أعلى لما يشتريه من الخدمات ، اذا كان بالوسع ايجاد هذه الخدمة باسعار اقل .

ما أردت قوله ان تخصيص الخدمات العامة ذات الطبيعة التجارية ، وهو الاجراء الذي اعتبره الخبراء ضروريا لخفض النفقات الحكومية وتنشيط القطاع الخاص ، بحاجة الى أن يوضع ضمن مفهوم أوسع من بيع اسهم الشركات المملوكة للحكومة ، لتوفير بضعة عشرات من الملايين ، ينبغي ان يوضع ضمن مفهوم تطوير اهتمامات القطاع الخاص من الاستثمارات الجزئية والقصيرة الامد ، الى الاعمال الاستراتيجية الطويلة الامد ، ولتحقيق هذا المفهوم ، فاننا بحاجة الى تحرير السوق من الامتيازات الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الشركات على حساب البقية ، ولا سيما على حساب المستهلك النهائي ، كما ينبغي التأكيد على تضمين مفهوم الخدمة العامة في الاستثمار ، والتخلص من عقلية الربح المادي الاقصى ، السائدة في السوق ، والتي ترسخت في السنوات الماضية كنتاج للتدفق المفاجيء للثروة والفرص ، وقصور المفاهيم والقيم التي يجري نشرها وتعليمها ، عن استيعاب الحقائق الجديدة ، التي افرزها تطور الصراع بين المال والقيمة الاجتماعية ، بين العناصر المادية وغير المادية في النمو الاقتصادي

يقول الناس ايضا ان المحافظة على المستوى المرتفع للمعيشة ، بحاجة الى ابتكار مداخل وأدوات واطارات استثمار جديدة ، لا سيما في قطاع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة ، ويضربون مثلا على هذا المدعى بقطاع البناء والاسكان ، الذي لا يمكن التساهل في اهميته وحيويته ، فمع تراخي صندوق التنمية العقاري او توفقه احيانا عن الاقراض السكني ، فان هذا القطاع قد انكمش الى حدود مقلقة ، وقد كان يمثل شريحة واسعة من اجمالي القطاع الخاص ، ويمكن اعادة تنشيطه بتغيير سياسات الاقراض السائدة في البنوك المحلية .

 ولنا في تجارب الدول الاخرى درس وعبرة ، في بريطانيا مثلا يتم تمويل 60 بالمائة من عمليات بناء وتملك البيوت السكنية بقروض شخصية ، ونظرا لاتساع هذا القطاع فقد تأسست ـ الى جانب البنوك العادية ـ بنوك متخصصة في هذا المجال ، يطلق عليها (جمعيات البناء) حيث يستطيع أي مواطن بغض النظر عن امكاناته المادية الفعلية ، اقتراض مبلغ لشراء مسكن خاص ، كما ان شركات البناء تنظم اتفاقات مع تلك البنوك ، لاقراض من يرغب في شراء المساكن التي تبنيها ، ان قطاع الاسكان من القطاعات المزدهرة في بريطانيا رغم ان الحكومة لا تقدم قروضا ، بل تضع سياسات وتوجيهات لتعمل هيئات التمويل الخاصة على ضوئها . ان تنشيط قطاع البناء يمكن ان يتوازى مع وضع توجيهات للاستثمار في صناعة مواد البناء ، ومعظمها من نوع الاستثمارات المتوسطة ، من اجل رفع مستوى التكامل الرأسي لهذه الصناعة ، وتمكين البلاد من انتاج كل ما يلزمها لبناء مساكن ابنائها .

في نفس المجال نحن بحاجة الى تغيير بعض مفاهيم الملكية السائدة في الانظمة ، والمفاهيم السائدة في المجتمع ايضا ، لتمكين المواطن من امتلاك شقة في عمارة او طابق في بيت ، يتشارك في ملكية ارضه مع الغير ، والسماح بتأجير الارض لفترات طويلة ، مئة سنة مثلا ، بحيث تعامل المنشآت المقامة فوقها معاملة الملك الحر طيلة فترة التاجير ، اضافة الى تشجيع اقامة الجمعيات التعاونية للسكن ، ومنحها امتيازات مالية او قانونية ، لتخفيض كلفة البناء او الاستملاك السكني ، مما سيؤدي الى تنشيط قطاع البناء والعقار والصناعات المرتبطة بالبناء .

الخلاصة ان الناس ـ معظمهم على الاقل ـ ينظرون بقلق الى انعكاسات الانخفاض الراهن في الدخل الوطني على معيشتهم ، لكنهم في المقابل ليسوا غافلين عن حقيقة ان هذا التطور السلبي لم يكن اختياريا ، كما ان اعادة الوضع الى ما كان عليه في أوائل الثمانينات او بعيدها ، ليس من الاحتمالات التي ينظر اليها غالبية الناس ، الاكثرية حسب ما أظن تعرف بعض الحقائق او كلها رغم انها لا تعلن بصورة رسمية ، ولا تناقش في الصحافة المحلية ، ما يطمح اليه الناس هو سياسات جديدة تتعامل مع الشأن الاقتصادي باعتباره قضية مستقبلية ايضا ، وليس مشكلة وقتية محدودة ، ذلك يحتاج الى سياسات جديدة والى توجيه جديد لمراكز الثقل ، وتعديل الانظمة السائدة لتكون عونا على هذا التوجيه ، فلعلنا نعود الى وضع اقتصادي طبيعي ، لا يعتمد كليا وقطعيا على عدد براميل البترول التي نبيعها وقيمة كل برميل .

عكاظ 9 يوليو 1998

03/07/1998

وجوه الاستمتاع بالقوة العسكرية



تفاعلنا الثقافي مع الحضارات الاخرى ، الغربية مثلا ، لن يؤدي الى تشويه شخصيتنا ، الا اذا تركنا الباب مفتوحا أمام هذا الاحتمال ، كل حضارة لها معاييرها الخاصة التي تعتبرها مسطرة قياس صالحة في جميع الاوقات ولكل المجتمعات ، انها بمثابة ايديولوجيا ، والايديولوجيات تميل دائما الى تعميم نفسها ، بالتمرد على حدود النسبية التي يقتضيها منطق الاشياء ، نحن نتعامل مع حضارة في حالة علو وقوة ، حضارة لا تخفي اعتقادها بانها تملك الحق في الانتشار والسيطرة واستتباع الشعوب الادنى منها حياتيا ، لكننا ـ في المقابل ـ لسنا مضطرين للقبول بكل فرضيات هذه الحضارة واراداتها ، ولا نحن مضطرون لتكييف معاييرنا لكي تطابقها .

في أوقات سابقة ، حين تجادل العرب حول علاقتهم مع الغرب المتحضر ، توصل كثير منهم الى ان الخيار الانسب هو الانتقاء ، فقد اقروا بان في الغرب اشياء تستحق الاستيراد ، واراد بعضهم تحديدا ادق ، فقرر بان ما يصلح لنا هو خلاصات التجارب في مجال العلوم الطبيعية والتجريبـية دون النظرية ، فتلك الاشياء ـ حسب تقديرهم ـ خالية من مضمون فلسفي ، يخشى ان يؤثر على المعتقدات أو نظام الحياة ، حينما حان الوقت لتطبيق الافكار وجدنا ان العرب لم يأخذوا شيئا ، أو ان ما أخذوه لم يكن كثير الفائدة .

السر الكامن خلف هذه المفارقة هو ان العرب ، بل ليس من المبالغة القول ان المسلمين بعامة ، يفتقرون الى الاستعداد الكامل والكلي لخوض معركة الحضارة ، أي انهم لا يريدون مواجهة التحدي الحضاري كما ينبغي ان يواجه ، ولا يريدون تحمل الاعباء التي تتطلبها مثل هذه المعركة ، ولو قررنا اليوم ان نخوض هذه المعركة ونتحمل اعباءها ، فسوف نضع أقدامنا على الميل الاول من الطريق ، وسنصل غدا أو بعد غد الى غايته .

 مثال الباكستان حاضر في الاذهان ، فبعد هزيمتها المرة عام 1971 وما ادت اليه من سلخ نصفها الشرقي ، قررت التوصل الى توازن استراتيجي مع الهند التي تفوقها عددا وعدة ، في هذه الاثناء ضاعفت الهند جهودها لابقاء كفتها راجحة ، فأجرت تجربة نووية أولى في العام 1974  ورد الباكستانيون بقرار الدخول الى النادي النووي ، فكثفوا جهودهم للحصول على التكنولوجيا النووية ، التي كانت ولا تزال محروسة ومحرمة الانتشار ، بعد عشرين عاما من المحاولات اصبح لدى باكستان التكنولوجيا الكافية لاجراء تجربتها النووية الاولى .

ما دامت باكستان قد نجحت في فك الغاز الفيزياء النووية ، فهذا يعني ان لديها من الامكانات والكفاءات العلمية ، ما يؤهلها لتطوير صناعات متقدمة في المجالات الاخرى غير العسكرية ، لكنها وضعت ثقلها وراء برنامج محدد ، وهاهي قد نجحت في الوصول به الى غايته ، على رغم العقد والصعوبات والقيود الكثيرة التي تفرضها الاقطار الصناعية على انتقال التقنية النووية ، اقول ما دامت قد نجحت في هذا ، فانها قادرة على النجاح في المجالات الاخرى ، اذا وضعت كل ثقلها ، واعتبرتها معركة مصير ، كما اعتبرت موضوع التوازن الاستراتيحي مع جيرانها الهنود ، ثم ان هذه التجربة تكشف ان المسلمين الاخرين كانوا ولا يزالون قادرين على بلوغ غاياتهم ، لو وضعوا ثقلهم وركزوا جهودهم فيها .  الحضارة معركة ، ولا يفوز فيها الا من قبل بدخولها باعتبارها معركة المصير .

في الستينات حاولت مصر ، ومن ذات المنطلق ، أي التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل ، ان تقيم صناعة عسكرية متقدمة ، ويقال انها قد قطعت في هذا المجال شوطا بعيدا ، لكنها توقفت بعد فترة ، وكان ينبغي ان يستفاد من الخبرة التي توفرت لتطوير الصناعة في المجالات الاخرى المدنية ، وفي الثمانينات حاول العراق مثل ذلك ، لكنه صرف الجهد كله في بناء قوة عسكرية استعملها في المكان الخطأ ، ولو انه وجه مثل هذه الجهود الى الميدان المدني ، لما كان اليوم يستجدي رضا الامم المتحدة واعضاء مجلس الامن ، هذه وتلك تدلنا على ان العرب والمسلمين بعامة ، قادرون على خوض معركة الحضارة اذا ارادوا وتحملوا الاعباء ، لكنهم مع ذلك لم يفعلوا .

من المحتمل ـ هكذا يبدو لي على الاقل ـ ان العرب والمسلمين مأخوذون بقلق المحافظة على الاعتزاز تجاه الآخر المتفوق ، أكثر من قلقهم من ذواتهم وعليها ، واذا أصيب الانسان أو المجتمع بهذا الداء ، فانه يصرف همه ويكرس طاقاته للظهور بمظهر القوى ، حتى يشعر بالرضى ، لكن هذا الرضى يعمل على اخفاء العيوب التي في الذات ، فلا يلتفت اليها صاحبها المشغول باستعراض قوته المادية ، والاستمتاع بالتعبير عنها في اجلى اشكالها ، أي القدرة على الغلبة وقهر الخصم ، لهذا السبب ـ ربما ـ كان تركيز الباكستان والعراق ومصر ، وربما غيرها من الاقطار الاسلامية على التقدم في الصناعة العسكرية دون غيرها .

في تجربة الدول الغربية ، الولايات المتحدة خاصة ، كانت الابحاث في المجال العسكري قاطرة الصناعة المدنية ، وهذا ما حدث أيضا  في المانيا قبل الحرب العالمية الثانية ، فالجيش يمول الابحاث للاغراض العسكرية ، لكن نتائجها سرعان ما تحول الى الصناعة المدنية ، ان تطور صناعة الطيران والمعلوماتية وانظمة الاتصال هي ثمرة لهذا النظام الذي يشبه الانابيب المستطرقة .

 لكننا لا نجد سيرورة مماثلة في العالم الاسلامي ، نحن نعلم ان بعض الجيوش العربية والاسلامية يملك فرقا هندسية تنفذ منشآت شديدة التعقيد ، ولدى بعضها مصانع لانتاج انظمة الاتصال والاسلحة والنقل ، لكن هذه الامكانات بقيت حتى الان محصورة بين اسوار المعسكرات ، فاذا احتجنا الى بناء جسر أو سد ، استقدمنا شركات اجنبية ، واذا احتجنا الى انشاء أو توسعة نظم الاتصال لجأنا الى الاجانب ، واذا اردنا بناء مصنع تذكرنا نظام (تسليم المفتاح) المريح ، وتذكر دراسة تحليلية عن هجرة العقول من مصر ، ان عددا كبيرا من المهندسين والصناع والمبتكرين الذين هاجروا الى الولايات المتحدة الامريكية وكندا ، كانوا يعملون اصلا في المصانع العسكرية ، لكنهم فقدوا وظائفهم أو فقدوا الدافع الضروري للابتكار فهاجروا ، ومنهم من يعمل الان في كبريات المصانع ومراكز الابحاث ، ومنهم من يعمل في وكالة الفضاء الامريكية .

ما حدث فعلا هو ان الدول العربية قد وضعت كل همها وطاقتها في الميدان العسكري ، فلما تراجعت الحاجة اليه اصبح عبئا ينبغي التخلص منه ، وليس تحويل الخبرات المستفادة منه الى القطاعات الاخرى ، أي اننا لم نكن بصدد مواجهة التحدي الحضاري ، بل مواجهة التحدي العسكري فحسب . ما كان يشغل بالنا ويستغرق اهتمامنا ، هو الحصول على قوة تبعد عنا قلق الهوان في ميدان الحرب ، أما قلق البقاء في حال التخلف والهامشية ، فلم يكن موضوع انشغال كبير لأنفسنا ، التي لا نتظر في ذاتها قدر ما تنظر الى الغير ، ولا تهتم بالمستقبل قدر ما هي مشغولة بهموم الحاضر .

نعود الى مثال الهند وباكستان للمقارنة ، لقد نجحت باكستان في تفجير قنبلتها النووية الاولى كما نجحت الهند من قبل ، لكن الفارق بين البلدين لا زال شاسعا ، منذ فترة طويلة كانت الهند التي واجهت مجاعات وعانت فقرا شديدا ، توجه جل اهتمامها الى تطوير بناء علمي واقتصادي وجدته سبيلا الى حل شامل لمشكلاتها ، وهي اليوم وبعد نصف قرن على استقلالها تجني ثمار ذلك الاهتمام ، فقد تحولت الى دولة شبه صناعية ـ مقارنة بالاقطار الصناعية الاوربية واليابان ـ انها تصنع كل شيء تقريبا مما تحتاج ، من الابرة الى الطائرة ، صحيح انها لا تزال بعيدة عن المستوى الذي بلغته أوربا أو اليابان على سبيل المثال ، لكنها ايضا بعيدة جدا عن النقطة التي انطلقت منها ، والتي لا تزال باكستان تدور حواليها ، لهذا السبب قال المحللون ان العقوبات  التي قررت الدول الصناعية فرضها على البلدين ، ستكون اشد وطأ في باكستان ، لان اقتصادها اضعف ، وقدرتها على تأمين حاجاتها من المصادر المحلية ، ادنى مما هو في الهند .

الخلاصة التي اردنا الوصول اليها ، هي ان ما يجعل شخصيتنا مشوهة وثقافتنا عاجزة ونظامنا الاجتماعي فاقدا للفاعلية ، ليس اتصالنا بالغرب وتفاعلنا معه ، وليس كوننا ضعفاء عند المقارنة بالغير ، بل انشغالنا بذلك الغير الى درجة اغفال التحديات التي تتوجه الينا ، واغفال ما يتهدد وجودنا ذاته ، اذا بقينا اسرى للتخلف على كل صعيد .

 ان نجاح بعض العرب والمسلمين في تطوير تكنولوجيا خاصة ، وان كانت محدودة الاستخدام، يدل بصورة قطعية على ان هذا الباب ليس محرما ولا عسيرا على بقية المسلمين.

 لكن قلق الاعتزاز ، وما صرف اليه من وضع البيض كله في سلة الحرب ، والتركيز على الجانب العسكري ، هو الذي ادى الى اعتبار التقدم في المجال العسكري منفصلا عن غيره من المجالات ، وهكذا اصبح التقدم مرهونا بالتحديات الآنية ذات الطابع العسكري ، لا بتحديات المستقبل التي تتوجه الى وجودنا ومصيرنا ككل .
عكاظ 3 يوليو 1998

22/01/1998

الانصاف ، لا شيء اكثر من الانصاف


قد يمكن الادعاء بأن تطور البشرية ، هو في حقيقته المحصلة المكثفة لمحاولات الافراد وابداعاتهم ، حيث لا يذكر التاريخ سوى مناسبات تعد على اصابع اليد ، قامت خلالها أمة من الامم او مجتمع من المجتمعات ، بصورة جماعية ، باستنباط نمط حياة جديدة ، أو انتخاب طريق جديدة للعمل خلاف ما اعتادت عليه .Standing Out From The Crowd
وفي جميع المناسبات الاخرى ، كانت مبادرات الافراد وكشوفاتهم هي الخطوة الاولى التي كشفت لمجتمعهم عن صورة مستقبل اجمل من حاضره ، وهي القاطرة التي عبروا على متنها حاجز الزمن ، فانتقلوا من عصورهم الى عصر اكثر تقدما واشراقا .
لكن هذاكان في نهاية المعاناة ، اما في البداية فقد غامر الافراد بنقد نظام ثقافي واجتماعي قائم ومتفق عليه ، واعتبر المجتمع هذا النقد تجسيدا لنوع من التمرد ، أو ـ في أحسن الحالات ـ ارادة للتمايز عن نظام الحياة الصحيح ، ولهذا فان المجتمع قد رمى اولئك الافراد ـ الا القليل منهم ـ بشتى التهم التي يختص بها المجتمع من يعارضه أو يتمرد على قيمه وانماط حياته ، ولهذا السبب فقد بقي الجدل محتدما ، حول مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والتوازن الصحيح بين الطرفين ، التوازن الذي يكفل للمجتمع حقوقه كما يكفل حقوق الفرد ، ويبدو ان هذا الجدل سيستمر لأمد طويل قبل ان يجد نهايته الصحيحة ، وقد لا يجدها اطلاقا .
على ان القرن العشرين الذي نعيش أيامه الاخيرة ، قد شهد اعادة تعريف لهذه العلاقة ، بحيث يمكن القول ان الميزان قد اعتدل الى حد كبير ، وجرى الاعتراف بالفرد كذات مستقلة عن المجتمع ، له حقوق تتعلق به بذاته ، وبغض النظر عن انتمائه الى جماعة محددة او وراثته لهوية محددة ، ويبدو واضحا ان هذا التطور قد ترافق مع تقدم المجتمعات ، بحيث يمكن القول ان اكثر المجتمعات تقدما ، هي ـ في الوقت ذاته ـ اكثرها تقديرا لدور الفرد وذاته المستقلة ، فكأن هذا وذاك صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر ، أو ان كلا منهما مشروط بالآخر.
ويواجه مجتمعنا ـ مثل كل مجتمع آخر ـ ذات المسألة ، مما يفرض عليه البحث عن حل صحيح لها ، حل تفرضه حاجة المجتمع الماسة الى تجاوز نقاط التوقف والاعاقة ، التي نراها في كل مناسبة مانعا للانطلاق في طريق النهضة المنشودة .
ويظهر لي ان معظم الناس في مجتمعنا ، ان لم نقل كلهم ، يذهبون الى ترجيح كفة المجتمع ، واعتبار الجدل بين حقوقه وحقوق الفرد محسوما من الاساس لصالح المجتمع ، ولهم في هذا مبررات ، بينها ان المجتمع هو مجموع الافراد وان حسمها لصالح الجميع يعني اقرار حق كل فرد بمفرده ، لكن هذا تصور باطل ، فالمجموع له صورة خاصة ، كما لكل فرد صورة خاصة مختلفة ، ولا ينتج من الصورة المركبة من مجموع الافراد المستقلين صورة المجتمع ، كما ان صورة المجتمع لا يمكن تقسيمها الى صور متعددة ، لكي تناسب كل فرد ، ان صورة الجماعة ليست تركيبا لمجموع صور الافراد .
يريد الفرد ان يعبّر عن ذاته ، وان يقول رأيه في العلن ، يريد ان يختار نظام حياته الذي يتوصل اليه بعقله ، والذي يجد فيه مصلحته ، يريد ان يجد نفسه قادرا على تلمس قدراته وامكانياته ، واستثمارها في ابداع ما لم يكن معتادا أو معروفا في وسطه الاجتماعي ، ويريد المجتمع من كل عضو فيه ان يتماثل مع البقية وان يخضع للنظام الثقافي وهيكل العلاقات والتراتبية السائدة ، وهو يضع الزامات محمية بقوة (العيب) وأحيانا بقوة (القانون) توجب على كل فرد الانصياع والا واجه العقاب .
من أجل هذا امتنع كثير من المبدعين عن قول رأيهم ، او التعبير عن اراداتهم ، ومن أجل هذا نام الكثيرون على وجع الحرمان من اقتـناص فرصهم بعدما وجدوها قاب قوسين أو ادنى من اطراف ايديهم ، ومن أجل هذا حرم المجتمع نفسه من ابداع المبدعين ، والكشوف الجديدة التي ربما توصل اليها أهل الكشف ، وهم لا يوجدون في المجتمع الواحد الا كنوادر ، يعدون على اصابع اليد .
يحترم المجتمع المتقدم نفسه ، كما يحترم كل عضو فيه بمفرده ، فاذا جاء زيد بجديد فانه لا يسأل عن نسبه ، ولا يسأل عن لقبه ، ولا يسأل عن الاطار الذي ينتمي اليه ، أما المجتمع المتخلف فانه لا ينظر في الجديد ، بل ينظر الى صاحبه ، فهو ابن فلان ، وليس فلانا ، وقد ينشغل بهوية الرجل وانتمائه الاجتماعي وأصله وفصله ، عن الجديد الذي جاء به ، فيضيع بهاء هذا في ظلمة ذاك ، بدل ان يبدد البهاء حلكة الظلمة ، وعلى أي حال فان الظلمة قد لا تكون سوى اعتبارات لا أساس لها ، غير ما قرره المجتمع أو اراده اولو الحول والطول من ابناء المجتمع ، واني لأرى رجالا ونساء حرموا من ان يخدموا وطنهم ، لا لشيء غير هويتهم التي رأى بعض من يقرر ، انها مريبة او انها غير محبوبة ، واني لأرى رجالا ونساء انكمشوا على انفسهم واستعاضوا بالحلم عن الحقيقة ، بعد ان وجدوا ما يبدعون غير ذي قيمة في عيون مجتمعهم ، وأرى اناسا اختاروا لشجيرات ابداعهم ان تزهروتثمر في الحقول البعيدة ، بعد ان ضاق عليهم بستان الأهل ، على ان هذا البستان ما يزال في معظمه بائرا أو قليل الشجر يحتاج لكل نبتة ولو صغيرة .
ما يريده الانسان الفرد هو الانصاف ، ولا شيء أكثر من الانصاف ، والانصاف هو ان ينظر الى عمل الفرد لا الى هويته ونسبه ومكان عيشه واطاره الاجتماعي ، والانصاف هو ان لا يؤاخذ الفرد بجريرة أبيه او ابناء قبيلته او أهله ، والانصاف أخيرا ان لا يوضع فرد او مجموعة من الافراد في دائرة الشك والاتهام لانهم يحملون فكرة لا نرضاها ، أو يسعون الى طريقة حياة لا نرتاح لها .
اين هي المشكلة يا ترى ؟
أهي في الافراد الذين يجبنون عن التعبير عن ذاتهم خشية غضب من يخاف غضبهم ، أم هي في الذين يعرفون الحقيقة لكنهم يجبنون عن الوقوف الى جانبها وتحمل مراراتها ، أم هي في المجتمع الذي يستريح الى كل ما هو قائم وينفر من كل جديد ؟ .
لا ندري ، ما ندريه هو ان اعطاء الفرد حقه في التعبير عما يشاء ، ولو كان مخالفا للسائد والمتفق عليه ، هو السبيل الى كشف المستقبل ، وهو الخط الواصل بينه وبين الحاضر ، فاذا قطعناه لأي سبب من الاسباب ، فقد انقطعنا عن المستقبل ، وحصرنا انفسنا بين جدران الحاضر ، الذي يشي بصورة الماضي بقدر ما يمهد لذلك المستقبل .
المجتمع المتوازن ، مثل الشخص المتوازن ، هو الذي لا يسجن نفسه في دائرة الخوف من الجديد ، الجديد في الافكار والجديد في التصورات وفي انماط وسبل الحياة ، كما لا ينساق ـ دون تأمل ـ وراء دواعي الرجاء ، فهو في حياته يخاف بقدر ما يرجو ، ويرجو بقدر ما يخاف ، فاذا اختل الميزان لصالح الخوف ، اصبح عصيا على كل تجديد ، واذا اختل لصالح الرجاء اصبح مقودا بالنزق منساقا وراء كل ناعق .
عكاظ 22 يناير 1998
مقالات ذات علاقة

الحق أولا

الحداثة كمحرك للتشدد الديني

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

طريق التقاليد

الطريق الليبرالي

تكون الهوية الفردية

عن الهوية والمجتمع



07/01/1998

أحــــلام النــاس

كنت مهتما خلال الايام القليلة التي انقضت من رمضان المبارك ، في بحث حول تصور الناس لذاتهم ومعتقداتهم وتطلعاتهم ، وقد ركزت اهتمامي بصورة خاصة على التعبيرات البسيطة ، والاجابات الفورية ، التي اجد انها تعبر تماما عما يعتمل في الصدور ، بالدرجة التي يمكن اعتبارها حقيقة ما في النفس ، ولفت نظري ان معظم الذين سألتهم ، كان يعبر بصورة أو باخرى ، عن شك في تطابق نسق حياته مع مرادات الدين ، على الرغم من كونه متدينا بالمعنى المتعارف ، سألت احدهم مثلا عن السبب في عدم التطابق هذا ، فأجابني ان الدين أوسع من ان يحيط به أحد ، وقال لي أحدهم ان الله غاضب على المسلمين لعدم التزامهم بدينه ، ولهذا فانه لا يهديهم سواء السبيل ، وقال ثالث ان تطبيق الاسلام بكماله غير ممكن أصلا في هذا الزمان ، وما يطبق منه ـ ولو كان جزئيا أو ناقصا ـ فهو يعتبر كافيا ومعقولا ، لانه هو المقدور ولا يكلف الله نفسا الا وسعها .
وفيما مضى من الزمن كنت أظن الناس راضين عن مستوى تدينهم ، ومستوى فهمهم لمعاني هذا التدين ، لكن تلك المناقشات التي دارت غالبا مع اشخاص عاديين ، أظهرت انني كنت مخطئا في هذا التصور .

وأظن ان المشكلة لا تتعلق بتقصير مقصود في الالتزام بتعليمات الدين الحنيف ، بل بتباين بين الصورة المتخيلة في الذهن عن الحياة في ظل الدين ، وصورة الحياة كما يراها المسلم المعاصر ، وقد لا تكون الصورة الاولى دقيقة ـ بالضرورة ـ بل قد لا تكون صحيحة على الاطلاق ، لكننا على أي حال بصدد مسألة تكشف عن وجود جدل داخلي يعتمل في الانفس ، بين واقع يعيشه الناس باختيارهم أو بالرغم منهم ، وبين أمل في صورة جديدة لواقع مختلف .

حاولت ان اتعرف على الصورة التي يتخيلها الناس للواقع الجديد المأمول ، فوجدت العجب العجاب ، لفت انتباهي على سبيل المثال ، ان كثيرا من الناس يرسمون صورة للواقع الاسلامي المأمول ، على نسق الصورة التي تعرضها المسلسلات التاريخية التي يبثها التلفزيون ، وتدعي انها تجسيد لفترة ما في التاريخ الاسلامي ، وكنت أظن منذ فترة طويلة ان معظم ما يعرضه التلفزيون عن تاريخ الاسلام ، ليس أكثر من تركيبات ساذجة ، تفتقر الى الحس التاريخي ، كما تفـتقر الى الموضوعية .

وعلى أي حال فان المسؤولية عن هذا التقصير ، لا تلقى على كاهل منتجي البرامج التلفزيونية ، فهم ـ مثل غيرهم ـ يأكلون مما يجدونه على المائدة ، ولا يعتبرون انفسهم مكلفين بالتدقيق في علاقة كل طبق بباقي الاطباق ، ولا في صحة انتمائه الى المائدة .

وعلى كل حال فان هذا الصنف من الذين سألتهم ، كانوا يتمنون نمط حياة يشابه ذلك الذي يتخيلونه عن عصور الاسلام السابقة ، لكني سألت بعضهم عن حياته الحاضرة .. هل هو مستعد للتخلي عنها فيما لو أتيح لعقارب الزمن ان تعود الى تلك المرحلة .. فوجدتهم في الغالب قلقين من ان يتحملوا الاعباء الكثيرة التي تحملها الاسلاف في حياتهم ، ولهذا فانهم على الارجح ، سيختارون البقاء في زمنهم ـ مع انه مخدوش الاعتبار ـ على العودة الى الازمان السابقة ، ولو كانت ـ في تصورهم ـ كاملة .

 ما هو جوهر المسالة اذن ؟ .
لو رجعنا الى وجوه النقص التي يرى الناس انها تعيب زمانهم ، لوجدناها تتعلق غالبا بموضوعين : الاجماع على طريقة واحدة من التدين ونمط واحد من الحياة ، والعلاقة غير المتكافئة بين المسلمين وغيرهم من سكان الكوكب .

في الجانب الاول يتصور الناس ، ان المسلمين كانوا في عصورهم القديمة مجمعين على فهم واحد محدد للدين ، وعلى درجة واحدة من الالتزام باحكام الشريعة المقدسة ، ولهذا السبب فلم تكن ثمة اختلافات بين الناس ، ولم يكن ثمة تباين في مستويات الحياة والمراتب الاجتماعية ، وهذا تصور غير دقيق اطلاقا ، لكنه اقرب الى المثالية التي يتمناها كل شخص ، مع ادراكه لاستحالة نقلها من عالم المثال المجرد الى عالم الواقع الارضي .

وقد بذل بعض قدامى الفلاسفة جهودا كبيرة ، لصنع صورة ـ على الورق فحسب ـ لمدينة فاضلة تخلو من الطبقات وتخلو من الاختلافات ، كما ان فلاسفة معاصرين وضعوا افتراضات مفصلة ، حول امكانية التوصل الى مجتمع يخلو من الطبقات ، وتنعدم فيه ـ تبعا لهذا ـ فرص الاستغلال ، حيث يتقوم اعتبار الانسان بعمله ، لا بما يملك ، لكن أحدا لا يأخذ هذه الافتراضات مأخذ الجد ، اذ التباين في المعايش والمراتب ، أساس التدافع الاجتماعي والقومي ، الذي به تقوم حياة الامم وبه تتطور المجتمعات .

وخلافا لما يظن بعض الناس ، فان الحياة في عصور الاسلام الاولى ، لم تخل في أي مرحلة من مراحلها ، من الخلافات بين الناس ، كما لم تخل من التباينات الحياتية والاجتماعية ، فقد كان ثمة موالون وكان معارضون ، وكان ثمة مؤمنون ملتزمون بكل ما يستطاع من التكاليف ، وكان ثمة مخفون ، ومع تطور الدولة الاسلامية وانتشار العلم ، ازدادت التباينات وتعددت الافهام حتى قامت الفرق والمذاهب ، وتبلورت مدارس فكرية ينسجم بعضها مع التيار العام ، ويختلف اكثرها في الخطوط العريضة أو في التفاصيل . كما ان اتساع الدولة وتبلور الحياة المدنية ، قد ساعد على اتساع التمايز بين الطبقات الاجتماعية ، وظهور فوارق في أساليب ومستويات المعيشة ، اجلى مما كانت في بدايات الدولة الاسلامية ، والخلاصة ان تصور الحياة في عصور الاسلام  الاولى ، خالية من الالوان والتعبيرات المختلفة ، مجانب للحقيقة ، بل هو مستحيل في أي حال .

ومع ان الناس جميعا يشتركون في تبني آمال أو أحلام معينة ، تتجاوز مستوى ما هو معاش ، وهذه طبيعة انسانية لا علاقة لها بقطر معين أو ملة معينة ، الا ان المسلمين يتميزون عن غيرهم ، بحنين خاص الى مثال يعتقدون انه كان واقعا في يوم من الايام ، وانه يمكن ان يبعث من جديد بصورة أو بأخرى في يوم من الايام ، وهم يعتقدون ان هذا المثال ، ايا كان ، هو خير من واقعهم المعاش ايا كان ، ويشير هذا الامل المحدد الى نوع من الاحتجاج العفوي الصامت ، على واقع يشعر الجميع انه لم يكن مخيرا في ايجاده ، ولعله كان اختار غيره لو اتيحت له الفرصة يوم تشكل ، ويتعزز هذا الشعور مع تراكم الاحباطات وأسباب الفشل ، سواء تلك التي تعزى للشخص ذاته ، او للنظام الاجتماعي ككل.

وحسب ما راى بعض الباحثين فان الشعور بالاحباط او العجز ، يتنامى مع اختلال التوازن بين قدرة الانسان على الفعل ، ووجود فرص للتعبير عن هذه القدرة ، ويبدو لي ان كل الناس في كل المستويات ، يحلمون بشيء ، او يتمنون القدرة على تحقيق شيء ، لكن شعور الانسان بقدرته على تحقيق حلمه ، هو الذي يجعله متوترا ، اما في المرحلة السابقة لوجود القدرة ، فان الانسان يحلم كي يستريح من ضغط الشعور بالعجز .

واذا صح هذا التحليل ، فانه يمكن القول بان عدم الرضى عن مستوى التدين ، قد لا يكون مبنيا على تحليل او تامل في واقع الحال ، بل ربما نتج عن رغبة في المطابقة بين الواقع والحلم ، يتوازى مع قناعة فحواها ان الحلم ، يبقى مجرد حلم حتى اشعار آخر .
عكاظ 7 يناير 1998

06/04/1997

سلع سريعة الفساد: حروب الكلام

معظم الذين يعارضون الحركات الاسلامية ، يتهمونها باستغلال الخطاب الديني لتحقيق اغراض سياسية او حزبية. وهذا الوصف قابل للتطبيق على كل شخص او جماعة. فكل من اراد النيل من منافس له ، وصفه بالانتهازية ، او ارتداء عباءة الايديولوجيا لتحقيق اغراض سياسية او غير سياسية. واذا اراد التوسع في الوصف او تأكيد (التهمة) تبرع بتبرئة الدين من السياسة او المصالح. وتنشر الصحافة العربية كل يوم تقريبا ، مقالات او تصريحات لمعارضين سودانيين ، تتهم النظام القائم بانه مخادع ، وزعيم الجبهة القومية الاسلامية التي تدعمه بانه انتهازي ، يستغل الشعار الديني لتبرير استيلاء الجبهة على مفاصل الحياة السياسية .

 وقد قيل مثل هذا في النظام الايراني ، ويقال عادة في كل الصراعات الصغيرة والكبيرة التي تجري بين الفئات السياسية. وأمامي تصريح للسيد رفعت السعيد ، وهو من زعماء اليسار في مصر يحذر من ان جماعة الاخوان المسلمين تستغل الديمقراطية لكي تقتلها حينما تصل الى الحكم ، لانها لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها (الحياة 3/7/1996) وهو كلام يمكن تطبيقه على الحزب الذي ينتمي اليه السيد السعيد ، فقد شهدت مصر بعض احلك ايامها حينما كان اليسار في السلطة ، وأمامي ايضا خبر عن احتجاج قدمه الامين العام لجناح حزب البعث اليمني المؤيد للعراق ، الى لجنة الاحزاب في الحكومة اليمنية ، يتهم الجناح المؤيد لسورية في الحزب نفسه باستغلال الاسم لاغراض سياسية ، بخلاف ما ترمي اليه المنطلقات والبرامج الخاصة بالحزب ، ويتهم اللجنة بالتآمر مع هذا الفريق ، خلافا للسلوك الديمقراطي والدستور والفانون الجاري (الحياة 4/7/1996) .

 خلاصة ما نريد قوله ان اتهام الجماعات الاسلامية بالانتهازية او استثمار الدين ، هو مجرد سلعة في سوق الصراع بين القوى السياسية ، ومثلما يوجه للاسلاميين ، فهو قابل للتوجيه ضد اي طرف سياسي اخر ، فيمكن اتهام اليسار باستثمار شعار العدالة الاجتماعية لتقويض الحريات الفردية ، كما يمكن اتهام الليبراليين باستثمار شعار الديمقراطية والحريات ، لافساد المجتمع او اقامة حكم يعتمد على استثمار الاقوياء للضعفاء .

 والحقيقة ان ايا من  السياسيين الذين حاولوا التقدم في ميدان السياسة ، لم يعجز عن ابتكار قائمة اتهامات من هذا النوع يوزعها على منافسيه ، لكن ايا منها لايصلح دليلا لتقويم تجربة الطرف المتهم او مصداقية طروحاته. انها اشبه بالسلع السريعة الفساد ، ليس لها اي قيمة خارج الظرف الذي شهد اطلاقها ، الظرف المحدود زمنيا ومكانيا  .

ولايقتصر هذا النوع من التراشق على الجماعات المختلفة ايديولوجيا ، ففي داخل التيار الاسلامي نفسه ، نرى التقليديين يتهمون الحركيين الجدد باستثمار الشعار الاسلامي لتحقيق مآرب سياسية آنية ، ويتهم هؤلاء اولئك باستغلال الدين لتجميد المجتمع الديني ، ويشكك كل من هؤلاء في الاخر ، في اخلاصه وفي تقواه وفي تطابق منهجه وتكتيكاته مع مرادات الشريعة. وكل هذه الاتهامات والمراسلات الخطابية ، نفخ في الالفاظ لا يغير شيئا من الحقيقة ، لكنها تعكس الارتباك السائد في تحديد خطوط الاتصال وخطوط الانفصال ، بين ما ندعوه مبدأ وما ندعوه مصلحة .

ويظهر ان الذين يوصفون بالمصلحية - عادة - هم النشطون في المجال الاجتماعي او السياسي ، الذين يهددون غيرهم بابتلاع مجاله الاجتماعي او فرصته السياسية ، اما المنعزل الذي لا يهدد احدا ولاينافس احدا ، ولايسعى لتحويل رصيده الشخصي الى قوة سياسية تنافس القوى القائمة ، والتي تخطط للقيام على الساحة ، فانه ينام قرير العين ، لا يرشق بحجر ولا ينال منه لسان. وكان استاذنا اية الله السيد محمد الشيرازي اطال الله عمره يقول ان راشقي السهام في الحروب القديمة ، يوجهون سهامهم الى اصحاب القامات العالية والرايات الواضحة ، قبل بقية الجيش. وقرأت في حياة الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول قوله ، انه حاول الفرار من اسر القوات الالمانية مرارا ، لكن قامته الطويلة فضحته دائما ، فلم يكن بين الجند من هو في مثل طوله ، ولهذا كان جميع جنود المعتقل الالماني يعرفونه حتى لو اخفى وجهه ، والحاصل ان الاتهام بالانتهازية او المصلحية ، هو في حقيقته لون من الوان الصراع الاعتيادي يواجهه كل نشط على الساحة ، وكلما امتدت قامته وظهر صيته ، ازداد حجم الاتهامات الموجهة اليه لا سيما من هذا النوع .

قلنا سابقا ان التزام الانسان ، سياسيا كان او رجل شارع ، بمصلحته او مصلحة جماعته ليس تهمة ، وليس عيبا ، وبناء المواقف على اساس المصالح ليس خطأ بل قد يكون عين العقل ، كما ان تأثر الاراء والافكار بالمصالح ليس اختيارا ، فعقل الانسان لا يتحرك بمعزل عن تعاطيه مع شئون حياته ، ولذلك فانه لا يوجد انسان الا وهو ينظر ، حين يتكلم وحين يعمل ، الى مصلحة ، مصلحة لنفسه او لجماعته او لعقيدته ، وهي في كل الاحوال مصلحة للذات .

لكن مع ذلك ، وبسبب تخلف الثقافة وانفصالها عن الحياة ، واحتلال الخيال مكان المنطق في عقل الانسان المسلم ، فقد اصبح السعي الى المصلحة عيبا يسوء المرء ، كما  اصبح التباطؤ عنها او القعود عنها حتى تضيع ، مكرمة يستحق صاحبها الثناء وجميل الذكر ، وما نريد قوله كخلاصة انه لا يمكن للانسان ان يكون فاعلا الا اذا وثق اتصاله مع الواقع الذي يعيش ، الواقع بما فيه من مادة وعناصر حياة وجمهور وقوى وسلطة. ولان العلاقة بهذا الواقع مستحيلة ، اذا لم يظهر الانسان استعدادا للتشابك مرة والتلاحم أخرى والقتال ثالثة ، فان على الانسان ان يهيء نفسه لردود الفعل ، السلبية والايجابية ، وعليه ان يتحمل الاساءة بمثل ماهو مستعد لتقبل الثناء.

23/03/1997

مباديء اهل السياسة ومصالحهم


لم يبخل احد من الحركيين الاسلاميين في عرض الادلة ، على ان موقفه خلال الاجتياح العراقي للكويت في اغسطس 1990 ، كان تعبيرا عن مصلحة مؤكدة للاسلام كدين وللمسلمين كأمة ، لكن ولسوء الحظ ، فإن هذه المواقف تباينت الى حد التناقض ، وترتب عليها اتهامات متبادلة من جانب المتعارضين ، في الادلة والاسباب التي حملتهم على اتخاذ مواقفهم ، واعتبر كل من الطرفين ان الآخر لم يَرْعَ متطلبات معينة في الشريعة ، يعتقد أنها أولى بأن تقدم في الاعتبار  .

ستجد ان هذا الاختلاف في الموقف ، كان هو السائد ايضا وسط التيارات الاخرى غير الاسلامية ، بل يمكن القول ان الجماعات السياسية في كل بلد قد تبنت الموقف الذي ساد في بلدها ، بغض النظر عن متبنياتها الفكرية الخاصة ، وفي هذا اشارة الى ان الاساس الذي بني عليه الموقف لم يكن تنظيرا ايديولوجيا مجردا ، بل ادلجة للتوجهات الاجتماعية التي هي نتاج خالص لشروط البيئة الاجتماعية وانعكاساتها ، والفرق كبير بين العودة الى مجردات الايديولوجيا ، وبين وضع التوجهات المجتمعية في اطار ايديولوجي ، ففي هذه الحالة ستكون الايديولوجيا مجرد مصدر لتبرير الارادات الخاصة او العامة ، وليست اساسا للحكم ، فهي محكومة بالمجتمع وليست دليلا له  .

تناقض المواقف

رأى الاسلاميون في الخليج ان الغزو بما هو عدوان ، وتضييع للحقوق وانتهاك للحرمات ، هو اولى بان يكون الأساس في التقدير ، وان ما تبعه من تطورات ، ولاسيما الإستعانة بغير المسلمين في رد المسلم المعتدي ، انما هو تسلسل للضرورة الاولى المتمثلة في الاعتداء ، وليس حدثا منفصلا يتطلب موقفا منفصلا عن الأول ، خاصة مع عدم التمكن من رد العدوان بأي وسيلة أخرى .

 اما الاسلاميون من الدول الاخرى فاختلفوا أولاً في تقييم الحدث الاول وهو الغزو ، فرأى معظمهم انه غير مقبول ، بالنظر الى ما يرتبه من آثار عامة ، حتى مع التحفظ في التفاصيل ، لكن معظمهم عاد ـ من ثم  ـ الى اعتبار موضوع الغزو ثانويا ، بعد ان تدخلت القوات الاجنبية في المعركة ، بناء على ان الحرب بين الكافر والمسلم ، توجب نصرة المسلم مهما كانت طبيعة القضية .

وقد حدث تلاوم كثير بين اصحاب هذا الاتجاه واصحاب الاتجاه الآخر ، أدى من الناحية الفعلية الى انشقاق في التيار الاسلامي ، شبيه للانشقاق الذي احدثته الازمة على مستوى الحكومات العربية ، ووصف الخليجيون الاخرين بأنهم مكيافيليون ، تنبع مواقفهم من الرغبة في الاستثمار السياسي السريع المردود ، بينما وصف هؤلاء اولئك بالسطحية في تقدير الامور ، والنظر اليها من زاوية المصالح الشخصية ، والخوف على نعيم الحياة الذي يمثل مجتمع الخليج البترولي رمزه الابرز .

ومع ان هذه الاوصاف هي نتاج للانفعال الفوري بانعكاسات الازمة ، ويصعب التدليل على صحتها او سقمها ، الا انها من ناحية اخرى ، تكشف عن قبول الطرفين باعتماد (المصلحة) اساسا في تقييم الموضوعات واتخاذ المواقف .

وربما بدا هذا الاستنتاج بديهيا لكثير من القراء ، فليس ثمة عاقل الا وهو يلاحظ مصالحه حين يقدم على اي عمل ، لكن الامر ليس بنفس العفوية في الحياة السياسية ، فعلى الرغم من ان الاكثرية الساحقة من السياسيين والنشطين في المجال الاجتماعي ـ اذا لم نقل جميعهم ـ يؤسسون مواقفهم المكتومة  والمعلنة على (المصلحة) التي يرونها لانفسهم او للوسط الاجتماعي الذي يعتمدون على دعمه ، المصلحة الفورية عادة ، والبعيدة الامد في بعض الاحيان ، الا ان الجميع يتنصل من هذه الحقيقة ، وربما اعتبر مثل هذا القول ( تهمة ) تستوجب النفي والتكذيب ، وهو يجاهد بكل ما استطاع للتدليل على ان مواقفه وأراءه ، هي التجسيد الكامل والدقيق لمرادات الايديولوجيا التي يتبناها (الشريعة او غيرها) .

وبالنظر الى غموض العلاقة بين فكرتي المصلحة والمبدأ ، فقد اصبح من الاعتيادي ان ينظر الى فريق من السياسيين ، باعتبارهم مبدئيين ، والى غيرهم باعتبارهم مصلحيين (او براغماتيين حسب التعبير المتداول حاليا) ويشار الى الفريق الاول باعتباره اكثر تمسكا بالعقيدة ، والى الثاني باعتباره متحررا ، والحقيقة ـ كما هي في الحياة السياسية على اقل التقادير ـ ان الفريق الاول لا يختلف عن الثاني ، في اعتبار المصلحة العاجلة او البعيدة الامد منطلقا واساسا لمواقفه العملية ، وغاية ما يميزه عن منافسه هو قدرته اللغوية او المعلوماتية ، التي تتيح له عرض موقفه في اطار يبدو لصيقا بالايديولوجيا ، بينما يفتقر الثاني الى البراعة اللفظية والاعلامية التي يتمتع بها الاول .

من الواضح ان فكرة ( المصلحة ) والتاسيس عليها والدفاع العلني عنها ، غير موجودة ، او لنقل ـ على سبيل التحفظ ـ انها غائبة في الثقافة الاسلامية المتداولة ، ولا سيما الشعبية ، ولذلك نجد ان الخطاب الرسمي كالخطاب الشعبي تماما ، يتحدث عن علاقة الدولة بالمجتمع ، وعلاقة الدولة بالدول الاخرى ، وعلاقة الاطراف الاجتماعية ببعضها باعتبارها تجسيدا لقيم او متبنيات ذات ظلال معنوية بحتة ، بينما هي في الواقع ، وينبغي ان تكون ، تعبيرا عن مصالح تتقارب او تتباعد ، ان اقرب الاصدقاء في السياسة قد تبعده مصالحه عنك ، كما قد تقربك مصالحك الى البعيد القصي ، وبالنسبة للزعيم او الجماعة السياسية ، فان صدقيتها في تبني مصالح المجتمع الذي تدعي تمثيله ، ستكون رهينة  بمدى حرصها على تحقيق مصالحه المباشرة والمحددة ، وليس في انسجامها مع متبنياتها الايديولوجية التي تخصها وحدها ، حينئذ فان المبدئية الحقة ستكون في حجم الانجازات المحققة للجمهور ، أي في قدرتها على تحقيق المصلحة العامة .

16/03/1997

اقامة الشريعة بالاختيار


في كل الاحوال فانه ليس لاحد من الاطراف السياسية ، حزبا طليعيا كان ، او فقيها مجتهدا ، او زعيما تاريخيا ، تعيين نفسه بديلا عن الجمهور في اختيار مستقبله ، أو وكيلا مطلق الصلاحية يرسم ما يشاء دون رجوع الى الراي العام الصريح والمنظم.

 لقد عانى المجتمع العربي ولايزال يعاني الامرين ، من سياسات الاشخاص او الجماعات التي تعتبر نفسها ضرورة للشعب والوطن ، ونبتا فريدا في صحراء عجزت ارضها عن انبات غيره ، وظهر لنا ان هذا النبت الفريد لم يكن غير اثل وشوك ، لا هو بالمطعوم حتى يسمن من جوع ، ولا هو بالصلب العود حتى يدفيء من برد ، بل ربما يمكن القول ـ من واقع تجارب عربية عديدة ـ
  ان الجماعات او الزعماء الاكثر تبجحا وادعاء ، هم الاقل نجاحا في بلوغ ما يدعون من اهداف ، فكانه ثمة تناسب عكسي بين التبجح والنجاح ، وما تجربة صدام حسين عنا ببعيدة ، ولاتجربة الزعيم الليبي  بمجهولة .
يقول يونس بحري ، الاعلامي العراقي القديم (1900-1979) ان الشعار الفارغ كان منقذا له من السجن ، فقد كان سجينا في عهد اللواءعبد الكريم قاسم ، وقد زار قاسم السجن مرة ، فاراد الرجل انتهاز الفرصة ، فهتف وهتف معه بقية السجناء (يعيش الزعيم الاوحد) وصدق قاسم انه زعيم اوحد فامر باطلاق اولئك السجناء ، ثم اشار بضم الشعار الجديد الى قائمة الشعارات الرسمية ، لكن الزعيم الاوحد لم يلبث غير اسابيع حتى اصبح وحيدا تحت التراب .

 لقد ولى الان زمن (القائد الضرورة) و (الزعيم الاوحد) و (حزب الرسالة الخالدة) وكشف توالي الاحداث والتجارب هزال هذه الاوصاف بل زيفها ، وقد حان الوقت ، بل لقد حان منذ زمن طويل ، لكي يستعيد الجمهور دوره في اختيار مستقبله بنفسه ، دون وصاية عليه او نيابة عنه ، لقد بلغنا سن الرشد ، ولانحتاج الى اوصياء علينا او وكلاء يبيعوننا الاحلام .

اذا كان الجمهور يريد اقامة الشريعة ، فلا يمكن لاحد - اخلاقيا - منعه من مراده ، واذا كان قلقا منها فهو غير مكلف  شرعا بقتال الناس حتى ينصاعوا للنموذج الذي اختاره. كل فرد من الناس مكلف ومسؤول امام الله ، بقدر ما نحن مكلفون ومسؤولون ، وفي داخل كل مسلم عقل كامل ، كما في رؤوسنا عقول ، ثم اننا موقوفون يوم القيامة للحساب افرادا ، ليواجه كل نتائج خياراته في الحياة الدنيا فـ (كل امريء  بما كسب رهين) ،  وعليه فليس لنا ، وليس لاحد مهما كانت صفته ، الحق في ان يسوق الناس  ـ سوق الانعام ـ من حظيرة الغير الى حظيرته ، ولو كانت ـ في عينه ـ اوسع واجمل ، ان اقوى المبررات لا يكفي للبرهنة على جواز اجبار الناس على اتخاذ خيار محدد ، ولو كان الجبر متاحا ، لاتيح لرسول الله (ص) الذي يخاطبه القرآن قائلا (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)  لقد اثبتت التجربة الباكستانية ، كم كان الثمن غاليا حينما فرضت القوانين الشرعية بقوة الجيش ، حيث تظهر الاحداث ان التأييد الشعبي للاسلاميين ، في الانتخابات التي اعقبت نهاية الحكم العسكري ، بوفاة الجنرال ضياء الحق عام 1988، قد انكمش الى مستويات مقلقة ، بالمقارنة مع الاوضاع السابقة على قيام الحكومة العسكرية في يوليو 1977.

الناس ومصالحهم

نؤمن بان اقامة الشريعة ستوجد اليات مثلى لضمان مصالح الجمهور ، لكن لا يمكن ـ من الناحية العملية ـ ضمان مصالح الجمهور دون موافقته المسبقة على المنهج الذي تقوم في اطاره هذه الاليات ، ان الادعاء بامكانية التحديد المسبق والالزامي لطبيعة المصالح العامة ، هو ادعاء يعوزه المنطق ، اذ لا يوجد في العالم كله ، شخص او حزب هو اعرف بمصالح الناس من الناس انفسهم ، ولايوجد في العالم كله ، احد اقدر على ضمان مصالح الناس من الناس انفسهم ، وتدلنا تجربة التنمية في البلاد العربية وكثير من اقطار العالم الثالث ، على النتائج المريرة التي انتهت اليها محاولات الانماء المعزول عن المشاركة الشعبية ، بما يكفي للتدليل على ان أي برنامج تطوير لايرضى به الشعب ولا يشارك فيه ، لن يصل الى غاياته ولو دفع في سبيله الكثير من المال وبذل لانجاحه الغالي من الجهد والوقت ، ربما نفعل المستحيل لانماء البلاد وتطويرها ، لكن كل انجازاتنا ستكون بلا قيمة ، اذا لم يكون الجمهور شريكا فيها ومساهما وحاميا ، ولا يختلف الامر بين ان يكون هذا التطوير قد جرى وفقا لاحكام الشريعة او وفقا لغيرها .
 واذا اتخذ الجمهور جانب المتفرج ، فلن نحصد من وراء جهدنا غير التعب ، وسوف ينسانا الناس ، على ان ما نخشاه حقا هو ان نكون من (الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا) ، فلعلنا نسعى الى فرض اجتهاداتنا على الناس فنظلمهم تحت هذا المبرر او ذاك ، فنخسر ما نأمله من عون الله ومحبته ورضاه .

في كل الاحوال فانه لا ينبغي للمؤمن الحق ، ان يستبدل دور الداعية بدور الجلاد ، اذا قبل الناس دعوتنا واستطعنا ان نقيم الشريعة بالتعاون معهم فقد كسبنا صفقة العمر ، واذا لم يقتنع الناس بما ندعوهم اليه ، فليس لنا ان نضع السيوف في اعناقهم حتى يأخذوا بمذهبنا او يروا رأينا ، لن تقوم الشريعة بالاكراه ، ولسنا مسؤولين ـ شرعا ـ عمن ابى او جفى (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) واذا ثبت هذا فاننا بحاجة الى وسائل في العمل تتجه نحو اقناع الناس ، دون وضعهم في الحرج ، نحن بحاجة  الى جدل يرتفع بمستوى الساحة ، جدل يعزز قدرة الناس على الاختيار ، ولئن فشلنا اليوم فان في مستقبل الايام متسع لكل طالب حق عادل .

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...