كنت مهتما خلال الايام
القليلة التي انقضت من رمضان المبارك ، في بحث حول تصور الناس لذاتهم ومعتقداتهم
وتطلعاتهم ، وقد ركزت اهتمامي بصورة خاصة على التعبيرات البسيطة ، والاجابات
الفورية ، التي اجد انها تعبر تماما عما يعتمل في الصدور ، بالدرجة التي يمكن
اعتبارها حقيقة ما في النفس ، ولفت نظري ان معظم الذين سألتهم ، كان يعبر بصورة أو
باخرى ، عن شك في تطابق نسق حياته مع مرادات الدين ، على الرغم من كونه متدينا
بالمعنى المتعارف ، سألت احدهم مثلا عن السبب في عدم التطابق هذا ، فأجابني ان
الدين أوسع من ان يحيط به أحد ، وقال لي أحدهم ان الله غاضب على المسلمين لعدم
التزامهم بدينه ، ولهذا فانه لا يهديهم سواء السبيل ، وقال ثالث ان تطبيق الاسلام
بكماله غير ممكن أصلا في هذا الزمان ، وما يطبق منه ـ ولو كان جزئيا أو ناقصا ـ
فهو يعتبر كافيا ومعقولا ، لانه هو المقدور ولا يكلف الله نفسا الا وسعها .
وفيما مضى من الزمن كنت أظن
الناس راضين عن مستوى تدينهم ، ومستوى فهمهم لمعاني هذا التدين ، لكن تلك
المناقشات التي دارت غالبا مع اشخاص عاديين ، أظهرت انني كنت مخطئا في هذا التصور .
وأظن ان المشكلة لا تتعلق
بتقصير مقصود في الالتزام بتعليمات الدين الحنيف ، بل بتباين بين الصورة المتخيلة
في الذهن عن الحياة في ظل الدين ، وصورة الحياة كما يراها المسلم المعاصر ، وقد لا
تكون الصورة الاولى دقيقة ـ بالضرورة ـ بل قد لا تكون صحيحة على الاطلاق ، لكننا
على أي حال بصدد مسألة تكشف عن وجود جدل داخلي يعتمل في الانفس ، بين واقع يعيشه
الناس باختيارهم أو بالرغم منهم ، وبين أمل في صورة جديدة لواقع مختلف .
حاولت ان اتعرف على الصورة
التي يتخيلها الناس للواقع الجديد المأمول ، فوجدت العجب العجاب ، لفت انتباهي على
سبيل المثال ، ان كثيرا من الناس يرسمون صورة للواقع الاسلامي المأمول ، على نسق
الصورة التي تعرضها المسلسلات التاريخية التي يبثها التلفزيون ، وتدعي انها تجسيد
لفترة ما في التاريخ الاسلامي ، وكنت أظن منذ فترة طويلة ان معظم ما يعرضه
التلفزيون عن تاريخ الاسلام ، ليس أكثر من تركيبات ساذجة ، تفتقر الى الحس
التاريخي ، كما تفـتقر الى الموضوعية .
وعلى أي حال فان المسؤولية
عن هذا التقصير ، لا تلقى على كاهل منتجي البرامج التلفزيونية ، فهم ـ مثل غيرهم ـ
يأكلون مما يجدونه على المائدة ، ولا يعتبرون انفسهم مكلفين بالتدقيق في علاقة كل
طبق بباقي الاطباق ، ولا في صحة انتمائه الى المائدة .
وعلى كل حال فان هذا الصنف
من الذين سألتهم ، كانوا يتمنون نمط حياة يشابه ذلك الذي يتخيلونه عن عصور الاسلام
السابقة ، لكني سألت بعضهم عن حياته الحاضرة .. هل هو مستعد للتخلي عنها فيما لو
أتيح لعقارب الزمن ان تعود الى تلك المرحلة .. فوجدتهم في الغالب قلقين من ان
يتحملوا الاعباء الكثيرة التي تحملها الاسلاف في حياتهم ، ولهذا فانهم على الارجح
، سيختارون البقاء في زمنهم ـ مع انه مخدوش الاعتبار ـ على العودة الى الازمان
السابقة ، ولو كانت ـ في تصورهم ـ كاملة .
ما هو جوهر المسالة اذن ؟ .
لو رجعنا الى وجوه النقص
التي يرى الناس انها تعيب زمانهم ، لوجدناها تتعلق غالبا بموضوعين : الاجماع على
طريقة واحدة من التدين ونمط واحد من الحياة ، والعلاقة غير المتكافئة بين المسلمين
وغيرهم من سكان الكوكب .
في الجانب الاول يتصور الناس
، ان المسلمين كانوا في عصورهم القديمة مجمعين على فهم واحد محدد للدين ، وعلى
درجة واحدة من الالتزام باحكام الشريعة المقدسة ، ولهذا السبب فلم تكن ثمة
اختلافات بين الناس ، ولم يكن ثمة تباين في مستويات الحياة والمراتب الاجتماعية ،
وهذا تصور غير دقيق اطلاقا ، لكنه اقرب الى المثالية التي يتمناها كل شخص ، مع
ادراكه لاستحالة نقلها من عالم المثال المجرد الى عالم الواقع الارضي .
وقد بذل بعض قدامى الفلاسفة
جهودا كبيرة ، لصنع صورة ـ على الورق فحسب ـ لمدينة فاضلة تخلو من الطبقات وتخلو
من الاختلافات ، كما ان فلاسفة معاصرين وضعوا افتراضات مفصلة ، حول امكانية التوصل
الى مجتمع يخلو من الطبقات ، وتنعدم فيه ـ تبعا لهذا ـ فرص الاستغلال ، حيث يتقوم
اعتبار الانسان بعمله ، لا بما يملك ، لكن أحدا لا يأخذ هذه الافتراضات مأخذ الجد
، اذ التباين في المعايش والمراتب ، أساس التدافع الاجتماعي والقومي ، الذي به
تقوم حياة الامم وبه تتطور المجتمعات .
وخلافا لما يظن بعض الناس ،
فان الحياة في عصور الاسلام الاولى ، لم تخل في أي مرحلة من مراحلها ، من الخلافات
بين الناس ، كما لم تخل من التباينات الحياتية والاجتماعية ، فقد كان ثمة موالون
وكان معارضون ، وكان ثمة مؤمنون ملتزمون بكل ما يستطاع من التكاليف ، وكان ثمة
مخفون ، ومع تطور الدولة الاسلامية وانتشار العلم ، ازدادت التباينات وتعددت
الافهام حتى قامت الفرق والمذاهب ، وتبلورت مدارس فكرية ينسجم بعضها مع التيار
العام ، ويختلف اكثرها في الخطوط العريضة أو في التفاصيل . كما ان اتساع الدولة
وتبلور الحياة المدنية ، قد ساعد على اتساع التمايز بين الطبقات الاجتماعية ،
وظهور فوارق في أساليب ومستويات المعيشة ، اجلى مما كانت في بدايات الدولة
الاسلامية ، والخلاصة ان تصور الحياة في عصور الاسلام الاولى ، خالية من الالوان والتعبيرات المختلفة
، مجانب للحقيقة ، بل هو مستحيل في أي حال .
ومع ان الناس جميعا يشتركون
في تبني آمال أو أحلام معينة ، تتجاوز مستوى ما هو معاش ، وهذه طبيعة انسانية لا
علاقة لها بقطر معين أو ملة معينة ، الا ان المسلمين يتميزون عن غيرهم ، بحنين خاص
الى مثال يعتقدون انه كان واقعا في يوم من الايام ، وانه يمكن ان يبعث من جديد
بصورة أو بأخرى في يوم من الايام ، وهم يعتقدون ان هذا المثال ، ايا كان ، هو خير
من واقعهم المعاش ايا كان ، ويشير هذا الامل المحدد الى نوع من الاحتجاج العفوي
الصامت ، على واقع يشعر الجميع انه لم يكن مخيرا في ايجاده ، ولعله كان اختار غيره
لو اتيحت له الفرصة يوم تشكل ، ويتعزز هذا الشعور مع تراكم الاحباطات وأسباب الفشل
، سواء تلك التي تعزى للشخص ذاته ، او للنظام الاجتماعي ككل.
وحسب ما راى بعض الباحثين
فان الشعور بالاحباط او العجز ، يتنامى مع اختلال التوازن بين قدرة الانسان على
الفعل ، ووجود فرص للتعبير عن هذه القدرة ، ويبدو لي ان كل الناس في كل المستويات
، يحلمون بشيء ، او يتمنون القدرة على تحقيق شيء ، لكن شعور الانسان بقدرته على
تحقيق حلمه ، هو الذي يجعله متوترا ، اما في المرحلة السابقة لوجود القدرة ، فان
الانسان يحلم كي يستريح من ضغط الشعور بالعجز .
واذا صح هذا التحليل ، فانه
يمكن القول بان عدم الرضى عن مستوى التدين ، قد لا يكون مبنيا على تحليل او تامل
في واقع الحال ، بل ربما نتج عن رغبة في المطابقة بين الواقع والحلم ، يتوازى مع
قناعة فحواها ان الحلم ، يبقى مجرد حلم حتى اشعار آخر .
عكاظ 7 يناير 1998
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق