قد
يمكن الادعاء بأن تطور البشرية ، هو في حقيقته المحصلة المكثفة لمحاولات الافراد
وابداعاتهم ، حيث لا يذكر التاريخ سوى مناسبات تعد على اصابع اليد ، قامت خلالها
أمة من الامم او مجتمع من المجتمعات ، بصورة جماعية ، باستنباط نمط حياة جديدة ،
أو انتخاب طريق جديدة للعمل خلاف ما اعتادت عليه .
وفي
جميع المناسبات الاخرى ، كانت مبادرات الافراد وكشوفاتهم هي الخطوة الاولى التي
كشفت لمجتمعهم عن صورة مستقبل اجمل من حاضره ، وهي القاطرة التي عبروا على متنها
حاجز الزمن ، فانتقلوا من عصورهم الى عصر اكثر تقدما واشراقا .
لكن
هذاكان في نهاية المعاناة ، اما في البداية فقد غامر الافراد بنقد نظام ثقافي
واجتماعي قائم ومتفق عليه ، واعتبر المجتمع هذا النقد تجسيدا لنوع من التمرد ، أو
ـ في أحسن الحالات ـ ارادة للتمايز عن نظام الحياة الصحيح ، ولهذا فان المجتمع قد
رمى اولئك الافراد ـ الا القليل منهم ـ بشتى التهم التي يختص بها المجتمع من
يعارضه أو يتمرد على قيمه وانماط حياته ، ولهذا السبب فقد بقي الجدل محتدما ، حول
مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والتوازن الصحيح بين الطرفين ، التوازن الذي
يكفل للمجتمع حقوقه كما يكفل حقوق الفرد ، ويبدو ان هذا الجدل سيستمر لأمد طويل
قبل ان يجد نهايته الصحيحة ، وقد لا يجدها اطلاقا .
على
ان القرن العشرين الذي نعيش أيامه الاخيرة ، قد شهد اعادة تعريف لهذه العلاقة ،
بحيث يمكن القول ان الميزان قد اعتدل الى حد كبير ، وجرى الاعتراف بالفرد كذات
مستقلة عن المجتمع ، له حقوق تتعلق به بذاته ، وبغض النظر عن انتمائه الى جماعة
محددة او وراثته لهوية محددة ، ويبدو واضحا ان هذا التطور قد ترافق مع تقدم
المجتمعات ، بحيث يمكن القول ان اكثر المجتمعات تقدما ، هي ـ في الوقت ذاته ـ
اكثرها تقديرا لدور الفرد وذاته المستقلة ، فكأن هذا وذاك صنوان لا يفترق أحدهما
عن الآخر ، أو ان كلا منهما مشروط بالآخر.
ويواجه
مجتمعنا ـ مثل كل مجتمع آخر ـ ذات المسألة ، مما يفرض عليه البحث عن حل صحيح لها ،
حل تفرضه حاجة المجتمع الماسة الى تجاوز نقاط التوقف والاعاقة ، التي نراها في كل
مناسبة مانعا للانطلاق في طريق النهضة المنشودة .
ويظهر
لي ان معظم الناس في مجتمعنا ، ان لم نقل كلهم ، يذهبون الى ترجيح كفة المجتمع ،
واعتبار الجدل بين حقوقه وحقوق الفرد محسوما من الاساس لصالح المجتمع ، ولهم في
هذا مبررات ، بينها ان المجتمع هو مجموع الافراد وان حسمها لصالح الجميع يعني
اقرار حق كل فرد بمفرده ، لكن هذا تصور باطل ، فالمجموع له صورة خاصة ، كما لكل
فرد صورة خاصة مختلفة ، ولا ينتج من الصورة المركبة من مجموع الافراد المستقلين
صورة المجتمع ، كما ان صورة المجتمع لا يمكن تقسيمها الى صور متعددة ، لكي تناسب
كل فرد ، ان صورة الجماعة ليست تركيبا لمجموع صور الافراد .
يريد
الفرد ان يعبّر عن ذاته ، وان يقول رأيه في العلن ، يريد ان يختار نظام حياته الذي
يتوصل اليه بعقله ، والذي يجد فيه مصلحته ، يريد ان يجد نفسه قادرا على تلمس
قدراته وامكانياته ، واستثمارها في ابداع ما لم يكن معتادا أو معروفا في وسطه
الاجتماعي ، ويريد المجتمع من كل عضو فيه ان يتماثل مع البقية وان يخضع للنظام
الثقافي وهيكل العلاقات والتراتبية السائدة ، وهو يضع الزامات محمية بقوة (العيب)
وأحيانا بقوة (القانون) توجب على كل فرد الانصياع والا واجه العقاب .
من
أجل هذا امتنع كثير من المبدعين عن قول رأيهم ، او التعبير عن اراداتهم ، ومن أجل
هذا نام الكثيرون على وجع الحرمان من اقتـناص فرصهم بعدما وجدوها قاب قوسين أو
ادنى من اطراف ايديهم ، ومن أجل هذا حرم المجتمع نفسه من ابداع المبدعين ، والكشوف
الجديدة التي ربما توصل اليها أهل الكشف ، وهم لا يوجدون في المجتمع الواحد الا
كنوادر ، يعدون على اصابع اليد .
يحترم
المجتمع المتقدم نفسه ، كما يحترم كل عضو فيه بمفرده ، فاذا جاء زيد بجديد فانه لا
يسأل عن نسبه ، ولا يسأل عن لقبه ، ولا يسأل عن الاطار الذي ينتمي اليه ، أما
المجتمع المتخلف فانه لا ينظر في الجديد ، بل ينظر الى صاحبه ، فهو ابن فلان ،
وليس فلانا ، وقد ينشغل بهوية الرجل وانتمائه الاجتماعي وأصله وفصله ، عن الجديد
الذي جاء به ، فيضيع بهاء هذا في ظلمة ذاك ، بدل ان يبدد البهاء حلكة الظلمة ،
وعلى أي حال فان الظلمة قد لا تكون سوى اعتبارات لا أساس لها ، غير ما قرره
المجتمع أو اراده اولو الحول والطول من ابناء المجتمع ، واني لأرى رجالا ونساء
حرموا من ان يخدموا وطنهم ، لا لشيء غير هويتهم التي رأى بعض من يقرر ، انها مريبة
او انها غير محبوبة ، واني لأرى رجالا ونساء انكمشوا على انفسهم واستعاضوا بالحلم
عن الحقيقة ، بعد ان وجدوا ما يبدعون غير ذي قيمة في عيون مجتمعهم ، وأرى اناسا
اختاروا لشجيرات ابداعهم ان تزهروتثمر في الحقول البعيدة ، بعد ان ضاق عليهم بستان
الأهل ، على ان هذا البستان ما يزال في معظمه بائرا أو قليل الشجر يحتاج لكل نبتة
ولو صغيرة
.
ما
يريده الانسان الفرد هو الانصاف ، ولا شيء أكثر من الانصاف ، والانصاف هو ان ينظر
الى عمل الفرد لا الى هويته ونسبه ومكان عيشه واطاره الاجتماعي ، والانصاف هو ان
لا يؤاخذ الفرد بجريرة أبيه او ابناء قبيلته او أهله ، والانصاف أخيرا ان لا يوضع
فرد او مجموعة من الافراد في دائرة الشك والاتهام لانهم يحملون فكرة لا نرضاها ، أو
يسعون الى طريقة حياة لا نرتاح لها .
اين هي المشكلة يا ترى ؟
أهي
في الافراد الذين يجبنون عن التعبير عن ذاتهم خشية غضب من يخاف غضبهم ، أم هي في
الذين يعرفون الحقيقة لكنهم يجبنون عن الوقوف الى جانبها وتحمل مراراتها ، أم هي
في المجتمع الذي يستريح الى كل ما هو قائم وينفر من كل جديد ؟ .
لا
ندري ، ما ندريه هو ان اعطاء الفرد حقه في التعبير عما يشاء ، ولو كان مخالفا
للسائد والمتفق عليه ، هو السبيل الى كشف المستقبل ، وهو الخط الواصل بينه وبين
الحاضر ، فاذا قطعناه لأي سبب من الاسباب ، فقد انقطعنا عن المستقبل ، وحصرنا
انفسنا بين جدران الحاضر ، الذي يشي بصورة الماضي بقدر ما يمهد لذلك المستقبل .
المجتمع
المتوازن ، مثل الشخص المتوازن ، هو الذي لا يسجن نفسه في دائرة الخوف من الجديد ،
الجديد في الافكار والجديد في التصورات وفي انماط وسبل الحياة ، كما لا ينساق ـ
دون تأمل ـ وراء دواعي الرجاء ، فهو في حياته يخاف بقدر ما يرجو ، ويرجو بقدر ما
يخاف ، فاذا اختل الميزان لصالح الخوف ، اصبح عصيا على كل تجديد ، واذا اختل لصالح
الرجاء اصبح مقودا بالنزق منساقا وراء كل ناعق .
عكاظ
22 يناير 1998
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق