22/01/1998

الانصاف ، لا شيء اكثر من الانصاف


قد يمكن الادعاء بأن تطور البشرية ، هو في حقيقته المحصلة المكثفة لمحاولات الافراد وابداعاتهم ، حيث لا يذكر التاريخ سوى مناسبات تعد على اصابع اليد ، قامت خلالها أمة من الامم او مجتمع من المجتمعات ، بصورة جماعية ، باستنباط نمط حياة جديدة ، أو انتخاب طريق جديدة للعمل خلاف ما اعتادت عليه .Standing Out From The Crowd
وفي جميع المناسبات الاخرى ، كانت مبادرات الافراد وكشوفاتهم هي الخطوة الاولى التي كشفت لمجتمعهم عن صورة مستقبل اجمل من حاضره ، وهي القاطرة التي عبروا على متنها حاجز الزمن ، فانتقلوا من عصورهم الى عصر اكثر تقدما واشراقا .
لكن هذاكان في نهاية المعاناة ، اما في البداية فقد غامر الافراد بنقد نظام ثقافي واجتماعي قائم ومتفق عليه ، واعتبر المجتمع هذا النقد تجسيدا لنوع من التمرد ، أو ـ في أحسن الحالات ـ ارادة للتمايز عن نظام الحياة الصحيح ، ولهذا فان المجتمع قد رمى اولئك الافراد ـ الا القليل منهم ـ بشتى التهم التي يختص بها المجتمع من يعارضه أو يتمرد على قيمه وانماط حياته ، ولهذا السبب فقد بقي الجدل محتدما ، حول مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والتوازن الصحيح بين الطرفين ، التوازن الذي يكفل للمجتمع حقوقه كما يكفل حقوق الفرد ، ويبدو ان هذا الجدل سيستمر لأمد طويل قبل ان يجد نهايته الصحيحة ، وقد لا يجدها اطلاقا .
على ان القرن العشرين الذي نعيش أيامه الاخيرة ، قد شهد اعادة تعريف لهذه العلاقة ، بحيث يمكن القول ان الميزان قد اعتدل الى حد كبير ، وجرى الاعتراف بالفرد كذات مستقلة عن المجتمع ، له حقوق تتعلق به بذاته ، وبغض النظر عن انتمائه الى جماعة محددة او وراثته لهوية محددة ، ويبدو واضحا ان هذا التطور قد ترافق مع تقدم المجتمعات ، بحيث يمكن القول ان اكثر المجتمعات تقدما ، هي ـ في الوقت ذاته ـ اكثرها تقديرا لدور الفرد وذاته المستقلة ، فكأن هذا وذاك صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر ، أو ان كلا منهما مشروط بالآخر.
ويواجه مجتمعنا ـ مثل كل مجتمع آخر ـ ذات المسألة ، مما يفرض عليه البحث عن حل صحيح لها ، حل تفرضه حاجة المجتمع الماسة الى تجاوز نقاط التوقف والاعاقة ، التي نراها في كل مناسبة مانعا للانطلاق في طريق النهضة المنشودة .
ويظهر لي ان معظم الناس في مجتمعنا ، ان لم نقل كلهم ، يذهبون الى ترجيح كفة المجتمع ، واعتبار الجدل بين حقوقه وحقوق الفرد محسوما من الاساس لصالح المجتمع ، ولهم في هذا مبررات ، بينها ان المجتمع هو مجموع الافراد وان حسمها لصالح الجميع يعني اقرار حق كل فرد بمفرده ، لكن هذا تصور باطل ، فالمجموع له صورة خاصة ، كما لكل فرد صورة خاصة مختلفة ، ولا ينتج من الصورة المركبة من مجموع الافراد المستقلين صورة المجتمع ، كما ان صورة المجتمع لا يمكن تقسيمها الى صور متعددة ، لكي تناسب كل فرد ، ان صورة الجماعة ليست تركيبا لمجموع صور الافراد .
يريد الفرد ان يعبّر عن ذاته ، وان يقول رأيه في العلن ، يريد ان يختار نظام حياته الذي يتوصل اليه بعقله ، والذي يجد فيه مصلحته ، يريد ان يجد نفسه قادرا على تلمس قدراته وامكانياته ، واستثمارها في ابداع ما لم يكن معتادا أو معروفا في وسطه الاجتماعي ، ويريد المجتمع من كل عضو فيه ان يتماثل مع البقية وان يخضع للنظام الثقافي وهيكل العلاقات والتراتبية السائدة ، وهو يضع الزامات محمية بقوة (العيب) وأحيانا بقوة (القانون) توجب على كل فرد الانصياع والا واجه العقاب .
من أجل هذا امتنع كثير من المبدعين عن قول رأيهم ، او التعبير عن اراداتهم ، ومن أجل هذا نام الكثيرون على وجع الحرمان من اقتـناص فرصهم بعدما وجدوها قاب قوسين أو ادنى من اطراف ايديهم ، ومن أجل هذا حرم المجتمع نفسه من ابداع المبدعين ، والكشوف الجديدة التي ربما توصل اليها أهل الكشف ، وهم لا يوجدون في المجتمع الواحد الا كنوادر ، يعدون على اصابع اليد .
يحترم المجتمع المتقدم نفسه ، كما يحترم كل عضو فيه بمفرده ، فاذا جاء زيد بجديد فانه لا يسأل عن نسبه ، ولا يسأل عن لقبه ، ولا يسأل عن الاطار الذي ينتمي اليه ، أما المجتمع المتخلف فانه لا ينظر في الجديد ، بل ينظر الى صاحبه ، فهو ابن فلان ، وليس فلانا ، وقد ينشغل بهوية الرجل وانتمائه الاجتماعي وأصله وفصله ، عن الجديد الذي جاء به ، فيضيع بهاء هذا في ظلمة ذاك ، بدل ان يبدد البهاء حلكة الظلمة ، وعلى أي حال فان الظلمة قد لا تكون سوى اعتبارات لا أساس لها ، غير ما قرره المجتمع أو اراده اولو الحول والطول من ابناء المجتمع ، واني لأرى رجالا ونساء حرموا من ان يخدموا وطنهم ، لا لشيء غير هويتهم التي رأى بعض من يقرر ، انها مريبة او انها غير محبوبة ، واني لأرى رجالا ونساء انكمشوا على انفسهم واستعاضوا بالحلم عن الحقيقة ، بعد ان وجدوا ما يبدعون غير ذي قيمة في عيون مجتمعهم ، وأرى اناسا اختاروا لشجيرات ابداعهم ان تزهروتثمر في الحقول البعيدة ، بعد ان ضاق عليهم بستان الأهل ، على ان هذا البستان ما يزال في معظمه بائرا أو قليل الشجر يحتاج لكل نبتة ولو صغيرة .
ما يريده الانسان الفرد هو الانصاف ، ولا شيء أكثر من الانصاف ، والانصاف هو ان ينظر الى عمل الفرد لا الى هويته ونسبه ومكان عيشه واطاره الاجتماعي ، والانصاف هو ان لا يؤاخذ الفرد بجريرة أبيه او ابناء قبيلته او أهله ، والانصاف أخيرا ان لا يوضع فرد او مجموعة من الافراد في دائرة الشك والاتهام لانهم يحملون فكرة لا نرضاها ، أو يسعون الى طريقة حياة لا نرتاح لها .
اين هي المشكلة يا ترى ؟
أهي في الافراد الذين يجبنون عن التعبير عن ذاتهم خشية غضب من يخاف غضبهم ، أم هي في الذين يعرفون الحقيقة لكنهم يجبنون عن الوقوف الى جانبها وتحمل مراراتها ، أم هي في المجتمع الذي يستريح الى كل ما هو قائم وينفر من كل جديد ؟ .
لا ندري ، ما ندريه هو ان اعطاء الفرد حقه في التعبير عما يشاء ، ولو كان مخالفا للسائد والمتفق عليه ، هو السبيل الى كشف المستقبل ، وهو الخط الواصل بينه وبين الحاضر ، فاذا قطعناه لأي سبب من الاسباب ، فقد انقطعنا عن المستقبل ، وحصرنا انفسنا بين جدران الحاضر ، الذي يشي بصورة الماضي بقدر ما يمهد لذلك المستقبل .
المجتمع المتوازن ، مثل الشخص المتوازن ، هو الذي لا يسجن نفسه في دائرة الخوف من الجديد ، الجديد في الافكار والجديد في التصورات وفي انماط وسبل الحياة ، كما لا ينساق ـ دون تأمل ـ وراء دواعي الرجاء ، فهو في حياته يخاف بقدر ما يرجو ، ويرجو بقدر ما يخاف ، فاذا اختل الميزان لصالح الخوف ، اصبح عصيا على كل تجديد ، واذا اختل لصالح الرجاء اصبح مقودا بالنزق منساقا وراء كل ناعق .
عكاظ 22 يناير 1998
مقالات ذات علاقة

الحق أولا

الحداثة كمحرك للتشدد الديني

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

طريق التقاليد

الطريق الليبرالي

تكون الهوية الفردية

عن الهوية والمجتمع



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...