تفاعلنا الثقافي مع الحضارات
الاخرى ، الغربية مثلا ، لن يؤدي الى تشويه شخصيتنا ، الا اذا تركنا الباب مفتوحا
أمام هذا الاحتمال ، كل حضارة لها معاييرها الخاصة التي تعتبرها مسطرة قياس صالحة
في جميع الاوقات ولكل المجتمعات ، انها بمثابة ايديولوجيا ، والايديولوجيات تميل
دائما الى تعميم نفسها ، بالتمرد على حدود النسبية التي يقتضيها منطق الاشياء ،
نحن نتعامل مع حضارة في حالة علو وقوة ، حضارة لا تخفي اعتقادها بانها تملك الحق
في الانتشار والسيطرة واستتباع الشعوب الادنى منها حياتيا ، لكننا ـ في المقابل ـ
لسنا مضطرين للقبول بكل فرضيات هذه الحضارة واراداتها ، ولا نحن مضطرون لتكييف
معاييرنا لكي تطابقها
.
في أوقات سابقة ، حين تجادل
العرب حول علاقتهم مع الغرب المتحضر ، توصل كثير منهم الى ان الخيار الانسب هو
الانتقاء ، فقد اقروا بان في الغرب اشياء تستحق الاستيراد ، واراد بعضهم تحديدا
ادق ، فقرر بان ما يصلح لنا هو خلاصات التجارب في مجال العلوم الطبيعية
والتجريبـية دون النظرية ، فتلك الاشياء ـ حسب تقديرهم ـ خالية من مضمون فلسفي ،
يخشى ان يؤثر على المعتقدات أو نظام الحياة ، حينما حان الوقت لتطبيق الافكار
وجدنا ان العرب لم يأخذوا شيئا ، أو ان ما أخذوه لم يكن كثير الفائدة .
السر الكامن خلف هذه
المفارقة هو ان العرب ، بل ليس من المبالغة القول ان المسلمين بعامة ، يفتقرون الى
الاستعداد الكامل والكلي لخوض معركة الحضارة ، أي انهم لا يريدون مواجهة التحدي
الحضاري كما ينبغي ان يواجه ، ولا يريدون تحمل الاعباء التي تتطلبها مثل هذه
المعركة ، ولو قررنا اليوم ان نخوض هذه المعركة ونتحمل اعباءها ، فسوف نضع أقدامنا
على الميل الاول من الطريق ، وسنصل غدا أو بعد غد الى غايته .
مثال الباكستان حاضر
في الاذهان ، فبعد هزيمتها المرة عام 1971 وما ادت اليه من سلخ نصفها الشرقي ،
قررت التوصل الى توازن استراتيجي مع الهند التي تفوقها عددا وعدة ، في هذه الاثناء
ضاعفت الهند جهودها لابقاء كفتها راجحة ، فأجرت تجربة نووية أولى في العام
1974 ورد الباكستانيون بقرار الدخول الى
النادي النووي ، فكثفوا جهودهم للحصول على التكنولوجيا النووية ، التي كانت ولا
تزال محروسة ومحرمة الانتشار ، بعد عشرين عاما من المحاولات اصبح لدى باكستان
التكنولوجيا الكافية لاجراء تجربتها النووية الاولى .
ما دامت باكستان قد نجحت في
فك الغاز الفيزياء النووية ، فهذا يعني ان لديها من الامكانات والكفاءات العلمية ،
ما يؤهلها لتطوير صناعات متقدمة في المجالات الاخرى غير العسكرية ، لكنها وضعت
ثقلها وراء برنامج محدد ، وهاهي قد نجحت في الوصول به الى غايته ، على رغم العقد
والصعوبات والقيود الكثيرة التي تفرضها الاقطار الصناعية على انتقال التقنية
النووية ، اقول ما دامت قد نجحت في هذا ، فانها قادرة على النجاح في المجالات
الاخرى ، اذا وضعت كل ثقلها ، واعتبرتها معركة مصير ، كما اعتبرت موضوع التوازن
الاستراتيحي مع جيرانها الهنود ، ثم ان هذه التجربة تكشف ان المسلمين الاخرين
كانوا ولا يزالون قادرين على بلوغ غاياتهم ، لو وضعوا ثقلهم وركزوا جهودهم فيها
. الحضارة معركة ، ولا يفوز فيها الا من
قبل بدخولها باعتبارها معركة المصير .
في الستينات حاولت مصر ، ومن
ذات المنطلق ، أي التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل ، ان تقيم صناعة عسكرية متقدمة ،
ويقال انها قد قطعت في هذا المجال شوطا بعيدا ، لكنها توقفت بعد فترة ، وكان ينبغي
ان يستفاد من الخبرة التي توفرت لتطوير الصناعة في المجالات الاخرى المدنية ، وفي
الثمانينات حاول العراق مثل ذلك ، لكنه صرف الجهد كله في بناء قوة عسكرية استعملها
في المكان الخطأ ، ولو انه وجه مثل هذه الجهود الى الميدان المدني ، لما كان اليوم
يستجدي رضا الامم المتحدة واعضاء مجلس الامن ، هذه وتلك تدلنا على ان العرب
والمسلمين بعامة ، قادرون على خوض معركة الحضارة اذا ارادوا وتحملوا الاعباء ،
لكنهم مع ذلك لم يفعلوا .
من المحتمل ـ هكذا يبدو لي
على الاقل ـ ان العرب والمسلمين مأخوذون بقلق المحافظة على الاعتزاز تجاه الآخر
المتفوق ، أكثر من قلقهم من ذواتهم وعليها ، واذا أصيب الانسان أو المجتمع بهذا
الداء ، فانه يصرف همه ويكرس طاقاته للظهور بمظهر القوى ، حتى يشعر بالرضى ، لكن
هذا الرضى يعمل على اخفاء العيوب التي في الذات ، فلا يلتفت اليها صاحبها المشغول
باستعراض قوته المادية ، والاستمتاع بالتعبير عنها في اجلى اشكالها ، أي القدرة
على الغلبة وقهر الخصم ، لهذا السبب ـ ربما ـ كان تركيز الباكستان والعراق ومصر ،
وربما غيرها من الاقطار الاسلامية على التقدم في الصناعة العسكرية دون غيرها .
في تجربة الدول الغربية ،
الولايات المتحدة خاصة ، كانت الابحاث في المجال العسكري قاطرة الصناعة المدنية ،
وهذا ما حدث أيضا في المانيا قبل الحرب
العالمية الثانية ، فالجيش يمول الابحاث للاغراض العسكرية ، لكن نتائجها سرعان ما
تحول الى الصناعة المدنية ، ان تطور صناعة الطيران والمعلوماتية وانظمة الاتصال هي
ثمرة لهذا النظام الذي يشبه الانابيب المستطرقة .
لكننا لا نجد سيرورة مماثلة في
العالم الاسلامي ، نحن نعلم ان بعض الجيوش العربية والاسلامية يملك فرقا هندسية
تنفذ منشآت شديدة التعقيد ، ولدى بعضها مصانع لانتاج انظمة الاتصال والاسلحة
والنقل ، لكن هذه الامكانات بقيت حتى الان محصورة بين اسوار المعسكرات ، فاذا
احتجنا الى بناء جسر أو سد ، استقدمنا شركات اجنبية ، واذا احتجنا الى انشاء أو
توسعة نظم الاتصال لجأنا الى الاجانب ، واذا اردنا بناء مصنع تذكرنا نظام (تسليم
المفتاح) المريح ، وتذكر دراسة تحليلية عن هجرة العقول من مصر ، ان عددا كبيرا من
المهندسين والصناع والمبتكرين الذين هاجروا الى الولايات المتحدة الامريكية وكندا
، كانوا يعملون اصلا في المصانع العسكرية ، لكنهم فقدوا وظائفهم أو فقدوا الدافع
الضروري للابتكار فهاجروا ، ومنهم من يعمل الان في كبريات المصانع ومراكز الابحاث
، ومنهم من يعمل في وكالة الفضاء الامريكية .
ما حدث فعلا هو ان الدول
العربية قد وضعت كل همها وطاقتها في الميدان العسكري ، فلما تراجعت الحاجة اليه
اصبح عبئا ينبغي التخلص منه ، وليس تحويل الخبرات المستفادة منه الى القطاعات
الاخرى ، أي اننا لم نكن بصدد مواجهة التحدي الحضاري ، بل مواجهة التحدي العسكري
فحسب . ما كان يشغل بالنا ويستغرق اهتمامنا ، هو الحصول على قوة تبعد عنا قلق
الهوان في ميدان الحرب ، أما قلق البقاء في حال التخلف والهامشية ، فلم يكن موضوع
انشغال كبير لأنفسنا ، التي لا نتظر في ذاتها قدر ما تنظر الى الغير ، ولا تهتم
بالمستقبل قدر ما هي مشغولة بهموم الحاضر .
نعود الى مثال الهند
وباكستان للمقارنة ، لقد نجحت باكستان في تفجير قنبلتها النووية الاولى كما نجحت
الهند من قبل ، لكن الفارق بين البلدين لا زال شاسعا ، منذ فترة طويلة كانت الهند
التي واجهت مجاعات وعانت فقرا شديدا ، توجه جل اهتمامها الى تطوير بناء علمي
واقتصادي وجدته سبيلا الى حل شامل لمشكلاتها ، وهي اليوم وبعد نصف قرن على
استقلالها تجني ثمار ذلك الاهتمام ، فقد تحولت الى دولة شبه صناعية ـ مقارنة
بالاقطار الصناعية الاوربية واليابان ـ انها تصنع كل شيء تقريبا مما تحتاج ، من الابرة
الى الطائرة ، صحيح انها لا تزال بعيدة عن المستوى الذي بلغته أوربا أو اليابان
على سبيل المثال ، لكنها ايضا بعيدة جدا عن النقطة التي انطلقت منها ، والتي لا
تزال باكستان تدور حواليها ، لهذا السبب قال المحللون ان العقوبات التي قررت الدول الصناعية فرضها على البلدين ،
ستكون اشد وطأ في باكستان ، لان اقتصادها اضعف ، وقدرتها على تأمين حاجاتها من
المصادر المحلية ، ادنى مما هو في الهند .
الخلاصة التي اردنا الوصول
اليها ، هي ان ما يجعل شخصيتنا مشوهة وثقافتنا عاجزة ونظامنا الاجتماعي فاقدا
للفاعلية ، ليس اتصالنا بالغرب وتفاعلنا معه ، وليس كوننا ضعفاء عند المقارنة
بالغير ، بل انشغالنا بذلك الغير الى درجة اغفال التحديات التي تتوجه الينا ،
واغفال ما يتهدد وجودنا ذاته ، اذا بقينا اسرى للتخلف على كل صعيد .
ان نجاح بعض
العرب والمسلمين في تطوير تكنولوجيا خاصة ، وان كانت محدودة الاستخدام، يدل بصورة
قطعية على ان هذا الباب ليس محرما ولا عسيرا على بقية المسلمين.
لكن قلق الاعتزاز
، وما صرف اليه من وضع البيض كله في سلة الحرب ، والتركيز على الجانب العسكري ، هو
الذي ادى الى اعتبار التقدم في المجال العسكري منفصلا عن غيره من المجالات ، وهكذا
اصبح التقدم مرهونا بالتحديات الآنية ذات الطابع العسكري ، لا بتحديات المستقبل
التي تتوجه الى وجودنا ومصيرنا ككل .
عكاظ 3 يوليو 1998
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق