05/04/2023

وهم الاستعلاء

  

مقال الأسبوع الماضي أثار الكثير من الجدل ، الذي جاء معظمه في صيغة "الرد" على الكاتب او المقال ، وليس مناقشة الفكرة التي يطرحها. وقد أكدت لي هذه الردود ملاحظة ذكرتها في كتابات سابقة ، فحواها ان غالبية من يجادلون الكتابات المتعلقة بمسألة دينية او التي لها ظلال دينية ، ينطلقون من خوف على الدين ، خوف من ان أي فكرة جديدة او نقد للممارسات الرائجة ، ربما يؤدي لهدم الدين ، حتى لو كان غير مقصود في الأصل. والحق ان معظم هذه الكتابات ينشرها اشخاص حريصون ، وبعضهم متخصص في مجاله. لكن أيا كان الأمر فاننا بحاجة لفهم دواعي الخوف المذكور ، سواء قبلناه او أنكرناه.

د. خير الدين حسيب

علاقة المسلمين بالأمم الأخرى ، واحدة من أبرز انشغالات العقل المسلم في عصرنا الحاضر. وهو انشغال يشترك فيه عامة المسلمين ونخبتهم. من هنا بات موضوعا أثيرا للكلام الشعبي والخطابة ، فضلا عن البحث العلمي. وفي حالة كهذه ، فالمتوقع ان يكون للكتابات الخفيفة وما يجاريها من خطب منبرية ، دور أكبر في تكوين الرأي العام المتعلق بالمسألة.

تدور الأبحاث العلمية المتعلقة بالموضوع حول أسئلة من قبيل: ما الذي نستفيد من علاقتنا بالغرب ، وكيف نعظم الفوائد ، تأثير هذه العلاقة على الاستقلال الوطني ، التأثيرات المتبادلة بين المسارات المتعددة للعلاقة ، أي تاثير العلاقة الاقتصادية على الوضع السياسي والثقافي ، وتأثير هذه على تلك ، الخ. وأريد لهذه المناسبة استذكار الجهد الباهر للمرحوم د. خير الدين حسيب ، مؤسس مركز دراسات الوحدة العربية ، الذي اشرف على عدد كبير من الأبحاث المتعلقة بالموضوع ، واذكر خصوصا الدراسات الخاصة بالانكشاف الاقتصادي والأمني ، وسبل التعامل معه على مستوى الوطن العربي. اود الإشارة أيضا الى اعمال المرحوم مالك بن نبي ، المفكر الجزائري المعروف ، الذي حاول الإجابة عن سؤال: كيف نجسر الفجوة التقنية /العلمية مع الغرب ، من دون ان نضحي باستقلالنا السياسي وخصائصنا الثقافية؟. هناك أيضا باحثون كثيرون عرب واوروبيون ، ونظراء لهم من آسيا وامريكا اللاتينية ، قدموا اعمالا في غاية الأهمية ، عالجت زوايا مختلفة للموضوع. وهي تشكل – في مجموعها – مصدرا لا غنى عنه ، ان أردنا التوصل لفهم موضوعي ، او وضع خطة علمية لعلاقة مثمرة بين العالم العربي/الاسلامي والغرب.

اما الخطب المنبرية وما يجاريها من كتابات خفيفة ، فقد وقع معظمها في فخ الخلط بين التوجيه التعبوي المناسب لمراحل الصراع ، والتحذير مما يزعم انه مؤامرة غربية ، وبين احكام الفقه القديم المبنية على الخوف او التخويف من الاختلاط بالمخالف والمختلف الديني.

وردت ابرز التنظيرات لفكرة "استعلاء الايمان" و"استعلاء المؤمن" في كتابي "معالم في الطريق" و "في ظلال القرآن" لسيد قطب ، وتناولها فيما بعد الخطباء والكتاب المتأثرون بفكره. لا بد من القول ان تعبير "استعلاء" لم يرد في القرآن ولا التراث الإسلامي القديم كسمة لأهل الايمان ، بل أورد القرآن الكريم لفظ "استعلى" على لسان فرعون.

التوجيه القرآني يؤكد ان الله رفع عباده بعملهم ، لا بمجرد انتمائهم. لكن نفوذ فكرة الاستعلاء في التثقيف الديني العام ، ولا سيما على السنة الخطباء والدعاة ، أسس لحالة نفسية محورها الترفع/الكبرياء الشخصي ، يمارسه الشخص المتدين حين يقارن نفسه بالآخرين. وقد اتخذ في بعض الأحيان مدخلا لنفي الحاجة الى العلم او بقية القوى المادية ، في المقارنة مع من يملكها. فكأن المؤمن يقول لنفسه: انا متدين ولا أملك شيئا ماديا ، غيري يملك كل شيء لكنه غير متدين ، إذن أنا ارفع منه.

بطبيعة الحال لا احد يقول هذا صراحة. لكنه يجري في داخل النفس على شكل تعويض تخيلي عن بعض الإخفاقات. ولهذا حديث آخر نعود اليه في قادم الأيام ان شاء الله.

الشرق الاوسط الاربعاء - 14 رَمضان 1444 هـ - 5 أبريل 2023 م

https://aawsat.com/node/4253851

29/03/2023

"عالم آخر" لكنه مثلنا


مقال الأستاذ مشعل السديري في "الشرق الأوسط" يوم الاحد الماضي ، المعنون "لكم دينكم ولي دين" حرك في نفسي أسئلة كثيرة ، يدور أكثرها حول نقطة واحدة ، هي ضيقنا بالآخرين الذين يشاركوننا الحياة في هذا الكون الذي بات صغيرا ومتصل الأجزاء. لطالما حاولت فهم السر وراء شوقنا لتصنيف الذين يختلفون عنا قليلا او كثيرا ، تصنيفا يضعهم "دائما" في مكان آخر ، غير مكاننا. واعلم ان هذا الميل القوي كان أرضية لنشوء التفكير الديني الذي ينظر للمختلف باعتباره مشكلة ، فيضع لها احكاما ومعايير علاقة تنطلق من هذا المعنى وتؤكده.

الواقع اني غير متأكد من هذه النقطة تحديدا: هل شعورنا بالفوقية على الغير ، هو الذي جعلنا ننشيء احكاما شرعية تبرر وتدعم هذا الشعور ، ام ان العكس هو الصحيح ، أي ان وجود تراث ديني يدعو للتعالي على المختلف ، هو الذي وضع الأساس النظري والروحي لهذا النوع من السلوك تجاه الغير.

واقع الامر اننا لا نتعامل مع المختلف الديني او المذهبي ، باعتباره "شخصا آخر" مثلما جارك شخص آخر وابن القرية الأخرى شخص آخر. المختلف هو "عالم آخر" ، ولهذا فثمة منظومة أحكام شرعية تتناول العلاقة معه ، حتى في أبسط تمثيلاتها ، مثل: ماذا تفعل إذا رأيت هذا "العالم الآخر" ، وماذا تفعل اذا ابتلاك بالسلام عليك ، او دعاك لزيارته او تشارك معك في مال الخ..

هذه الامثلة ليست من قبيل المزاح ، فلدينا أكثر من فتوى تستند الى روايات ، تخبرك ان تعبس/تكشر في وجه ذلك "العالم" اذا لقيته صدفة في الطريق او في مصعد العمارة ، او القته الاقدار امامك في المقهى ، او وجدته على يسارك في كرسي الطائرة. وهناك فتوى أخرى تخبرك ان تتبع طريقة خاصة في "رد السلام" اذا جاءك من "العالم الآخر" ، طريقة تختلف عن رد السلام العادي.

لا أريد الاسترسال في الأمثلة التي قد تأخذنا لأمور موجعة من قبيل: ماذا لو كان هذا الآخر امك او زوجك او جارك.. الخ. لكن زبدة القول ان تراثنا لم ينظر الى الاختلاف بين الناس ، باعتباره فرصة لتحريك فضول المعرفة ، أو دافعا للتعرف والتعارف ، بل نظر اليه كمشكلة ، جرى حلها بعزله ووضع دائرة محددة لحركته واتصاله ببقية أعضاء "الجماعة".

والعجيب ان التيار التقليدي يفاخر – كلاميا – بان التاريخ يشهد على حسن تعامل المسلمين مع غيرهم. وقد يكون هذا الكلام صحيحا او نصف صحيح. لكن السؤال: ماذا عن التراث الضخم الذي يصنف "العالم الاخر" باعتباره في مرتبة أدنى ، ويتعامل معه كمشكلة توضع في التعامل معها احكام وتعاليم ، غير احكام وارشادات العلاقة مع سائر الناس؟.

انا اتقبل ان مفهومنا للعلاقة الحسنة ، صحيح ، اذا نظرنا لتلك العلاقة ضمن شروطها التاريخية. لكن ماذا يفيدنا هذا الوصف اليوم؟. هل نستطيع استعمال الاحكام المشار اليها ، ام نواصل الافتخار بما سمعناه عن تاريخ الاسلاف ، ام نضع هذا وذاك وراء ظهورنا ونطرح السؤال الصحيح ، سؤال: ماهو الاصلح للإنسان وللاسلام في عالمنا الحاضر.. الانفتاح الكامل على كافة المختلفين ، ام التمسك باملاءات الفقه القديم المبنية على الخوف من العالم وترجيح اعتزاله؟.

يقترح الأستاذ مشعل السديري ان نضع انفسنا في مكان "العالم الآخر" كي نتعرف على وضعه الحقيقي ، كي نفهم مشاعره ، كي نستوعب فكرته ورؤيته لذاته وعالمه. وهو يضرب بعض الأمثلة ، امثلة عن أناس من ذلك "العالم الاخر" حاولوا ان يضعوا انفسهم محلنا ، ان يعيشوا حياتنا. انا اعرف امثلة أخرى ، وأرى ان هذه تجربة جديرة بالتأمل. لدينا مبررات قوية لقناعاتنا وطريقة حياتنا ، وللآخرين مبررات قوية أيضا. نحن نعتقد اننا نفعل خيرا ، وكذلك هم.. الا يجدر بنا ان ننظر للعالم بعيونهم ، ولو على سبيل التجربة؟.

الشرق الاوسط الاربعاء - 07 رَمضان 1444 هـ - 29 مارس 2023 م

https://aawsat.com/node/4239746

مقالات ذات صلة


22/03/2023

رمضان كريم


 يحل علينا هذا الأسبوع شهر رمضان المبارك ، الذي اعتاد أهل بلدنا ان يتخذوه فرصة للتواصي بمكارم الاخلاق ، لا سيما الاحسان الى ضعفاء الخلق ، وكذلك التواضع وفعل الخير ، وترك الإساءة بالقول والفعل ، حتى لمن أساء الينا ، وأمثال هذا من الآداب والمحاسن.  

وقد سمعت أحيانا من يعارض هذا الكلام بمثل القول انه اذا تكبر عليك احدهم فتكبر عليه ، واذا ضربك احدهم فرد الضربة بضربة ، واذا كان سيئا فكن سيئا معه ، ولعله يستشهد بقول عمرو بن كلثوم "الا لا يجهلن احد علينا .. فنجهل فوق جهل الجاهلينا".

ولست في وارد الجدل مع أصحاب هذا الرأي. لكني وجدت حاجة لوضع قاعدة ، تكون معيارا نرجع اليه في الاخذ بهذا الرأي او نقيضه. هذه القاعدة هي فكرة الامر المطلق او القانون الكوني التي اقترحها ايمانويل كانط ، الفيلسوف الألماني الشهير.

يبدأ كانط بالنظر في داخل النفس الإنسانية ، فيراها منجذبة بطبيعتها للاستكثار من المنافع المادية ، حتى لو أدى للاستئثار بها دون الآخرين او على حسابهم. هنا يتوقف كانط ، داعيا للبحث عن مصدر  هذا الميل الأناني: هل هو غريزة التملك التي نولد وهي جزء من تكويننا العقلي ، ام هو صادر عن قناعات امتصها الانسان من محيطه ، مثل استنقاص الآخرين ، لسبب ديني او عرقي او طبقي او غيره.

يدعونا كانط للنظر الى أحكامنا وقراراتنا وافعالنا كما لو انها ستصبح قانونا كونيا يطبق على غيرنا أولا ، لكنه بعد ذلك سيطبق علينا وعلى أبنائنا واهلنا أيضا. بعبارة أخرى ، فان القانون الكوني يعني انني سأكون عرضة لنفس الحكم الذي أصدرته على غيري. فاذا حرمته من شيء ، فسيكون من حق الآخرين ان يعاملوني بنفس الطريقة ، واذا كذبت عليهم ، فقد اعطيتهم المبرر كي يكذبوا علي ، واذا استأثرت أنا وأهلي بشيء دونهم ، فقد منحتهم اذنا إن أرادوا ان يستأثروا بما شاؤوا ويحرموني من كل ما اظنه حق مشترك لي ولهم.

القانون الكوني اذن هو ما ينطبق على الجميع بنفس القدر والدرجة. فاذا أعطيت لنفسي الحق في فعل شيء يؤذي الغير ، فقد اقمت قاعدة جديدة تسمح لهم بفعل ما يؤذيني ، فاذا عارضتهم ، فلهم ان يقولوا : لقد سبقتنا ووضعت قانونا ، وقد جرى في الامثال قول بعض السلف "كما تدين تدان".

أريد الإشارة الى ان هذه الفكرة ليست جديدة تماما ، وليست من مبتكرات كانط ، فقد ورد مثلها في العديد من النصوص القديمة ، الفلسفية والأخلاقية. ولعل من أقربها الى مألوفنا ، وصية الامام علي بن ابي طالب لولده ، التي يقول فيها "يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك".

يستطيع الانسان معرفة الدافع العميق لحكمه على الاخرين او تصرفه تجاههم. فهو قد يترفع عليهم ، لانه يرى نفسه صاحبا للدين الحق ، او منحدرا من عرق اصفى أو ارقى ، او منتميا الى طبقة ارفع شأنا. بل ان الانسان يسعى لاستنباط مبررات (كاذبة في بعض الأحيان) تربط ربطا اعتباطيا بين الميول الانانية وبين هذه الانتماءات. أقول ان الانسان يستطيع اكتشاف هذه الحقيقة لو تأمل بعمق في دواخل نفسه.

أتمنى لكم شهرا حافلا بالمسرات ، كما أتمنى ان تتاح لكل منا الفرصة كي يهذب ما استطاع من نوازع النفس ، كي نعود في ختامه أقرب الى حقيقة الإنسانية الصافية ، التي هي تجل من تجليات الفيض الرباني. كل عام وانتم بخير.

 الشرق الاوسط  الأربعاء - 29 شعبان 1444 هـ - 22 مارس 2023 مـ رقم العدد [16185]

https://aawsat.com/node/4226336

15/03/2023

العشاء في فندق الريتز

>> الاقتصاد الوطني يزداد حركية وابداعا ، كلما ازدادت نسبة المستثمرين الصغار<<

لو بحثت عن فندق في دبي او لندن مثلا ، فربما "تتعثر" بفندق يكلف عشرة الاف دولار في الليلة. لكني وجدت هذا الاسبوع فندقا مخصصا لضيف واحد مع مرافقيه ، يكلف خمسين الف دولار فقط. نظريا استطيع انا وأمثالي وكل شخص آخر ، ان يتفرج على هذا الفندق أو ذاك. لكن هل يستطيع تدبير الخمسين الفا الضرورية كي ينام فيه ليلة؟.

فندق ريتز - لندن

بعبارة اخرى فان فندق الخمسين الفا يمثل فرصة متاحة لكل الناس. لكن كم من الناس يستطيع الامساك بهذه الفرصة؟.

توضح هذه القصة مقولة طريفة ، تنسب للسير جيمس ماثيو (1830-1908) وهو قاض ايرلندي ، يقول ان "القانون في إنكلترا مثل فندق الريتز ، مفتوح للجميع..". فرد عليه أحدهم: لكن كم عدد الاشخاص الذين يستطيعون العشاء في الريتز؟.

اشتهرت هذه المقولة وكثر الاستشهاد بها في نقاشات العدالة الاجتماعية ، لا سيما في سياق المقارنة بين الإصلاح على المستوى القانوني ، ونظيره في الحياة الواقعية. نعلم ان غالبية النظم القانونية تقر بان جميع الناس سواء في استثمار الموارد والفرص المتاحة في المجال العام ، وان هذا هو المعنى الأساس للعدالة الاجتماعية. لكن شتان بين هذه الفرضية الجميلة ، وبين الواقع المليء بالعقبات والصعوبات. دعنا نأخذ مثال العاصمة البنغالية "داكا" ، التي يعيش 50 الفا من سكانها في الشوارع ، بلا بيوت ولا وظائف ثابتة. يرجع هذا الرقم الى العام 2007 ، وتقدر تقارير البنك الدولي انه كان يزداد بشكل سنوي ، اي اننا نتحدث عن ضعفي هذا العدد على الاقل ، في الوقت الحاضر.

على مستوى القانون ، يملك هؤلاء الفقراء جميعا حق الوصول الى أي منصب حكومي ، وخوض الانتخابات لدخول البرلمان ، والحصول على قروض من البنوك.. الخ. فهل يستطيع أي منهم ان يحول تلك الحقوق الى واقع... هل يستطيع احدهم تدبير الأموال اللازمة للانفاق على حملة انتخابية ، او المؤهلات الضرورية لتولي أي منصب رسمي ، او الاسناد اللازم للحصول على قرض مصرفي؟.

هذا يشبه السؤال المتعلق بفندق الريتز: هل يتمتع الشخص المفلس – مثل نظيره الثري – بالحرية في تناول عشائه في الريتز؟.   

هل نقول "لا" لأنه - في واقع الامر - لا يمكن لشخص مثله ان يتعشى في الريتز (على الاقل لن يفعل هذا لأنه لا يملك المال اللازم لذلك العشاء). أم نقول "نعم" لأن العائق الوحيد الذي حال بينه وبين الريتز هو افتقاره إلى الموارد المالية ، وليس أي عائق خارجي ، مثل رفض مالكي فندق ريتز دخوله لتناول الطعام فيه؟.

هذا التباين دفع العديد من دارسي التنمية والاقتصاد ، للتوقف مليا عند نقاط التفارق بين الفرص التي يتيحها القانون ، وبين الامكانية الفعلية لاستثمارها من جانب الناس العاديين. وهو تفارق دفع بلدانا عديدة للتركيز على الادوات القانونية والاقتصادية ، التي تجعل تلك الموارد متاحة واقعيا لعامة الناس. السبب في هذا هو اكتشاف الاقتصاديين لحقيقة كانت مهملة ، وخلاصتها ان الاقتصاد الوطني يزداد حركية وابداعا ، كلما ازدادت نسبة المستثمرين الصغار. خلافا لتصور قديم فحواه ان الاستثمارات الضخمة هي الاقتصاد الحقيقي.

تأكيدا للفهم الجديد ، يذكر مثلا ان صناعة الطائرات المسيرة في الصين تضم نحو 7000 شركة ، جميعها تقريبا حديثة التأسيس ، ونصفها مملوك لشبان لا ينتمون لعائلات تجارية ، وتصنف كشركات صغيرة او متوسطة الحجم. ويقدر ان تصل مبيعات هذه الشركات الى 10 مليار دولار في العام الجاري ، الامر الذي اعطى الصين حصة تقارب نصف السوق العالمي للمسيرات.

جوهر المسألة اذن هو مفهوم "التمكين" أي قابلية العدد الأكبر من الناس ، لتحويل الفرص والموارد المتاحة في المجال العام ، الى مكاسب مادية. التمكين هو مفتاح النهضة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية معا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 22 شعبان 1444 هـ - 15 مارس 2023 مـ رقم العدد [16178]

https://aawsat.com/node/4212916/

مقالات ذات صلة

التمكين من خلال التعليم

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

المكنسة وما بعدها

حول برنامج التحول الوطني

الثقافة المعوقة للنهضة

 

01/03/2023

عودة لمبدأ الضرر

<<تقييد حرية التعبير يؤدي الى إشاعة النفاق والتملق ، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة >> 

هذه عودة مختصرة الى مسألة يكثر الكلام حولها. وهي دعوى ان حرية التعبير التي ينادي بها بعض دعاة الحداثة ، ربما تؤدي لضرر شديد بالتقاليد السارية والقيم الفاضلة ، بل لعلها تطيح بالاستقرار والسلم الاجتماعي. اعلم ان بعض القراء سوف يستنكر هذه المبالغة ، لهذا يقتضي الانصاف بيان ان الخائفين من عواقب الحرية ، أي حرية التفكير والتعبير والاعتقاد ، لا ينادون بقمع الأفكار ، ولا يعتبرون الحرية - في حد ذاتها – من الرذائل. لكنهم يقولون ان كل ما يحتمل الحسن والقبح ، يوجب الاحتياط في التعامل معه ، مثل النار التي تستعملها لطبخ طعامك ، لكنها قد تحرق البيت أيضا.

ومقتضى هذا الكلام انه يتوجب علينا – قبل منح الحرية لعامة الناس – أن نضع القوانين والسياسات التي تعالج ما سوف يترتب عليها من مشكلات. والمقصود بالقوانين هنا هو تحديد المجالات التي يسمح او لا يسمح بممارسة الحرية ضمن حدودها.

بعبارة أخرى فان الخائفين من الحرية ، وهم في العادة الفريق التقليدي في المجتمع ، يتفقون مع دعاتها في ان حرية التعبير خصوصا ، يجب ان لا تقود الى الاضرار بشخص آخر او أشخاص آخرين. بعبارة أخرى فانهم يعطونك الحق في ممارسة حريتك في التعبير ، لكن ليس الى حد الاضرار بغيرك ، كما ان لغيرك نفس الحق مشروطا بأن لا يضرك.

كنت قد اشرت في كتابة سابقة الى ان هذي المسألة تحديدا كانت محل جدل في اوربا في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى خلفية هذا الجدل نشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل رسالته الشهيرة "حول الحرية =  On Liberty" في 1859. وقد أدى نشرها الى توسيع الجدل وتعميقه ، لكنها في نهاية المطاف ساهمت في إرساء نقاط استناد او محددات للنقاش في الموضوع. ومن أبرز تلك النقاط أولوية الحرية على غيرها من القيم ، واعتبارها حقا شخصيا لكل فرد ، لا يجوز للمجتمع تقييده الا إذا أدت ممارستها للاضرار بالآخرين ، ضررا موصوفا ومعرفا في اطار القانون.

وقد أثارت هذه القاعدة نقاشا كثيرا. وأطلق عليها اسم "مبدأ ميل" او "مبدأ الضرر  Harm Principle". في اطار هذا المبدأ ، صنف ميل الأفعال/التعبيرات المضرة الى قسمين: فعل تقتصر أضراره على نفس الفاعل ، مثل التدين او الالحاد ، العمل او البطالة ، التدخين او عدمه.  فهذه التعبيرات/الافعال وامثالها ، قد تزعج الناس ، لكن ضررها المادي لا يطال أحدا سوى فاعلها. اما القسم الثاني فهو ضار بالآخرين ضررا ملحوظا ، مثل الكلام المؤدي لاثارة الكراهية ضد الملونين او اتباع الاديان الأخرى ، او مثل الإشارات النابية التي تنطوي على إيذاء نفسي او اقصاء اجتماعي ، مما يصنف تحت عنوان التنمر او التحرش. وقد قرر ميل ان القسم الأول من الأفعال لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل أو تقييد حريته ، حتى لو كان فعله متعارضا مع اعراف الجماعة او تقاليدها. أما النوع الثاني فينبغي تحديده في قواعد قانونية ، تسمح بتقييده ، لكن دون ان يصل التقييد الى حد التضحية بحق الفرد في أن يفكر بحرية او يختار نمط العيش الذي يناسبه.

يخشى ميل بشكل جدي ، من ان يؤدي التوسع في تقييد حرية التعبير الى إشاعة النفاق والتملق ، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة. كلما كثرت القيود في المجتمع تقلصت سوق الأفكار ، وتباطأت الحركة ، وضعفت – تبعا لذلك – الرغبة في التقدم. الحرية ليست قيمة بسيطة كي نتساهل في تقييدها لأي سبب ، فهي أول القيم واعلاها وهي اكثرها ضرورة لحياة الانسان.

الشرق الأوسط الأربعاء - 8 شعبان 1444 هـ - 01 مارس 2023 مـ رقم العدد [16164]

https://aawsat.com/node/4185661

مقالات ذات صلة

 

ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بوصفها مشكلة

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والانفلات

الحرية والشر

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حزب الملاقيف

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

منهجان في فهم الحرية

15/02/2023

درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة


غرضي في هذه الكتابة هو لفت الانظار الى حاجتنا لاتخاذ كارثة الزلزال في سوريا وتركيا ، باعثا لانشاء نظام عربي مشترك ، للتعامل مع الكوارث الطبيعية والمآسي العامة. هذه تجربة يجدر بنا ان نتعلم فيها كيف نتفادى الخسائر وكيف نحولها الى فرص. لقد خسرنا في هذا الزلزال ما يزيد عن 30 الفا من اخوتنا. فياويلنا ان مررنا بمصيبة كهذه فلم نتوقف ولم نعتبر.

أهم ما أثار انتباهي في هذا الحادث هو الاداء الضعيف للحكومة السورية ، التي ظهر انها ما كانت مستعدة للتعامل مع كارثة بهذا الحجم ، بل ولا حتى اقل من هذه. أعلم ان سوريا لم تتعرض لزلزال من قبل ، ولهذا فقد لا تهتم بالاستعداد له. لكن الم تفكر في "احتمال" ان يقع شيء مماثل: زلزال او عواصف عاتية او حرائق واسعة او حتى انفجارات شبيهة بما جرى في ميناء بيروت في 2020؟.

دعنا ننظر ما حدث على الجانب الآخر من الحدود: الفعالية الملفتة للحكومة التركية ليست فقط ثمرة الامكانات المادية المتوفرة ، بل ايضا انفتاحها على العالم ، وتواضع ادارتها التي بادرت بالاتصال مع كافة الحكومات والمنظمات الدولية لطلب العون ، ولهذا وصلتها فرق بحث وانقاذ من 70 دولة كما صرح رسميا ، بينما انصرفت سوريا الى العزاء على الضحايا ، فهل يعيد العزاء ميتا او يعالج مشكلة؟. الم يكن الخيار الصحيح هو المبادرة بالاتصال بكافة الدول العربية ودول العالم - حتى التي تقاطعها - لطلب العون ، بل الم تكن هذ فرصة لاعادة ما انقطع من حبال الوصل؟. كيف يمكن لحكومة ان تحافظ على حياة شعبها وهي بهذا القدر من الفتور والتردد؟.

يقال عادة – في سياق التبرير للاخفاق – ان القوى الكبرى والاعلام العالمي احتشد وراء الحكومة التركية واهمل دمشق. وهذا صحيح ، لكنه نتيجة وليس سببا. هل كانت دمشق تدرك أهمية الاعلام ومع ذلك لم تبادر بدعوة وسائل الاعلام العربية والدولية كي تدعم جهودها. بيروت على بعد ساعة من دمشق ، وفيها مئات من مراسلي الاعلام الدولي ، فهل كان صعبا عليها ان تقنعهم بالمجيء في ساعات الحدث الأولى؟.

الغرض من هذا الكلام هو التأكيد على ما ذكرته في اول المقال ، أي أهمية ان تكون هذه الكارثة درسا وعبرة ، للسوريين وللعرب كافة ، بل لكل ذي عقل فالسعيد "من اتعظ بتجارب غيره" كما ورد في الأثر الشريف.

اول الدروس التي تستفاد من هذه الكارثة هو ان العالم العربي في امس الحاجة الى إنشاء نظام مشترك للاستجابة السريعة في حالات الكوارث ، نظام يتضمن قوة بشرية مدربة على التعامل مع الطواريء المختلفة ، طواقم طبية مدربة خصيصا على احتواء التحديات الميدانية ، سيما في ظروف ندرة الامدادات الطبية ، خطط للتعبئة والانتشار السريع ، إضافة الى مخزون للامدادات او نظام فعال لسحب الامدادات من السوق فور وقوع الكارثة.

اعلم ان الكوارث لا تقع كل يوم ، لكن وضع النظام المذكور سيمكن العالم العربي من دعم الشعوب الأخرى التي تواجه الكوارث. هذا سيمثل تمرينا فعليا ، فوق انه يشكل أداة مهمة لتحسين العلاقة مع شعوب العالم ، ويسهم بالتالي في تعزيز الأمن القومي.

يهمني في ختام هذه الكتابة دعوة الأمين العام للجامعة العربية ، وجمعيات الهلال الأحمر العربية لاخذ المبادرة ، بالدعوة الى انشاء النظام الذي ذكرته ، ووضع الخطط اللازمة لجعله قوة فعالة وقادرة على احتواء التحديات والتعامل مع الكوارث ، مع الدعاء بان يكون الله في عون المكلومين واهل الضحايا وان يعوضهم خيرا عما فاتهم وأن يصون اوطاننا من الشرور والاخطار صغيرها وكبيرها.

الأربعاء - 24 رجب 1444 هـ - 15 فبراير 2023 مـ رقم العدد [16150]

https://aawsat.com/home/article/4158776/

مقالات ذات صلة

هذه خرافة وليست عقاب الله

حرب تلد حلاً

عالم يتداعى ، لكننا بحاجة اليه

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات

اجتياح الحدود

 

01/02/2023

العلاج الجذري لفتن العنصريين


حرق وتمزيق المصحف الشريف على يد بضعة متعصبين في هولندا والسويد ، أثار غضب المسلمين وربما غيرهم أيضا.

هذا موضوع مثير للمشاعر بطبعه. وقراءته من أي زاوية سوى التنديد الصريح ، ستكون – على الأرجح – مثار ارتياب او غضب ، يحركه البعد العاطفي للموضوع. مع علمي بهذا ، فاني اجد لزاما علينا ان نتوقف للتأمل في جوانب المسألة ، التي ربما لم يلتفت اليها بعضنا ، او لعله لم يعتبرها ذات قيمة حين طرحت.

على سطح الحدث حجتان واضحتان: يقول المسلمون ان حرق المصحف مهين لمشاعر المسلمين ، وهو بمثابة العدوان الشخصي على كل فرد. بينما يقول الطرف الآخر (الهولندي والسويدي) ان هذا الفعل يصنف في اطار ممارسة الحق الشخصي في التعبير الحر عن الرأي ، وهو لا يخرق قانونا معلنا ، رغم ان كثيرا من الناس – وفيهم بعض قادة الدولة طبعا – قد نددوا به. ولابد انهم يخشون من اختلالات أمنية ربما تترتب عليه ، نظير ما حصل في فرنسا بعد نشر رسوم مسيئة للنبي محمد (ص) في 2006.

بعبارة أخرى فان حجة المسلمين تقوم على دليل معياري ، فحواه أن إهانة المقدسات ضرر يبرر تقييد الحرية. ويقر الطرف الآخر بهذه الحجة ، لكنه لا يراها قوية بما يكفي لوضع قانون استباقي يجرم المحاولات المماثلة.

بيان ذلك: ان تمزيق المصحف أو أي كتاب مقدس ، على النحو الذي جرى في الأسبوع الماضي ، ليس حادثا يقع باستمرار او بشكل واحد ، ولا هو ممارسة يقوم بها كثير من الناس. انه اقرب الى مبادرات فردية نادرة ، غرضها على وجه الخصوص هو تحريك المشاعر المضادة عند المهاجرين ، ثم صنع زوبعة إعلامية ، تخدم أغراضا سياسية للشخص او الجماعة التي قامت بالفعل.  ومن هنا فانها لا تعالج بإصدار المزيد من القوانين ، التي ستؤدي – شئنا ام ابينا – الى توسيع القيود ، بل بالمبادرات السياسية والثقافية.

المبادرات السياسية تتضمن التزام كافة اطراف المشهد السياسي وجمعيات المجتمع المدني ، بإدانة هذا الفعل ، والتنديد باستخدام المقدسات في الصراع السياسي والانتخابي. اما المبادرات الثقافية فتتضمن تعزيز اندماج المهاجرين (وخاصة المسلمين) في النظام الاجتماعي ، والتزامهم بالمشاركة القوية في الانتخابات العامة ، كي يكون لهم صوت مؤثر ينتفع به الصديق ويخشاه العدو.

ان تجربة المهاجرين الآسيويين والافارقة في بريطانيا ، جديرة بالتأمل. نعلم ان ريشي سوناك رئيس الحكومة الحالي ينتمي لعائلة هندية مهاجرة. وخلال السنوات العشر الماضية ، تولى مهاجرون عديدون مناصب سياسية ، وبينهم نسبة بارزة من المسلمين. ولم يكن هذا ممكنا لولا الاندماج المتزايد للمهاجرين في النظام الاجتماعي-السياسي للمملكة المتحدة.

يمكن بالتأكيد تكرار هذه التجربة في السويد وهولندا. وقد حدث بالفعل في وقت سابق ، حين تولى وزارتي العدل والعمل في هولندا سياسيان مسلمان ، كما تولت سيدة مسلمة وزارة التعليم في السويد. فضلا عن مناصب أخرى.

زبدة القول ان حرق المصحف او تمزيقه ، فتنة أريد بها تأجيج الصراع بين المهاجرين المسلمين والمجتمعات التي تستضيفهم. وهو صراع يستثمره بأكمله تقريبا التيار العنصري المعادي للمهاجرين. فاذا انزلق المسلمون في نزاع عنيف فسيخدمون اهداف هذا التيار. لكن لو أرادوا اجتثاث هذه الفتنة وقتلها الى الأبد ، فان الطريق هو الاندماج السياسي والاجتماعي ، وتكوين كتلة سياسية مؤثرة في الحياة العامة. عندئذ سوف يسعى كل طرف للتقرب منهم والدفاع عن مطالبهم. لن يستفيد المسلمون من اعتزال المجتمع الأوروبي ، ومن يدعوهم الى هذا ، فانما يدفعهم الى الزوال والفناء. تجربة بريطانيا جديرة بالتأمل والاحتذاء ، والسعيد من اتعظ بتجارب غيره.

الأربعاء - 10 رجب 1444 هـ - 01 فبراير 2023 مـ رقم العدد [16136]

 https://aawsat.com/home/article/

مقالات ذات صلة

 

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...