24/09/2013

في جذور الاختلاف

لفترة طويلة شغلت ذهني المقولة الشائعة بين طلبة العلوم الدينية: "نحن اتباع الدليل حيثما مال نميل". وظننتها مفتاحا لأسرار الخلاف بين اهل العلم. لكني وجدت نفسي دائما امام أدلة توفرت لهذا العالم او ذاك ، فلم يأخذ بها ولم يولها اي اهتمام ، بينما استدل بها غيره ، فخرج هذا بنتيجة ، غير التي توصل اليها الآخر. وعلمت لاحقا ان "المذهب" و "المدرسة" يشكلان اطارا شبه قسري لما يقبل او يترك. لا يعد الدليل معيارا ثابتا ونهائيا ، مالم ينسجم مع المقولات الاساسية للمذهب الذي يتبعه العالم ، والمدرسة التي يميل اليها.

دانييل ليرنر

شغلتني من ثم مسألة "المدرسة": لماذا يتبع هذا العالم مدرسة محددة دون غيرها ، بينما يختار غيره مدرسة اخرى؟. قال لي استاذي يوما ان الانسان نادرا ما "يختار" مدرسته. فهو ، في معظم الاحوال ، يجد نفسه فيها. وجدت هذه الفكرة أكثر تطرفا عند دانييل ليرنر ، المفكر الامريكي (1917-1980) الذي قدم عددا من الابحاث المرجعية في قضايا التنمية والتحديث في الشرق الاوسط. في كتابه "موت المجتمع التقليدي" تحدث ليرنر عن الظروف الجغرافية كمؤثر قوي في تشكيل ذهنية الفرد ، وبالتالي ميوله وسلوكه العفوي. ورأى مثلا ان الميل للتشدد الفكري اكثر احتمالا في المجتمعات المنقطعة عن العالم. بخلاف المدن المفتوحة ، التي يتعرف ساكنها على هويات مختلفة ، ويبني علاقات مع اشخاص لا يعرفهم خارج اطار الوظيفة او الشراكة التجارية او الجوار السكني.

اتذكر في هذا الصدد الدراسة القيمة التي نشرها  د.سعيد الغامدي بعنوان "البناء القبلي و التحضر في المملكة العربية السعودية" ، 

وهي من الدراسات الاجتماعية النادرة ، التي تناولت ظرف الانتقال من اقتصاد الكفاف الزراعي ، الى الاقتصاد النقدي في المملكة. تحدث د. الغامدي عن وصول اول رجل "غريب" للاقامة في القرية موضوع الدراسة ، وكيف تحول هذا الحدث الى قضية كبرى ، استلزمت نقاشات وبحثا عن حلول ، واثمرت عن تحولات كثيرة في السلوكيات المعتادة في تلك القرية ، التي كانت قبلئذ شبه منقطعة عن العالم.

ساعدتني هذه القراءات وامثالها على تفهم اعمق لواقع التنوع والاختلاف بين الناس. ساعدتني على اكتشاف ان اتفاق الناس على منهج واحد ومذهب واحد واسلوب واحد في العيش ، هو حلم مستحيل ، بل ربما يكون وسوسة شيطانية. الاختلاف والتنوع جزء من طبيعة العالم. تخريب هذه الطبيعة سيقود ، لا محالة ، الى الاضرار بحياة الانسان. الاحادية من لوازم العزلة. فمن شاء الراحة من الاختلاف ، فليعتزل الناس. اما من اراد العيش في العالم الطبيعي ، فليتقبل ارادة الله ، الذي جعل الناس شعوبا ومشارب ومذاهب ، كي يتدافعوا ويتفاعلوا ، وبهذا يعمرون الارض وتزدهر الحياة.

 http://www.aleqt.com/2013/09/24/article_788023.html
 

17/09/2013

الايديولوجيا والسياسة

يتحدثون الان عن عصر ما بعد الاصوليات. الفرضية السابقة هي ان الاسلاميين عاجزون – ايديولوجيا – عن المشاركة النظيفة في اللعبة الديمقراطية.
اميل الى الاعتقاد بان الربط بين ايديولوجيا الحاكم وسلوك الحكومة ، امر لا يخلو من مبالغة. يمكن تقدير قابلية هذه الجماعة او تلك للالتزام بنمط معين في العمل السياسي ، انطلاقا من تصورنا لثلاثة عوامل:
1- الثقافة السياسية : وهي خلاصة التجربة التاريخية لهذا البلد. ثمة بلدان لا يتصور قيام الدكتاتورية فيها ، حتى لو حصل فريق محدد على القوة المادية التي تمكنه من التسلط. وثمة بلدان على الخط المعاكس ، لا يتصور انتقالها الى ديمقراطية مفتوحة ، لان تجربتها التاريخية قصر على نظام التغلب او الاستبداد الفردي. فحتى لو تبدل القانون ، فان مؤسسات المجتمع التقليدي ستبقى موجها لحركة السياسة. ذلك ان نتاج التجربة التاريخية اكثر تاثيرا من المتبنيات النظرية ، سيما الجديدة منها. وليس ثمة فرق في هذا الجانب بين الاسلامي واليساري والليبرالي .
2- الكفاية الاجتماعية : التي تظهر في طبيعة العلاقة السابقة بين المجتمع والدولة. فكلما كان المجتمع قادرا على حل مشكلاته بنفسه ، كانت الديمقراطية اقرب منالا ، واقوى في الصمود امام طلاب التسلط والاستبداد. اما اذا كان المجتمع معتمدا بالكامل على الدولة ، فان التوازن سيكون راجحا لمصلحة القابضين على ازمتها ، وسيكون في وسعهم الانقلاب على الشعب في اي وقت شاؤوا. وهنا ايضا لاتجد فروقا حقيقية بين تيار اجتماعي وآخر ، فالانسان هو الانسان ، ومن ملك استأثر.
3- المشاركة الشعبية:  المجتمعات التي يشارك جمهورها بفاعلية في الحياة السياسية ، اقدر على تطوير نظام يعتمد الفصل بين السلطات ، والمحاسبة والتداول السلمي للسلطة. البلدان التي تنشط فيها منظمات المجتمع المدني. تضطر حكوماتها الى مراعاة المزاج الشعبي. بخلاف البلدان التي لا يشارك جمهورها في الحياة السياسية بنشاط ، فهي تمثل احتمالا اكبر لظهور الميول التسلطية في الجماعات السياسية.
الخارطة السياسية في البلدان العربية متشابهة الى حد كبير. سترى في جبهة الديمقراطيين تمثيلا لجميع التيارات الفكرية ، وترى نظائرها ايضا في الجبهة المعادية للديمقراطية. تجربة التاريخ القريب تعطي ادلة قوية على ان الاسلاميين لم يكونوا اسوأ من غيرهم في ممارسة السلطة.  فقد استخدموا الجيش مثل غيرهم. واستخدموا صناديق الاقتراع مثل منافسيهم.
زبدة القول ان الممارسة السياسية لا تعبر
عن الايديولوجيا ، الا بقدر ضئيل يصعب الاستدلال به في الحكم على هذه الايديولوجيا . ولذا فان الحكم بعجز الاسلاميين عن التزام قوانين اللعبة السياسية ، قابل لان ينسحب على كل فريق آخر. في كل تيار سياسي ، وفي كل مدرسة فكرية ، ثمة انواع من الناس والتوجهات تنتمي لبيئتها ، وتتاثر في سلوكها السياسي بمعطياتها. السياسة تصنع في مطبخ البيئة الاجتماعية والتجربة التاريخية ، وليس في مدارس النظرية.
http://www.aleqt.com/2013/09/17/article_786304.html

10/09/2013

الوطن الرومانسي والوطن الواقعي



تحتفل البلاد بعد اسبوعين باليوم الوطني. ولهذه المناسبة أدعو وزارة التربية لتخصيص بضع ساعات خلال هذه الايام، لشرح المفهوم الصحيح للوطن والمواطنة.
مبرر هذا الاقتراح هو ما رأيته في سنوات سابقة من اتجاه احادي يركز على "واجب" المواطن تجاه وطنه. وصرف هذا المعنى للتأكيد على جماليات الوطن، واستقراره في القلب، والدعوة الى بذل الغالي والنفيس من اجله. وهي معان يجري التعبير عنها شعرا ونثرا. وقد حفظها المعلمون والطلاب وعامة الناس.
وقد سبق ان وصفت هذا المفهوم بالوطن الرومانسي. اي الوطن الذي نحمله في قلوبنا ونحبه ونتغنى به ونشتاق اليه. لكننا بحاجة الى استيعاب البعد الثاني ، الذي اسميته بالوطن المادي ، الواقعي ، اليومي ، الذي تراه في الشارع وفي العمل وفي الدائرة الحكومية ، وفي المطار ، وفي كل مكان يصح وصفه بالمجال العام ، اي المجال الذي تشترك فيه مع سائر المواطنين، ويخضع لسلطة القانون. هنا انت بحاجة الى وطن يحملك ويحبك ويحميك. انت بحاجة الى وطن يضحي بالغالي والنفيس كي تعيش حرا ، آمنا ، موفور الكرامة.
الصورة الاولى للوطن تخبرك عن "واجباتك" تجاه وطنك . اما الصورة الثانية ، فهي تخبرك عن "حقوقك" على وطنك. هذا المفهوم الثنائي للوطن ليس من المفاهيم العفوية التي يدركها الناس بانفسهم. نحن في حاجة الى شرحه وبسط معانيه ومراميه وتفصيحه ، كي يأخذ مكانه في اذهاننا وينغرس في نسيج ثقافتنا العامة.
منظومة القيم الاساسية في المجتمعات المحافظة مثل مجتمعنا ، تنظر للفرد باعتباره "مكلفا" في المقام الاول ، وبالتالي فان اهتمامها منصب على قائمة الواجبات التي يطالب الفرد بادائها. اما "حقوق" الفرد فهي منسية او مؤجلة. حين يوصف فرد ما بانه "آدمي" او "مهذب" فهم يعنون انه مطيع ملتزم بواجباته. اما الفرد الذي يطالب بحقه فهو يوصف عادة بانه "شين وقوي عين".
لا اظن احدا من القراء الكرام قد سمع يوما من ابيه او معلمه او من خطيب المسجد ، حديثا عن حقوقه كفرد على عائلته، وعلى ربه، وعلى حكومته، وعلى مجتمعه، وعلى وطنه. معلوم ان لكل فرد حقوقا تمنحه امتياز المطالبة العلنية بكل منها. لكننا لا نعرف ما هي حقوقنا على وجه التحديد ، ولا نعلم بالجهة التي نطالبها بتلك الحقوق. ولهذا فان وجودها مثل عدمها. انها مجرد حقوق نظرية اقرب للتخيل منها للواقع.
تقديم مفهوم صحيح للوطن والمواطنة ، قائم على معادلة صحيحة للحقوق والواجبات ، يسهم دون شك في تخليق شخصية قويمة منفتحة. كما يساعد الشباب خصوصا في تحديد موقعهم ضمن الفضاء الاجتماعي ، ويقيهم من حالة الاغتراب النفسي التي يعانيها كثير من شباب اليوم. ترى.. هل لوزارة التربية دور في هذا؟.


مقالات ذات علاقة

الاقتصادية 10 سبتمبر 2013
http://www.aleqt.com/2013/09/10/article_784656.html







03/09/2013

مفهوم العدالة الاجتماعية

‏"العدالة الاجتماعية" هي الهدف الذي ينشده جميع الناس ، في شرق العالم وغربه. وافترض ان جميع الفاعلين ‏في الحق السياسي والاجتماعي ، يرونه اسمى الغايات.‏

لكن علينا الاقرار بحقيقة ان "العدالة الاجتماعية" ليست مفهوما راسخا في تراثنا الثقافي. ولهذا فمن المحتمل ‏ان يتحدث الناس عنها وهم يقصدون اشياء متباينة. مصطلح "العدل" و "العدالة" هو الشائع في الثقافة العربية ‏والاسلامية. لكنه لم يحظ بما يكفي من النقاش الضروري لتفصيح مضمونه ومراميه. ‏

واشير هنا ايضا الى ان معظم القيم العليا التي تبانى عليها عقلاء العالم واقرتها الشرائع ، مثل العدل والحرية ‏والنظام ، وامثالها من القيم السامية ، حظيت في الثقافة العربية والاسلامية بالكثير من التبجيل ، لكنها لم تحصل على ما يقابله من النقاش ‏والدراسة. ولهذا فان مفهوم "العدل" الواسع التداول ، غالبا ما ينصرف الى معنيين فقط هما : عدالة القاضي بين ‏المتنازعين ، ومساواة الحاكم بين المواطنين. ‏

والحق ان هذين من اجل معاني العدالة. لكنهما دون معناها الشامل ، الذي جعلها اسمى مطالب المكافحين ‏وطلاب الاصلاح فضلا عن عامة الناس.‏

وخلال العقود الثلاثة التالية للحرب الكونية الثانية اصبح النموذج الاشتراكي قبلة العالم ، لانه ركز على مبدأ ‏‏"العدالة الاجتماعية".  نعلم اليوم ان هذا النموذج قد انحسر تماما في اواخر القرن العشرين ، لان تفسيره للعدالة ‏اقتصر على معنى المساواة ، سيما التوزيع المتساوي للثروة الوطنية.‏

نعلم ايضا ان التطبيق القسري للمساواة ، سيما من خلال التحكم في السوق ومصادر المعيشة وانماط التملك ، ‏كان ثمنه التضحية بالحريات الفردية. وقد اتسمت الدول الاشتراكية بالانغلاق والتجبر وانعدام الحريات. كان اهم ‏مبررات الاشتراكيين ، هو ان الحرية تبقى مجرد شعار ، طالما كان الفرد مشغولا بهم البقاء على قيد الحياة. ومن ‏هنا قرروا ان ضمان مستوى معيشي محترم لجميع الناس ، يعتبر اولوية مقدمة على حرياتهم ، وانها تستحق ‏التضحية بحقوق بعض الافراد. هذه الفكرة بذاتها هي "خط الانكسار" الذي قاد الاشتراكية الى حتفها.‏

طور المفكر الامريكي جون رولز مقاربة مختلفة عن "العدالة الاجتماعية" ، تربط بين المساواة والحرية ، ‏وتجعلهما معا ركيزة العدل في الحياة السياسية.‏ 

ركز رولز على تعدد الخيارات والفرص المتاحة للافراد ، بما يمكنهم من اختيار نمط معيشتهم والتحكم في ‏مسارات حياتهم. بعبارة اخرى ، فان النظام الاجتماعي العادل هو ذلك الذي يتيح لاعضائه حرية اكبر وخيارات ‏اكثر ، ويجعل الموارد العامة متاحة للجميع على قدم المساواة ، كما يضع سياساته وينظم مؤسساته على نحو ‏يمكن الاكثرية الساحقة من استثمار تلك الفرص والموارد. 

وبالعكس من ذلك فان الظلم يتجلى في النظام الذي ‏تضيق فيه خيارات الافراد او تحتكر لطبقة خاصة ، او يجري ربطها بالولاء السياسي او التوافق مع سياسات ‏النخبة.‏





الاقتصادية 3  سبتمبر 2013

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...