07/07/2011

"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

؛؛ جوهر مبدأ المواطنة هو "الشراكة في التراب". جميع اعضاء المجتمع ، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا ، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه؛؛


في كل مجتمعات العالم ثمة صراع مستميت للتخلص من عصر التقاليد والانتقال الى الحداثة. هناك بالطبع من يرمي الحداثة باسوأ الاوصاف ويحذر منها ، لكن جميع الناس في جميع بلدان العالم يتطلعون الى منظومة القيم التي تبشر بها الحداثة ، مهما كان رأيهم في الثمن الذي سيدفع مقابلها . ابرز وعود الحداثة هي تحويل العدالة من تطلع مثالي الى منظومة قانونية ومؤسسية ، وصولا الى ارساء نظام قانوني متكامل يكفل المساواة للجميع في الحقوق والواجبات ، وينهي جميع اشكال التمييز ، على المستوى القانوني وعلى مستوى السياسات.


تبدو فكرة التكافؤ والمساواة جميلة وجذابة ، لكنها على اي حال ليست سهلة المنال. اعتادت مجتمعاتنا على فكرة التمييز والتمايز قرونا طويلة . وحين نتحدث اليوم عن تغيير هذه العادة ، فلن يكون التحول بسهولة الكلام عنه.  فهناك من يؤمن ايمانا عميقا بان السلطة والموارد العامة هي امتياز تختص به الفئة المميزة ، سواء كانت عرقا او قبيلة او دينا او مذهبا سياسيا او غير ذلك. ولا يجد هؤلاء حرجا في الدعوة الى نظام اجتماعي ذي هيكلية مزدوجة يسمح لمختلف الناس ان يعيشوا في ظله ، لكن من دون التمتع بالمساواة في الحقوق والامتيازات.

 الانتقال الى عصر الحداثة يعني – على المستوى السياسي – تبني القيم الكبرى للنظام السياسي الحديث ، ومن بينها خصوصا مبدأ المواطنة  كارضية ومعيار لتنظيم العلاقة بين ابناء البلد الواحد . جوهر مبدأ المواطنة هو "الشراكة في التراب". طبقا لهذا المفهوم فان جميع اعضاء المجتمع ، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا ، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويطابق هذا المفهوم الى حد كبير فكرة "الخراج" المعروفة في الفقه الاسلامي القديم ، والتي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا.

بناء على هذا المفهوم فان الناس يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم . لا لأن احدا أقر لهم بهذه الصفة ، بل لكونهم شركاء في ملكية النظام الاجتماعي بمجمله ، لا منا من احد ولا منحة ، بل لطفا من الخالق ونعمة مهداة لعباده. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر ، لأنها حق مترتب على ملكية مشروعة. كما لا يستطيع حرمانه من الحقوق والامتيازات المترتبة على شراكته في الملك ، مثل المشاركة في المناقشات واتخاذ القرارات المتعلقة بهذا الملك وكيفية ادارته .. الخ .

فيما يتعلق بالتنظيم القانوني ، فان ابرز تجليات العدالة فيه هي عمومية القانون ، اي تطبيقه على الجميع بغض النظر عن اشخاصهم او مكانتهم . وعكسه هو اعفاء البعض من الالتزمات التي يخضع لها بقية الناس ، او منحهم ميزات اضافية تفوق ما يستحقونه في الحالات الاعتيادية ، على وجه يؤدي الى حرمان الاخرين او انتقاص حقوقهم. ومن تجليات العدالة وعمومية القانون نشير خصوصا الى تساوي الفرص في الحصول على المناصب العامة والموارد المالية المتاحة لعامة الناس، وحرية الوصول الى مصادر المعلومات التي تؤثر سلبا او ايجابا في تحسين فرص المنافسة العادلة .

وكانت المدرسة الليبرالية تدعو في الاصل الى دور حيادي تماما للدولة ، بمعنى ان لا تمنع احدا من شيء ولا تعطي احدا شيئا . لكنها في المقابل تحرم الدولة من القيام باي عمل ذي طبيعة تجارية او تحقيق الارباح . بل ان احد كبار المنظرين شبه دور الدولة بالحارس الليلي ، الذي مهمته الوحيدة هو ردع العدوان وتامين الامن للجميع . لكن الرؤية الاكثر انتشارا في عالم اليوم تميل الى خط وسط بين هذه النظرية وبين نظرية دولة المنفعة العامة التي تلتزم بضمان حد متوسط من المعيشة الكريمة لجميع المواطنين . ويشمل هذا تأمين التعليم والصحة الاولية والاستثمار في الخدمات التي لا يمكن لعامة الناس ان يقوموا بها ، مثل الكهرباء والمواصلات الخ.
والمبرر الرئيس لهذه الرؤية هو ان شريحة كبيرة من المجتمع لن تستطيع الاستفادة من النظام القانوني والاداري بسبب الفقر الشديد الذي يحول دون حصول ابنائها على قسط من التعليم يؤهلهم للمنافسة ، او بسبب بعد مناطق سكناهم عن المناطق الجاذبة للاستثمار الخاص ، الامر الذي يجعلهم – بشكل طبيعي – خارج دائرة التنافس العادل على الموارد المتاحة للجميع. بعبارة اخرى فان هذه النظرية تدعو الدولة الى : أ) توفير البنية القانونية التي تضمن للجميع فرصا متساوية . ب) توفير المنظومات الادارية التي تسهل الاستفادة من تلك الفرص . ج) مساعدة المواطنين ، ولا سيما الشرائح الضعيفة بينهم ، على تخطي العوائق التي تمنعهم من استثمار الموارد المتاحة بصورة متساوية مع الآخرين.

وقد اطلق على العنصر الاخير مسمى "التمييز الايجابي" ، فهو ينطوي على محاباة لشريحة محددة ، لكن تلك المحاباة مقبولة لانها تستهدف بصورة محددة تمكين ضعفاء المجتمع من تجاوز اسباب ضعفهم وبلوغ مستوى من الكفاءة الذاتية يؤهلهم للاستفادة المتساوية من موارد البلاد المتاحة للجميع.

بصورة ملخصة يمكن القول ان فكرة العدالة الاجتماعية تتمحور حول توفير الفرص المتساوية للجميع ، ثم ضمان المنافسة العادلة بينهم على الارتقاء . وبالعكس من ذلك فان الظلم يكمن في حرمان الناس من الفرص او التمييز بينهم او محاباة البعض على حساب البعض الاخر او اغفال الشرائح العاجزة وتركها تحت مطحنة المنافسة بين الاقوياء. 


مقالات ذات علاقة 


من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي


21/06/2011

التيار الديني الاصلاحي امام خيار حاسم


؛؛ منذ 1991 ادى الجدل الداخلي الى تلاشي حالة الميوعة والتعميم ، ووجد الاسلاميون انفسهم امام اسئلة لا يمكن تركها دون حسم ؛؛


وصول باراك اوباما الى البيت الابيض كان له وقع استثنائي بين السلفيين السعوديين. هذا لا ينبع من اهتمامهم بالسياسة الامريكية ، بل لانهم فهموه كتحد جدي لمسلمات ايديولوجية حول الديمقراطية والحكم الصالح . يهمنا النظر في موقف التيار السلفي السعودي لانه يشكل ما يقترب من "مرجعية دينية وسياسية" لكثير من التيارات السلفية في العالم العربي. الجدل بين السلفيين السعوديين سوف ينتقل بالضرورة الى اشقائهم العرب ، وانعكاسات الجدل سوف تظهر هنا وهناك.


قبل بضع سنوات قسم د. سعد الفقيه المدرسة السلفية السعودية الى خمس شرائح لكل منها موقف خاص من الديمقراطية . هناك بطبيعة الحال الكثير من التناظر والتماثل في التفاصيل ، الامر الذي يسمح باختصار عدد الاطياف تتشكل منها المدرسة السلفية الى ثلاثة رئيسية :

** الطيف المتحجر ، والمتشدد ، والمتغير. يتمثل الاول في الحماة التقليديين للتراث الفقهي الاخباري . واغلبهم رجال دين كبار في السن يعملون في المؤسسات الدينية الرسمية او على حاشيتها . اعتاد هؤلاء معالجة الامور من زاوية فقهية بحتة . لا تشغلهم السياسة قدرما يقلقهم تبدل سلوكيات الجيل الجديد وشيوع الاختلاط وسماع الموسيقى الخ .
** يتالف الطيف المتشدد من رجال دين متوسطي العمر تأثروا بصورة متوازية بالطيف الاول وبرجال دين غير سعوديين . وهو طيف مسيس ومهتم بالنفوذ الشعبي. هويته الايديولوجية تشكلت من خلال الصدام مع الاعداء وليس من خلال البناء الذاتي للمتبنيات. وهو يتبنى ايديولوجيا متشددة تميل بشدة نحو السجال والتبرير. ولهذا فان خطابه لا يعرض مشروعا اجتماعيا او سياسيا بقدر ما يركز على نقض المشروعات او الخطابات الموازية . بين ابرز من يمثلون هذا الطيف نذكر الشيخين سفر الحوالي وناصر العمر.

** يمتاز الطيف الثالث (المتغير) بانفتاحه على شريحة من الاكاديميين من الطبقة الوسطى . وقد طور خطابا يقترب من خطاب التنظيمات الاسلامية التي انبثقت من تيار الاخوان المسلمين. يعبر هذا الطيف عن تطلعات سياسية واضحة واهتمام خاص بكسب الجيل الجديد من السعوديين . كما اظهر استعدادا غير اعتيادي للحوار مع الاطياف السياسية والدينية التي يتشكل منها المجتمع السعودي. ومن وجوههخ البارزة نذكر الشيوخ سلمان العودة ، عايض القرني ، عبد الوهاب الطريري ، محمد دحيم ، وعبد العزيز القاسم . فضلا عن مفكرين مدنيين مثل د. محمد الاحمري ود. مسفر القحطاني

من البديهي ان يبدأ الجدل حول الانتخابات الامريكية وفوز "المرشح الاسود ذي الجذور الاسلامية" وسط هذا الطيف ، لان تكوينه الطبقي والثقافي يجعله اكثر استيعابا للمتغيرات ومعانيها الثقافية وانعكاساتها على الجمهور .
بدأ الجدل مبكرا لكنه وصل الذروة بعد فوز اوباما بالرئاسة. في البداية كان الجميع متفقا على ان فوز اوباما مستحيل . قال المتشددون ان العملية الديمقراطية مجرد لعبة لالهاء الجمهور ، وان الرئيس القادم رجل ابيض سبق ترويضه من جانب اللوبي اليهودي وكبار رجال الاعمال. وجود منافسين ضرورة كي تبدو اللعبة حقيقية. مبرر هذا الاعتقاد هو ان النظام الديمقراطي والامريكي خصوصا فاسد ، وثني ، وخاضع لسيطرة الراسماليين الاوغاد.

اما الطيف المتغير فركز على دلالات وصول "المرشح الاسود ذي الجذور الاسلامية" الى التصفيات النهائية. وقارن بين الفرص الممكنة في نظام ديمقراطي وتلك المتوفرة في الانظمة التقليدية العربية . يقول الشيخ سلمان العودة "لو كان اوباما في بلد عربي لوجدته في احد مراكز الترحيل" في اشارة الى المعاملة المهينة التي يتلقاها العاملون الاجانب في الخليج.  بعد فوز اوباما كتب د. الاحمري اراء وقعت كالصاعقة في الوسط السلفي : " المثال الأعلى للحكم هو الحكم الديمقراطي وأن ما عداه من أنظمة لا تستحق أن تذكر في الأخبار أي أخبار إلا أخبار المقهورين، أو المغلوبين على أمرهم، من أهل الهوامش الفاشلة أو المتخلفة".  وينظر الاحمري الى الديمقراطية كطريق للخلاص الديني : "ابن مسلم أسود يحكم أمريكا، إنها الأمم العملية التي تجردت من الوثنيات المتخلفة ... [والوثنية] من علامات الفشل المقيم في قلوب وعقول بعض المسلمين، الذي أسلمت كلماتهم ، ولكن الوثنية تحتل قلوبهم ، والعالم الإسلامي تضعه هذه الوثنية خلف الأمم ، وتمسك به جاهلا تابعا خائفا ، وتدمر روحه ". وقال الشيخ عايض ان فوز اوباما تجسيد لقيم الاسلام التي تحض على اولوية الكفاءة ، وهي قيم تركها المسلمون.

رد الطيف المتشدد بخشونة على هذه الطروحات ، فندد الشيخ ناصر العمر بالانزلاق الى تمجيد النظام الامريكي ، وقال ان الذين تحدثوا في الموضوع مصابون "بحالة من الهوس" هو انعكاس لما يعانونه من كبت سياسي ناتج عما وصفه بـ "الديكتاتورية الادارية" في العالم العربي. وعاب عليهم عدم فهمهم للنظام الامريكي : " قد تكون هناك [في امريكا] حرية نسبية ، لكن في النهاية هي حكم ديكتاتوري" واعتبر كلام بعض الكتاب عن الديمقراطية في الصحف السعودية نوعا من "الديكتاتورية الفكرية".

الطيف المتغير ينظر بجد في التجارب المتكررة التي تكشف فضائل الديمقراطية . تجربة حزب التنمية والعدالة التركي كانت جرسا كشف للكثيرين عن الامكانات الهائلة للديمقراطية. لكن انتصار اوباما سوف يثبت قدرتها على ابتكار المعاجز. 
تجربة الانتخابات الامريكية حركت فعلا السكون الثقافي والعقيدي وطرحت تحديا جديا على حراس النسق المهيمن , ومن المؤكد اننا سنسمع عن تحولات ايجابية في المستقبل القريب. التحول في المدرسة السلفية السعودية مهم جدا لانها التيار الوحيد الذي قاوم – حتى الان – اي تغيير جوهري في ايديولوجيا تجاوزها الزمن.

مقالات  ذات علاقة
-------------------


18/06/2011

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني


المجتمع شريك في صناعة الفكرة الدينية لانه شريك في صناعة اشكالياتها وصناعة الظرف الذي يحدد صيغتها ومجالات اشتغالها.

زميلي الدكتور عبد العزيز القاسم ارسل مجموعة فتاوى لعلماء بارزين اختار لها عنوان "فتاوى القرن الماضي" ومع ان بعضها صدر قبل اربع سنوات فحسب ، الا ان افقها التاريخي ينتمي الى قرون ماضية بالفعل . خذ مثلا الفتوى بتحريم لعب كرة القدم ، وتحريم دخول النساء لمنتديات الانترنت ، وتحريم تحية العلم والسلام الوطني ، وتحريم لبس المرأة لحذاء عالي الكعب او ارتداء ثوب العرس الابيض، وتحريم اهداء الورود ، وتحريم تعلم اللغة الانكليزية .. الخ .
بعض اعضاء المجموعة البريدية للزميل القاسم علق ساخرا ، وقليل منهم استنكر نشر الفتاوى واعتبره اساءة للعلماء الذين اصدروها . نشر هذه الفتاوى– ولو ضمن نطاق المجموعة – واختيار عنوانها  يمثل اعتراضا عليها ، وان صيغ في اطار التلطف . الزميل القاسم وكثير من اعضاء مجموعته يصنفون بين المدافعين عن التيار الديني التقليدي (الذي ينتمي اليه اصحاب تلك الفتاوى) ، وموقفه المعترض هو احد الامثلة على تغيير متزايد يشهده التيار الديني في السنوات الاخيرة ، تغيير من التسليم بما يقوله الداعية او الفقيه الى نقده ، بل والسخرية منه احيانا.
يدور الجدل داخل التيار الديني حول قابلية التفكير الديني الموروث للتلاؤم مع الواقع المعاش للمسلمين ومتطلبات حياتهم الراهنة. والمرجح ان يثمر عن تبلور صيغة للتفكير والعمل الديني مغايرة لما نعرفه اليوم . بلغ التيار الديني ذروته في الربع الاخير من القرن العشرين ، وكان محركه الرئيس هو الحاجة الى استعادة الهوية والتاكيد على الذات . والواضح ان هذه الحاجة قد تحققت الى حد كبير. في مرحلة الصعود يتركز الاهتمام على الجانب الكمي (الحجم) . فاذا اشبعت الحاجة وتحقق تراكم معقول ، فسوف تتبلور محركات بديلة للظاهرة الاجتماعية. وابرز تجليات هذا التغيير هو النقد الداخلي الذي يركز على تحسين الكيفية (النوع). يؤدي هذا التغيير بطبيعة الحال الى تعارضات داخلية في المصالح والاراء ، تظهر على شكل انشقاقات دافعها فكري او سياسي.
تمثل المملكة العربية السعودية وايران مختبرين اساسيين للعلاقة بين الفكر الديني الموروث وتحديات العصر. وقد شهد كل منهما صعودا للتيار الديني يتناسب مع الارضية الثقافية والامكانات المتاحة لكل من المجتمعين . فبينما كانت الادارة الحكومية هدف التيار الديني الايراني ، ركز نظيره السعودي على المجتمع والافراد العاديين. ومن هنا فقد كانت السياسة محور تركيز التيار الاول ، بينما تركز اهتمام الثاني على السلوك اليومي للافراد.
في ايران نسمع الان مجادلة لما كان في الماضي مسلمات لا تقبل النقاش. من ذلك مثلا الراي الذي كتبه اية الله منتظري وفحواه ان السلطة السياسية ليست حقا مطلقا للفقهاء يستمدونه من الامام المعصوم كما تقول نظرية ولاية الفقيه ، بل هي ملك للمجتمع يفوضها الى الحاكم في اطار عقد وبشروط محددة . ومنتظري تلميذ مقرب لاية الله الخميني ، وكان في 1980 رئيسا لمجلس الخبراء الذي وضع دستور الجمهورية الاسلامية . اما اية الله صانعي وهو تلميذ آخر للخميني فقد دعا الى مساواة كاملة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية بما فيها تولي منصب رئاسة الدولة والقضاء ، خلافا للعرف الفقهي القائل بان النساء غير مؤهلات لتولي المناصب السيادية . وكتب اية الله شبستري ان الديمقراطية الليبرالية هي اقرب النظم السياسية الى روح الدين واقدرها على ضمان حياة دينية سليمة.
خلال عقدين ونصف انضم الى التيار الديني جيل جديد اكثر التصاقا بتجليات الحداثة لانه اكثر اتصالا بمصادر الثقافة البديلة . هذا الجيل اكثر قدرة على التعبير عن حاجات المسلم المعاصر واكثر جرأة في نقد المسلمات الموروثة. وكشفت بحوث ميدانية لاكاديميين ومراكز ابحاث ايرانية عن ضمور ملحوظ في علاقة الجيل الجديد بالزعماء الدينيين وميل اقوى الى القيم الليبرالية في الحياة اليومية كما في السياسة. بينما يشير الجدل الواسع في التيار الديني السعودي الى رغبة قوية في التحرر من شريحة كبيرة من القيم والمسلمات التي كانت عصية  على المساءلة حتى سنوات قليلة.
في 1989 كتب المفكر الايراني عبد الكريم سروش ان كثيرا من الاحكام الشرعية واراء الفقهاء مؤقتة لانها ثمرة الافق التاريخي الخاص بالمجتمع الذي ولدت فيه . ولهذا لا يجوز جبر الناس عليها . المجتمع – حسب رايه – شريك في صناعة الفكرة الدينية لانه شريك في صناعة اشكالياتها وصناعة الظرف الذي يحدد صيغتها ومجالات اشتغالها. وقتذاك تلقى سروش ردودا غاضبة من المجتمع الديني. لكننا اليوم نرى كثيرا مما قاله يتحقق او يثير النقاش بعدما كان مجرد التفكير في مناقشته يعتبر خروجا عن الطريق القويم.



6-12-2008



مقالات ذات علاقة


10/05/2011

الاسلام في ساحة السياسة: متطلبات العرض والتطبيق

http://www.adabwafan.com/display/review.asp?id=44D30498-1B42-432C-8645-3734E6108A53

علي سالم  - النهار
عرض نقدي
 الاسلام في ساحة السياسة ، تاليف توفيق السيف

128 صفحة ، دار الجديد ، بيروت 2000


يشهد العالم الاسلامي اليوم مرحلة من التفكير الديني الجديد الذي يتوافق مع بروز حركات اسلامية سياسية تسعى الى تبديل انظمة الحكم السياسية القائمة, من خلال طرح المشكلات العامة التي تهمّ الشعوب المعنية, كالأمان الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحرية والديموقراطية والعدالة والاستعمار والتقدّم, الخ. وتمكّنت هذه الحركات من تحقيق سيطرتها في بعض البلدان, كإيران والسودان وافغانستان. وكان لها دور مهم ولا يزال في بلدان اخرى, مثل الجزائر ومصر والشيشان وسواها. وقد يكون ظهورها نتيجة الاخفاقات الاقتصادية الاجتماعية السياسية او العسكرية التي حصلت, مما ساعدها على كسر التقليد والتهميش والعزل والتصوّر, او الفكرة التي تفصل بين الدين والسياسة, والتي سادت لفترة طويلة من الزمن. في هذا الاطار, ظهر حديثا كتاب لتوفيق السيف عنوانه "الاسلام في ساحة السياسة" يعالج فيه المسائل المتعلقة بأزمة الاسلام السياسي (تحديدا مسألة حرية الرأي وحق الاختلاف), حاليا, من منظار نقدي ديني (الانطلاق من مسلّمة الدين كشيء مقدّس) يدمج بين الرؤيتين الوضعية والدينية. 

هنا بعض ملاحظاتنا المنهجية: 

- بين الوصف والتحليل: تتميز الطريقة المستخدمة بأنها وصفية اكثر منها تحليلية. فالكاتب يتحدث عن علّة العلل (شيوع الاستبداد بالرأي), والتقدم البطيء للعالم الاسلامي في معالجة مشكلاته الجوهرية, وعدم التغيير في ما يتعلق بنظرة الناس الى الافكار الجديدة, عوض البحث عن السيرورات الاجتماعية والسياسية والثقافية للاستبداد, وفي الاسباب الاجتماعية للتقدم البطيء وعدم التغيير. وينطلق من فرضية ان الاسلام يتيح لأبنائه او للآخرين حرية التفكير, ويحاول التأكد منها استنادا الى نصوص محدّدة او نموذج تطبيقي يعكس وجهة نظر معارضة في الاسلام, ويعمّم استنتاجاته كحقيقة لا لبس فيها, كأن حرية التفكير تتحدد بنفسها ولنفسها من طريق المبادئ والمثل والاخلاق, لا من طريق الظروف والمصالح والتناقضات والصراعات. وحتى المثل والاخلاق مرتبطة بمصالح محدّدة. وفاته ان مشروعية الاختلاف التي تشدّد عليها المعارضة كفكرة خاصة بالدين ليست سوى فكرة خاصة بفهم الدين, وان اي خلاف في الرأي هو خلاف في المصالح, وان معنى الدين لا يمكن فصله عن معنى الاشخاص او المجموعات المعنية به. وعلى هذا, تبرّر مشروعية الاختلاف كما يُبرّر التوافق والاتفاق. وتأتي الخطوات الاصلاحية (الدعوة الى التغيير, والتمسك بحق الرأي) للمؤلف بعد التشخيص (وصف الحالة الاجتماعية بناء على احكام قيمية تدلّ على القبول او الرفض), متجاهلة الفهم والشرح والتفسير وتحديد الاسباب, وان الحق قيمة اجتماعية قبل ان يكون قيمة نظرية. ويشرق الامل على الافكار الجديدة, وكأنه لا جديد بعدها. 

- بين الدين والمعارف الدينية: يورد الكاتب ادلة غير مباشرة عن التفريق بين الدين والمعارف الدينية. ويبدو ان مفهومه للعلم صحيح لجهة النقصان. اذ, مهما بلغت درجة تطوره, فإنه لن يتجاوز الوقوع في الاخطاء والصفة النسبية للحقيقة. ولن نتساءل في شأن نظرته القدسية الى الدين, وليس هدفنا ان نقول انها صحيحة او غير صحيحة. لكن يهمنا من هذا الجانب التأكيد على ان اي نظرية, قدسية او غير قدسية, لا يمكن تجريدها عن انظمة الاستعدادات والتصورات والواقع, وان الشيء المقدس ما هو الا نظرة. وبالتالي, من الصعب الفصل بين الموضوع والذات او بين الدين والمعارف الدينية. والشيء, في رأينا, لا يكتسب قيمة بذاته, بل هو الانسان مَنْ يمنحه قيمة. وحتى, عندما يحدِّد الانسان قيمة للشيء ويعتبرها خارجة عنه, فإنها, في الحقيقة, ملازمة له, لأنه هو الذي منحها. انها احدى الصور العديدة التي يملكها. والصفة القدسية التي تكتسبها لا تعدّل طبيعتها كنظرة الى الشيء. وفي هذا الاطار, ما قيمة الدين, اي دين, إن لم يوجد ناس يؤمنون به? وما قيمة النبي, اي نبي, ان لم يوجد اعتقاد به? وهل الفنان العظيم عظيم بذاته ام لأن الناس منحوه تلك القيمة? وعليه, فالعلاقة جدلية, لا موضوع من دون ذات, ولا ذات من دون موضوع. 

- الموقف من الشورى: الشورى, في رأي المؤلف, دليل على حق الاختلاف في الاسلام, وتُطبّق بالنسبة الى غير الرسول. ولكن, كيف تتحدّد عصمة النبي? هل الدين بذاته هو الذي يحدّدها ام الانسان? وهل ثمة امكان لفصل الدين عن الناس المعنيين به? ومن في استطاعته القول إنه المؤتمن اكثر من سواه على تفسير الدين بمعزل عن الناس والظروف? وهل الدين الذي يتحدث عن نفسه, ام الانسان الذي يتحدث عنه? ومن يملك المبادرة? 

- حول المسؤولية الفردية: يشير الكاتب الى ادلة فردية للتكليف والاختيار. وحول هذه النقطة, لا نعتقد بالنظرية القائلة إن الانسان حر او وُلد حرا مختارا على طريقة روسو, إذ لا امكان لسلخ الانسان عن ظروفه وواقعه. كما لا يعيش الانسان في السماء كجوهر او كقيمة بذاتها. والانسان ليس مجرد وعي مستقل عن الظروف الاجتماعية الطبقية او الضرورة. ولا يمكن الفصل كذلك بين حرية الفرد او خياراته وامكاناته الموضوعية (من رأس مال مادي او ثقافي او علمي...). وتصرف الانسان لا يُعتبر ارادة وحرية كما يتصور المفكرون المثاليون, ولا قدرا, كما يعتقد المفكرون الماديون. انه فعل تاريخي تتبدل حقيقته بتبدّل الزمن او الاسباب. وهو عبارة عن علاقة جدلية بين الذاتي والموضوعي. وفضلا عن ذلك, عامل المسؤولية الفردية غير علمي, في تقديرنا, وله صفة سياسية او ايديولوجية او اخلاقية. ويستند هذا العامل او الاعتبار الى فكرة ان الانسان جوهر بذاته (خارج الواقع او الظروف) ومسؤول عن تصرفاته. وتكون مسؤولية الظروف بسيطة او ثانوية. ويمكن النظر, في هذه الحال الى كيفية تعاطي القوانين السائدة في العالم مع الاشخاص والى وضع المحاكم والسجون واحكام الاعدام. ونحن, اذ نرفض الموقف الذي يعتبر الاختيار مسألة ارادية, فإننا نرفض ايضا لصق الصفة الارادية بالموقف المتعلق بالامتناع. والاكراه او الارغام غير مقتصرين على الضغط, ففي "الحالة الطبيعية" ثمة إكراه رمزي يتطابق ووضع الشخص المعني. وفي هذا الاطار, يُبرّر علمياً وليس اخلاقياً موقف اولئك الذين رفضوا الدعوة الربانية, تقليدا لآبائهم, وتنازلوا عن حقهم في الاختيار (المهم بالنسبة الى الباحث هو الانطلاق من الموقف الحاصل وتفسيره), وكذلك عدم فاعلية الوسائل التي تمكّنهم من الاختيار او تأثيرها. وبناء على ذلك, فالمسؤولية الفردية تنبع من فلسفة فردية ذاتية ماورائية لا صفة علمية لها. وتتكرس تلك الفلسفة بموازين قوى سياسية تفرض حقائقها على الافراد والمجتمعات كحقائق ابدية مقدّسة غير قابلة للنقد او التساؤل. 

- حول الزامية النظام العام: يميّز المؤلف بين فردية التكليف والزامية النظام العام. ولهذه الناحية الاخيرة, نشير الى ان مشروعية النظام الاسلامي (او نظام الشورى فيه) لا تختلف عن مشروعية النظام غير الاسلامي. فالشورى لا تضمن انتفاء المواقع المتنوعة, وبالتالي, المصالح, والهيمنة في أشكالها المختلفة, والتناقضات الفكرية والسياسية والاخلاقية, والصراعات. وقول مجموعة من الناس ان لا حق للدولة في فرض الافكار والمعتقدات (مناشدة اخلاقية صرفة), لا يعدّل من حقيقة فرض الدولة تلك الاشياء او من حقيقة الدولة, حديثا, كرأس مال متمركز او كقوة رأسمالية اساسية (فيزيائية واقتصادية وثقافية واعلامية وقانونية وسياسية ورمزية) تمارس, باسم حماية النظام, عنفا رمزيا (القوانين المتعلقة بالميادين المختلفة) يكتسب قيمة شرعية تعترف بها كل فئات المجتمع وتخضع لها. واي دولة, مهما كان شكلها, تمارس شرعية معينة تتضمن الزاما في الافكار والمعتقدات. والمعتقدات الجديدة ليست مجردة من صفة الالزام. فأي كلام مرتبط بسلطة وبأفكار لتبريرها وحمايتها وضمان استمرارها. 

- بين البحث والفهم القيمي: ثمة خلط دائم لدى المؤلف بين موقفه كباحث وموقفه كمناضل. ويأسف لحجب حرية الاختلاف في العالم الاسلامي, عوض البحث في الاسباب الاجتماعية لذاك الحجب. وعدم قبوله بالتبريرات الموجودة يفترض منه تقديم تبريرات جديدة. ويتحدث عن عمومية الاستبداد كأن الامر لا يحتاج الى البحث والتفسير. ويكرر اسفه في شأن موضوعات اخرى, بدلا من تحليلها كمعطيات ملموسة. ويشرح قمع الاختلاف في العالم الاسلامي بعدم وجود شرعية صحيحة (كأن هذه الاخيرة, من خلال الانتخابات العامة, لا تعكس التفاوت الاجتماعي, وتجسّد المصلحة العامة). ويطلب الى المظلومين والمكافحين ان يتحلوا بالديموقراطية, ويدعو الى اعتماد القرآن كميزان لكل فكر او عمل, والى العدل والاعتراف بحق الآخر, والى عدم الاستسلام والتخلي عن الارادة وتجميد العقل والاعتماد على عقل الرؤساء والتكفير... (كأن المسألة في كل تلك الحالات خيار ارادي ذاتي اخلاقي, لا خيار محدد بشروط الواقع). وتحدث عن الخمول والتخلف وعدم التعلّم والابداع وتشتتنا الى قبائل والاستبداد, ويرى في التفكّر والتعقّل والابداع, الطريق الوحيد الى النهضة, من غير تناول الاسباب او الشروط الاجتماعية. ويؤكد على التميز بين الدين وفهم الدين, بين النص وتفسير النص, بين الحقيقة المجردة والاجتهاد, كأن حقيقة الدين هي خارج حقيقة الانسان, وقدسيته ليست فهما او تصورا. ويدين الموقف الذي ينقل صفة القدسية من الدين الى تصورات الانسان. ويطرح موقفا من النقد يقوم على رفع حجاب العصمة عن اي موضوع, باستثناء الدين. ويتحدث في استغراب عن توجه التيار الاسلامي شأن اي تيار اجتماعي او سياسي, يسعى الى اكتساب القوة المادية, كأن ثمة امكانا لتيار فكري فوق تجاذب القوى والمنافسة. ويفصل الدين عن السيطرة, مع ندرة الامثلة التي تدلل على تعالي الانظمة المتعلقة به عن التجاذبات الاجتماعية او تساميها. ويعرّف الحرية بأنها مقياس واحد ذو نتائج متشابهة, من غير ان يحدد اساسها المادي الاجتماعي او كيفية ضمان حرية الآخر. وهل يكفي ان نقول ان الاستبداد بغيض ومرفوض كي نتخلص منه? الا تُشن باسم الديموقراطية حروب وتُرتكب جرائم كثيرة بحق الانسانية? الا يمارس العنف والهيمنة والسيطرة والاخضاع والاذلال ونهب الثروات باسمها? أليست الفاشية وليدتها وشكلا من اشكالها? وهل الغاء الآخر مقتصر فقط على الفكر الايديولوجي? ويقول ان العلاقات داخل المجتمعات الاسلامية غير طبيعية, دونما تحديد لمعنى الطبيعي وغير الطبيعي وشرح للاسباب. واعتقادنا انها غير طبيعية لو كانت غير متلازمة مع الشروط الاجتماعية التاريخية. بيد ان اللاتلازم المفترض يوجب براهين وادلة ملموسة.

07/05/2011

نافذة على فلسفة كارل بوبر



مجلة الخط – العدد الثالث – مايو 2011

اكتب هذه الملاحظات ناصحا زملائي واصدقائي بقراءة كارل بوبر ، الفيلسوف البريطاني ، النمساوي المولد ، الذي يعتبر واحدا من اهم الفلاسفة المعاصرين واكثرهم تاثيرا. رغم اني اميل شخصيا الى نظرية "تغير الانساق" التي اقترحها توماس كون فيما يتعلق بفلسفة العلم ، الا ان فلسفة بوبر تذهب الى افاق اوسع من تلك التي عالجها كون ، في فلسفة المعرفة وفي الفلسفة السياسية والمجتمع وغيرها.


ولد بوبر في فيينا عام 1902 ، وتوفي في 1994. في اوائل القرن العشرين اشتهرت فيينا بحلقاتها العلمية ولا سيما الفلسفية ، وكان لكل حلقة مذهب خاص ، وقد انتجت تلك الحلقات بعض اهم المساهمات في الفلسفة الحديثة. ليس من قبيل المبالغة القول بان الامة الالمانية قد ارست بعض اهم الاسس في العلوم والتقنيات الحديثة ، ولا شك ان شيوع الفكر الفلسفي في الثقافة الالمانية كان من ابرز العوامل وراء شيوع التفكير العلمي.

قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات. رأى بوبر ان ملاحظة الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك. هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع وقد يجافيه.

 

يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي. ما نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس . اولئك مثل هؤلاء ، يتبعون نفس الطريق التجريبي في التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة . سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول . هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.

وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ، اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علما. يجب ان تكون الفكرة قابلة للتفنيد كي توصف بانها علمية. كلما ازدادت العناصر القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد. كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل النفسي.

غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لانك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف . يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان . نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.

يخلص بوبر من وراء هذه التحليل الى ان النظرية التي نعارضها قد لا تكون "خطأ" في الحقيقة ، بل هي احد الاحتمالات ، وان ردنا عليها هو احتمال آخر. سلسلة الاحتمالات هذه هي خط متصاعد يتطور من خلاله العلم وتتسع المعرفة. كل احتمال هو مرحلة ، ليس بالضرورة خطأ وليس بالضرورة صحيحا. هي في كل الاحوال احتمالات ومراحل تطور. نحن نستفيد من الفكرة التي نعتبرها خاطئة بقدر استفادتنا من الفكرة التي نعتبرها صحيحة.  فالاولى مثل الثانية تفتح اعيننا على بدائل وخيارات مختلفة عنها.

"منطق البحث العلمي" و "المجتمع المفتوح واعداؤه" هي ابرز كتب بوبر التي ترجمت الى اللغة العربية ، ويحوي الاول ابرز محاور نظريته في المعرفة ، بينما يدور الثاني بشكل رئيسي حول فلسفته السياسية التي ركز فيها على نقد الانظمة الشمولية والمثالية.

دار معظم فصول الكتاب الثاني حول نقد اليوتوبيا التي اقترحها الفيلسوف اليوناني افلاطون في "الجمهورية". ويعتقد بوبر ان اليوتوبيات او النظريات المثالية كانت من اكثر الافكار التي اساءت للانسان ، لانها قامت ابتداء على انكار فردانيته وخصوصيته ، وبررت للاقوياء ميولهم للاستبداد والتسلط. ولعل الانظمة الشمولية مثل النازية والشيوعية هي ابرز تمثلات المباديء السياسية القائمة على يوتوبيا . فهي تنطلق من ايمان اصحابها بانهم يملكون الحقيقة والادوات المناسبة لاجبار الاخرين على ان يكونوا صالحين وسعداء.

ويكرر بوبر السؤال الذي تردد عبر العصور: هل يستطيع احد غيري ان يحقق لي السعادة التي اتصورها واسعى اليها؟ هل السعادة تصور شخصي لما يريد الانسان ان يكون عليه او يفعله لنفسه ، ام هي تصور يصنعه الاخرون ويحشرونك في عباءته؟  بعبارة اخرى : هل انا الذي اصمم حياتي كي اصل الى سعادتي الخاصة ، ام ان غيري هو الذي يفكر نيابة عني ويقرر كيف يجب ان اعيش وما هو معنى السعادة التي اريدها؟.

مقالات ذات صلة
كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي
نافذة على فلسفة كارل بوبر
حول القراءة الايديولوجية للدين

نافذة على مفهوم "البراغماتية"

مدينة الفضائل

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...