سؤال: "ما هي وظيفة الحكومة" لم يشغل اساتذة
الفلسفة السياسية العرب. لان العرف الجاري يفترض ان الحكومة هي الكل في الكل. اما
في اوربا فقد كان هذا من الشواغل الاساسية للباحثين في العلوم السياسية ، منذ
منتصف القرن الماضي وحتى اليوم.
بين الحرب العالمية الاولى والثانية (1918-1937) تبنى
معظم دول العالم مفهوم
دولة الرفاهية ، التي تسمى ايضا "دولة المنفعة العامة". بموجب هذه
النظرية تلتزم الحكومة بتوفير مستوى معقول من الخدمات العامة الاساسية للجمهور ،
بدء من التعليم الى الصحة والمواصلات وصولا الى السكن وتوفير الوظائف. واعتبر قيام
الحكومة بهذه الوظائف اغناء لمبدأ المواطنة. المتوقع طبعا ان يرحب كافة الناس بهذا
التطور ، فكلنا نريد الحصول على تعليم وعلاج مجاني لأطفالنا ، وكلنا نريد الحصول
على ضمان البطالة حين نفقد اعمالنا.
الفلاسفة والباحثون نظروا للمسألة من زاوية اخرى: كلما
توسعت خدمات الحكومة ، اتسع بنفس المقدار تدخلها في الحياة الشخصية للأفراد.
الحكومات الشيوعية هي النموذج المتطرف لهذا المفهوم: تضمن الدولة جميع حاجاتك ،
لكنك ايضا لا تستطيع حتى التنفس دون موافقتها.
الفيلسوف الامريكي روبرت
نوزيك جادل طويلا حول قصر وظائف الحكومة وسلطاتها على ضمان الامن العام ،
وقارنها بالحارس الليلي الذي تدور مهمته حول ردع البغاة والمعتدين. في بريطانيا
اطلق سياسي محافظ وصف "الدولة المربية=Nanny State"
في سياق انتقاده لتوسع الحكومة في القيام بالوظائف التي يفترض ان تترك للمجتمع.
طبقا لهذه الرؤية فان مجتمعا تقوم حكومته بكل شيء سوف يبقى طفلا خاملا وعاجزا عن
ادارة حياته بنفسه.
لعل اقرب النقاشات العربية الى هذا المعنى هو النقاش حول
تخصيص الخدمات العامة وترشيق الحكومة. واحدثها ربما هو النقاش حول الحكومة
الالكترونية. محور النقاشات العربية هو تحسين كفاءة الخدمة ، اما النقاشات
الاوربية فاهتمت بانعكاس دور الحكومة على الحريات الفردية. ولهذا فان مخرجات
النقاش العربي تركز على دور القطاع التجاري الخاص ، بينما تركز النقاشات الاوربية
على محورية المجتمع
المدني كاطار لتطوير الحياة العامة والمشاركة الشعبية في القرار.
حين
أتأمل في انتكاسات الربيع
العربي ، اتساءل: هل كان ضروريا ان تحمل الدولة العربية نفسها كل هذه
المسؤوليات؟. ماذا كان سيحصل لو تركت للمجتمع القيام بكل شيء يستطيعه ، وقصرت
دورها على التخطيط والمتابعة والقيادة؟.
في الوقت الحاضر اجد ان غضب الناس من قصور الخدمات
العامة يتجه مباشرة للدولة ، لانها ببساطة تملك البلدية والطرق والمستوصف والمدرسة
والهاتف والكهرباء وو.. الخ. بعبارة اخرى فان اي قصور في اي خدمة سيؤدي بالضرورة
الى اضعاف شرعية الدولة واجماع الشعب عليها. ترى ماذا سيحصل لو تولى المجتمع هذه
الامور كلها؟. ماذا سيحصل لو اقتصرت وظيفة الدولة على ضمان أمن البلد وقيادته. هل
هذا سيوفر محركات جديدة للتقدم ام العكس ، هل سيصون الشرعية السياسية ام العكس؟.
الشرق الاوسط 21 يناير 2015 مـ
رقم العدد [13203]
http://aawsat.com/node/270601
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق