31/01/2004

الوجوه المتعددة للشفافية

في تمثيل لا يخلو من مبالغة ، وصف حسن العلوي الكاتب العراقي حكومة صدام حسين بدولة "المنظمة السرية". وهذا وصف قابل للتمديد الى معظم دول العالم ، ففي كل دولة ثمة درجة من التكتم المقصود او العفوي ، على المستوى السياسي او الاقتصادي او سواه.


نظريا فان السيطرة متلازمة عضويا مع التكتم ، فالذين على راس العمل يهمهم ان يحافظوا على مكانتهم على المدى الطويل من خلال استبعاد المنافسين. التكتم على الامكانات والتكتم على القرارات هي احدى الوسائل الفعالة في تحديد اطار المنافسة وبالتالي التحكم في شروطها وعدد الاطراف الداخلة فيها.

في غمرة التطور الاقتصادي الذي ساد اوربا عقب الحرب العالمية الثانية ، اكتشفت الاجيال الجديدة من السياسيين ورجال الاعمال ان تقاليد التكتم تعيق بشكل جدي النمو الاقتصادي والتطور السياسي في الوقت نفسه. ان جهل غالبية الناس بالامكانات الفعلية التي تحتويها السوق ثبط الكثير من الناس عن الاستثمار ، كما ان صعوبة التنبؤ بالسياسات المستقبلية للحكومات دفع كبار المتمولين الى تركيز استثماراتهم في القطاعات السريعة المردود او المضمونة (تملك العقارات مثلا) بدلا من تلك القطاعات التي تلعب دور المحرك لنشاطات اخرى (الصناعة مثلا). من هذا المنطلق فقد تحول موضوع العلنية او الشفافية الى واحد من ابرز القضايا التي يدور حولها الجدل في ادبيات التنمية منذ اوائل الستينات. الفكرة البسيطة وراء الموضوع برمته هي ان كل الناس يجب ان يحصلوا على فرص متساوية للارتقاء ، وهذا يتطلب ان تكون المعلومات متوفرة للجميع بحيث تكون كفاءة المتنافسين هي المعيار الاساسي للتقدم.  وثمة دراسات تؤكد ان توفر المعلومات حفز انواعا جديدة من النشاطات الاقتصادية في السنوات الاخيرة، وهو ما يعتبر ابرز فضائل انتشار الانترنت.

على المستوى السياسي ايضا فان الشفافية وتوفر المعلومات هي عامل رئيسي في تحقيق مفهوم الحرية. وتقوم هذه الفكرة على دعوى عميقة الجذور فحواها ان المجتمعات التي ابتليت بالعبودية انما بقيت اسيرة لتلك الحالة بسبب جهلها وانعدام الخيارات المتاحة امامها . حينما تجبر مجتمعا على سلوك طريق واحد دون سواه فانك في حقيقة الامر تستعبده . الجبر قد يتحقق من خلال الارغام المادي وقد يتحقق من خلال حرمان الغير من الخيارات البديلة.
على المستوى الاداري ، ترتبط فكرة الشفافية بالمسؤولية . نحن نطلق على كل صاحب قرار في المؤسسات التجارية والحكومية لقب "المسؤول" . ويثير هذا الاطلاق - الذي نادرا ما نتوقف عنده - تساؤلات مثل : مسؤول امام من؟ ومسؤول عن ماذا ؟ وما هي حدود هذه المسؤولية ؟.

الفهم السائد – العفوي غالبا – يقرن فكرة المسؤولية بالسلطة ، فحينما نصف شخصا بانه مسؤول ، فاننا نقصد تحديدا انه صاحب سلطة ، وهذا ينطوي – ضمنيا – على دعوى ان احدا لا يستطيع مناقشته او الرد عليه او نقده . بكلمة اخرى فثمة تناقض كامل بين العنوان ومضمونه الداخلي بحيث يمكن ان تصف المسؤول بانه غير مسؤول دون ان يتغير المضمون الذي يشير اليه العنوان الخارجي.

ثمة تاكيد في الادبيات السياسية على ان اي صاحب منصب في الدولة الحديثة هو مسؤول ، فكرة المسؤولية هنا تشير الى ان صاحب المنصب يؤدي وظيفة وليس مالكا للمنصب ، وانه يؤدي وظيفته اعتمادا على قانون مكتوب يحدد اهداف العمل وطريقة ادائه وحدود الصلاحيات المتاحة له. وهو ايضا خاضع للمساءلة والمحاسبة ، من خلال مقارنة ادائه مع المعايير المحددة في القانون ، اي انه "مسؤول" عن عمله.

يمكن تحقيق فكرة كون الموظف مسؤولا اذا تحددت الجهة التي تسأله وتحاسبه . في المؤسسات التجارية فان هذه الجهة هي المالكين او حملة الاسهم ، اما في الحكومات فان هذه الجهة هي المجتمع ككل.  هذا يفترض بطبيعة الحال ان يكون كل من القانون الذي يرجع اليه في المساءلة ، والتقارير المتعلقة بالاداء علنية ومعروفة في المجتمع. في بلد مثل تركيا ، يقول رئيس الوزراء ، كان هناك على الدوام فرص لمعالجة المشكلات التي بدا للجميع انها مستعصية ، لكن العقبة كانت عجز اولئك الذي يطرحون الحلول عن الوصول الى عقول الناس. وقد ادت الشفافية التي سادت البلاد منذ اوائل التسعينات الى تمكين هؤلاء من عرض البدائل التي يقترحونها على المجتمع والدولة معا ، وهكذا اصبح بالامكان الحديث عن حلول بعدما كان الجميع غارقا في المشكلة.

Okaz ( Saturday 31 Jan 2004 ) - ISSUE NO 958
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/1/31/Art_70875.XML

24/01/2004

أم عمرو وحمار أم عمرو


حين تقع العين على كلمة مثل "البيروقراطية" في صحيفة فان ذاكرة القاريء تستحضر صفات اصبح تلازمها مع البيروقراطية شبه بديهي ، منها مثلا البطء والجمود والتحكم واحيانا البلاهة. وقبل بضعة اسابيع كتب د. حمود البدر مقالة ظريفة اخبرنا فيها عن قصة حمار ابتلي به بيروقراطي صغير فكلف الخزينة العامة اموالا كما استهلك الكثير من الوقت والورق ، لا لشيء الا لان القانون لم يلحظ احتمالا مثل القبض على حمار، اما البيروقراطي الصغير فكان عاجزا عن فعل شيء دون تعليمات ، كما ان رئيسه البيروقراطي الكبير لم يشأ تخويل مرؤوسه صلاحية اتخاذ القرار المناسب في امر الحمار، وانتهى الامر على طريقة العربي القديم :
 لقد ذهب الحمار بام عمرو
فلا رجعت ولا رجع الحمار
  لكن على رغم ما قيل في البيروقراطية من هجاء ، فان لها وجها مشرقا وان قل مادحوه . بل لقد اعتبرها ماكس فيبر وهو من اباء علم الاجتماع المعاصر سمة اساسية من سمات الدولة الحديثة . نحن نعرف الكثير عن بيروقراطية الحمار ، لكننا لا نلتفت غالبا الى ان الحمار ليس مشكلة البيروقراطية بذاتها بل مشكلة البيئة القانونية او الادارية التي يعمل فيها البيروقراطيون . ولهذا فانك قد تجد نظائر لمشكلة الحمار في بعض الشركات الخاصة والصحف وحتى في بعض العائلات.
 لو اصلحنا البيئة القانونية والادارية للادارة الحكومية فسوف تكون البيروقراطية محركا للتحديث والتطوير ، وسوف توفر على القادة السياسيين الكثير من العبء النفسي والمادي الذي يتحملونه من وراء خطايا البيروقراطيين.
 تتناول الاصلاحات المعنية هنا ثلاثة عناصر متفاعلة: القانون ، الصلاحيات ، والرقابة.
 ثمة جدلية يبدو انها سائدة في معظم الدوائر الحكومية ، تتعلق بالوزن النسبي لكل من نصوص القانون المكتوب وتعليمات الرئيس ، فالبديهي ان واجب الموظف الحكومي هو تطبيق القانون بالحد الاقصى من الالتزام بنصوصه.  لكن ما يحصل عادة هو ان تعليمات الرئيس تتمتع بفوقية مفتعلة بحيث تحل محل القانون . ويزيد الامر سوءا حاجة الموظف لارضاء رئيسه مما يحول العلاقة بينهما الى نوع من الاستزلام . كما ان شعور الرئيس بالقدرة على فرض سلطته تشجعه على المضي قدما في تحويل ادارته الى ما يشبه مجلس العائلة حيث تسوى الامور بالتراضي وليس بموجب القانون ، وتتخذ القرارات بناء على معايير شخصية لا موضوعية .
لمعالجة هذه الحالة فاننا نحتاج الى :
1- تطوير الصيغ القانونية العامة التي يفترض ان تحكم عمل الادارات الحكومية الى لوائح عمل تفصيلية ، تشرح طبيعة الاهداف التي انشئت الادارة لتحقيقها وصلاحيات الموظفين في مختلف المراتب والحقوق/الواجبات المتبادلة لكل من الموظفين والمراجعين ، والمعايير المعتمدة لقياس اداء الموظف فيما يتعلق بتحقيق الاهداف.
2- توزيع الصلاحيات : التقليد الجاري في الادارة الحكومية يفترض ان يعجز صغار الموظفين عن اتخاذ قرار فيرسلون المعاملة الى رئيسهم الذي يلعب هنا دور "ماكينة التوقيع". ثمة قضايا لا تحتاج اصلا الى مراجعة اي دائرة حكومية ، لكن رغبة الاداريين في تأكيد سلطتهم (وربما رغبتهم في قتل الوقت) هي التي تجعلهم يفرضون على الناس مراجعات وكتابة عرائض والتوسل بهذا وذاك لانجاز اعمال ليست من شأن الادارة الحكومية اصلا. وعلى نفس المنوال ، فان كثيرا من المعاملات التي تقدم للدوائر الحكومية يمكن ان تنجز في دقائق بواسطة موظف صغير ، لكنها تنقل الى الاعلى بسبب رغبة الكبير في تأكيد وجوده ، وخوف الصغير من تحمل المسؤولية ، ولهذا فقد تجد على طاولة وكيل وزارة طلبا لاستقدام عامل او اذنا في صرف الف ريال او منح اجازة اسبوع لموظف او شراء قطعة غيار رخيصة لسيارة .. الخ . نحن بحاجة اذن الى توزيع الصلاحيات بصورة مناسبة وطمأنة الموظف الصغير الى حقه في البت في المعاملات التي تاتيه دون خوف من تحمل المسؤولية المترتبة عليها .
3- الرقابة:  تتطور البيروقراطية بفعل الضغط الاجتماعي وليس بسبب الرقابة الداخلية . الضغط الاجتماعي يتحقق من خلال الصحافة ومؤسسات المجتمع المدتي ومبادرات الافراد ، ويتضمن نقد الممارسات الخاطئة ، واقتراح البدائل. وتظهر تجربة السنوات الاخيرة ان الصحافة كانت فعالة في تحسين اداء الادارة الحكومية. ولكي نحقق المدى الاعلى من فوائد الرقابة الاجتماعية ، فينبغي المطالبة بشفافية العمل الاداري ، بما في ذلك جعل القوانين والتعليمات جميعها علنية. كما ان الصحافة مطالبة بالتحول من دور الراوية الى دور المحقق ، وحينئذ ستكون صوت المجتمع واداة ضغطه. الصحافة المنشغلة بالمدائح لا تساهم في الاصلاح ، الصحافة التي ترسل رجالها للتحقيق في القضايا واستنطاق الاوراق والبشر والكشف عن الخبايا هي التي تستحق وصف "السلطة الرابعة".




13/01/2004

الاصلاح من فوق والاصلاح من تحت



؛؛ اذا عجزنا عن الاصلاح السياسي الشامل ، فاننا نستطيع البدء بتقنين اغراضه الاساسية مثل اقرار المساواة في شكل قانوني ومؤسسي ؛؛

يمكن البدء بالاصلاح السياسي من تحت كما يمكن ان يبدأ من فوق . سوف تجد بين منظري التنمية السياسية من يجادل دون البدء في تطوير المؤسسات الاجتماعية والادارية باعتبارها اداة النمو وتجد اخرين يشترطون البدء باصلاح القانون الذي يمثل مرجعا لعمل هذه المؤسسات قبل كل شيء . ولعل جانبا من الجدل حول الاصلاح في بلدنا يعبر عن اختلاف في انتخاب اي من المسارين. لكن في كل الاحوال ، فان العزم على الاصلاح ينبغي ان يترجم في اجراءات عملية.

ثمة اهداف للاصلاح المنشود لا يختلف عليها اثنان ، ولناخذ مثلا مفهوم المساواة الذي اقره النظام الاساسي للحكم ويتفق على الدعوة اليه جميع دعاة الاصلاح والمسؤولين الرسميين في الوقت نفسه. من الناحية النظرية المجردة ، فان المساواة بين الناس هي قيمة ثابتة ومركزية في الشريعة الاسلامية ، وهي العنصر الاساس في منظومة حقوق الانسان التي ينادي بها عقلاء العالم . لكن هذا المفهوم النظري لا يمكن ان يحقق غايته الا اذا تحول الى اجراءات قانونية وتنظيم مؤسسي له وجود ملموس وفاعل في الحياة اليومية لعامة الناس.

بين القبول بالفكرة وممارستها ثمة مسافة لا يمكن قطعها الا بمركب ملائم ، وهذا المركب هو منظومة العمل القادرة على التعاطي مع المشكلة التي يعالجها ذلك المفهوم النظري. اهمية هذا المركب تظهر ايضا باستذكار ما اظنه ميلا عاما لدينا الى الاحتماء بالمجردات للهروب من مواجهة الوقائع. اذا اتهمنا احدهم بالتمييز ضد النساء او الاقليات مثلا ، فسوف نسارع الى القول بان الاسلام ساوى بين الناس منذ اربعة عشر قرنا ، وان الاسلام كرم المرأة ..الخ ، ونحسب ان هذا القول يجيب على ذلك النقد فنرتاح . بديهي ان لا علاقة لجوابنا بالنقد من قريب ولا بعيد ، فالناقد لا يتكلم عن الاسلام او تعاليمه ، بل عن ممارساتنا الاجتماعية او السياسية. وهذا يبين ان الايمان بالمفهوم المجرد لا يعالج مشكلة. نحن اذن بحاجة الى منظومات العمل التي تكفل تحويل المفهوم الى ممارسة مادية.    

لا يخلو بلد في العالم كله من بعض اشكال التمييز ، ولهذا فلا ينبغي ان نشعر بالحرج اذا ما تحدثنا عن ظواهر تمييز في بلادنا ، كما ان ظرف الانتقال الى الحداثة الاجتماعية والاقتصادية ، يولد بدوره ظواهر كثيرة للتمييز بين الناس يتخذ صورا شتى بعضها جميل المظهر . وفي مثل هذه الحالة فمن الواجب ان يكون لدينا وسائل لحماية اولئك المتضررين ، وهم في العادة ضعفاء القوم . في المملكة المتحدة مثلا اقامت الحكومة (هيئة المساواة العرقية) وهي هيئة رسمية لكنها تتمتع باستقلال قانوني ، على رأسها شخصية بارزة من الاقليات التي تتعرض للتمييز ، وبين اعضائها هناك من يمثل النساء والسود والاسيويين والمسلمين .  قامت هذه الهيئة باستصدار قوانين تجرم التمييز في الوظائف ، وهي تستقبل الشكاوى من الافراد والجماعات التي تدعي تعرضها للتمييز ، وتسعى لحلها من خلال القضاء والاعلام والمؤسسات السياسية، كما وضعت برنامجا لزيادة حصة الاقليات في جهاز القضاء والشرطة والاعلام والبرلمان والوزارة.
يوضح هذا المثال كيفية تحويل المفاهيم النظرية للاصلاح الى اجراءات عملية ، تساعد صاحب القرار من جهة وتوفرللمواطن الوسيلة التي يحقق من خلالها حاجاته من الجهة الاخرى.

خلال مناقشات جرت في العام المنصرم ، اقترح بعض السادة تشكيل لجنة وطنية من هذا النوع يمكن ان تكون استشارية او توجيهية ، وقال بعضهم ان لجنة حقوق الانسان التي وافق المقام السامي على تشكيلها سوف تقوم بهذا الدور ، لكني اجد المسألة اكبر من لجنة حقوق الانسان المقترحة ، ولعل من المفيد تشكيل هيئة مستقلة. ثمة من ينفي وجود اي نوع من التمييز في بلادنا ، وربما تكون دعواه صحيحة ، وهناك من يشكو من تعرضه للتمييز ولا يمكننا ايضا رد دعواه ، ان هيئة متخصصة ستكون اقدر على تمييز خيط النور. 
بالامكان اذن المبادرة في الاصلاح الهيكلي  حتى تنضج امكانات الاصلاح القانوني ، "الاصلاح من تحت" يوفر نفس الفوائد المبتغاة من "الاصلاح من فوق" . ما نحتاجه في المقام الاول هو النظر في تحويل المفاهيم التي نتفق عليها مجردة الى منظومات عمل يلمسها كل مواطن.

عكاظ 13 يناير 2004

29/11/2003

حتي لا يأخذ الناس القانون بايديهم


؛؛ اذا اخذ افراد الجمهور القانون بايديهم فسوف ينتهي السلم الاهلي ونعود الى قانون البحر: السمك الكبير ياكل السمك الصغير؛؛

كل قرار تتخذه جهة حكومية يفيد شريحة من الجمهور ويضر اخرى ، والفرضية الثابتة ان تكون الشريحة المستفيدة هي الاغلبية العظمى . ويندر – بل ربما يستحيل – ان لا يكون ثمة متضرر من اي قرار . كما يفترض ان يلحظ صاحب القرار الوسائل التي تعوض الاقلية المتضررة او تخفف الاضرار التي لحقت بها.  ترى ما هو الاساس في تحديد الفائدة المفترضة وحجم الشريحة المستفيدة؟.

اهمية هذه السؤال تنبع من الحاجة الى اقناع الجمهور بان القرارات التي تتخذها الدوائر الحكومية تستهدف – فعليا – ضمان مصالحه . ثمة قرارات تراها النخبة الرسمية ضرورية ، لكن الجمهور ينظر اليها بارتياب ، او ربما يرى فيها اضرارا بمصالحه . وربما تفيد شريحة واسعة وتضر اخرى . في كلا الحالتين ، فان تكرار هذه الممارسة ، دون الاخذ بعين الاعتبار وسائل التعويض عن اضرار القرار ، قد تؤدي الى تبلور فكرة " ما حك جلدك مثل ظفرك " . هذه الفكرة العميقة الجذور في الثقافة الشعبية ، هي الاساس لما يوصف اليوم باخذ القانون باليد . وهي تتبلور اذا شعرت شريحة من الجمهور بان صاحب القرار لا يسمع صوتها ، او ليس مهتما بمصالحها ، او عاجز عن حمايتها . عندئذ يتنادى البعض الى فرض قانونهم الخاص ، اي اخذ ما يعتبرونه حقا بيمينهم ولا يلقون بالا الى القانون العام او هيبة الدولة .

كل مواطن ، سواء كان في السلطة او خارجها ، معني بتوفير الوسائل التي تضمن النظام العام ، وفي ظني ان ابرز تلك الوسائل هي رضى الجمهور.

في مثل بلادنا فان ما يفيد الجمهور وما يضره يتقرر في اجتماعات تضم عددا محدودا ممن يوصفون بالنخبة ، وهم اما موظفون تنفيذيون او مستشارون. في كل هذه الحالات فان صوت الاغلبية العظمى من الشعب ، اي الشريحة المستهدفة بالقرار ، غائب تماما . وهذا يثير امامنا السؤال الذي طالما أرق علماء السياسة : هل تستطيع النخبة الاحساس بحاجات الجمهور العام كي تقرر ما يصلح له وما لا يصلح ؟ . بديهي ان بعض قومنا سيجيب بسؤال آخر : وهل يستطيع عامة الناس تقرير ما يفيدهم وما يضرهم ؟ . او – بكلمة اخرى – : هل بلغوا سن الرشد ؟.

- منذ زمن طويل افترض الفلاسفة اليونانيون (ارسطو وافلاطون مثلا) ان العيب الاكبر للديمقراطية هو مساواتها راي رجل الشارع براي العالم حين يتعلق الامر باتخاذ قرار او وضع قانون. وتأسيا بدعوة افلاطون الى حكومة النخبة ، فقد مال معظم قراء التراث من قومنا الى هذا المنحى ، ذلك ان افضل ما في الفكر السياسي الذي ورثناه ، لا يعدو ان يكون اعادة انتاج لما ترجم عن الفلسفة اليونانية.

 بين تلك الازمان وهذا الزمن ، حدث تغيير في غاية الاهمية ، ربما لم يلحظه كثير من قراء التراث ، الا وهو تحول قاعدة الحق او ما يسمى اليوم بمصدر السلطة . قاعدة الحق هي جواب على سؤال فحواه : باي مسوغ يجوز لزيد من الناس ان يأمر وينهى ويتصرف في حياة الغير واموالهم ، اي يمارس السلطة ؟ . وفي الماضي كان الجواب على هذا السؤال يقول ان الكفاءة هي التي تعطي هذا الحق . وبالتالي فان النخبة ، لا سيما تلك التي جرى استيعابها في اطارات الدولة المختلفة ، هي الموصوفة بالكفاءة ، والتي تملك – بالتالي – الحق في تقرير واجبات الناس وحقوقهم . في العصور الحديثة تغيرت هذه القاعدة كليا ، فتحولت من مصدر للحق الى شرط لممارسته . اما مصدر الحق فاصبح رضى الجمهور. بكلمة اخرى ، فان حق زيد في ممارسة السلطة قائم على رضى الجمهور بزيد وقبولهم بممارسته لهذا الحق ، اما الكفاءة فـتأتي كشرط فرعي او متأخر.
- سيقول سائل : ان هذا التحول ليس تطورا الى الافضل ، بل ربما هو اقرب الى التراجع ..

وقد اجيب عليه بان التحول المذكور نتج عن تطور سابق ، الا وهو تحول مفهوم الشعب من وصف "الرعية" الذي اشتهر في الازمان القديمة الى وصف "المواطن" الذي اصبح من اركان علم السياسة المعاصر. مفهوم الرعية يوحي بالتبعية المطلقة ، وهي تنطبق تماما على جمهور غافل القى ازمة امره الى سيد ذكي ينوب عنه في التفكير والتخطيط وتحديد ما هو صحيح وما هو باطل .

في الازمان الحديثة ، فان كل فرد من الشعب هو مواطن ، يتساوى مع غيره من المواطنين على قاعدة المشاركة في التراب ، اي المنطقة الجغرافية المحددة باعتبارها دولة قومية. بناء على المساواة المذكورة ، فانه لم يعد لشخص محدد الحق في ان يقرر بمفرده انه متفوق على الغير . لا بد ان يوافق الاخرون على هذا التصور فيمنحونه الحق في امرهم ونهيهم . هذا المفهوم هو ما يسمى اليوم بالشرعية السياسية . ان شرعية القرار تنبع من قبول عامة المواطنين بالاساس الذي يقوم عليه.

 لا بد ان تكون المصالح المنظورة في اي قرار مقبولة من جانب اغلبية الشعب ، ولا بد من تعويض الاقلية عما سيترتب عليها من اضرار من جراء تطبيق القرار . وهذا هو السبيل الوحيد – ضمن الظروف الحالية – لتلافي ميل الجمهور ، او بعض فئاته ، الى اخذ القانون بيدها بدلا من الخضوع للقانون العام الذي يفترض ان يتساوى تحته الوزير والغفير. ان الشرعية السياسية مثل الكائن الحي ، تقوى وتضعف وتتأثر بعوامل البيئة المختلفة ، ولا بد اذن من الاهتمام بصيانتها ، لانها الاساس في تثبيت استقرار البلاد ونظامها العام.

عكاظ 29 -11- 2003

31/12/2002

ولاية الفقيه بين التسوية والقطيعة

قراءة نقدية لكتاب توفيق السيف "نظرية السلطة في الفقه الشيعي"

بقلم حسن حابر
لقد قدّر لنا، سابقا، مراجعة غير كتاب تناول النظرية السياسية في الفقه الشيعي، ومنها ما تصدى له باحثون كبار، غير ان ما انفرد فيه الباحث توفيق السيف هو اجادته الاشتغال في اللغة الفقهية والاصولية التي هي لغة اختصاص من جهة، وممارسته المتقنة لأسلوب التحليل الدقيق، حيث كان ينقل الآراء بأمانة ويحللها من موقع حيادي، او هكذا توحي كتابته، ويكاد يصعب على من لا يتابع المعالجة الى النهاية ان يكتشف موقفه الحقيقي، فقد نأى بنفسه عن المعطيات والأحكام ولم تزلّ قدمه في الايديولوجية والمواقف المسبقة، وان كان في الواقع غير بعيد عنها، ونادرا ما يوفق الكاتب في ضبط انفعالاته والتحكم في قناعاته الى آخر البحث حيث يظهرها في اللحظة المناسبة وفي سياق علمي طبيعي.
اشتغل الكاتب على مفهومي نيابة الإمام وولاية الفقيه، فرصد تولد هذين المصطلحين والمناخ السياسي والتاريخي اللذين سمحا في بلورتهما، وكان في كل مرة ينأى بنفسه عن التقويم فيترك القضية لمنطق الاحداث وتفاعل المقولات مع ضرورات المراحل.
في البداية، كانت مسألة الارتباط بين الرئاسة والإمامة من المقولات المفصلية في الفكر السياسي الشيعي، فتمحورت حولها المعالجات في صيغة تقريرية نظرية، لا <<تختلف جوهريا عن البحث في الإمامة>> الذي هو بحث كلامي اساسي وفق المتبنيات الشيعية الاصولية (اصول الدين)، لكن غيبة الإمام الثاني عشر ومسيس الحاجة الى التعامل مع السلطات، قد ساهما في تليين الموقف الاعتقادي الصلب، فبدأت فكرة التعاون تتسلل عبر السياج الحديدي الى داخل المنظومة الكلامية لتنتزع لنفسها حيزا، وان بدا في اول الامر متواضعا، إلا ان الاحداث والتحولات كانت تتكفل في كل مرة في زيادة نصاب هذا الحيز وبالتالي توسعه.

لقد نجح الفقهاء الأوائل في تجسير الهوة بين فكرة ولاية الإمام المعصوم الغائب وبين مستلزمات الحياة العامة عبر مقولة التفويض او الإذن من الإمام، <<باعتبار الإمام مريدا لإقامة العدل والإحسان كليا او جزئيا>> وقد نجحت هذه المقولة في مباشرة سحبها التدريجي لمسألة الإمامة من علم الكلام النسق الاعتقادي غير القابل للنقاش الى الإطار الفقهي، <<الذي يعني بالبحث في الفروع العملية>>. وقد احسن الشيخ المفيد في اختيار المدخل المناسب لهذه النقلة، فبدأ بتقرير وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا ثم <<يخصص من متعلقاتهما ما يستلزم نظر الإمام او إذنه>>.

في هذا الاطار نجح المؤلف في رصد جملة التحولات الاولى التي بدأت مع ابن ابي عقيل، ثم الشيخ المفيد والتي تعززت مع السيد المرتضى والشيخ الطوسى الذين خصوصا الفقهاء الاربعة قصروا ابحاثهم، بما يتعلق بالسلطة، في القضاء، وهو امر لافت <<لأنهم جميعا حصلوا على فرصة للعب دور سياسي او اقتربوا من دوائر القرار>>. وهنا قد اخالف الكاتب في شأن المناخ السياسي والثقافي الذي اشاعه وصول البويهيين (334هج) الى السلطة في بغداد، الذي لم يوله الاهمية التي يستحقها، مع العلم ان جل التأسيسات الاولى للحقول العلمية المختلفة الكلام، الفقه، الاصول ورواية الاحاديث قد تنجزت في العهد البويهي وعلى امتداد القرن الذي استمر فيه نفوذ هؤلاء في بغداد، وهذه مفارقة لافته كان ينبغي على الكاتب التوقف عندها مليا، خصوصا انه لم يهمل البعد التاريخي في تحليل الظواهر والتجديدات.

في المرحلة عينها رصد الكاتب تطورا جوهريا في المقولات باشرها ابو الصلاح الحلبي (373- 447هج) الذي طرح مبدأ جديدا، مضمونه <<ان ولاية القاضي تستمد مشروعيتها من كونه نائبا عن الإمام المعصوم>>. واذا كان ابن البراج الطرابلسي (400- 481هج) قد استبعد امكانية القيام بالعدل في ظل سلطة الغاصب وشرط تولي الولايات بالضرورة والاضطرار الشديدين، فإن هذا الموقف لم يحل دون تنامي الاتجاه الاجتهاي باتجاه المزيد من التفاعل مع الواقع، فالمحقق الحلي (602- 676 هج) قرر، وفي خطوة وسع بها حرية حركة الفقيه، أن للفقيه صفة نائب الإمام بالأصالة والاستقلال، فهو لم يشترط لتلبس هذه الصفة تولي منصباً معيناً، وانما جعل الفقاهة وحدها كافية لحمل صفة نيابة الإمام. ولمزيد من الصلاحيات دعا العلامة الحلي (ت 727هج) الى دفع الحقوق زكاة وخمس الى الفقيه المأمون، مع تعذر ايصالها الى الإمام، لأن الأول (الفقيه) أعرف، برأيه، بمواقع صرفها. وقد شكل هذا الموقف اضافة معتبرة لصلاحيات المجتهد ستعزز مع الزمن موقعه الاجتماعي وتساعد في استقلالية الفقيه المالية الأمر الذي يجنبه ضغوط السلطان وإملاءاته.

اللافت للنظر ان الاجتهاد الشيعي، وبعد أربعة قرون على غيبة الإمام الثاني عشر ، لا يزال بعيداً عن التأسيس لولاية الفقيه السياسية، والحقيقة، كما يلاحظ الكاتب، ان هذه القضية ستبقى على الدوام غير محسومة، لأن الفقهاء واصلوا حتى وقت متأخر تخفظهم على اعتبار ولاية الامام في الشأن السياسي واحدة من موضوعات عمل المجتهدين، في هذا السياق، لا يغرب عن بالنا ان مرحلة ما بعد سقوط البويهيين (455 هج) شهدت تحولات خطيرة حدّت كثيرا من تفاعل الفقيه مع الواقع، خصوصاً بعد وصول السلاجقة الى موقع السلطنة في بغداد، والذي اتسم بتنامي الحس المذهبي وكثرة الفتن، فضلاً عن الاضطرابات الكبرى التي وقعت فيها المنطقة سواء لجهة وصول الصليبيين في أواخر القرن الخامس الهجري أم لجهة مباشرة المغول لغزوهم المدمر الذي دام عقوداً، ولم ينعكس الوضع المضطرب على الاجتهاد الشيعي فحسب، وانما طال كل النتاج العلمي الآخر الذي شهد حالة نكوص غير معهود سابقاً.

استقرار سياسي
بعد العلامة الحلي، وفي ظل استقرار سياسي لا بأس به قياساً على ما سبق، تحولت نيابة الفقيه الى موضوع لنقاش فقهي واسع، ففي القرن العاشر الهجري تبلور تياران فقهيان: واحد يقول بإطلاق نيابة الفقيه وآخر يرى عكس ذلك، وبين الحدين كان ثمة مجال واسع للتفاصيل.

شكّل قيام الدولة الصفوية (907هج) منعطفاً كبيراً في النتاج الفقهي السياسي وهو امر طبيعي تمليه حاجات الدولة واضطرار الفقيه، الذي أقحم في الميدان، لتقديم اجابات وحلول لمعضلات مستجدة، وقد رشح هذا الانعطاف من أبحاث المحقق الكركي (ت 940هج) الذي كان قريباً من مواقع القرار، وكذلك من آراء المقدس الاردبيلي (ت 993هج)، ومع غياب أي أشارة اجتهادية من المحقق تعزز موقع الفقيه زيادة على المتعارف، إلا ان مبادرته الى اعطاء اذن بالحكم للشاه طهماسب يُعدّ، في الاطار العلمي، تطوراً في دور الفقيه سيتعزز لاحقاً على المستوى النظري.

في العهد القاجاري، خطا الشيخ جعفر الجناجي (كاشف الغطاء 1154- 1228 هج) خطوة كبيرة في مسألة النيابة حين تحدث عن صيغة جديدة تقوم على حصر الولاية في الشأن العام في المجتهد، يمارسها بنفسه أو بإذن للحاكم الفعلي ان امكن، وإلا أجاز لذوي الشوكة من المؤمنين، تأسيساً على ان الولاية من الضرورات التي لا تترك لفقد واجد الحد الأعلى من شروطها (أي الإمام المعصوم) ولعله أول من قال بأن الأصل <<أن لا سلطات لأحد على أحد>> وبناء عليه حكم بعدم وجوب طاعة السلطان إلا بما تؤدي اليه اعماله من مصالح الناس أو لضرورة حفظ النظام العام حتى لا يسود الهرج والمرج.

هذا التطور البارز عززه احمد النراقي (1185-1244 هج) وهو تلميذ كاشف الغطاء الذي قدم تنظيراً مستقلاً لنيابة الفقيه عن الإمام أعطاها، للمرة الأولى، مسمى ولاية الفقيه، وهو ان قرر اصالة <<لا ولاية لأحد على أحد>> إلا من ولاه الله ورسوله أو أحد أوصياء الرسول، فإنه يخلص الى ان للفقيه ولاية تماثل ولاية رسول الله. واللافت للنظر لدى تتبع موارد ولاية الفقيه عند الزاقي انه يقصرها على الشرعيات (الإفتاء والقضاء) دون العرفيات التي هي مورد السلطة السياسية، مما يعني أن مفهوم ولاية الفقيه المتداولة اليوم لم تكن قد نضجت الى أيام النزاقي.

والكاتب اذ يقرر ان أول من قال بالولاية العامة هو محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) فالبروجردي ثم الإمام الخميني والكلبايكاني، ينتهي الى خلاصة تفيد عدم وجود ملازمة بين الإمامة الدينية والرئاسة السياسية الزمنية، وان الأخيرة الادارة السياسية ليست جزءاً من جوهر الإمامة، ويستشهد بكلام للعلامة شمس الدين مفاده ان الإمامة تتعلق بالمسلمين من حيث كونهم أمة لا من حيث كونهم اجتماعاً سياسياً.

ويختم مؤلفه الثري بتصور جديد لم يبذل فيه جهداً يعتد به يقوم على اعتبار العدل، كقيمة إنسانية ودينية، أساساً مكينا لمشروعية الولاية السياسية، وهذا التأسيس، بنظرنا، وإن كان فيه توسع لناحية تبني القيم الإنسانية، إلا انه في حاجة الى المزيد من النظر والتأمل.
صحيفة السفير 31 ديسمبر 2002
http://www.assafir.com/iso/oldissues/20021231/culture/7.html

الكتاب: نظرية السلطة في الفقه الشيعي (320 صفحة)
المؤلف: توفيق السيف
نشر المركز الثقافي العربي - بيروت 2002

22/03/2001

سياسة العلن وسياسة الخفاء



نبه وزير بحريني الفعاليات السياسية الاهلية ، إلى ان القانون يمنع تشكيل الاحزاب ، وان الحديث باسم أي مجموعة سياسية غير مرخصة ، يعرض للمساءلة القانونية . ولا يشير الدستور البحريني إلى المنظمات السياسية ، لكنه يسمح بتشكيل النقابات والاتحادات المهنية والنوادي الثقافية والاجتماعية .

وجاء هذا التحذير على خلفية النقاشات التي تدور في المحافل الاجتماعية حول التعديلات الدستورية التي اقترحها الامير ، والوقت الذي سوف يشهد عودة الحياة النيابية. ويقول سياسيون ومراقبون ان نشاط المجموعات السياسية يبدو كنوع من التمهيد لحملات انتخابية ، رغم ان الحكومة لم تقل ابدا انها على وشك تنظيم انتخابات نيابية .
 وكان امير البحرين قد كلف لجنة خاصة ، بصياغة التعديلات الدستورية ، التي يفترض ان تمهد لعودة المجلس النيابي وتفعيل الدستور . إلا ان العودة الفعلية للوضع الدستوري ما تزال رهينة الموعد التقريبي الذي اقترحه ولي العهد في فبراير الماضي ، حين قدر المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات.

ولوحظ ان عضوية اللجنة لم تتسع لممثلين عن الاهالي ، فقد اقتصرت على اربعة من اعضاء العائلة الحاكمة ووزيرين ، وهو الامر الذي اثار النقد في الوسط الاجتماعي ، لكن الجانب الاهم في الموضوع ان استبعاد هؤلاء ، قد دفع بهم إلى التعبير عن ارائهم في المحافل الاهلية ، وفي هذه الحالة فان المتحدثين قد حرصوا على التذكير بان اراءهم تعبر ليس فقط عن اشخاصهم ، بل عن مجموعات سياسية معروفة أو حديثة التشكل .

وتوجد في البحرين خمسة احزاب سياسية على الاقل ، ويتوقع ان يوفر الانفتاح الحالي فرصة لظهور مجموعات أخرى أو تحالفات بين فاعليات غير حزبية ، وهو امر يقلق الحكومة ، لكنه يبدو امرا لا مناص منه ، فالبحرين ليست استثناء من عالمها ، فكل دولة خليجية فيها تشكلات حزبية وسياسية صغيرة أو كبيرة ، لا يسمح بها القانون السائد ، لكنها موجودة ونشطة على المستوى الاهلي .

واجد ان الممانعة الرسمية من تشكيل الاحزاب لا مبرر لها ، وهذا صحيح ايضا بالنسبة للكويت التي يمنع قانونها تشكيل الاحزاب السياسية ، والواضح ان هذا التقييد يستهدف حصر العمل السياسي في دوائر الدولة ، ومنعه خارجها ، وهذا يستبطن فكرة انكار حق الشعب في ممارسة السياسة ، ولا سيما الاطلاع على امور البلاد العامة ومراقبة العمل الحكومي ، ذلك ان الحزب السياسي هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن المواطن العادي من معرفة ما يجري ومقارنته بالبدائل ، ثم تحويل رأيه من مجرد فكرة إلى موقف جماعي .

وثمة اتفاق بين دارسي العلوم السياسية على ان وجود المؤسسات والمجموعات السياسية غير الحكومية ، ومشاركتها في الحياة العامة ، شرط ضروري لتمامية تمثيل الحكومة للمجتمع ، وبالتالي تمتعها بالشرعية ، وفي هذا الجانب فان دعم المجموعات يعتبر اكثر اهمية وتحقيقا لشرط الشرعية السياسية ، من دعم الافراد .

وخارج هذا الاطار ، فان استقرار البلاد ، ولا سيما في هذا الظرف الخاص الذي تعيشه اقطار الخليج ، يحتاج بصورة تامة إلى توافق بين مختلف الاطراف الاجتماعية على ترسيخ السلام الاجتماعي ، واستبعاد دواعي الفرقة والتنافر ، وصولا إلى احتواء واخماد مسببات التوتر الامني ، وتحقيق هذا المطلب مرهون باقتناع جميع الاطراف بكونها شريكا كاملا في الحياة السياسية وصناعة القرار ، ان استبعاد أي طرف هو مبرر كاف لتحلله من أي التزام تجاه الاطراف الأخرى ، ولا سيما الحكومة التي تتهم - عادة - باتباع سياسة العزل والاستبعاد .

إذا لم يتوفر الاطار القانوني لممارسة العمل السياسي والحزبي العلني ، فان الاحزاب ستعمل من خلال النوادي الرياضية والجمعيات المهنية والهيئات الاجتماعية الأخرى التي ظاهرها غير سياسي ، واذا ضيقت الحكومة الخناق على هذه المؤسسات فان السياسة ستنتقل إلى المحافل السرية ، وهي ستكون موجودة وفاعلة ، حتى لو اقامت الحكومة شرطيا على راس كل شارع ، وفي كل الاحوال فان هذا النشاط سيبقى مؤثرا ، لكن اهدافه وتعبيراته سوف تعكس التوجهات الرسمية ، فاللين الرسمي يولد لينا مقابلا ، وميلا إلى المهادنة والتفاهم ، بينما يشجع التشدد الرسمي ، الميل إلى التطرف في المواقف والاراء عند الجمهور .

السماح بالعمل الحزبي والسياسي العلني ، يجعل الاوراق كلها مكشوفة ، بينما تؤدي المراقبة والمنع إلى اتباع وسائل التكتم ، وهو ما يعزز ميول الارتياب والقلق ، ومن الخير لمجتمعاتنا ، ان تكون اوراقنا مكشوفة ، وان يعمل الجميع في امان ، وان نتحمل وجود رأي مخالف ، في صغير القضايا وكبيرها .

كثرة الآراء والافكار ، وان بدت دليلا على الاختلاف ، إلا انها في المحصلة ، دليل على الاطمئنان ، وسبيل إلى تعزيز التوافق والاجماع ، وهي ايضا وسيلة مثلى لرفع الحرج عن الحكومة حينما تحتاج الى اتخاذ القرارات الصعبة .
22 مارس 2001

15/03/2001

ابعد من تماثيل بوذا



عدا عن تماثيل بوذا ، التي دمرها مقاتلو حركة طالبان الافغانية (مارس 2001) ومن قبلها الكثير من المعالم الحضارية في افغانستان ، التي دمرتها طالبان وغير طالبان ، فان ما يستوجب التوقف هو السياق الثقافي والسياسي الذي اوصل إلى تلك النتائج ، وهو سياق لا زال فاعلا ومؤثرا ، وقد ياتي في الغد بما يفوق هذا الحدث اثارة ومرارة .

فهمي هويدي
ربما يصح وصف الظرف القائم في افغانستان اليوم بانه ظرف العزلة المطلقة ، فهي بلد محاصر اقتصاديا ، ومعزول سياسيا ، وما يزيد الطين بلة ، ان الحزب الحاكم قد عالج انعدام الاجماع الوطني حوله ، بالمبالغة في حصر القوة السياسية والمادية في اطاره الخاص ، مما ادى الى تغير موقع الحزب من مدير للدولة إلى مالك للدولة .
وفي ظني ان ظرف العزلة المطلقة هو محصلة لثلاثة سياقات متفاعلة ومترابطة ، اولها النسق الثقافي الخاص للحزب الحاكم ، وثانيها ندرة مصادر العيش وتدهور مستوى المعيشة ، وثالثها الحصار السياسي الذي قطع التواصل بين الحكومة والعالم .
طبقا لراي الاستاذ فهمي هويدي فان العيب الجوهري في تفكير زعماء طالبان يعود إلى التصور القروي للدولة ، وقد توصل هويدي إلى هذا الرأي بعد مقابلته عددا من زعماء الحركة وملاحظات ميدانية عندما زار افغانستان في اواخر 1998 ، ومن بين الملاحظات المهمة التي سجلها ، ان كثيرا من قادة طالبان لم يكونوا قد رأوا العاصمة كابل ، إلا بعد ان اصبحوا حكاما ، وهم لم يذهبوا إلى أي بقعة من افغانستان خارج مدنهم ، فضلا عن زيارة دول العالم الأخرى ، ولهذا فان صورة الدولة التي كانت في اذهانهم ، لم تكن غير تمديد لصورة القرية التي يحكمها شيخ قرية ، وهذا يفسر انشغالهم الشديد بالامور الصغيرة ، مثل الملابس والهيئة الشخصية للمواطن ، ويفسر موقفهم من التعليم والاعلام والمرأة والعالم .
تتميز الثقافة القروية بالميل إلى التبسيط والتعميم والتشدد في التقاليد ، اضافة إلى طغيان الطابع الشخصي بدلا من المعياري في التعامل مع المتغيرات .
أما  الفقر وندرة موارد العيش ، فهو يزيد من شعور الانسان بالارتياب والمرارة ، كما يدفعه إلى الاستهانة بالمخاطر ، فهو في لحظة من اللحظات يجد ان ليس لديه ما يخسر أو يوجب الاسف ، وبالتالي فان الشعور بالمسؤولية عن حقوق الغير يتضاءل في نفسه ، تبعا لشعوره بالحرمان من حقوقه أو من فرص الحياة المتكافئة ، ويذكر في هذا المجال ان كثيرا من الافغانيين العاديين قاموا خلال السنوات الماضية بزراعة الافيون وبيعه ، وسرق آخرون الآثار وباعوها للاجانب ، وتاجر غيرهم في عظام الموتى من اجل تامين لقمة العيش ، وهو ما يذكر بالقول المأثور (كاد الفقر ان يكون كفرا) .
والمؤسف ان الفقر يتفاقم في افغانستان مع اشتداد العقوبات الدولية ، ويموت الناس جوعا وبردا ومرضا ، وهذه الحال لا يتوقع ان تنتج غير شخصية قلقة ، متطرفة ، وقليلة الاكتراث بعواقب المغامرة .
أما  الحصار السياسي فهو ثالثة الاثافي ، فرغم ان غرضه الاصلي كان الضغط على طالبان كي تلين ، إلا ان الواضح انه ادى إلى عكس النتيجة ، فهو قد زادها تشددا ، وتفسير ذلك ان الاتصال مع العالم ، ولا سيما الاشقاء والاصدقاء يعزز روحية المهادنة والمساومة ، بينما القطيعة تعزز روحية العدوان والكراهية ، كما انها تحجب فوائد المشاركة مع الغير ، فالانسان الاكثر اتصالا مع الاقران ، هو الاقدر على التوصل إلى اتفاقات ، وهو الاكثر استعدادا لتقديم التنازلات ، بخلاف المنعزل ، العاجز عن التوافق ، والمتشدد في التمسك بارائه ومواقفه .
وفي رايي ان مشكلة افغانستان لا تكمن في طالبان وحدها ، كما ان حل هذه المشكلة لا يكمن في سياسة الحصار والعزل ، بالعكس من ذلك فاني اجد ان الحرب الاهلية هي المشكلة الحقيقية ، وهذه ستبقى مع طالبان ومع غيرها ، كما ان سياسة العزل سوف تزيد ميل طالبان إلى التشدد .
واعتقد ان على الدول الاسلامية ان تبادر إلى حوار نقدي مع طالبان ، حوار يكشف فوائد اللين واضرار التشدد ، حوار مدعوم بحملة لاغاثة الشعب الذي يموت ببطء ، فلعل هذا يرسي اساسا مناسبا لوقف مسار التدهور ، حتى لو كنا عاجزين عن معالجة الاسباب الجوهرية للمشكلة ، في المدى المنظور على الاقل. 
15 مارس 2001
مقالات ذات علاقة


14/03/2001

حرب المقهورين ضد المقهورين


الجدل حول حقوق المرأة السياسية  في الكويت ، المعالجة السياسية والصحافية لقضايا الافغان العرب في مصر ، الاحكام القضائية المتوالية ضد رموز التيار الاصلاحي في ايران ، الجدل بين العسكريين وعلماء الدين حول وضع المدارس الدينية في باكستان ، والكثير من الجدالات التي لا يخلو منها بلد عربي أو مسلم ، والتي تدور دائما حول استعمال قوة الدولة ضد المنافسين السياسيين ، تدل دائما على ان اشكالية العلاقة بين الطرفين لم تجد لها حلا في أي من تلك الاقطار.

الامر المهم في هذا الجانب هو ميل الفرقاء السياسيين إلى تشجيع تدخل الدولة ضد منافسيهم ، في الجدل حول حقوق المرأة السياسية في الكويت مثلا ، توسل فريق من الاسلاميين بالدستور لالغاء المرسوم الاميري بمنح النساء حق التصويت ، بينما دافع الليبراليون عن حق الدولة في تجاوز الدستور والمجلس النيابي ، وفي وقت سابق توسل الاسلاميون بالدولة لوضع مئات من الكتب في القائمة السوداء ومنعها من دخول البلاد ، كما يحاولون فرض قيود على التعليم الاهلي والحياة الثقافية بشكل عام .

وفي باكستان ساند الليبراليون محاولات حكومية لتقييد التعليم الديني الاهلي ، بينما في ايران استعمل المتدينون المحافظون القانون للتضييق على خصومهم السياسيين ، من المتدينين وغيرهم ، سيما بعد اخفاقهم الأخير في الانتخابات النيابية .

وفي مصر توسل الاسلاميون بالدولة لمصادرة كتب وتقييد العمل الثقافي ، بدعوى مقاومة الالحاد ، بينما توسل الليبراليون بالدولة ايضا لتشديد الخناق على النشاطات الاجتماعية للاسلاميين بتكرار الاشارة إلى فزاعة " الافغان العرب " .

تشجيع الدولة على التدخل في الحياة الثقافية والاجتماعية ، والسكوت عن ميلها الطبيعي إلى استخدام القوة والزجر في تعاملها مع المجتمع ، يؤدي إلى نتيجة واحدة في كل الحالات ، هي حصول الدولة على مبررات لاستمرار التدخل ، إذا شجع الاسلاميون الدولة على التدخل لمنع كتب لغيرهم هذا اليوم ، فهم - في حقيقة الامر - يمنحونها شرعية التدخل ضد كتبهم ونشاطاتهم الثقافية في يوم قادم ، والاصل ان يقف جميع الاطراف ضد هذا النوع من التدخل ، لان الثقافة يجب ان تبقى مصونة عن تدخل الدولة .

 كما ان الاستعمال المتعسف للقانون والقضاء في تحجيم المنافسين السياسيين ، أو تشجيع الدولة على استعماله ، سوف يؤدي إلى اعتبار هذا النوع من التدخل مشروعا ومبررا في كل حالة ، والمفروض ان يقف الجميع ضد محاولات الدولة لتحجيم أي طرف سياسي ، مهما كان راينا فيه أو موقفنا منه .

تملك الدولة وسائل الزجر والتدخل المادي والعنيف ، وتتمتع بميل طبيعي إلى استعمال القوة وفرض السياسات ، بغض النظر عن حقانيتها أو قبول الشعب بها ، وهذا يستوجب في كل الاحوال ، موقفا مبدئيا من جانب القوى السياسية على اختلاف اصنافها وشعاراتها ، موقف مبدئي مضمونه رفض أي تدخل حكومي يؤدي إلى تقييد الحريات العامة ، أو تحجيم الكيانات السياسية الاهلية ، لان التدخل يؤدي إلى تهميش القوة السياسية في المجتمع ، وتضخم الجبروت الدولتي .

في عالمنا العربي نحن بحاجة إلى وضع اهداف مبدئية واستراتيجية للعمل السياسي ، من اهمها تحويل القوة السياسية - بعضها على الاقل - إلى المجتمع ، ذلك لان الدولة العربية جبارة وعنيفة ، وهي دولة مسكونة بالارتياب في المجتمع وتوجهاته ، كما انها حريصة على الاحتكار الفعال لمصادر ومراكز القوة السياسية ، ولهذا فاننا عاجزون عن اقامة مجتمع حر وسيد ، ونحن عاجزون عن بلوغ الديمقراطية التي نستحقها .

وليس ثمة حل سوى إعادة بعض القوة السياسية إلى المجتمع ، والسبيل الفعلي إلى هذا ، يتمثل في الدفاع عن الحق الاصلي لكل طرف سياسي ، في التمتع بوجوده والدعوة العلنية إلى خياراته ، أي - بكلمة أخرى - مقاومة الميل الطبيعي للدولة إلى التدخل وتقييد الحريات ، تحت أي مسمى ، ولاي سبب .

السياسات القصيرة النظر ، والخلط بين اليومي والاستراتيجي في اللعبة السياسية ، وحلول المواقف الناشئة عن انفعالات اللحظة والنزعات الشخصية ، محل الواجبات المبدئية التي ابرزها مراكمة وتكثيف القوة الاجتماعية المستقلة عن الدولة ، هي الاسباب الظاهرة لميل القوى السياسية الى تشجيع التدخل الحكومي ، أو السكوت عنه ، هذه المواقف ، وان وافقت مصلحة آنية لفريق محدد ، إلا انها على المدى البعيد مضرة به وبغيره ، لان قدرته على الفعل السياسي هي فرع  من قوة المجتمع السياسية ، وذلك التدخل يؤدي - قطعا - إلى تفريغ تلك القوة وتفكيكها .

الرأي العام 14 مارس 2001


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...