المجتمع مشغول هذه الايام بالجدل حول
الاختلاط وعمل المرأة وحق العلماء في الفتوى العامة ، واشباهها من الموضوعات التي
تجاوزها الزمن ، واصبحت - بالنسبة لمعظم المجتمعات الاخرى - ذكريات يهتم بها
المؤرخون.
المؤكد ان مثل هذه النقاشات الغريبة سوف تستمر ، وربما ستأتي موضوعات مختلفة لكنها تشرب من نفس المورد. الامر ليس جديدا تماما، فمثل هذا الجدل مستمر منذ العام 2002 وحتى اليوم ، لاننا لم نستطع الانتقال الى المرحلة التالية، اي الخروج بنتيجة والبدء بنقاش أعلى مرتبة او اكثر عمقًا.
ظاهر هذه النقاشات اجتماعي، فهي تدور
حول الحريات الفردية. لكنها تنطوي على مضمون مكتوم لا يصرح به معظم المشاركين، ألا
وهو الحقوق المدنية والسياسية والمشاركة في الشأن العام. السبب في اظهار الوجه
الاول واخفاء الثاني هو التوازنات السياسية. يدور الجدل الراهن بين الصحافة ذات
الميول الليبرالية ، وبين بعض رجال الدين ذوي الميول التقليدية ، سواء في المؤسسة
الدينية او خارجها.
ويبدو ان هؤلاء قد غفلوا عن الجوهر المستور
للجدل وانشغلوا بظاهره، فانخرطوا في صراع عنيف ضد الداعين الى تمكين المرأة من
حقوقها الاولية ، مثل التملك والعمل. المؤسف ان التيار الديني يقع في مثل هذا
الفهم الملتبس تكرارا ، فيضع نفسه في موضع المدافع عن الظلم والتمييز، بدل ان يقدم
بدائل وطروحات جديدة ، تستلهم روح الدين ، وتنسجم في الوقت نفسه مع معطيات العصر
وضروراته.
يتحدث الداعون الى تمكين المرأة عن حقوق
الانسان ، والمشاركة المتساوية في الشأن العام ومحاربة الفقر، بينما تقتصر جدالات
الناشطين في التيار الديني التقليدي ، على التحذير من الفتنة والموجة التغريبية ، وتدعو
الى المحافظة على الاعراف السائدة ، باعتبارها خط الدفاع عن الدين وسلامة المجتمع.
نحن مشغولون بهذه النقاشات ، لاننا
عاجزون عن صوغ نظام قيمي جديد ، يرسي اجماعا وطنيا بديلا عن ذلك الذي اطاحت به
رياح التحديث. صحيح ان مجتمعنا لم ينتقل تماما الى عصر الحداثة، وصحيح ان كثيرا
منا لا يزال سجين التقاليد الموروثة ، التي لم تعد مفيدة في يومنا الحاضر، لكن
الصحيح ايضا ان موجات التحديث ، التي جاءت في ركاب الاقتصاد والاعلام الجديد ونظم
التواصل الجمعي العابرة للحدود ، قد شقت المجتمع الى قسمين: قسم يشعر بالخسارة ، لانه
مرتبط بنظام مصالح قائم او موروث، وقسم يسعى لحجز مكانه ودوره في نظام مصالح جديد،
وهو غير عابئ بما يترتب على اولئك من خسائر.
المثل العربي المشهور «لكل زمان دولة
ورجال» هو وصف مكثف لانعكاس التحولات الاجتماعية ، على الناس وادوارهم ومصالحهم،
وما يترتب عليها من روابط وعلائق بينهم. تلك التحولات قد تكون واسعة وعميقة
واحيانا مدمرة ، اذا جرت في مجتمع ينكر التغيير ويقاومه، بينما تكون لينة وسلسة،
بل وقليلة الخسائر اذا جرت في مجتمع منفتح ومستعد لتقبل التغيرات والتحولات.
تنتمي مجتمعات الخليج الى الصنف الاول، ولهذا
فهي تجد التحول مفاجئا ومدهشا، وتجد نفسها عاجزة عن استيعابه وتسكينه ضمن اطاراتها
الاعتيادية، بل وتشعر بالعجز عن ابتكار اطارات جديدة. التغيير هو سمة التاريخ وهو
سنة الله. من المستحيل تلافيه ومن المستحيل اتقاؤه او الخلاص من انعكاساته. في
الماضي كان يأتي بطيئا وتدريجيا، اما اليوم فهو سريع وواسع وانقلابي، ولهذا السبب
فانه يثير من الجدل والخلاف ، اضعاف ما اعتاد عليه المجتمع في عصوره السابقة.
حين تأتي الموجة فانها تكشف عن شيء
وتخفي اشياء اخرى. العاقل من يتأمل في المضمر ولا ينشغل بالظاهر. العاقل من يفهم
الاسباب التي تجعل التغيير قدرا ، فيسعى لاستيعابه وتوجيهه ، بدل ان ينفق جهده في
محاربة الظواهر والتعبيرات ، مهما كانت مؤلمة او بغيضة. العاقل هو الذي ينظر الى
التحولات الاجتماعية كفرص ، يمكن اغتنامها واستثمارها والبناء عليها، بدل ان ينظر
اليها كتهديد او عدوان. حري بالمجتمع الديني ان يفكر في ركوب موجة التغيير ، واعادة
انتاج عناصرها في خطاب جديد ، يستلهم روح الدين وشروط العصر وحاجات البيئة
الاجتماعية ومتطلبات المستقبل، فهذا هو الآتي. اما الماضي فهو حياة افلة، ماتت
فعليا او هي على وشك الموت.