13/10/2021

نموذج مجتمع النحل

 

اظن ان مفهوم "بناء الدولة" مألوف لدى غالبية دارسي العلوم السياسية ، وربما غيرهم ايضا. وفيما مضى كنت أحسب أن محور هذه الفكرة ، هو اقامة جهاز اداري متماسك وفعال ، كي يستثمر مصادر قوة الدولة او يعيد تأهيلها او يخلق مصادر جديدة.

لكن استاذي البروفسور جون كين ، كان مرتابا جدا في هذه الفكرة. وهو يقول ان النظام الاجتماعي الذي يقام على هذا الاساس ، أقرب الى هرم مقلوب ، يعتمد ثباته على القوة الشخصية للزعيم. خذ مثلا جوزف ستالين (1878-1953) الذي اعاد بناء الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية ، وحوله الى دولة عظمى. خذ أيضا مثال ماوتسي تونغ (1893-1976) الذي حول الصين من بلد يموت مئات الالاف من سكانه بسبب الجوع في كل عام ، الى بلد هو الاسرع نموا في العالم. ويمكن ان نضرب مثلا بادولف هتلر ، والعديد من الزعماء الأقوياء الذين نجحوا في احداث تحولات عميقة جدا في بلدانهم ، خلال فترة قصيرة.

جوزف ستالين

يعتقد البروفسور كين ان هذا النموذج الباهر ، قصير الأمد. البناء الذي أقامه ستالين تفكك وانهار خلال خمسة عقود. ونموذج ماوتسي تونغ نجح اقتصاديا ، لكنه حول المجتمع الصيني الى شبه معسكر مترامي الأطراف. ولذا سرعان ما تنكر له خلفاؤه.

مشكلة هذه النماذج تكمن في ايمانها بمثال "مجتمع النحل" حيث يسود النظام الكامل الشامل ، الذي لا يتخلف عنه أحد. واقع الامر انه لا يمكن تنظيم الحياة الاجتماعية ، استنادا الى مثال مجتمع النحل ، ولا وفق "كاتالوج" او دليل الاستعمال ، كالذي يأتي عادة مع المكائن. هذا وهم كبير ، سبق ان تحدث عنه دعاة اليوتوبيا ، لكنه مستحيل التحقيق ، حتى في حده الأدنى.

تعمل المكائن بطريقة ميكانيكية ، فحركتها مشروطة بعامل خارجي ، وحدود انفعالها ثابتة لا تتغير. السيارة مثلا ، سرعتها محددة ب 200 كم في الساعة ، وهذا لن يتغير لو ضاعفت كمية الوقود او  غيرت السائق او الطريق. بخلاف البشر الذين يعملون بطريقة ديناميكية ، أي ان جانبا كبيرا من تفاعلهم يحدث في داخلهم ، على نحو يتجاوز تاثير العامل الخارجي.  ولهذا فان غالب المخترعين لم يتعلموا عند مخترعين مثلهم ، بل هم الذين ابدعوا ، لانهم اتخذوا ما تعلموه منصة للقفز في عوالم جديدة ، ولم يقفوا عند حدود ما تعلموه.

  كافة القادة الكبار تحدثوا عن "بناء الانسان" باعتباره رهانا اصيلا وأوليا لنجاح التنمية وتحقيق النهضة الشاملة. لكنهم في التطبيق انصرفوا الى التعامل مع الانسان كاداة انتاج. لهذا تراهم يتحدثون غالبا عن "واجبات" المواطن ومسؤولياته ، وليس حقوقه الأولية والمنفصلة عن انتاجه.

ليس ممكنا ان نحول البشر الى مكائن انتاج. وحتى لو افترضنا حصوله ، فكم من الناس يتحملون التحول الى آلات ، وكم من الوقت سيتحملون هذا الدور ، وما هو الثمن الذي يطلبونه في المقابل؟.

هذا نموذج مكتوب عليه الاخفاق. وقد جربه اليابانيون في الفترة بين الحربين ، وجربه الروس أيضا بعد الحرب الكونية الثانية. لكن فشله حتمي. ان السبيل الوحيد الذي جربه العالم وثبت نجاحه هو نموذج المواطنة الطبيعية المتساوية ، حيث يعطي الناس بقدر ما يأخذون ، من دون ان تفرض عليهم اية أوهام ايديولوجية او غيرها. في حالة كهذه سيأخذ الناس حقوقهم ويؤدون واجباتهم بصورة تلقائية. ان التلقائية في الحياة هي النتاج الطبيعي للشعور بالامان والثقة في المستقبل وفي المحيط الاجتماعي. ونعلم ان هذا هو الظرف الذي يتولد فيه الابتكار والابداع الضروري لنهوض الوطن.

الشرق الاوسط الأربعاء - 7 شهر ربيع الأول 1443 هـ - 13 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15660]

https://aawsat.com/node/3242776/

مقالات ذات علاقة

«21» الفردانية في التراث الديني

«22» الهوية الفردانية

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

الانسان الذئب

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

تلاميذ ارسطو

الحق أولا

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كيف تولد الجماعة

المسألة القومية واستقلال الفرد

مكانة "العامة" في التفكير الديني

 

06/10/2021

من جيل الى جيل

لفت انتباهي هذا الأسبوع حديث د. نورة الصويان (سبق 03-اكتوبر-2021) ، حول انعكاس التحولات التي تمر بها المملكة ، على سلوكيات الشباب وأوضاعهم النفسية ، ومن ثم تحولات العلاقة داخل العائلة وبين الجيران. وتقول الدكتورة الصويان ، وهي أستاذة جامعية بارزة واستشارية في مشكلات العائلة والزواج ، ان تسارع التحولات في المجتمع تؤدي بالضرورة الى تحولات موازية في شعور الافراد بذواتهم وتصورهم للعلاقة مع الاخرين في محيطهم.


 لكن الأمر لا يجري على نحو سلس أو متوائم  في غالب الأحيان. من ذلك مثلا أن تغير المكانة الاقتصادية والقانونية للنساء خلال السنوات العشر الأخيرة ، قد اثمر حسبما لاحظت الدكتورة الصويان ، عن تراجع التأزمات النفسية عند المرأة ، لكنه ولد عناصر تأزم إضافية عند الأزواج والشباب المقبلين على الزواج.

في العادة ينسب  هذا النوع من التحولات الى تغير ميزان القوى بين الجنسين. المرأة التي كانت تصنف اجتماعيا وقانونيا ك "تابع" باتت اليوم مستقلة الى حد كبير. ومع انه لا زال امامها مسافة قبل المساواة الكاملة ، الا ان ما حصل حتى اليوم يعتبر تحولا جذريا  ، حتى بالقياس الى ما كان عليه الحال في 2018 فضلا عما قبلها.

اني أميل الى مراقبة هذا النوع من التحولات الاجتماعية والاقتصادية ، من خلال انعكاسها على ذهنية الفرد ، أي مجموع العناصر التي تسهم في تشكيل سلوكه العفوي ورؤيته لذاته والمحيط. هذه التحولات تعيد تشكيل الهوية الفردية ، على نحو يتناسب مع توجهات الفرد نفسه ، حتى لو جاء على خلاف ما تربى عليه ، او ما ورثه من ثقافة. في الحقيقة فان هذا هو الذي يحدث في أغلب الأحيان. ان ذهنية الفرد في مرحلة الطفولة (ومن ثم هويته) تتشكل بتأثير العائلة والمحيط الاجتماعي والمدرسة. لكن كثيرا من مكونات الهوية يعاد تشكيلها في مرحلة النضج ، ولا سيما بعد انضمامه الى سوق العمل ، تحت تاثير المحيط الأوسع.

ان الانفتاح على خارج المحيط الاجتماعي ، إضافة الى تغير نمط العيش او مصادره ، يشكلان العامل الأكثر تأثيرا في تشكيل هوية الفرد الجديدة. ولهذا السبب تحديدا ، فان علينا التأمل في النطاق الذي يتعامل معه الفرد ، في كل مرحلة من حياته. ان انفتاح الأطفال والمراهقين على العالم من خلال الانترنت ، يسمح بإعادة تشكيل ذهنيتهم وهويتهم في تلك المرحلة المبكرة. وبالتالي فان مفارقة الثقافة الموروثة ، وما فيها من تقاليد وأعراف وعلاقات ، ستبدأ في مرحلة مبكرة.

جوهر التغيير الذي يحصل في هذه المرحلة يتناول تقدير الفرد لنفسه ، حيث يشتد الميل الى مركزية الذات في مقابل الجماعة. ان رد الفعل العائلي والاجتماعي ، هو الذي يقرر ميل الفرد للانسجام او المنازعة او الانكفاء والخنوع. الافراد الذين يلقون تفهما وترحيبا من قبل العائلة والمدرسة ، سوف يحاولون التعبير عن ذواتهم المستقلة في إطار الجماعة. أما الذين يواجهون تثبيطا او مناكفة ، فهم على الأرجح سيركبون قطار التمرد ، اللين او الخشن.

مرحلة الانفتاح وامتداداتها هي التي تقرر الى حد بعيد ، مستقبل البلد ككل. اذا اردنا صناعة مستقبل مزدهر ، فعلينا ان نستوعب الشباب في لحظة انفتاحهم وما بعدها ، ان نتحمل نزوعهم القوي للاستقلال والتفرد ، وان خالف قناعاتنا المستقرة. اما اذا واجهناهم بالانكار ، فسوف ننتج جيلا فوضويا ، بعضه يحترف المناكفة وبعضه منكفيء على ذاته.

الأربعاء - 29 صفر 1443 هـ - 06 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15653]

https://aawsat.com/home/article/3229136/

 

مقالات ذات صلة

 استمعوا لصوت التغيير

تكون الهوية الفردية

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

شغب الشباب في اليوم الوطني   

  غلو .. ام بحث عن هوية

الفقر والإحباط والغضب

من المناكفة الى النهضة

النسوية والأقليات الثقافية

النسوية والأقليات الثقافية

29/09/2021

من معاني التجديد

أنا ممن يدعي ان النهوض الاجتماعي يتطلب تجديدا في فهمنا لمعنى وفلسفة الحياة والدين والثقافة. وأعلم ان التاثير العميق للموروث الديني في الحياة والثقافة ، يستدعي على الدوام جدلا حول تجديد الدين ، وما إذا كان في الاصل ، قابلا للتجديد ام لا ، وما اذا كان التجديد يتناول الأصول ام الفروع ام الأدوات والمظاهر.

ومن هنا فاني ادعو القاريء العزيز الى تقبل نقطتين ، أوجز الأولى في "ان لكل جيل من اجيال المسلمين حق ثابت في اعادة صياغة مفهوم الحياة الدينية ، وانتاج نموذج التدين المناسب لزمنه ، دون التزام بما انتجته الاجيال السابقة". اما النقطة الثانية فخلاصتها اننا بحاجة للتمييز بين دائرتين في حياتنا: دائرة يمكن ان نسميها دينية ، وهي مجال اشتغال احكام الشريعة ، ودائرة خارج الدين ، فهي مجال لأحكام العقل النظرية والعملية والاخلاقية.

كلا النقطتين مورد جدل بين التيار الديني التقليدي ونظيره الاصلاحي. يقول التقليديون بان كل ما عرفه البشر في العصور الحديثة ، موجود على شكل حكم مفصل او قاعدة مجملة في التراث الإسلامي. وبالتالي فلا مبرر لقيام الجيل الجديد باي دور او تصرف في المنظومة الشرعية.

وأصل هذه الفكرة هو القول بان الشريعة الإسلامية تحوي كل شيء في الحياة ، او انها قادرة على تنظيم أي جانب من جوانب الحياة. ويتعامل الناس مع هذه الفكرة كأمر بديهي لا يقبل الجدل. ولعل بعض القراء الاعزاء قد صادف كتبا تحمل عنوانا مثل "البديل الإسلامي" ، "قال الإسلام قبل ذلك" ، "هذا الدين للقرن الواحد والعشرين".. الخ.

يعتقد أكثر الناس ان هذه حقيقة ثابتة. فاذا قلت لهم ان هذا غير صحيح ، حسبوك تتهم الإسلام بالنقص والعيب ، وجادلوك دفاعا عن الدين ، وليس نقاشا في الفكرة.

وكنت فيما مضى اذهب نفس المذهب. ثم اكتشفت ان بعض العلوم لم تكن موجودة اصلا في زمن التشريع ولا الأزمان المقاربة له. فكيف تضع أحكاما لشيء لا يمكن تصوره ، فضلا عن معرفته. وخلال بحثي عن الموضوع طرحت هذا السؤال على فقيه بارز ، فأجابني بالجواب المعروف ، وهو ان ما لم يرد حكمه في الكتاب والسنة ، فان حكمه يستمد من اقرب القواعد العامة المتعلقة بموضوعه. فسألته عن حكم لبس الساعة ، فلاحظ في لهجتي شيئا من السخرية ، فتمالك نفسه واجاب انها مباحة ، فجادلته بان الاباحة ليست حكما ، لان القول بان الاباحة حكم ، تكلف من غير داع ، ولا طائل تحته ، وان القول الصحيح هو ان لبس الساعة ليس من قضايا الشريعة ، فان وافقتني ، فان القول بشمولية الشريعة لا يصح.

وفي وقت لاحق وقعت على نقاش بين اثنين من الفقهاء البارزين ، اولهما الشيخ يوسف البحراني الذي قال بان آيات مثل "ما فرطنا في الكتاب من شيء" و "ﺗﺒﻴﺎﻧﺎ ﻟﻜﻞ ﺷﻲء" وأمثالها تدل على ان كل شيء في الحياة له حكم في الكتاب او السنة ، حتى ارش الخدش (التعويض عن الجرح الطفيف). وقد رد عليه الشيخ احمد النراقي قائلا: ان سياق الايات يدل على ان في الكتاب تبيين لكل شيء يجب بيانه ولا يصح السكوت عنه ، لا انه يبين كل شيء على الاطلاق. والدليل هو ما نراه فعلا من الاف الموضوعات والمسائل التي لم يخبرنا الشارع عن حكمها ، وهي تتزايد يوما بعد يوم. والى هذه الناحية اشار ابو الفتح الشهرستاني في "الملل والنحل" حين قال ان النص محدود والحوادث غير محدودة ، فكيف يستوعب المحدود ما لاحد له ولا حصر؟.

الشرق الاوسط  21 صفَر 1443 هـ - 29 سبتمبر 2021 م

https://aawsat.com/node/3215266/


مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

 

22/09/2021

جدل اليوم وكل يوم

 

أكثر الجدالات سخونة في العالم العربي اليوم ، يتناول دور الدين في الحياة العامة ، وعلى الخصوص في ادارة الدولة وعملها اليومي.

لكل بلد عربي قائمته الخاصة من الازمات الصغيرة او الكبيرة ، من الفقر الى البطالة واضطراب الامن وتعثر النمو ، وضعف المشاركة السياسية وغياب الحريات المدنية..الخ. ومع كل هذه المشكلات فان ما يسمى "الاسلام السياسي" بشعاراته وشخوصه وجماعاته وتاريخه ، لازال مادة أثيرة للجدل ، بل لا أبالغ لو قلت انه يفوق كل الازمات الاخرى ، في جاذبيته لاهتمام الجمهور ونخبته على السواء. وان اردت التحقق من صدقية هذا القول ، فانظر مواقع التواصل الاجتماعي في أي قطر عربي ، او انظر صحافته ، وسترى انه نادرا ماتخلو صحيفة من اخبار او نقاشات تتصل ب "الاسلام السياسي".

تضخم اهتمام الناس على هذا النحو ، لايعني بالضرورة انهم يشبعون الموضوع بحثا وتحليلا ، بل على العكس تماما: فهذا نوع من القضايا التي كلما زاد الكلام فيها ، زاد غموضها واختفت معالمها ، وتعددت مذاهبها ، فلا يمكن لخبير طرقها ، دون ان يقابل من يعرقل سعيه او يستشكل عليه بما يصح وما لايصح ، فضلا عن اتهامه في مكنونات نفسه ونواياه. ومن هنا بات النقاش فيها اقرب الى السير على الشوك.

وقد لفت نظري هذا الاسبوع ماقاله الأستاذ يوسف ابا الخيل ، الكاتب السعودي المعروف (18-سبتمبر-2021) فقد كتب اولا على تويتر ، منصة التواصل الاجتماعي: "ما يهمك مني هو كيفية تعاملي معك ومدى التزامي بواجبات المواطنة ... اما مذهبي فهو بيني وبين خالقي". في اليوم التالي كتب ابا الخيل تعليقا على كثرة الردود المسيئة: "كمية الردود المتشنجة على هذه التغريدة ، توضح أنه لا يزال بيننا وبين معرفة واجبات المواطن في الدولة المدنية الحديثة ، مسافات ضوئية". ان معظم الردود المسيئة (والشتائم) جاءت من اشخاص يزعمون الدفاع عن الدين الحنيف ، مع ان التغريدة لا تمس الدين من قريب ولا بعيد.

ويظهر لي ان تضخم الموضوع المذكور لا ينبيء عن اهتمام معرفي ، بل هو انفعال عاطفي سلبي ، سببه فيما أظن ، هو انعكاس المسار وما تبعه من خيبة الأمل.

بيان ذلك: ان الجمهور العربي (في المجمل) كان يتطلع لنخبة جديدة تولد من رحم الربيع العربي. ومثل كل الحالمين ، تخيل الناس ان هذه النخبة ستكون عارفة بالحكم ، نظيفة الكف ، متواضعة النفس ، وزاهدة في السلطة. وحين نظروا للساحة ، اعتقدوا ان من يرفع شعار الاسلام ويلبس ثيابه هو الأجدر بحمل تلك الأوصاف. ولهذا حصل رموز الاسلام السياسي وقادته على دعم لا سابق له.

لكن سرعان ما انعكس المسار ، فقد ظهر ان النجوم الجدد لم يكونوا عارفين بالحكم ولا زاهدين في السلطان ، ولا قادرين على علاج مشكلات الانتقال الى نظام تشاركي. ونعرف ما حصل لاحقا في مصر وتونس والسودان والمغرب والعراق وغيرها ، حين انقلب الجمهور وذهب في الاتجاه العكسي.

تخلي الجمهور عن التيار الاسلامي مثل دعمه سابقا ، لم يكن ثمرة نقاش علمي أو واقعي ، بل هو – مثل سابقه – انفعال أملاه الشعور بالاحباط وخيبة الأمل. ولهذا السبب تحديدا ، فانه لم يؤد الى تفريغ مخزون القلق على المستقبل ولم يعزز اليقين في الذات الجمعية. ان استمرار الاضطراب الداخلي والهجرات الجماعية ، هو اوضح مؤشر على الارتياب العميق في مسارات السياسة القائمة.

حين يتناقش الناس في قضايا الاسلام اليوم (حتى في امور العقائد والعبادات بل حتى التاريخ) فانه سرعان ما ينفتح عليهم مخزون القلق ، الذي تحول الى قلق على الدين وعلى الهوية الجمعية ، مع انه كان في الاصل مجرد انعكاس لازمات سياسية ، لا علاقة لها بالدين.

الشرق الاوسط الأربعاء - 15 صفر 1443 هـ - 22 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15639]

https://aawsat.com/node/3202221

مقالات ذات علاقة

 

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

من الحلم الى السياسة

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

15/09/2021

تفكيك التداخلات



بعضنا يلح على ان الدين شرط لنهضة العرب. وبعضنا يقول بعكس هذا: ان ترك الدين شرط للالتحاق بركب الحضارة. ثمة فريق ثالث – وانا منهم – ينفي وجود علاقة سببية بين الدين والتقدم. بمعنى ان الدين يمكن ان يحفز المؤمنين للنهوض العلمي ، ويمكن ان يثبطهم. يمكن للدين ان يتعايش مع التخلف او مع التقدم من دون فرق تقريبا.

عمر البشير ايام قوته

كان المرحوم مالك بن نبي بين المفكرين الذين أكدوا على علاقة الدين بالنهضة. لكنه في التحليل النهائي جعل تلك العلاقة مشروطة بعوامل خارج اطار الدين. وهو يقول ان الدين لم يخرج من النفوس ، لكنه فقد فاعليته (مالك بن نبي: وجهة العالم الاسلامي ، ص 32). ويستشهد بمثال في غاية البساطة: كانت امهاتنا يعانين من الم الظهر يوميا حين يستعملن المكنسة القصيرة ، لكن ايا منهن لم تفكر في اضافة عصا طويلة كي تواصل التنظيف من دون ان تنحني. لقد انتظرن عشرات السنين ، حتى جاء الاوروبيون بالمكنسة ذات العصا الطويلة ، التي خلصتهن من الالم (مالك بن نبي: وجهة العالم الاسلامي، ص 141).

لم يكن الدين حاجزا لهن عن التفكير في هذه المشكلة الصغيرة وحلها. لكن الدين لم يكن محفزا ايضا ، رغم ان مالك كان يراه عامل ربط مناسبا بين العناصر الثلاثة التي تحتاجها الحضارة ، اي الانسان والتراب (الطبيعة) والزمن.

وفي تجارب البشر أمثلة عديدة عن مجتمعات متدينة وأخرى غير متدينة ، نهضت او تخلفت. فلا الدين منع الذين ارادوا النهوض ولا هو الذي حفز الخائبين. وأما ما يقال من نهوض العالم الاسلامي في عصره القديم ، فلاشك ان الاسلام كان له دور ايجابي ، لكن هذا لا يثبت كون الدين علة للنهضة ، انما يثبت ان الدين لايمنع النهوض. ولهذه المناسبة أود تنبيه القاريء العزيز ، الى رؤية الفيلسوف ديفيد هيوم القائلة بالتمييز بين اقتران شيئين مع بعض ، زمنيا أو مكانيا ، وبين كون أحدهما سببا أو علة للآخر. انني لا اذهب مذهب هيوم في  انكار مبدأ السببية في غالب حالاته. لكن فيما يخص موضوع نقاشنا ، فان تكرار التجارب يؤكد ان علاقة الدين بالنهضة ، لم تصل حتى الى مرتبة التقارن او التزامن ، فضلا عن السببية.

ان غرضي من التأكيد على هذه المسألة ، هو تفكيك التداخلات المفتعلة بين الدين والظواهر الحياتية الأخرى. وأتذكر في هذه اللحظة ، خطبة للرئيس السوداني السابق عمر البشير ، بعيد استيلائه على الحكم في 1993 افتتحها بالآية المباركة "ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". فقد لاحظت ان الصحافة الإسلامية احتفت بهذا الكلام ايما احتفاء ، ورأيت كثيرا من اشقائنا السودانيين في غاية التفاؤل ، بأن البلد واقتصاده يتهيأ لنهضة واسعة. لكنا نعلم ان السنوات التالية شهدت تدهور اقتصاد السودان ، وخسارة نصفه الغني بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى.

كان مالك بن نبي قد حذر من هذا الربط اللاعقلاني ، واعتبره نوعا من "الانقياد الاعمى الى الدروشة[1]". اني أرى كثيرا من المؤمنين اليوم ، يظن ان مجرد التدين سيؤدي الى التقدم والحضارة ، وان عدم بلوغنا هذه المرتبة سببه قلة إيماننا. لكن هذا مجرد وهم او "دروشة". ولو كان صحيحا لكانت قندهار هي عاصمة العلم والمال في العالم وليست واشنطن.

ثمة من يظن ان نفي العلاقة المذكورة تهوين من شأن الدين الحنيف ، وان تبجيله يقتضي نسبة كل محبوب اليه. واقع الامر ان كل شيء في هذه الحياة له دور يؤديه وغاية يصل اليها ، فما الداعي لربط التبر بالطين؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 8 صفر 1443 هـ - 15 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15632]

https://aawsat.com/node/3189656/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

08/09/2021

الاسئلة التي تزيدنا جهلا


قبل تسعين عاما اصدر الامير شكيب ارسلان كتابه الشهير "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم". ويذكر في قصة الكتاب انه جاء استجابة لنقاشات دارت في تلك الايام ، على خلفية التحدي الاوروبي للعالم الاسلامي ، في مجال العلم والاختراع والقوة العسكرية والاقتصادية وغيرها.

خلال ربع القرن الأخير ولدت أسئلة جديدة ، وتبين ان سؤال الامير شكيب أقام سياقا ، هو بذاته مشكل.  ولهذا لم نستفد منه في اثارة نقاش جاد ، بل تحول الى وسيلة تنفيس عن القهر.

شكيب ارسلان

بيان ذلك: ان سياق النقاش افترض مسبقا ان التأخر والتقدم مرتبط بالدين ، تبعا للدعوة الاوروبية الى العلمانية. وقد ردت النخبة المسلمة على هذا الادعاء ، بتنزيه الاسلام عن التخلف او التسبب فيه. وقد بدا لي من دراسة تلك النقاشات ، ان موضوع الجدل يومئذ هو "الهوية" وليس "الدين" ، اي الاسلام باعتباره عنوان انتماء ورابطة بين اتباعه. لم يكن لمسألة التقدم كبير شأن في تلك النقاشات ، فقد انحصرت في الرد على دعاوى الغرب ومساعيه للنفوذ في العالم الاسلامي. وتبعا لذلك تحول موضوع التقدم الى عنوان للجدل في موضوع مختلف تماما هو علاقة المسلمين بالغرب.

أدى الاختلاط بين هذين النقاشين ، الى اهمال تام لمسألة التقدم كموضوع مستقل ، له شروطه وحاجاته وسياقه الخاص. واظن ان هذا كان من اعظم الرزايا التي ابتلي بها العرب والمسلمون ، في حاضرهم وماضيهم. فحين تهمل مسألة التقدم ، فانك ستنصرف – شئت ام ابيت – الى تقديس الماضي ، وسيتحول حاضرك الى امتداد للماضي ، فتبقى متخشبا في موقعك من التاريخ ، بينما يتحرك البشر الى الأمام.

واضيف الى هذه الرزية ، ان العلاقة مع الغرب قد تلبست رداء الدين ، وفسرت في سياق الصراع بين الأديان ، كما استدعي التصوير الوارد في النص الديني ، كوصف نهائي لهذه العلاقة.

يعلم العقلاء ان علاقات الامم (حتى المتعادية منها) تتغير بين زمن وآخر ، تبعا لتغير الظروف والمصالح وموازين القوة. لكننا – للسبب الوارد اعلاه – جمدنا هذه العلاقة في صورة واحدة هي العداوة ، حتى ان فقهاء المسلمين اتفقوا قولا واحدا على حرمة السفر الى تلك البلاد الا لحاجة ماسة ، وليس للتعارف والتسالم والتعلم وعمران الارض ، كما  هو حكم العقل ، فضلا عما نعرفه من مقاصد الرسالة المقدسة.

حين اتطلع اليوم الى العالم من حولي ، أجد الغرب محيطا بنا من كل جانب. ولهذا تعددت صور العلاقة معه. وبسبب الفهم الموروث الذي القى عليها رداء الدين ، فقد انشغلنا بتصور اشكال العدوان الغربي ومؤامرات الغرب وخيانة الغرب ، وغير ذلك من التصويرات والتشبيهات البليغة ، التي لا تخبرنا عن واقع ولاتكشف مخفيا ، بقدر ما تعزز اوهامنا القديمة ، وتكرس عزلتنا الروحية عن عصرنا وعالمنا.

من يتشكك في صدقية هذه الدعوى ، أدعوه لمراجعة ردود فعل المسلمين على الانسحاب الامريكي من افغانستان ، وكيف تحول من موضوع للنقاش الجاد (هل هو جيد ام سيء ، هل كنا نريده ام نرفضه ، هل احسن الامريكان الى الافغان ام اساؤوا ، هل ينطوي على فرص ام تحديات.. الخ) تحول موضوعا للتندر والسخرية ، وجمع المعايب والمبالغة في تصويرها ، واستخدامها في بيان قبح الغرب عموما وامريكا خصوصا.

اليس هذا هو ما تعلمناه طيلة قرن من الزمان؟.

ترى من الذي تضرر من هذا الفهم الاعوج.... نحن الذين تجمدنا في نقطة قصية من تاريخ البشرية ، ام الغرب الذي يتحرك الى الامام بسرعة الطائرة؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 30 محرم 1443 هـ - 08 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15625]

https://aawsat.com/home/article/3176371/

مقالات ذات علاقة

 

الاسئلة الباريسية

انقاذ النزعة الانسانية في الدين

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الحركة الاسلامية ، الغرب والسياسة -1

حول طبيعة السؤال الديني

 خلافة على منهاج نبوة

الديمقراطية والاسلام السياسي

ركاب الدرجة السياحية

الشيخ القرني في باريس

العولمة فرصة ام فخ ؟

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

كيف نتقدم.. سؤال المليون

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

 


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...