16/07/2020

طرائف التاريخ وأساطيره


يقال ان الملحمة الشعرية الهندية "مهابهاراتا" هي اطول قصيدة حفظها تاريخ البشر. ويصل عدد ابياتها الى 220 الفا ، وتتألف من 18 فصلا. وجرى تحويلها الى مسلسل تلفزيوني من 95 حلقة. وبلغ من تأثيرها ان بعض المدن الهندية ، كانت شوارعها تخلو من المارة ، ساعة بث المسلسل. تروي الملحمة قصة الصراع الدائم بين الخير والشر ، وتعرض العديد من القيم والحكم والاخلاقيات ، والآداب والأعراف المشهورة في الثقافة الهندية.


تقدم الملحمة افكارها في قالب اسطوري يتجاوز حدود الخيال. خذ مثلا ذلك الأمير الشجاع الذي غضب ، فحرك بيديه الغيوم ، فسالت أمطارا حولت الارض انهارا ، فاغرقت جيش عدوه عن آخره. وخذ قصة الحكيم الذي القى جثة الاميرة في نهر من ماء الورد ، فأعادها الى الحياة. وخذ قصة القائد الذي خانه احد ضباطه ، فأطلق سهما طار عبر الجبال والأودية والغابات ، وبحث عن الضابط الهارب ، حتى وجده مختبئا في كهف ، فأصابه في قلبه وقتله. ويعلم القاريء بطبيعة الحال اننا نتحدث هنا عن سهم في التاريخ القديم ، وليس عن صاروخ كروز او طائرة درون.

والحق اني لم اكترث بقصة "المهابهاراتا" ، حتى قيض لي لقاء مع أديب هندي ، فتحدثنا عن الفن والفلسفة الهندية ، فذكرت قصة السهم الخارق ، على سبيل النكتة ، فتوقف الرجل وسألني بجد:

لماذ ترى ان هذا الشيء مستحيل؟..  اليس محتملا أن بعض الناس ، في وقت ما في الماضي ، استطاعوا فعل أشياء نعتبرها اليوم خوارق؟

والحق اني فوجئت بالسؤال ، فلم اتوقع ان أحدا يحمل قصة كهذه على محمل الجد. لكني وجدت بعد ذلك بسنوات ان مثل تلك المعتقدات شائعة جدا ، وان هناك من حاول ربطها بمعتقدات دينية ، فاصبحت مصونة من النقد العلمي والتاريخي ، اي تحولت من اقاصيص الى مسلمات. 

واخبرت استاذا لي عن القصة فشرح لي الدليل الذي يكثر استعماله في هذا النوع من الجدالات ، والذي يسمونه "قاعدة الامكان" او "دليل الامكان". وخلاصته انه اذا كان الشيء غير ممتنع بذاته ، على الله او على الناس ، فان حدوثه في الواقع ممكن ، ولا ينبغي انكاره دون تحقيق. والحق اني اقتنعت بالفكرة ، لكنه – رضوان الله عليه – بادر بالرد عليها ردا مفصلا ، خلاصته ان الله قادر على فعل مايشاء. لكن النقاش ليس في قدرة الله ، بل في حدوث الحادثة في التاريخ. ما لم يكن لدينا دليل على حدوثها ، فان الاصل انها لم تحدث ، ومجرد قول احدهم انها حدثت لا يغني عن الحاجة الى التحقق منها ، مثلما نتحقق من اي رواية تاريخية.

صبرة (صحيفة الكترونية)  16-يوليو- 2020 

 https://www.sobranews.com/sobra/71031 

مقالات ذات علاقة 

أزمان طيبة وأخرى .....!

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

بقية من ظلال الماضين

الخروج من قفص التاريخ

 سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

علم الوقوف على الاطلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

العيش في ثياب الماضين

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

الفكــرة وزمن الفكـرة

 في مبررات العودة الى التاريخ

  الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

 

15/07/2020

بماذا ننصح اينشتاين



ما وصل الينا من علوم المسلمين الاوائل ، كان في الاصل ميراثا وصلهم من أمم أخرى سبقتهم. ثم تعلم الاوروبيون من علوم العرب وطوروها. حتى وصل الدور الينا ، فتعلمنا بعض ما انتج الاوروبيون من معارف.
هذه طبيعة المعرفة. يتفاعل البشر من خلال الترجمة والسفر والعمل المشترك والنقاش والتعاون في تطوير الافكار والمشروعات ، بل كل عمل ينطوي على تفاعل بين فكرتين ، فينتج فكرة ثالثة جديدة.
البرت اينشتاين الضاحك غالبا (1879-1955)
سمعت الافكار السابقة في نقاش حول الدور المحتمل للطلبة المبتعثين ، في نقل "روح الحضارة" من المجتمعات التي درسوا فيها ، الى مجتمعنا. بعض المتحاورين أبدى تفاؤلا ، ومال آخرون الى التشاؤم. لكني وجدت النقاش بذاته مثيرا للاهتمام ، لأن المشاركين فيه كانوا جميعا من الطلبة المبتعثين ، ويتضح من نقاشهم ادراك تام للفارق بين دراسة علم ما واكتشاف روح العلم او روح الحضارة.
نعلم ان مئات الالاف من الطلبة العرب قد درسوا في الجامعات الغربية خلال العقد الحالي ، او شاركوا في برامج علمية او تدريبية في اطارات مماثلة.
ترى ما هي احتمالات ان يساهم هؤلاء في اطلاق نهوض حضاري ، او نقل روح الحضارة التي مكنتهم من تعلم شيء كان مفقودا في بلدانهم؟
لقد وجدت معظم المتحاورين متشككا في هذا. وهم يقولون ببساطة ان الذين عادوا سينفقون وقتا غير قليل في البحث عن وظائف ، ثم تستهلكهم دوامة الحياة الجارية ، فينسون ما فكروا فيه في سنوات الدراسة ، ويكتفون بما يفعلون اليوم.
وشعرت بالأسف وانا اسمع هذا التصوير. فقد كان مخيبا للأمل بقدر ما كان واقعيا . نعلم انه واقعي لأننا رأيناه عند آلاف الطلبة ، الذين تخرجوا من الجامعات المحلية والاجنبية في سنوات سابقة. هؤلاء لم يكونوا اقل طموحا ، ولا أقل رغبة في بناء وطنهم. ثم ان عددا منهم قد حصل على الفرصة التي يسعى اليها ، فاقترب من مركز القرار او بات جزء منه. لكن التغيير الذي احدثه كان ضئيلا. فهل كانت العلة فيه ام في المجتمع ، ام في عوامل اخرى غير هذا وذاك؟.
راود ذهني تفسير الاستاذ ابراهيم البليهي ، الذي يدعي اننا عاجزون عن تقليد الامم المتحضرة ، فضلا عن منافستها ، لسبب واحد هو شعورنا بالاستغناء عن الآخرين. يتخذ هذا الشعور صورا متعددة ، من بينها المبالغة في تصوير قيمة موروثنا العلمي او تاريخنا السياسي والديني ، او حتى واقعنا الراهن.
واقع الحال أننا مثل بقية الأمم ، لدينا نقاط قوة ونقاط ضعف. ونعلم لو صارحنا انفسنا ، بان نقاط ضعفنا أكثر ، لأن المعيار اليوم ليس عندنا بل في الغرب. معايير القوة والتقدم والعظمة هي المتعارفة في الغرب وليس غيره.
يقول البليهي ان الواحد منا لو التقى  البرت اينشتاين ، ابرز علماء العصر ، لبادر في التنظير عليه وتعليمه. اني اجد هذا متجسدا في عجزنا عن الاستفادة من بعضنا البعض ، واصرار كل واحد فينا على ان يكون معلم الآخرين ، من الأهل والاغراب ، بل رأيت من يعلم الامريكان كيف ينتخبون زعماءهم.
أحاول ان لا اقتنع بهذا الرأي. لكني اجد كل يوم من يبالغ في تصوير الواقع ، كما يبالغ في انكار نقاط الضعف ، بينما ينشغل في تفاصيل عيوب الآخرين ونواقصهم. قد لا يكون هذا المثال معبرا عن الواقع بأكمله. لكن لا شك ان تكراره سوف يؤكد شعور "الاستغناء" ، ولو التقينا اينشتاين لربما حدثناه عما ابدعه اسلافنا في الفيزياء.
الشرق الاوسط الأربعاء - 24 ذو القعدة 1441 هـ - 15 يوليو 2020 مـ رقم العدد [15205]

08/07/2020

الحرية والانفلات



يبدو لي ان المجتمعات العربية بشكل عام ، لا تنظر بعين الرضا الى فكرة الحرية. لعلها تتمناها ، لكنها في الوقت عينه ، تخشى عواقبها ، كما ترتاب في نوايا المؤمنين بها والداعين اليها. ان السبب الابرز للارتياب في الحرية ، هو القلق من الانفلات الاجتماعي. 
حين يدعو شخص ما لاحترام قيمة الحرية او ضمانها لكافة الناس ، فان قليلا من الناس سيناقشه في فوائد الحرية واضرارها كقيمة قائمة بذاتها. اما اكثر الناس فسوف يرد عليه بالقول مثلا: ولكن اقرار الحرية سيزيد من التمرد على التقاليد ، وسوف يشجع الفتيات والفتيان على التمرد على الآداب العامة ، وربما تجدهم في الاسواق والمتنزهات بملابس غير لائقة ، وقد يكرر الكذبة التي شاعت في السنوات الماضية "هم لايريدون حرية المرأة بل حرية الوصول اليها". وقد تسمع ايضا من يقول: ومن يضمن ان الحرية لن تمنح فرصة للمرتد عن الدين ، وداعية التطبيع مع العدو ، او المحرض على الارهاب ، كي يعلنوا اراءهم في المجال العام ، فيتمكنوا من استقطاب مناصرين لمبادئهم. وهذا يؤدي في نهاية المطاف ،  الى توسيع شريحة المنحرفين عن الطريق المستقيم.
اقول ان هذا ما يقال في الغالب. وهو يكشف عن حقيقة مؤلمة ، فحواها ان غالبية العرب لا يفكرون في الحرية كموضوع قائم بذاته ، او كقيمة سامية هي السر الاعظم في ازدهار العلم وارتقاء الانسان الفرد ، وتقدم المجتمعات الانسانية ككل.
بدلا من هذا فانهم ينظرون الى قيمة الحرية من زاوية اخلاقية بحتة. فهم ينطلقون من فرضية فحواها ان شيوع المفاسد والنزاعات الاجتماعية ، سببه ضعف الانضباط الاجتماعي ، اي – على وجه التحديد – تمرد الاصلاحيين والاجيال الجديدة على الموروث القيمي ومجموعة التقاليد التي تحمي التراتبية الاجتماعية.
من حيث المبدأ فاني أرى هذا الاعتبار بعيدا جدا عن جوهر مفهوم الاخلاق. وان حجب الحريات الفردية بذريعة الحفاظ على الاخلاق ، هو مجرد لعب بالكلمات. لكن هذا نقاش لايتسع له المجال اليوم. والذي أريد التركيز عليه هو ان إغفال الحرية كقيمة عليا مستقلة ، كلفنا خسائر عظيمة في مجالات أساسية لحياتنا ، من بينها تعزيز الرابطة الاجتماعية وتطوير الاخلاق العامة ، ومنها توسيع الحياة العلمية وتجديد الفكر ، فضلا عن زيادة الثروة الوطنية. نحن نخسر في كل واحد من هذه المجالات ، لاننا معرضون عن  تبني قيمة الحرية.
اعلم بطبيعة الحال ان القبول بهذا ، سيأتي بالكثير من المنغصات والأمور غير المحببة الى نفوس بعضنا. لكن علينا ان نسائل انفسنا من دون مناورة او مداورة: هل الذي تحبه نفوسنا معيار للخطأ والصواب ، وهل الذي ورثناه عن ابائنا ، من مفاهيم واعراف وقواعد تفكير ، قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟.
سوف نكون اقرب الى العقلانية ، واقرب الى احترام الذات الانسانية ، بمجرد الاقرار بأن مانعرفه ليس حقا مطلقا ، وان ما لدى الاخرين الذين جربوا الحياة في ظل الحرية ، ليس باطلا مطلقا. الذي عندنا مثل الذي عندهم – مهما بالغنا في تبجيله – خليط ضخم يحتمل الصواب والخطأ ، وان علينا تشغيل عقولنا في اختيار ما نظنه مفيدا وما اثبتت التجارب فائدته.
تجربة المجتمعات التي تبنت الحرية في الماضي والحاضر ، تكشف دون لبس عن خطأ التفكير في الحرية من زاوية كونها مشكلة او سببا للانفلات. هذا التجارب بذاتها حجة علينا تستدعي التأمل.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 ذو القعدة 1441 هـ - 08 يوليو 2020 مـ رقم العدد [15198]
مقالات ذات علاقة



01/07/2020

ملاحظات على حديث قصير – غريب


انه شريط فيديونشر الاسبوع الماضي على الانترنت ، شريط لا يصل طوله ثلاث دقائق ، يوجز الفارق بين حرية التفكير التي ينبغي ان تكون مطلقة ، وحرية الفعل والسلوك التي ينبغي ان تلتزم حدود القانون. ردود الفعل على هذا الشريط كشفت لي ان قيمة رفيعة مثل الحرية لازالت غريبة في ثقافتنا العامة. ولذا لا يبعد ان ترى اناسا يديرون رؤوسهم قائلين: ولكن الحرية مفهوم غير واضح .. فما هي الحرية التي تقصدها؟.
هذا القول مما ينطبق عليه عنوان "المضحك المبكي".. فمن الذي لايعرف معنى الحرية في هذا العالم ، لاسيما في هذا العصر؟.

لكن هذا يهون حين تقرأ لاستاذ جامعي بارز قولا فحواه ان حرية التفكير مثل حرية السلوك ، يجب ان تحكمها  قواعد. ويستدل على هذا بأن جماعة متعصبة مثل "داعش" انحرفت أولا على المستوى الذهني ، ثم تمظهر انحرافها في السلوك اليومي.
لقد لاحظت تكرار ا ان النقاش حول قيم عليا ، كالمساواة والحرية والنظام ، يستدرج سريعا نقائض متخيلة من زاويتين: زاوية تتعلق بتطبيق هذه القيم في الغرب. فكأن المعترض فهم ان الكلام عن المساواة مثلا ، هدفه تقليد نمط العيش الاوربي. وهذا بدوره يستدعي أزمة الهوية والعلاقة المتازمة بين المسلمين والحضارة الغربية. اما الزاوية الثانية ، فتتمثل في السؤال الأبدي المضمر ، الذي فحواه: اذا كانت المساواة قيمة طيبة فلم أمر الاسلام بخلافها ، واذا كانت الحرية امرا طيبا فلم نرى ان الدعوة اليها تأتي من الغرب ، بينما يعارضها المسلمون؟.  
أقول ان هذا سؤال مضمر. لأن الغالبية تدرك انه غير معقول. فعدم معرفتنا سابقا بهذه القيم ، او عدم اكتراثنا بها ، لايعني انها معيبة. انهم يدركون حقا انها قيم رفيعة ، لكنهم لايشعرون بالارتياح النفسي لها بذاتها ، كما لا يرتاحون لفكرة ان يتقبلوا دعوة قادمة من الغرب ، وكان بالامكان ان تأتي من داخل تراث المسلمين ، كي تكون امتدادا لنفس النسيج ، لاعضوا غريبا يجري اقحامه كيفما اتفق.
احتمل ايضا ان عدم ارتياحنا للحديث حول الحرية والمساواة وأمثالها من القيم ، مرجعه خوف دفين من فقدان النظام القيمي ، الذي نتخيل ان سنده الوحيد هو التوزيع الموروث للسلطة في المجتمع: الاباء والامهات بالنسبة لابنائهم والرجال على نسائهم وهكذا.
هذا الموقف مدعوم ثقافيا بكم ضخم من التوجيه الايديولوجي ، تلقيناه خلال الربع الاخير من القرن العشرين ، على يد الموجهين والاساتذة الذين تولوا دفة التعليم والثقافة في بلادنا. وقد استهدف هذا التوجيه بصورة متعمدة ، تأكيد النظام الابوي في المجتمع ، وتعزيز منظومة قيمية تستهدف عن قصد ، تعميق أوجه التناقض مع المجتمعات الصناعية. والمبرر في هذا هو خوف التأثر بالأمم الغالبة ، على النحو الذي قرره عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة.
اختتم هذه الملاحظات بالاشارة الى حاجتنا لتعميق معرفتنا بالقيم الرفيعة في حياة البشر ، مثل قيمة الحرية والمساواة والعدل وحقوق الانسان والتراحم والنظام ، وامثالهم ، وذلك بجعلها موضع نقاش لا يتوقف ، من اجل ان نعزز في أذهاننا وفي نفوسنا جميعا ، الاسس الكبرى التي تقوم عليها الحياة الانسانية الكريمة ، والعلاقات البناءة في داخل المجتمع ، وبين مجتمعنا ونظرائه. 
نحن بحاجة حقا الى هذا النقاش ، كي لا نتأخر عن مسيرة البشرية فوق ما تأخرنا حتى الآن.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 ذو القعدة 1441 هـ - 01 يوليو 2020 مـ رقم العدد [15191]

24/06/2020

تحولات الهوية الفردية في العالم الآتي


قلت في مقال الاسبوع الماضي ان السنوات القليلة القادمة ، ستشهد بزوغ عالم مختلف عما عرفناه حتى اليوم. حظيت هذه الفرضية بنقاش مستفيض في الاشهر الماضية ، وتبناها عدد معتبر من الباحثين والخبراء في مختلف المجالات.
في مثل مجتمعنا يستمد الفرد هويته من عائلته والمجتمع المحيط. ومع توسع معارفه يعيد تشكيل هويته ، اي جوابه على سؤال: من انا وما هي العلاقة التي تربطني بعالمي. بقدر ماينخرط الانسان في الحياة الجديدة ويستعمل وسائلها ، فانه يتباعد عن تقاليد وقيم الجماعة التي ينتمي اليها ويعرف نفسه من خلالها.
- لماذا نفترض ان السنوات القادمة ، ستشهد تطورا كبيرا في هذا الجانب؟
- يرتبط هذا بفرضية أتبناها ، تربط بين المعرفة والقوة. وفي الوقت الحاضر يستعمل دارسو التنمية مصطلح "التمكين" الذي يعني على وجه الدقة: ان تسيطر على اقدارك وان تدير حياتك بنفسك. نتيجة التمكين هي اكتساب القوة الذاتية. وبقدر ما تملك من قوة في ذاتك ، فان عالمك سيتحول. كمثال فان الثري والعالم والقوي البدن ، يملكون خيارات اكثر من الفقير والجاهل والمريض.
في هذا الزمان يرتبط اكتساب القوة بالمعرفة. فالاكثر معرفة هو الاكثر قدرة على كسب القوة ، سواء كانت مالا او مكانة او قدرة على التاثير في المحيط. ولو نظرت الى قائمة الاشخاص الاعظم ثروة والاقوى تأثيرا في عالم اليوم ، لوجدت ان 80% منهم لم يرثوا هذه القوة عن عائلاتهم ، بل صنعوها بانفسهم ، حين استثمروا المعرفة الجديدة او استثمروا فيها او في أدواتها.
ثمة عاملان جديدان ، في غاية الأهمية ، يحددان اتجاهات القوة:
العامل الاول يتعلق بتوسع فرص التمكين نتيجة لتضاعف حجم المعرفة ، مما يتيح لأعداد اكبر من الناس اكتسابها واستثمارها في كسب القوة. وفقا لتقديرات وزارة التربية المصرية سنة 2000م فان حجم المعرفة كان يتضاعف مرة كل 18 شهرا. ويقارن خبراء بين هذا وبين قاعدة معروفة في صناعة اشباه الموصلات هي "قانون مور" الذي فحواه ان قابلية خزن البيانات ومعالجتها في اجهزة الحاسب تتضاعف مرة كل 18 شهرا.
نعلم الان ان توفر اجهزة معالجة البيانات الضخمة ، والتحول السريع نحو مفهوم انترنت الاشياء ، وتفاقم سرعة نقل البيانات عبر اجهزة الجيل الخامس ، ستؤدي جميعا الى مضاعفة المعارف المتاحة للناس ، مرة كل بضعة أشهر. هذا سيجعل المجال مفتوحا دائما للقادمين الجدد ، دون خوف جدي من تقلص السوق.
اما  العامل الثاني فيتعلق بتنوع المعارف وتاثيرها. ومثالنا البارز  هو الاعداد الضخمة من الشبان الذين طوروا برامج حاسوبية او اقاموا شركات ناشئة ، او نجحوا في انتاج محتوى جذاب للمتابعين ، فباتوا مؤثرين في محيطهم او في العالم. لقد اتاح العالم الشبكي ملايين الفرص الجديدة ، التي تعتمد جميعا على استثمار المعرفة او الاستثمار فيها. هذه الفرص تعيد تشكيل صورة العالم الان ، في السياسة وفي الاقتصاد والثقافة والفن ، بل وحتى في جوانب كانت بعيدة نسبيا مثل البيئة والطب والهندسة.
العالم كله يتغير ، لان اعدادا متزايدة من الناس تتواصل فيما بينها ، فتؤلف رابطة على ارضية التوافق في الاهتمامات. وتنشأ معها نطاقات مصالح جديدة ، تجتذب الافراد بعيدا عن اطاراتهم الاجتماعية التقليدية ، وما يرتبط بها من انشدادات وعلاقات. وتبعا لهذا يعيد الافراد تعريف انفسهم وعلاقتهم مع العالم ، على ضوء الواقع الجديد الذي يعيشون فيه.
هذا ببساطة ما نسميه التحول في الهوية. 
الشرق الاوسط الأربعاء - 3 ذو القعدة 1441 هـ - 24 يونيو 2020 مـ رقم العدد [15184]

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...