قلت في مقال الاسبوع
الماضي ان السنوات القليلة القادمة ، ستشهد بزوغ عالم مختلف عما عرفناه حتى
اليوم. حظيت هذه الفرضية بنقاش مستفيض في الاشهر الماضية ، وتبناها عدد معتبر من
الباحثين والخبراء في مختلف المجالات.
في مثل مجتمعنا يستمد الفرد هويته من
عائلته والمجتمع المحيط. ومع توسع معارفه يعيد تشكيل هويته ، اي جوابه على سؤال:
من انا وما هي العلاقة التي تربطني بعالمي. بقدر ماينخرط الانسان في الحياة
الجديدة ويستعمل وسائلها ، فانه يتباعد عن تقاليد وقيم الجماعة التي ينتمي اليها
ويعرف نفسه من خلالها.
- لماذا نفترض ان السنوات القادمة ، ستشهد
تطورا كبيرا في هذا الجانب؟
- يرتبط هذا بفرضية أتبناها ، تربط بين
المعرفة والقوة. وفي الوقت الحاضر يستعمل دارسو التنمية مصطلح "التمكين"
الذي يعني على وجه الدقة: ان تسيطر على اقدارك وان تدير حياتك بنفسك. نتيجة
التمكين هي اكتساب القوة الذاتية. وبقدر ما تملك من قوة في ذاتك ، فان عالمك سيتحول.
كمثال فان الثري والعالم والقوي البدن ، يملكون خيارات اكثر من الفقير والجاهل
والمريض.
في هذا الزمان يرتبط اكتساب القوة
بالمعرفة. فالاكثر معرفة هو الاكثر قدرة على كسب القوة ، سواء كانت مالا او مكانة
او قدرة على التاثير في المحيط. ولو نظرت الى قائمة
الاشخاص الاعظم ثروة والاقوى تأثيرا في عالم اليوم ، لوجدت ان 80% منهم لم
يرثوا هذه القوة عن عائلاتهم ، بل صنعوها بانفسهم ، حين استثمروا المعرفة الجديدة
او استثمروا فيها او في أدواتها.
ثمة عاملان جديدان ، في غاية الأهمية ،
يحددان اتجاهات القوة:
العامل الاول يتعلق بتوسع فرص التمكين نتيجة
لتضاعف حجم المعرفة ، مما يتيح لأعداد اكبر من الناس اكتسابها واستثمارها في كسب
القوة. وفقا لتقديرات وزارة التربية المصرية سنة 2000م فان حجم المعرفة كان يتضاعف
مرة كل 18 شهرا. ويقارن خبراء بين هذا وبين قاعدة معروفة في صناعة اشباه الموصلات
هي "قانون
مور" الذي فحواه ان قابلية خزن البيانات ومعالجتها في اجهزة الحاسب
تتضاعف مرة كل 18 شهرا.
نعلم الان ان توفر اجهزة معالجة
البيانات الضخمة ، والتحول السريع نحو مفهوم انترنت الاشياء ، وتفاقم سرعة نقل
البيانات عبر اجهزة الجيل الخامس ، ستؤدي جميعا الى مضاعفة المعارف المتاحة للناس
، مرة كل بضعة أشهر. هذا سيجعل المجال مفتوحا دائما للقادمين الجدد ، دون خوف جدي
من تقلص السوق.
اما العامل الثاني فيتعلق بتنوع المعارف وتاثيرها. ومثالنا البارز هو الاعداد الضخمة من الشبان الذين طوروا برامج
حاسوبية او اقاموا شركات ناشئة ، او نجحوا في انتاج محتوى جذاب للمتابعين ، فباتوا
مؤثرين في محيطهم او في العالم. لقد اتاح العالم الشبكي ملايين الفرص الجديدة ،
التي تعتمد جميعا على استثمار المعرفة او الاستثمار فيها. هذه الفرص تعيد تشكيل
صورة العالم الان ، في السياسة وفي الاقتصاد والثقافة والفن ، بل وحتى في جوانب كانت
بعيدة نسبيا مثل البيئة والطب والهندسة.
العالم كله يتغير ، لان اعدادا متزايدة
من الناس تتواصل فيما بينها ، فتؤلف رابطة على ارضية التوافق في الاهتمامات. وتنشأ
معها نطاقات مصالح جديدة ، تجتذب الافراد بعيدا عن اطاراتهم الاجتماعية التقليدية ،
وما يرتبط بها من انشدادات وعلاقات. وتبعا لهذا يعيد الافراد تعريف انفسهم
وعلاقتهم مع العالم ، على ضوء الواقع الجديد الذي يعيشون فيه.
هذا ببساطة ما نسميه التحول في
الهوية.
الشرق الاوسط الأربعاء - 3 ذو
القعدة 1441 هـ - 24 يونيو 2020 مـ رقم العدد [15184]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق