المشكلة
التي تواجه التيار الاسلامي في العراق هي ذات المشكلة التي تواجه هذا التيار في
جميع دول العالم العربي وبعض الدول الاسلامية الاخرى. اي مشكلة الانتقال من شعار
"الاسلام هو الحل" الى بيان طبيعة هذا الحل وتفصيلاته .
وفي
ظني ان على الاسلاميين العرب دراسة التجربة السياسية لنظرائهم في تركيا وماليزيا .
ففي هذين البلدين لم يتردد الاسلاميون في القبول بالنظام السياسي العلماني ما دام
يتيح فرصا متساوية للجميع ، الاسلاميين وغيرهم . وفي التجربة التركية بالذات ، فان
المجال المتاح للاسلاميين كان ضيقا الى ابعد الحدود لكنهم واصلوا مجاهدة ذاتهم
ومجاهدة الغير حتى استطاعوا توسيع ذلك المجال وتحقق لهم ما هو متاح لغيرهم من فرص
متساوية .
في كلا التجربتين ، فقد كان هناك من يدعي ان حزبا اسلاميا لا يستطيع
قيادة دولة ذات دستور علماني ، لأن مقتضى ذلك هو التعهد بحماية هذا الدستور
والدفاع عنه ، وهو يقتضى ايضا القبول – على مستوى الفعل - بالكثير من السياسات
وقواعد العمل المخالفة للشريعة .
وفي المقابل كان هناك من يدعي ان ما لا يدرك كله
لا يترك اقله ، وان الاسلاميين لا يستطيعون ان ينصبوا انفسهم بديلا عن الشعب كله ،
بل وحتى لو استطاعوا فليس ذلك من حقهم فالدولة هي دولة الشعب اولا واخيرا وليست
دولة الجماعة الاسلامية . بالنسبة
لماليزيا مثلا ، فان المسلمين يمثلون اقل من ثلثي السكان وكان التفكير في اقامة
نظام اسلامي مدعاة لاستثارة المخاوف العرقية والدينية وربما تفكيك البلاد . لهذا
فان المجموعات الاسلامية الرئيسية ركزت
بدلا من ذلك على البرامج التي يسعى اليها جميع الناس ، فهي اوضحت بشكل لا يقبل
اللبس انها مع الحريات العامة والتزمت بحماية التعددية الدينية والثقافية واللامركزية
في الحكم . وفضلا عن ذلك فقد قدمت برنامجا لتحفيز الاقتصاد الوطني يكفل تحويل
البلاد الى دولة صناعية وتوفير مصادر عيش كريم للجميع .
بين بداية السبعينات
ونهاية التسعينات الميلادية تحولت ماليزيا فعليا من الاعتماد على صادرات المواد
الخام الى اقتصاد متعدد المصادر يعتمد بشكل رئيسي على تصدير المواد المصنعة ولا
سيما الالكترونيات . وكان هذا التحول ثمرة لبرنامج طموح قام على تطوير هيكل
التعليم والتدريب وتشجيع الاستثمار في قطاع الصناعة . المظهر العام لماليزيا اليوم
يعطي صورة عن دولة متقدمة وغنية ذات شعب متدين . لكن في الوقت نفسه لا يتحدث احد
عن فرض الدين بالقوة ولا عن تقييد الحريات العقيدية والثقافية ، ولهذا فان الناس
لا يرون اي تناقض بين التزامهم باحكام الدين وتمتعهم بحرية كاملة في العمل والسلوك
والمظهر والعلاقة مع الغير. بكلمة اخرى فهم يطبقون دينا اختاروه بمحض ارادتهم ولم
يفرضه عليهم احد ، ولذلك فهو دين منسجم ومتناغم مع كل ابعد الحياة الاخرى.
التجربة
التركية هي الاخرى جديرة بالتامل . فقد وصل الاسلاميون الى السلطة في الوقت الذي
كان اقتصاد البلاد على وشك الانهيار، بل ان القطاع المالي كان قد انهار فعلا . في
تلك اللحظة لم يضع الحكام الجدد وقتا في الخطب حول مكارم الاخلاق او فضل الالتزام
بتعاليم الدين . اعلى القيم الدينية هو توفير فرص العيش الكريم لعامة الناس ،
واثبات ان الاسلام اذا اتى فانه ياتي لا يضيق على الناس ما توسعوا فيه . لا زال
الوقت مبكرا للحكم على التجربة التركية ، لكن من الواضح حتى الان انها تتقدم بثبات
، فقد تجاوزت البلاد حدود الخطر على المستوى الاقتصادي ، كما ان مساحة الحريات
العامة قد اتسعت في ظل الاسلاميين بصورة لم يسبق لها مثيل . التعدد الثقافي
والتحول الديمقراطي يتعزز هو الاخر يوما بعد يوم .
ما
يحتاجه الاسلاميون العرب ، في ظني ، هو التامل في كلا التجربتين . الاسلاميون
العراقيون بشكل خاص بحاجة الى التقليل من انشغالهم المكثف بالخطب والكلام الصحافي
والتعبوي ، والتفكر مليا فيما يستطيعون تقديمه للعراقيين ، كل العراقيين ، من
برنامج سياسي يعيد تشكيل النظام ، فلربما كان العراق فرصة لاقامة ماليزيا الشرق
الاوسط. لا يهم الناس ان يحكمهم رجل يسبق اسمه لقب الدكتور او المهندس او الشيخ ،
ولا يهمهم ان يكون الحاكم رجلا او امرأة ، ما يهم في نهاية المطاف ، هو البرنامج
الذي سيقوم الحاكم بتطبيقه ، البرنامج الذي ياتي بالحرية والرفاه للجميع ، او ياتي
بالكبت والفقر للجميع.
(
السبت - 29/10/1425هـ ) الموافق 11 /
ديسمبر/ 2004 - العدد 1273