06/02/2001

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم


اقامة الدولة الخاضعة لسيادة الدين هو الهدف الاسمى لجميع فصائل الحركة الاسلامية ، والامنية الغالية على قلوب رجالها ، لا فرق في هذا بين من يوصفون بالاعتدال ومن يوصمون بالتطرف ، ولا يحتاج الامر الى كثير من الحجاج ، فمعظم ادبيات الحركة تتحدث عن هذا الهدف ، وتنظر اليه باعتباره حتمية تاريخية ، سوف تصبح يوما ما ضمن دائرة الممكنات . لقد كان هذا هدف الحركة يوم لم يكن لها دور في السياسة ، ولايزال اسمى اهدافها بعد ان اصبحت قوة في الشارع و لاعبا بارزا في ميدان السياسة .

ظهرت فكرة الحاكمية كهدف ومحور للعمل السياسي على يد المفكر المصري الراحل سيد قطب ، الذي ربط اسلمة السلطة بالعقيدة ، واعتبر اقامة الحكومة المؤمنة تفريعا عن الاعتقاد الضروري بالتوحيد (توحيد الالوهية وافراد الله بها معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل ولامراء والحكام ورده كله إلى الله ، السلطان على الضمائر والسلطان على الشعار والسلطان على واقعيات الحياة والسلطان في المال والسلطان في القضاء والسلطان في الارواح والابدان .. لا اله إلا الله ثورة على السلطان الارضي  الذي يغتصب اولى خصائص الالوهية وثورة على الاوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم ياذن بها الله) ([1]) ويشير قطب إلى ان عدم تبني المجتمع لحاكمية الله يعبر - بصورة أو باخرى - عن نقص اعتقادي ، ولهذا فهو يطالب باقامة (المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة : لا اله إلا الله ، وان الحاكمية ليست إلا لله ، ويرفض ان يقر بالحاكمية لاتحد من دون الله ، ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة .. وحين يقوم هذا المجتمع فعلا تكون لـه حياة واقعية تحتاج إلى تنظيم والى تشريع  ، وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع لقوم مستسلمين اصلا للنظم والرائع ، رافضين اصلا لغيرها من النظم والشرائع) ([2]) .

ولم يبذل قطب جهدا في شرح وتعريف الفكرة التي عرضها ، ولعله لم يحصل على الفرصة اللازمة لتبين مدى الاهمية والخطورة التي انطوت عليها ، فقد كانت نتاج السجن ، ولم يطل به العمر بعد ذلك طويلا حتى استشهد ، لكن يمكن من خلال القراءة المتأنية في كتابه هذا (معالم في الطريق) وفي تفسيره للايات المتعلقة بالموضوع في تفسير (في ظلال القرآن) يمكن الجزم بانه كان يعني بصورة محددة نظاما سياسيا شموليا ، تكون مهمة الدولة الرئيسية فيه إلغاء كل ما يمت إلى غير الاسلام بصلة من الانظمة والسياسات وطرق العمل والعادات والاعراف وموارد العيش وانماطه وكذلك ادوات التثقيف ومناهج التعليم والاعلام ، وكل امر عام دون استثناء ، ولتحقيق هذا فلا بد من استبعاد أو تصفية قنوات ومصاادر التاثير الثقافي المخالف للاسلام ولا سيما الغربي ، الذي يعتبره مصدرا لجاهلية جديدة (لم تكن وظيفة الاسلام ان يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب ، ولكن كانت وظيفته كذلك ان يغير منهج تفكيرهم ، وتناولهم للتصور والواقع . ذلك انه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة) ([3]) ويذكر هذا التصور بالثورة الثقافية في الصين ، التي ارادها ماو تسي تونغ وسيلة لايجاد قطيعة تامة مع الثقافة الموروثة عن العصر السابق على الثورة الشيوعية ، واعادة تثقيف الشعب كله وفق النموذج الذي اقترحة للصين الجديدة .

وبعد قطب ، تكررت فكرة اعتبار  المجتمع المسلم الذي لا يطبق مفاد حاكمية الله ، جاهليا ، عند سعيد حوى ، الذي يعتبر هو الآخر مفكرا بارزا في الاخوان المسلمين ، الذي يعرف المجتمع الجاهلي بأنه (كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده . متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي وفي الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية ، وبهذا التعريف تدخل في إطار "المجتمع الجاهلي" جميع المجتمعات القائمة اليوم في الارض فعلا) ([4]) ولكي لا يترك مجالا لاي تفسير آخر ، يعود للتاكيد على ان (المجتمعات التي تزعم لنفسها انها مسلمة) داخلة في هذا الاطار ايضا (لانها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها ، فهي -وان لم تعتقد بالوهية أحد الا الله - تعطي اخص خصائص الالوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها) ([5])

وعدا عن رد الاعتراضات المتعلقة بتجهيل المجتمع ، فلم تكن فكرة الحاكمية الالهية موضع نقاش في الفترة السابقة لأوائل الثمانينات ، اذ ليس ثمة حركي يتصور وجها للشك في ضرورة السعي لتمكين الشريعة ، ولهذا فان احدا لم ينظر الى الامر من زاوية امكانية تحقيقه ، ولم يذهب احد الى نقاش تفصيلاته العملية ، فضلا عن طرحه بكليته على مائدة النقد ، لكن التطورات التي حدثت في العالم  منذ منتصف الثمانينات ، ولاسيما تهاوي المبررات النظرية لنظام الحكم الشمولي ، اضافة الى اخفاق بعض فصائل الحركة في تطوير رصيدها الشعبي الى مشاركة سياسية ، قد اوجد حاجة الى اعادة تقييم الاهداف واستراتيجيات العمل التي تتبناها الحركة ، ومن بينها مسألة الحاكمية ، ومضمون السلطة التي تكافح في سبيل بنائها ، وقد تعرضت آراء قطب إلى الكثير من النقد ، ووصف الشيخ القرضاوي هذا النسق المتشدد في طرح الفكرة الاسلامية بانه تعبير عما وصفه بفقه المحنة (فقه المحنة او فكر المحنة الذي ظهر في زمن المحن العاتية التي هبت على الحركة الاسلامية في الخمسينات والستينات … وهو فكر حي دافق لكنه ينضح بتكفيرالمجتمع من حوله ،  وينظر الى الناس والحياة بمنظار اسود ، ويكاد يعزل دعاته عن المجتمع ويشعرهم بالاستعلاء عليه ،  وهو فقه مازال له تاثيره على كثير من كتاب الحركة الاسلامية وموجهيها ، وما زال يصبغ بقدر أو بآخر كثيرا من النتاج التربوى والدعوي والتوجيه السياسي) ([6]) ويريد القرضاوي التاكيد على كون هذا النسق من التفكير ، نتاج ظرف غير طبيعي ، واحادي البعد ، فلا ينبغي ان يكون معياريا .

وبدلا من ذلك فهو يحاول إعادة تعريف فكرة الحاكمية بوضع مجالها الموضوعي ضمن تصنيف مختلف ، حيث يذهب إلى ان (مبدأ الحكم للشعب الذي هو اساس الديمقراطية ليس مضادا لمبدأ الحكم لله الذي هو اساس التشريع الاسلامي انما هو مضاد لمبدأ الحكم للفرد الذي هو اساس الدكتاتورية) ([7]) على خلاف رأي قطب الذي قرر ان حكم الشعب يساوي العبودية لغير الله ([8]) ويبدو ان تحليل قطب كان يستهدف معالجة الايديولجيا الحاكمة ، أي كون الشريعة اساسا للحكم ، بينما اراد القرضاوي معالجة أحد التصريفات المتصورة لراي قطب ، وهي كون الشعب مصدرا لمشروعية السلطة ، أي التفويض القانوني لشخص أو هيئة معينة بممارسة الحكم .

 وتتضح معالجة القرضاوي من خلال تصنيفه للمجالات الموضوعية التي تنصرف اليها فكرة الحاكمية ، حيث يقسمها إلى حاكمية كونية قدرية بمعنى ان الله هو المتصرف في الكون "والله يحكم لا معقب لحكمه" ، وحاكمية تشريعية امرية وهي حاكمية الالزام والتكليف والامر والنهي وهذه لا يرفضها مسلم  (المسلم الذي يدعو الى الديمقراطية ، انما يدعو لها باعتبارها شكلا للحكم يجسد مباديء الاسلام السياسية ، في اختيار الحاكم واقرار الشورى والنصيحة ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الجور ورفض المعصية ، خاصة اذا وصلت الى الكفر البواح) ([9]). ثم يقترح تكييفا فقهيا لتحكيم رأي الاكثرية فيرد على من قال بان الاسلام لا يعتد بها ، ومن استدل على هذا بما ورد من ايات تدم الكثرة وتمدح القلة ، فيقرر ان هذا القول مردود (لاننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم لا في مجتمع جاحد او منكر للدين ، ثم ان الثوابت لا يتدخل فيها التصويت وانما مرجعها الى الشرع انما التصويت في موارد الاجتهاد ، فاذا اختلفت الاراء في هذه فهل تترك بلا مرجح ؟ وقد ثبت بادلة من السنة ترجيح راي الاثر على راي الاقل كما ثبت في الامر باتباع السواد الاعظم واعتداد الفقهاء براي الجمهور "الاكثرية" في المسائل الخلافية ، والقول بان الراجح هو الحق يصدق في ما هو بين ومنصوص لا في المختلفات او الاجتهاديات ) ([10]) واخيرا يدعوالى تغيير في نسق الاستهداف ، ويدعو إلى اعتبار اقرار الحريات العامة ، الهدف المحوري للحركة الاسلامية في هذا العصر ([11]) .
ويظهر من الآراء المنشورة لحركيين بارزين ان (حاكمية الله) بمعنى اقامة النظام السياسي على فلسفة الاسلام واهدافه ، واعتبار الشريعة الاسلامية مصدرا للقوانين ومنظما للحياة العامة في الدولة ، يبدو انها لا تزال الهدف الاسمى للحركة الاسلامية ، لكن الذي اختلف فعلا هو طريقة الاستهداف وترتيب اولوياته ، كما اختلف فهم الحركيين لطبيعة الحاكمية المنشودة ومستلزماتها ، وكما قرر القرضاوي ان الهدف الفعلي هو اقرار الحريات العامة ، فان كثيرين اخرين يعتبرون انجاز الهدف مقدمة ضرورية قبل طرح الهدف الاعلى الذي لا يراد تحقيقه بالوسائل الانقلابية ، بل من خلال التفويض الشعبي ، بكلمة أخرى فان فكرة الحاكمية التي كانت بين المسلمات ، لم تعد الان في نفس الموقع ، فقد اختلف ترتيبها في سلم الاولويات ، كما اختلفت طبيعتها ومستلزماتها النظرية ايضا ، وحسب بن كيران القيادي في الحركة الاسلامية المغربية ، فان إعادة النظر في مسلمات الحركة جاءت نتيجة للممارسة السياسية الفعلية التي كشفت للحركة ابعادا في الساحة لم تكن قد اكتشتها أو تعرفت عليها قبلئذ (العمل السياسي ليس فرصة يتم تحينها لاقامة احلام غير قابلة للتطبيق ، بل هو مجال يساهم الواقع الاجتماعي بمعطياته وقواه المختلفة في صياغته ، والحركة الاسلامية او الجماعات العاملة في اطارها جزء من ذلك ، وليست مؤهلة وليس بمقدورها ان تتحمل ذلك بمفردها . سيكون الدور الاكبر للحركة هو التمكين للبعد الديني في الواقع السياسي تدريجيا حتى يكون له دور وتاثير اكبر .. بامكان الحركة الاسلامية القيام بهذا الدور بعد خروجها من السرية والخفاء والظلام الى الواقع بما يقتضيه ذلك من تنازل وتواضع وقبول بالاطراف الاخرى .. كذلك فالحركة تتوفر على كفاءات يمكنها ان تساهم لا في تغيير المنكر كله ، لكن على الاقل في نقل الواقع من منكر الى منكر اقل منه) ([12]) مثل هذا الرأي يعبر بدقة عن مرحلة جديدة في التفكير السياسي الاسلامي ، يقوم على القبول بالمشاركة في السياسة مع الغير ، بغض النظر عن متبنياتهم الايديولوجية ، وهو يعبر عن نقلة واضحة ، سياسية وفكرية ، من الموقف التقليدي الذي فحواه ان الاسلام - وتاليا الحركة الاسلامية - لا يقبل شراكة غيره الذي لا يتبنى مناهجه واهدافه .

من الواضح ان لكل شخص ، كما لكل جماعة ، الحق الكامل في تبني اي هدف يريد ، والسعي الى اي أمل يتمنى ، لكن الامر لا يتعلق بحقوق ، او متبنيات نظرية ، بل بامكانيات وفرص يحددها ميزان القوى الفعلي في ميدان السياسة ، فقد يتمنى الانسان اعظم الاشياء ، لكنه يفتقر الى مقدماتها ، فلا يعمل لها ، او يجاهد في سبيلها دون ان يوفق في الوصول .

وكانت هجمات المنافسين وسخريتهم ، سببا اضافيا للتعجيل بطرح الموضوع للنقاش ، اتخذ هؤلاء من الغموض المحيط بموضوع حاكمية الشريعة ، ذريعة لرجم الحركة وتاليب السلطات والقوى السياسية عليها ، يقول د. نصر ابو زيد (هذا المفهوم ـ الحاكمية ـ ينتهي على المستوى التطبيقي الى تحكيم بشر من نوع خاص ، يزعمون لانفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتاويل … اذا كانت حاكمية البشر يمكن مقاومتها والنضال ضدها وتغييرها بوسائل النضال الانسانية المختلفة ، واستبدال انظمة اكثر عدالة بها ، فان النضال ضد الفقهاء يوصم بالكفر والالحاد والزندقة ، بوصفه هرطقة وتجديفا ضد حكم الله ، ويصبح المفهوم بذلك سلاحا خطيرا ، يفقد البشر اية قدرة على تغيير واقعهم او تعديله ، لانه ينقل الصراع من معركة بين البشر والبشر الى معركة بين البشر والله) ([13]) ويظهر التركيز على رغبة رجال الحركة في التسلط باسم الدين ، بعض ما تنطوي عليه النفوس من مخاوف ، وقد استعير التصوير الاوربي للدولة القائمة على اساس الدين في العصور الوسطى ، وعرض باعتباره تجسيدا مماثلا لفكرة الدولة الدينية التي يريدها الاسلاميون ، يقول د. وحيد رأفت (دعاة تطبيق الشريعة يريدون ان يصبحوا  " كهنة آمون " من جديد ، لانهم وحدهم الذين يملكون تفسير الشريعة واقامة الثيوقراطية الدينية ، حيث سيطرة رجال الدين والحكم بالحق الالهي ) .
 مدنية لا دينية
وقد دأب الاسلاميون على انكار تهمة السعي الى نموذج السلطة التي تحكم استنادا الى التفويض الالهي ، كما فعل د. يوسف القرضاوي (دعاة الاسلام لم يدعوا الى دولة دينية بل الى دولة اسلامية .. فرق كبير بين الدولة التي تقوم  على اساس الاسلام ، والدولة الدينية التي عرفها الغرب النصراني في العصور الوسطى … الدولة الاسلامية دولة مدنية تقوم على اساس الاختيار والبيعة والشورى ، ومسؤولية الحاكم امام الامة وحق كل فرد في الرعية ان ينصح للحاكم .. الحاكم في الاسلام مقيد غير مطلق ) ويؤكد مصطفى مشهور المرشد العام للاخوان المسلمين على هذا الاتجاه (الذين يعادون التيار الاسلامي ينسبون اليه انه اذا وصل الى الحكم فسيقيم حكومة دينية ذات تفويض الهي … حكومتنا لن تكون حكومة مشايخ وانما حكومة من المتخصصين … حكومة مدنية في اطار الشرع .. حكومة ليست دينية ، ولكنها مدنية في اطار فكري معين ) [14].

البديل للدولة الدينية اذن هو الاسلامية ، والبديل للحكم المقدس هو الحكومة المدنية ، والمفهوم الاخير يعتبر جديدا في الادبيات الاسلامية ، وقد يكون ـ عندما نطابق العنوان على مفهومه السياسي ومخرجاته العملية ـ اكثر التطورات اهمية في تفكير الحركة الاسلامية الحديثة ، الا ان استقراره كثابت نظري في النسيج الثقافي للحركة ، يحتاج الى مزيد من التنظير والاسناد ، حتى تنتشر جذوره افقيا وعموديا في ثقافة الحركة وبرامجها التربوية وخطابها السياسي ، ان ظهور هذا المفهوم الجديد هو احد الثمار الطيبة للتعامل الايجابي مع النقد ، وهو يؤكد مرة اخرى ان النقد ـ ايا كانت اغراضه او مصادره ـ لا يخلو من فوائد ، حتى لو كان قاسيا موجعا .

يرجع الغموض المحيط بمسألة الدولة وحاكمية الشريعة  ، الى توقف الفقه الاسلامي عن معالجة القضايا المستجدة ، ولاحظت ان عددا بارزا من المفكرين واصحاب الراي من الاسلاميين ، قد شكا من ضمور الفقه السياسي ، وندرة البحوث الفقهية في المجالات المتعلقة بالسياسة العامة ، كما فعل د. باهنر ، ثالث رؤساء الحكومة الايرانية بعد الثورة (في السابق كنا نطلق شعارات تستهدف استعادة الثقة بالاسلام وبين رجال الدين والشباب ، ولتحديد الخط الفاصل بين الاسلام ونظام الطاغوت ، اما اليوم فاننا بحاجة الى تقديم الاجوبة حول مشروعنا … اصبحنا في مواجهة طوفان من الاسئلة ، ولانستطيع بالاتكال على عدد محدود من الاصول الثابتة للجواب على كل هذه الحاجات ) ([15]) ويرى آية الله منتظري ان سبب المشكلة ، هو الفجوة التي فصلت الفقهاء عن اصحاب القرار (بسبب انعزال الفقهاء عن السياسة ، اصبح البحث في السياسة والولاية وفروعهما متروكا في فقه الشيعة ، الا نادرا او تطفلا ) ([16]) كما لاحظ مرتضى الشيرازي ان عدم تصدي الفقهاء للشأن العام ، ادى الى قلب بعض المفاهيم او تحريفها او تركها ، كما حصل لموضوع الشورى الذي لم يحظ بعناية في البحث الفقهي (عدم القول بالشورى راجع الى عدم تصدي الفقهاء للولاية العامة .. الولاية الخاصة التي قال بها اكثرهم ، لا تتعدى الامور الحسبية الداخلة ضمن باب القضاء ، والمعلوم ان لا شورى في القضاء .. الامور الحسبية خارجة عن تخصص ادلة الشورى ) ([17]) ويميل د. القرضاوي ، إلى ان الفقه الاسلامي كله يعاني من اختلالات منهجية ، لكن (اكثر الخلل وقع في القه السياسي وهو فقه لم ياخذ حقه من البحث والعتعمق قديما كما اخذ فققه العبادات والمعاملات والانكحة ونحوها وهو كذلك يشوبه اليوم كثير من الغبش والتباس المفاهيم واضطراب الاحكام وتفاوتها في اذهان العاملين للاسلام تفاوتا يجعل المسافة بينهم كما بين الشرق والغرب) ([18]).
الطريق الى حاكمية الشريعة
يتفق الاسلاميون على مبدأ  حاكمية الشريعة ، لكنهم يختلفون على مفهومها وعلى سبل اخراجها من دائرة الفكرة الى ميدان العمل ، سنجد في ادبيات الحركة وممارستها ثلاثة خطوط رئيسية ، يمثل كل منها منهجا خاصا ، ينطلق من اجتهاد نظري وقد يكون نتاجا لمعطيات الواقع الاجتماعي لساحة العمل :

الاول : لا يتصور تطبيق الحاكمية منفصلا عن التزام النخبة الحاكمة بالمشروع الاسلامي ، النخبة المقترحة هنا هي ذات الجماعة .

الثاني : يدعو الى تمكين الناس من الاختيار وازالة الموانع التي تحول دون مشاركة الاسلاميين في التنافس السلمي على السلطة ، ان توافق الشعب على التصويت للتيار الاسلامي هو بذاته تعبير عن سيادة الاسلام .

الثالث : يتبنى اعادة صياغة النظم والقوانين السائدة لكي تتوافق مع معطيات الشريعة الاسلامية ، اي الاحلال التدريجي لعناصر الشريعة محل النظم الاخرى .

ويبدو ان الخط الاول هو الاكثر شيوعا بين فصائل الحركة ، لانها مثل كل حركة سياسية اخرى ، تضع  الوصول الى السلطة في راس اهدافها ، ولانها تراهن بالدرجة الاولى على تعديل حاسم في ميزان القوى ، يمكنها من تجاوز العقبات التي تحول عادة دون تطبيق متكامل لعناصر المشروع ، ان التعديل الحاسم المطلوب هو امتلاك القوة المادية ، والشرعية القانونية ، هذه القوة والشرعية مكثفة في اطار السلطة السياسية .

اما الخط الثاني فيتبناه الحركيون الذين يواجهون منافسة قوية في ساحات عملهم ، ونلاحظ ان معظم التطورات على مستوى الطرح السياسي ، قد حدثت في ساحات من هذا النوع ، كما هو الحال في الاقطار التي تشهد تعددية سياسية واضحة المعالم  ، يقول الاستاذ احمد بن يوسف (يرحب الاسلاميون بالديمقراطية لانهم مطمئنون الى خيار الشعب ) وتظهر التجارب الفعلية في ساحات مختلفة ان الاسلاميين كانوا من اكفأ القوى السياسية في تعبئة الجمهور وتحريك الشارع العام لصالحهم .

ومع تركيز الخطين السابقين على الجانب السياسي من الصراع ، فقد اختار الخط الثالث ان ينأى بنفسه عن ساحة السياسة ، واتجه الى التداخل مع التنظيم  القائم في المجتمع او السلطة ، مستفيدا من الامكانات المتاحة ، في اصلاح ما امكن من قوانين البلاد ، وسوقها باتجاه الانسجام مع الشريعة ، ورأينا تجليات لهذه الجهود على مستوى البنوك الاسلامية ، وفي مراكز التعليم والبحث العلمي والهيئات التشريعية ، وفي العالم الاسلامي نماذج كثيرة من هذا النوع ، مثل اللجنة التي اقامتها حكومة الكويت لمراجعة القوانين الجارية ، واقتراح صيغ لمطابقتها مع احكام الشريعة .
ومع ان عددا ملحوظا من الحركيين يساهم في اعمال من هذا النوع ، الا انه يعبر بالدرجة الاولى عن توجهات التيار الديني التقليدي غير المسيس ، او غير المنتظم في حركات سياسية ، وهو ينطلق من الايمان بامكانية اشتغال احكام الشريعة ، بغض النظر عن كونها حاكمة ، او ان جوهر الحاكمية هو احتلال الشريعة لموقع الدليل والمنظم لحركة المجتمع ، وهذا يتحقق اذا اصبحت جميع قوانين البلاد منسجمة مع مراد الشرع .





[1]  سيد قطب : معالم في الطريق 30-31
[2]  سيد قطب : معالم في الطريق 45
[3]  سيد قطب : معالم في الطريق 56
[4]  سعيد حوى : الاسلام 1/33 مكتبة وهبة ، القاهرة 1977
[5]  سعيد حوى : الاسلام 1/35
[6]   د. يوسف القرضاوي : مقال بجريدة الشرق القطرية 16 يناير 1997
[7]  د. يوسف القرضاوي : مقال بجريدة الشرق القطرية 22 يناير 1997
[8]  سيد قطب : معالم في الطريق 81
[9]  د. يوسف القرضاوي : مقال بجريدة الشرق القطرية 22 يناير 1997
[10]  د. يوسف القرضاوي : مقال بجريدة الشرق القطرية 22 يناير 1997
[11]   د. يوسف القرضاوي : مقال بجريدة الشرق القطرية 22 يناير 1997
[12]  عبد الاله بن كيران : مقال بصحيفة المستقلة 11 نوفمبر 1996
[13]   نصر حامد ابو زيد ، نقد الخطاب الديني 81
[14]  د. عمرو عبد السميع ، الاسلاميون حوارات حول المستقبل
[15]  د. محمد باهنر : تقييم مسؤوليات الحوزة العلمية  . مجلة حوزة  العدد 14
[16]  حسين علي منتظري : بحوث في الحكومة الاسلامية  1/14
[17]  مرتضى الشيرازي : شورى الفقهاء 97
[18]  د. يوسف القرضاوي : مقال بجريدة الشرق القطرية 16 يناير 1997

28/01/2001

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

ما هي طبيعة العلاقة بين الاسلام والحركة ، وما هي الحدود الفاصلة بين ما هو مقدس وملزم وبين ما هو سياسي يومي ، بين ما هو ديني يرجع الامر فيه إلى صاحب الشريعة ، وبين ما هو مصلحة عامة يرجع الامر فيها إلى اصحاب هذه المصلحة ، أي عامة الناس ، واخيرا بين ما ينتمي إلى النظرية التي تتبناها الحركة دون ان تعتبرها ملكا خاصا - كما يفترض في أي حركة ايديولوجية - وما ينتمي إلى الحركة كاطار عمل يخص جماعة محددة من الناس .

اهمية هذا النوع من الاسئلة ياتي من حقيقة موضوعية خلاصتها انه في العمل الاجتماعي والسياسي لا يمكن الفصل بين النظرية ودعاتها ، وسواء اقتصر موضوع اشتغال النظرية على جوانب محددة من الحياة ، او كانت ايديولوجيا متكاملة ، فهي لا تنفك ابدا عن الطريقة التي تطرح بها ، ومجموع الاهداف التي يسعى اليها دعاتها . ونضيف إلى هذا ان الفكرة في تجريدها النظري الاولى ، لا تطابق صورتها بعد ان تتحول إلى ايديولوجيا لحركة تصارع في ساحة العمل اليومي .

مشهد من الحرب الاهلية في الجزائر

وفي هذا المجال فان الاسلام لا يختلف عن غيره من المذاهب الفكرية والاجتماعية ، فالاسلام في تجريده النظري الاولي لا يطابق الاسلام الذي تحول الى ايديولوجيا حركة ، لانه هناك عام مجرد ، بينما هو هنا محدد في اغراض واساليب عمل ، تشكل ـ اذا اضفنا اليها النشاط الاجتماعي الذي تقوم به الجماعة السياسية او الدعوية ـ تمحورا اجتماعيا متمايزا عن المجتمع العام ، ومتمايزا عن الجماعات الاخرى التي تتبنى الفكرة الاسلامية ذاتها ، لكنها تعتمد في تحديد منظوماتها الثقافية والعملية على اجتهادات مغايرة .

 ونسمع عادة في تبرير التفارق بين الدين والحركة الدينية تبريرات من نوع ان الاسلام لا يتحمل اوزار حملته أو اتباعه ، وهذا تبرير صالح في كل ايديولوجيا ، لكنه لا يجدي نفعا في العمل السياسي ، فالناس الذين تخاطبهم الحركة الاسلامية ، والقوى التي تنافسها الحركة الاسلامية ، سيتعاملون في نهاية المطاف مع هذا المركب البشري الذي اسمه الحركة الاسلامية ، وليس مع الاسلام النظري ، أي مع التجسيد المادي للاسلام بكل ما ينطوي عليه من متبنيات وافهام قد تقترب من حقيقة الشريعة شيئا وقد تبتعد عنها شيئا ، ولهذا فانهم بحاجة إلى معرفة حدود القداسة التي تقول بها الحركة لافكارها ومتبنياتها ، بغض النظر عن تقدير الاخرين لمدى قرب هذه المتبينات أو بعدها عما يعتقدونه من الشريعة في تجريدها الأولي ، وقد عرضنا في الفصل الأول نموذجا عن المواقف التي تجعل طرح هذا السؤال مبررا .

ان السبب الرئيس للتباين السياسي والفكري بين الجماعات التي تنطلق من مصدر واحد ، هو الاعتماد المكثف على تفسيرات النص ـ وليس النص ذاته ـ كمرجع ، وتأثر هذه التفسيرات بمعطيات الواقع الذي يعيش فيه الفرد او تعمل فيه الجماعة ، حيث تتعدد الافهام بقدر ما العقول مختلفة ، وبقدر ما طريقة الاستجابة لشروط البيئة المحيطة مختلفة بين فرد وآخر ، ان خط الاختلاف يتوازى مع خط الاجتهاد ، بل ان القبول بالاجتهاد هو تشريع للاختلاف ، فكلما انبسط ذاك توسع هذا ، وكلما انكمش ذاك ضاق هذا . ومن هنا يمكن القول ان اختلاف الافكار والمواقف بين هذه الجماعة وتلك وتنوع الاغراض واساليب العمل ، ليس خيارا ابتدائيا لاصحابه ، بل هو ناتج قهري لوجود الحركة وفاعليتها في ساحة العمل .

ويمكن بسهولة ملاحظة ان جميع النشطين في العمل الاسلامي ، افرادا او جماعات ، سياسيين او دعاة  ، يعتمدون بصورة رئيسية على تفسيراتهم الخاصة للنص الديني ، عندما يحتاجون الى مرجعية لاثبات راي او تعزيز موقف ، حيث يتحول النص هنا من حالته المجردة المتعالية على التأطير ، الى جزء من ايديولوجيا يؤدي دورا محددا في اطار الجماعة .

وقد كان هذا التاطير موردا لاحتجاجات عدد من الفقهاء في الازمان السابقة ولا يزال ، يقول ابن الجوزي  (كان الفقهاء في قديم الزمان هم اهل القرآن والحديث . . . انما الفقه استخراج من الكتاب والسنة - تلبيس ابليس ص 103 ) لكن من الناحية الفعلية فان احدا لا يستطيع التخلص من الاشكالات الخاصة بـ ( فهم ) النص ، ذلك ان عقل الفرد رهين تشكيله الخاص ، المتأثر بمعطيات البيئة والجماعة ونظامها الثقافي ، ولهذا السبب فان تاطير النص ليس مقصورا على الافراد والجماعات التي تعتمد الادلة العقلية بصورة مكثفة ، فالذين يقللون من اهمية دور العقل في استنباط الحكم الشرعي ، ويعولون على العودة الى النص مباشرة ، لا يستطيعون تشغيل النص في موضوع العمل ، بدون وساطة فهمهم الخاص للموضوع ، او للعلاقة بينه وبين النص .

الحجية واليقين

وقد جرت سيرة عقلاء البشر على اعتماد فهمهم للفكرة المرجعية او للنص المرجعي ، باعتباره حجة يعملون وفق مقتضاها وهم مطمئنون الى انسجامهم مع منطلقاتهم ، ولا يختلف الامر بين ان يتوصل الانسان الى هذا الفهم من خلال منهج الاستنباط المتعارف عند الاصوليين ، او يحصل عليه بالقراءة المباشرة للنص من دون منهج ، فهو في الحالين فهم محتمل ، قد يكون تاما فيصيب مراد الشارع ، وقد يكون قاصرا فلا يبلغ ، لكن صاحبه متكل عليه ومعتد به في كل حال.

والمفترض ان يعتبر المجتهد النتائج التي توصل اليها حد حجية لا حد يقين ، والفرق بين الحدين يتجسد في كون الاول دليلا ايجابيا يبريء ذمة صاحبه من المسؤولية الشرعية ، اما حد اليقين فهو دليل سلبي يتيح لصاحبه اعتماد موقفه كتجسيد للحقيقة الكاملة وقد يستتبعه الحكم على الاخرين بالخروج عن اطار الديانة ، وهذا هو السبب الذي حمل بعض الاسلاميين في مختلف الازمنة على تكفير مخالفيهم او الحكم بردته ، بل وفي بعض الاحيان اقامة حد الردة عليه كما حدث في نوفمبر 1995  في الجزائر حين حكم امير الجماعة الاسلامية جمال الزيتوني على امراء آخرين في الجماعة ، ومنهم امحمد السعيد وعبد الرزاق رجام بالردة ، ثم اقام عليهم حد القتل. لقد اعتمد الرجل على نصوص وقواعد معينة ، فهمها وفسرها بكيفية معينة ، فخرج بمثل هذه الاحكام ، مع ان المتهمين لم يختلفوا عنه في عقيدته ، ولا في الخطوط الرئيسية لمنهج عمله ، انما خالفوه في السياسات الوقتية وبعض المواقف الميدانية ، وقد قيل فيما بعد ان اميرا آخر في الجماعة ، حكم على الزيتوني بالردة ايضا واجرى عليه حدها.

لنفس المبررات ، وعلى نفس النسق يمكن فهم الجدل الذي أثاره بعض الاسلاميين حول الافكار التي عبر عنها الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد والذي انتهى إلى الحكم عيه بالردة وخروجه إلى المنفى ، ومنها الضجة الكبيرة التي اثارتها صحيفة الشعب التي يصدرها حزب العمل الاسلامي الاتجاه في مصر ، والتي اثمرت عن اغلاق الصحيفة وحظر نشاط الحزب ، وثمة قضايا كثيرة وصلت إلى المحاكم أو اتخذت نتيجة لها اجراءات عقابية ، حدثت في الكويت والمملكة العربية السعودية ولبنان ومصر والسودان ، وكانت جميعها قائمة على فهم خاص حاول اصحابه تقديمه باعتباره معياريا أو ممثلا لحقيقة مراد صاحب الشريعة . بينما - على خلاف هذا النسق  يرى الزعيم الاسلامي السوداني د. حسن الترابي ، خطأ  الراي الشائع بين الفقهاء من ان المرتد يقتل ، ويقول ان هذا اجتهاد وان النصوص التي تقول بالقتل تربطه بعوامل اخرى مثل الخروج على الجماعة ، وان الحكم بقتله مخالف لا صل حرية الاعتقاد في القرآن[1].

وفي العالم الاسلامي اليوم مئات من الجماعات السياسية والدعوية ، التي تدعو الى اقامة الشريعة المطهرة ، ونشر الاسلام ، ويسعى كثير منها الى الحكم من اجل تطبيق الشريعة ، ويكتفي البعض الاخر بالدعوة الى التزام الافراد باحكام الدين واخلاقياته الرفيعة ، لكنها تتصارع فيما بينها حول مواقف محددة أو آراء ، هي في نهاية المطاف اجتهادات شخصية ، ويعكس مقال لرجل دين سعودي جانبا من هذا التصارع :

(من جاء الى بلاد مسلمة كالبلاد السعودية فاقام حزبا او دعى الى اقامة حزب فهو على غير هدى وهو في ضلال عريض ، نصوص الوحي الشريف تبطل عمله وتدحض حجته وتلحقه باهل الجاهلية الاولى ايا كان قصده وعلى اي حال كانت نيته ، فليس له حجة مقبولة عند الله تعالى  .. لا يجوز لمؤمن بالله واليوم الاخر ان يقيم حزبا في بلاد المسلمين يخرج به عن جماعتهم فلا "اخوانية" ولا " تبليغ" ولا "تحرير" مع وجود الحاكم المسلم الذي بايعه المسلمون وانتظم به جمعهم)[2]

ويقول الشيخ محمود مراد مؤسس جمعية القرآن والسنة ورئيسها السابق (الجيل الجديد شغلوا بالخروج على الحاكم وشروطه ونسوا مسائل العقيدة الاسلامية حتى بعض طلاب العلم تورطوا في هذا بل ان بعض الاحزاب الاسلامية جعلت قضيتها الاساسية هي القضايا السياسية .. كثير من المسلمين لا يعرفون معنى التنزيه رغم انه من المفاهيم الاساسية بينما يعرفون الكثير من التفاصيل السياسية)[3] .

وقد فكر بعض القلقين على الدعوة في تشجيع هذه الجماعات الكثيرة على الوحدة ، خشية ان يتطور التعدد الى نزاع ، ورغبة في تاليف القوى لتسريع الوصول الى الاهداف ، لكن لم نسمع حتى اليوم عن مسعى توفق في الوصول الى مبتغاه ، اللهم الا في عدد من الحالات لا يكاد يذكر.

 ان العجز عن التوحد ليس مردودا الى اختلاف هذه الجماعات على وحدانية الله سبحانه ، ولا على الالتزام بالكتاب الكريم والسنة المطهرة ، ولا على السعي الى اقامة الدين في أي صورة من صوره ،  لقد نتج الاختلاف عن تباين الاجتهاد وتاثيرات هذا التباين على المواقف العملية ، أي على مصالح كل جماعة ، ونتج عن وجود حدود اجتماعية تريد كل جماعة ان تحافظ عليها ، من ان تتداعى او تضعف اذا فتحت الباب امام الغير ، الغير المخالف او الغير المماثل .

وعلى الوجه الثاني من الصورة نجد ان الجماعات السياسية او الدعوية الكبيرة تميل الى التفكك ، فجماعة الاخوان المسلمين التي كانت يوما ما ، اضخم تنظيم للحركة الاسلامية تفككت الى عشرات من الجماعات المستقلة ، فكل قطر له اخوانه ، وحزب الدعوة مثلها ، وحزب التحرير لا يختلف عنها ومنظمة العمل الاسلامي سارت على ذات الطريق ، وفي مثل هذه الحالات فان الذين انشقوا ، لم يخالفوا المنطلقات الفكرية العامة ، بل تمردوا على البرامج السياسية ، والاهداف الانية للعمل ، والاجتهادات المتعلقة بتبرير المواقف اليومية .

بين التجريد والتاطير

وخلاصة ما سبق انه لا يمكن التعامل مع الدعوة المتبناة من جانب حركة معينة ، كما نتعامل مع الاسلام المجرد ، كما لا يمكن النظر الى الاسلام المقدم في اطارها ، خارج الاطار نفسه ، بما في هذا الاطار من سياسات واهداف واساليب عمل ، وفي هذا المجال فلا بد من الاقرار بحاكمية الاطار على النظرية لا  العكس كما قد يتصور ، لان وجود جماعة متميزة يستدعي قيام آليات خاصة للحفاظ على كيانها وتميزها عن المجتمع العام ، وضرورات العمل تقتضي الكثير من الاجتهاد ، والاجتهاد يتاثر مباشرة وغير مباشرة بآليات التنظيم والظرف الذي تعيشه الحركة وتعمل ضمن الزاماته .

واذا قبلنا هذا فانه ينبغي النظر الى دعوة هذه الحركة او تلك لاقامة الشريعة ، باعتبارها متلازمة ومتاثرة بسعيها للوصول الى السلطة ، او حصولها على النفوذ الاجتماعي ، او اكتسابها اسباب القوة التي تتيح لها ممارسة دور فوقي في الحياة الاجتماعية .

وبغض النظر عن حقانية هذا المسعى او بطلانه ، وبغض النظر عن تاثيراته المختلفة على الصعيد الفكري والاجتماعي العام ، فانه يقودنا الى ضرورة التمييز بين صورة الاسلام كما هو في حالته المستقلة عن الاطار الحركي ، وبين الاسلام المؤطر ضمن حركة محددة ، كما ان تقييم المساعي الرامية الى اقامة الشريعة ينبغي ان يتجه الى تقييم الحركة ذاتها ، بما فيها من برامج عمل ، ومتبنيات فكرية (هي تفسيرها الخاص للنص الديني ) .

من ناحية اخرى فان الدعوة ،  كعمل يومي وعلاقة مع اطراف اجتماعية وتفاعل مع بيئة لها الزاماتها وشروطها الخاصة ، لا تنفصل عن السياسة حتى لو بدا الامر ملتبسا ، فكل نشاط حركي ، تكرس للسياسة او ابتعد عنها ، هو في جميع الاحوال تطبيقات لنتائج اجتهاد قام به شخص او فريق من الناس ، ولأنه نتيجة اجتهاد ، فهو لا ينطوي على أي نوع من الالزام الادبي او المادي لبقية المسلمين ، الذين لم يقرروا تبني هذه النتائج باعتبارها حجة عليهم ، وعلى نفس الخط يمكن القول ان محاولة جماعة ما ، الزام الغير بمتبنياتها او نتائج اجتهاداتها ـ تحت أي ذريعة كانت ـ لا تستند الى قاعدة مكينة ، اللهم الا ان تتحول هذه الاجتهادات الى نظام للبلاد ، ضمن الشروط الشرعية المقررة للتشريع العام ، فما يدعى اليه في كل الاحوال ليس الاسلام المجرد ، بل الاسلام المؤطر في اطار الحركة التي هي مشروع لطائفة من الناس ، هم احرار في تبنيه مثلما بقية الناس احرار في تبني غيره .



[1] مجلة المجلة 22 ديسمبر 1996

[2] خ عبد السلام برجس العبد الكريم : مقال بصحيفة المسلمون 14 فبراير 97

[3]  حديث امام المؤتمر السنوي للجمعية في ديترويت بالولايات المتحدة في  30 ديسمبر 96  انظر تقريرا عن هذا المؤتمر في صحيفة  المسلمون 3 يناير 1997

  

مقالات ذات علاقة

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

اقامة الشريعة بالاختيار

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الديمقراطية والاسلام السياسي

من الحلم الى السياسة

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

 سلع سريعة الفساد

 

24/01/2001

عن تدخل العامة في سياسة الدولة


تحدثت يوما مع وزير يعتبره الناس مثقفا وصريحا ، عن مظاهر القصور في وزارته ، فطلب مني تقديم الملاحظات مكتوبة. ولأني لا اجيد غيرهذا العمل ، فقد قدمت لـه ما ظننت انه صورة وافية عن القصور المزعوم ، مبينا اسبابه وانعكاساته ، كما اقترحت سبلا للعلاج ظننتها غير مكلفة ، وسررت لانه استقبل تلك الملاحظات بترحاب كبير ، وظننت اني قد فعلت شيئا مهما.
 لكن بعد نحو عام من ذلك ، لاحظت ان ما شكوت منه لم يتغير فيه شيء ، فتحدثت مرة أخرى إلى الرجل الذي اخبرني ان فلانا - وهو وزير مثله ، لكنه ارفع مقاما - طلب اليه ترك الموضوع ، وفي النقاش طلب مني صراحة عدم التدخل في سياسات الدولة ، لان بعض اولي الامر لا يرحبون بتدخل العامة في امورهم.
 وذكرت هذه القصة لرجل من اعيان البلاد ، فقال لي ما هو ادهى ، وذكر انه يلتقي عادة مع كبار القوم في مجالسهم أو مكاتبهم ، وقد تجرأ احيانا فطرق ما يعتبره قضايا سياسية ، وفي ثلاث مرات على الاقل قال لـه صاحب المجلس ان الموضوع معروف لدى اولي الامر ، ولديهم رؤيتهم الخاصة بشأنه. وهذا كلام فحواه (ان هذا ليس من شأنك). وقادني هذا إلى البحث عن اسباب التكتم الشديد لكبار القوم على اعمالهم ، فتتبعت تصريحات ادلى بها احدهم طيلة شهرين ، وفي المحصلة وجدت ان بالامكان تلخيصها جميعا في اقل من عشر كلمات تكررت دائما ، ولم يكن في اي منها خبر جديد ، مما يرغب الناس في معرفته ، وبكلمة أخرى فان الرجل كان حريصا على ابقاء جميع ما سئل عنه مكتوما رغم الحاح الصحفيين .
لدينا في الخليج عشرات من الصحف ، ولو حسبت صفحاتها لبلغت بضع مئات كل يوم ، لكنك - مع ذلك - لا تجد فيها ما تريد ، فتضطر إلى البحث عن المعلومة والخبر في الصحافة الاجنبية ومصادر المعلومات خارج الحدود. والطريف في الامر ان الاداريين والمسؤولين في الدولة يعانون من هذه المشكلة - مثل عامة الناس تماما - واعرف عددا كبيرا منهم يهتم بقراءة الصحافة الاجنبية لمعرفة ما يجري في بلده ، كما ان الراديو والتلفزيون المحلي ليس على الاطلاق مصدر الاخبار التي يرغبون في معرفتها .
وكنت اظن دائما ان الامر يتعلق برغبة في العمل واعراض عن الدعاية ، لكني اجد الان ان هؤلاء يتكلمون كثيرا ، لكنهم لا يقولون - في المحصلة - اي شيء ، الوزير يتحدث عن كل شيء ، لكنه لا يتحدث عن عمل وزارته إلا إذا كان مدحا ودعاية ، والسياسي لا يتحدث عما يواجه إلا إذا كان انشاء وبلاغة ، ولهذا السبب فان الناس لا يعرفون حكومتهم على وجه التفصيل ، لا يعرفون ما ذا تفعل ، ولا يعرفون كيف تجري الامور ، لا يعرفون النجاحات الحقيقية ، ولا يعرفون الصعوبات التي تمنع النجاح ، ولهذا ايضا فانهم غير جاهزين للتعاون معها ، لان الانسان يعين فيما يعرف .

وثمة في العالم العربي انطباع شائع ، مفاده ان الدولة هيئة تخص من يقودونها ، وان السياسة عمل يقوم به هؤلاء ، دون غيرهم ممن هم خارج الاطار الدولتي. ولهذا فان (التدخل في السياسة) يعتبر تهمة في كثير من اقطار العرب. وقد اضيفت اليها اخيرا تهمة (ادخال الدين في السياسة). وسبب الاتهام بالطبع هو الوصلة السياسية وليس الدين. ان ادارات المباحث وامن الدولة والاستخبارات ، التي تنفق عليها الحكومات مبالغ طائلة ، هي منظمات متخصصة في مراقبة واحيانا مكافحة التدخل في السياسة.
 ومما يذكر على سبيل الطرفة ان رئيس دولة سابق منح ترحيصا لصحيفة اسبوعية ، وذكر فيه شروطا ، من بينها عدم تدخل الصحيفة في السياسة ، ونعلم الان ان اقطار الخليج جميعا تتشدد في منح تراخيص لصحف أو مجلات سياسية ، بينما تتسامح في غيرها ، وهذا شبيه لحال معظم الاقطار العربية ، حيث تحتكر الدولة أو جهات محددة حق اصدار المطبوعات السياسية .
خلال السنوات الاخيرة ، اكتشفت وزارات الاعلام والنخبة المثقفة في المنطقة ، ان قنوات الاذاعة والتلفزيون المحلية وكثير من الصحف ، خسرت اهتمام الناس الذين اصبحوا زبائن ثابتين لمصادر المعلومات الخارجية ، وظهر من خلال النقاش ، ان العلة الرئيسية هي افتقار المصادر المحلية إلى المعلومات الحية ، وافتقارها إلى حرية التعبير ، لكن الكبار قرروا في نهاية المطاف ان خسارة اهتمام الجمهور ، اهون اثرا من خسارة التقليد العريق في التكتم ، اتباعا لمفاد المثل المشهور عندنا في اقفال الباب الذي ياتي منه الريح ، بدل الاستعداد لمقابلة التحدي بما يناسبه. واتذكر الان طرفة عن صحفي امريكي تحدث مع زميل عراقي ، فقال لـه انهم في واشنطن احرار يستطيعون قول كل شيء ولو كان مدحا لرئيس العراق وقدحا في رئيس الولايات المتحدة ، فقال لـه العراقي انهم في بغداد يفعلون ما هو اكثر، فهم احرار في مدح رئيسهم وقدح الرئيس الامريكي والبريطاني وكل رئيس غربي آخر ، وهي طرفة تعبر عن واقع الحال في المنطقة ايضا ، فانت تستطيع معرفة اخبار العالم كله في الصحافة المحلية ، ما عدا اخبار البلد الذي تصدر فيه الصحيفة .

يفترض - نظريا - ان الدولة جهاز لخدمة الشعب ، وقد بالغ بعضنا فوضع لافتات تقول ان الشرطة ايضا في خدمة الشعب ، مع اني لم اجد اي شرطة في العالم العربي تفعل ذلك ، لا لانها لا تعمل شيئا ، بل لانها لا تصدر في عملها عن منطق الخدمة ، اي كونها جهازا تابعا للمجتمع وخادما لـه ، كذلك فان الدولة في منطقتنا لا تصدر عن هذا المنطق ، فهي ترى نفسها ، واصحابها يرونها ويرون انفسهم - بطبيعة الحال - فوق المجتمع ، يستمدون مشروعية عملهم من الدولة ذاتها ، وليس من التفويض الصريح اوالضمني الذي يحصلون عليه من المجتمع .

هذه الفوقية ، وذلك التكتم - وهما كما قلت من الطبائع السائدة في العالم العربي - ادت إلى تشديد عزلة الدولة ، وفي بعض الاقطار ، إلى قيام علاقة بينها وبين المجتمع مضمونها الاساسي العداوة أو الارتياب ، فالدولة ترتاب من شعبها ، والناس يرتابون في دولتهم ، فكانهما خصمان يراقب كل منهما الآخر قلقا من ان يباغته فينقض عليه .

ومن هنا نجد ان دول المنطقة تخصص جزء كبيرا من مواردها لقطاع الامن ، واعرف شخصيا ان اعضاء جهاز الامن في إحدى اقطار المنطقة ، يزيدون مرتين ونصف عن عدد الجيش النظامي ، ويستأثرون بنحو عشرين بالمائة من النفقات الحكومية ، وهو يكشف عن طبيعة التحديات التي يستشعرها اولو الامر ، مع ان هذا البلد - مثل جميع اقطار الخليج الأخرى - لا يواجه تحديات كبرى على المستوى الداخلي ، لكن الشعور بالعزلة والارتياب المتقابل ، هو الذي يجعل لهذا النوع من السياسات اولوية على غيره .

وزبدة الكلام ان انعدام الشفافية وحجب المعلومات قد ترك انعكاسات سلبية كبيرة على الدولة نفسها وعلى المجتمع وعلى العلاقة بين الطرفين ، وسوف نعرض جوانب أخرى في مقالات لاحقة ، لكننا اليوم بحاجة إلى استعادة الثقة بين المجتمع والدولة ، واول الطريق إليها المكاشفة والمصارحة ، التكتم مريح لصاحبه ، لكنه مدمر للثقة التي تحتاج اليها الدولة ولا سيما في اوقات الازمة ، المصارحة تدعو الناس إلى اعذار المسؤولين وتقدير جهودهم ، والريبة تدعوهم لسوء الظن وتعليق المشكلات ، كبيرها وصغيرها ، على تقصير المسؤولين وانشغالاتهم الشخصية .

الرأي العام 24 يناير 2001

17/01/2001

من ديمقراطية المجلس إلى حاكمية القانون


يفخر السياسيون في الخليج بان الوصول إلى اصحاب القرار ، لا يكلف المواطن غير الوقت الذي يصرفه في الطريق من داره إلى مكتب المسؤول ، بينما - في دول عربية أخرى - تعتبر مقابلة الوزير أو وكيل الوزارة حلما لأصحاب النفوذ فضلا عن عامة الناس .
وفي الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على سبيل المثال ، ينجز الكثير من الناس حاجاتهم بهذه الوسيلة ، حيث يخصص معظم الوزراء أو وكلاؤهم ساعات محددة من دوامهم اليومي ، لتلقي الشكاوى أو المطالبات من كل شخص ، بغض النظر عن صفته الاجتماعية أو طبيعة مشكلته ، وقد شهدت شخصيا عددا من المجالس تقدم خلالها موظفون اجانب ينبيء مظهرهم عن فقر مسكنة ، جاؤوا لمقابلة امير أو وزير لتقديم شكوى ضد ارباب عملهم ، أما  في الكويت فان قيام عضو مجلس الامة بهذا الدور لصالح ناخبيه وسكان دائرته الانتخابية ، هو بمثابة وعد الشرف الذي يتوقع الناخبون من ممثلهم الوفاء به طوال سنوات نيابته ، وهذا هو الامر الذي مكن من تصنيف اعضاء المجلس إلى ما يطلق عليه محليا نواب الخدمات ونواب الرأي .
ينتمي هذا الاسلوب من العلاقة بين الدولة والمواطن إلى التقاليد القديمة ، حينما كان شيخ القرية أو القبيلة أو وجيه الجماعة يقوم بمهمات الدولة ، أو كان وسيطا وحيدا بين جماعته وبين الدولة ، وفي ذلك الوقت كانت الدولة بسيطة ومحدودة ، وكانت تخاطب شعبها كمجموعات .
لكن التطور المعاصر في طبيعة الدولة ودورها ، غير القاعدة ، فدولة هذا العصر تخاطب شعبها كافراد ، وهؤلاء بدورهم ينظرون إلى الدولة كجهاز خدمة ، يجب عليه ان يعطي بقدر ما يأخذ ، لكن على الرغم من هذا التطور في الرؤية ، فان دولة العالم الثالث  لم تطور جهاز عملها كي يستوعب المتغيرات التي طرأت على طبيعة عملها ، ونشير خصوصا إلى الانتقال من حالة الحكومة الشخصية إلى حكومة القانون ، الذي اوجب انشاء جهاز اداري يقوم بمهمات الدولة وفق قواعد قانونية ونظم عمل عامة ومعيارية .
ويعتبر كثير من علماء السياسة قيام البيروقراطية علامة مهمة على عقلنة الدولة ، اي تحولها من إطار العلاقة الشخصية بين الحاكم والمحكوم ، إلى العلاقة الوظيفية ، حيث يحصل الجميع على حقوق متساوية ويؤدون واجبات متماثلة ، ويتحدد على اساسها وبناء عليها ، ارتباط كل منهم بالدولة ، فاذا تحقق هذا التطور المهم ، انتفت الحاجة إلى العلاقة الشخصية أو الواسطة أو نائب الخدمات ، ولم يعد الوزير أو المسؤول الكبير مضطرا إلى صرف ساعات طويلة من يومه لاستقبال مراجعين ، يمكن لموظف صغير في دائرة من الدوائر ان  ينجز حاجاتهم .
واذكر الان زيارة قمت بها لاحد الوزراء ، فوجدته يمضي وقتا طويلا ، امتد إلى ساعتين ، في الاطلاع على طلبات فردية وكتابة مذكرات تحويل إلى دوائر حكومية مختلفة ، ادهشني ان تحتاج معالجتها إلى مسؤول في مستواه ، وكان بينها طلب اعفاء من غرامة صغيرة ، وبينها استرجاع رخصة قيادة سحبها ضابط مرور ، وبينها الحصول على سرير في مستشفى رفيع المستوى ، وبينها تخفيض رسوم على بضاعة مستوردة ، وبينها الموافقة على تبادل قسيمة سكنية مع مواطن آخر ، وامثال هذه المعاملات .
كبار المسؤولين يصرفون وقتا ثمينا في مثل هذه الاعمال ، والاكبر منهم يشددون على ضرورة فتح الابواب امام المواطنين وحل مشاكلهم ، وما ذكرته من المشكلات لم تكن استثناءات من القاعدة ، فالاعم الاغلب مما يحصل في هذا النوع من المجالس ، لا يتجاوز ذلك المستوى ، وبالتالي فان التشديد على سياسة المجالس المفتوحة ينصرف - من الناحية الواقعية - إلى تكليف الوزير أو الوكيل باعمال صغار الموظفين ، في الوقت الذي يتوقع الناس ان يصرف الوزير أو الوكيل جل وقته في اداء الاعمال الكبيرة ، والتخطيط لمستقبل البلاد ، وحل المشكلات التي تحتاج إلى كفاءة استثنائية أو رجلا ذا صلاحيات تمكنه من التدخل حيث يعجز الآخرون.
السبب في هذا يعود إلى ضيق إطار القانون ، الذي يفترض ان يتضمن حلولا لمثل تلك المشكلات الصغيرة ، أو ضيق افق الموظفين الاداريين الذين لا يبدون تفهما لهذا النوع من المشكلات ، أو الطريقة الخاطئة في توزيع الصلاحيات ، حيث جرت العادة على سلب الاداريين صلاحية البت في الامور ، واعادة الصغير والكبير منها إلى السلطة المركزية التي يمثلها الوزير أو الوكيل . وهناك بالاضافة إلى هذا ، رغبة كبار المسؤولين في ممارسة هذا النوع من الاعمال الذي يتيح لهم تعزيز مكانتهم الاجتماعية والتاكيد على حضورهم الفعال في الميدان الاجتماعي .
اسلوب المجالس المفتوحة يتمتع بايجابيات لا تخفى ، لكنه - من الناحية الثانية - يولد مشكلات كبرى ذات اثر يتجاوز سعة وعمقا اي فائدة من فوائده المنظورة ، واول تلك المشكلات واهمها هو شخصنة السلطة ، حيث تتلخص الدولة في المسؤول ، ويترتب على هذا تفاقم العجز في الجهاز الاداري الادنى مرتبة ، وتحوله من نظام للحكم والادارة ، إلى جهاز من الكتبة مفرغ من الصلاحيات والمسؤولية ، كما يترتب عليه ضياع هيبة القانون ، فما دام يمكن للمسؤول الكبير تجاوز القانون - ايا كان سبب التجاوز - فسوف تكون الواسطة والعلاقة الشخصية - على الدوام - فوق القانون ، وهذا يفتح الباب لنشوء طبقة من المستفيدين ، عملها ومصدر عيشها الوحيد هو الواسطة ، ووسيلتها التزلف والمجاملة واحتقار القانون العام ، وسوف يكون التقرب إلى رجال الدولة مطلبا ، يسعى اليه الشطار وطلاب الصعود ، بغض النظر عن كفاءاتهم الشخصية ، ولاحقا سوف يشكل هؤلاء حجابا بين المسؤول والشعب .

ومن المشكلات التي تترتب على شخصنة السلطة ، انصراف كبار المسؤولين عن المهمات الكبرى التي تتطلبها ادارة الدولة ، ولا سيما تلك التي تقتضي جهدا فكريا أو عصبيا ، أو احتمالا لمعرة الناس وخاصة المتزلفين والاصدقاء .
ومن المشكلات ايضا ، انكماش اهمية التخطيط العملي والموضوعي ، وتفاقم تاثير الارادات الشخصية في السياسات ، وهذا قد يصل إلى حد وضع السياسات على مقاس الاشخاص ، بدلا من دعوة الاشخاص إلى التكيف وفقا لمتطلبات العمل .
واخيرا فان من اعظم المشكلات المترتبة عليه ، احتكار النخبة العليا للعمل السياسي ، فالحاجات الصغيرة التي يعالجها المسؤول سوف تكون بديلا - عند المواطن - عن الحاجات الكبرى التي طبيعتها عامة ، وذلك لان الحاجات الصغرى تاخذ مكان الكبرى في العلاقة بين المواطن والدولة ، وقضاء تلك يدفع بالمواطن إلى السكوت عن هذه ، وهذا ثمن يدفعه المواطن وهو يعرف ، كما ان المسؤول يقدم الخدمة وهو يعرف ما سوف يحصل عليه ازاءها ، وينتج عن هذا انعدام المساواة امام القانون وانعدام التكافؤ في الفرص ، فالذي يحصل على الخدمة ويسكت يعتبر مواليا ، والذي لا يحتاج إلى خدمة أو لا يطلبها ثم يعترض على سياسات الدولة يعتبر معارضا اي مستبعدا .

اننا بحاجة إلى تحكيم القانون ، وبحاجة قبل ذلك إلى توسيع هذا القانون كي لا يضيق عن حاجات الناس ، ونحن بحاجة إلى قدر كبير من الشفافية والعلنية كي لا يضطر الناس إلى الواسطة والشخصنة حين تعييهم الحيلة ، وفي اعتقادي ان الكف عن شخصنة السلطة ليس امرا عسيرا ، ولا هو مكلف ، لكني لا اقترح المبادرة قبل علاج الاسباب التي ادت اليه ، إذا ارادت الدولة فرض هيبتها واحترامها ، فالخطوة الاولى تبدأ من هنا ، هيبة القانون وهيبة الدولة هما اولى ضحايا شخصنة السلطة .

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات




يمكن لاقطار الخليج العربي ان تكون رائدة للتجديد السياسي على المستوى العربي إذا توافرت الشروط اللازمة لتجديد مجتمعاتها ، وهذا قول ينطوي على كثير من المفارقات ، ومن اهمها ان مجتمعات الخليج ، تعتبر واحدة من اكثر المجتمعات العربية انشدادا إلى التقاليد ، التي تعبر بصورة من الصور عن النظام السياسي القديم  .

لكن على الجانب الآخر فان مجتمعات الخليج تتميز بصفات لا تتوفر في غيرها ، ومن بينها على سبيل المثال الاستقرار الاقتصادي النسبي ، الذي يعتبر حافزا مهما للتجديد السياسي ، بالنظر لما ينتج عن عامل الوفرة الاقتصادية من تبريد لبؤر التوتر وتحفيز لاخلاقيات المساومة والشراكة .
ومن بينها ايضا الارتخاء السياسي العام في المنطقة ، فالخليج لم يشهد توترات شديدة داخلية المصدر خلال العقود الثلاثة الاخيرة ، وما حصل من مشكلات امنية في اكثر من دولة ، لم يكن من النوع المستعصي على السيطرة أو الطويل الامد ، لقد تركت حرب الخليج الاولى والغزو العراقي للكويت جروحا بليغة ، ومثلتا تهديدا حقيقيا للسلام الاجتماعي والاستقرار ، لكن من الواضح الان ان مجتمعات المنطقة تتعافى من اثارهما ، كما ان الحكومات لم تحول ما جرى إلى فزاعة سياسية ، كما هو معتاد في أقطار عربية أخرى .

وثمة دواع أخرى تؤكد الحاجة إلى التجديد السياسي ، منها مثلا الترابط الوثيق بين اقتصاديات الخليج والسوق الدولية ، ومع الاخذ بعين الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على طبيعة واساليب التجارة الدولية خلال العقدين الاخيرين ، ولا سيما تفاقم دور قطاع الاعمال الدولي في صناعة السياسة الخارجية ، وانكماش الهوة الفاصلة بين الداخلي والخارجي ، بسبب الاتجاه المتصاعد إلى عولمة الاقتصاد ، فان الانعكاس الطبيعي لهذه التطورات سيكون انكماش دور الدولة كصانع وحيد للسياسة وموجه للاقتصاد المحلي ، ولهذا العامل اهمية خاصة في الخليج ، من زاوية ان حركة راس المال تعتبر إلى حد ما بوصلة الحياة - وتاليا السياسة - في المنطقة .

لكن المشهد ليس بالجمال الذي ربما توحي به السطور السابقة ، فعدا عن الكويت التي قطعت شوطا بعيدا في اتجاه التجديد السياسي ، فان بقية الاقطار الخمس الاعضاء في مجلس التعاون ، لا تزال بحاجة إلى الكثير من الوقت والكثير من الجهد ، وهي بحاجة - خصوصا - إلى قرارات كبرى ، للاقلاع من حالة الجمود السياسي وقطع الخطوات الاولى في الطريق إلى التجديد .

ثمة رأي يتبناه كثير من الناس فحواه ان حكومات المنطقة ، مثل جمهورها - ولا سيما القوى ذات التاثير اليومي - لا تشعر بحاجة شديدة إلى التجديد ، أو انها لا ترى في ما يدعى من جمود سياسي ، مصدرا لخطر داهم ، بل ربما وجد الطرفان في تفصيلات التجديد السياسي ، ومنها اقرار الحريات العامة مثلا ، ربما وجدا فيه حافزا لانواع من السلوكيات غير المتوافقة مع التقاليد الدارجة والمتسالم عليها ، وربما تتحول إلى سبب جديد للمماحكة السياسية ، التي لا تجد النخبة الحاكمة في نفسها قدرة أو رغبة على مواجهتها أو المشاركة فيها ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ان التجديد لا ياتي إلا إذا اصبح حاجة ماسة للاكثرية ، فان علينا الانتظار طويلا قبل ان نرى ما ندعو اليه حيا يمشي على قدمين .

وثمة رأي يتبناه بعض السياسيين - وان كانوا قد توقـفوا عن التعبـير العلني عنه منذ بعض الوقت - خلاصته ان مجتمعات الخليج ليست جاهزة للتجديد الذي يعني حاكمية القانون ، اقرار الحريات العامة ، والمشاركة السياسية ، بالنظر لما يدعى من الافتقار إلى الانسجام الاجتماعي ، الناتج عن التجنيس أو الاصول القبلية لبعض السكان ، أو لان الثقافة العامة لا تزال قاصرة عن توليد روحية المداهنة والمساومة ، التي تؤسس للشراكة في المصالح والاتفاق على قواسم الالتقاء ، بدل الانشغال بالتمايز وعناصر الافتراق .

وثمة رأي سمعته شخصيا من عدد من السياسيين البارزين ، خلاصته ان الفائدة الكبرى للديمقراطية هي تقاسم المصالح العامة بالعدل والانصاف ، وهذه مشكلة غير قائمة في الخليج الذي توفرت فيه امكانات للعيش الرفيع ، انتفت معها الحاجة إلى البحث عن آلية للتقاسم المنصف للمصالح ، فالكل يحصل على ما يكفيه .

ولا اجدني بحاجة إلى مناقشة الآراء السابقة ، فهي ليست مطلقة ، وبالتالي فانها قد تكون الاستثناء على القاعدة ، وان تراءى لمن يتبناها انها هي الاصل وغيرها الاستثناء ، كما ان الديمقراطية - التي نراها الوليد الاهم للتجديد - ليست حاجة اقتصادية ، وليست اداة لمعالجة مشكلة الندرة ، ولا منبرا للتعبير عن الذات ، فهذه كلها من ثمراتها الطيبة .

 التجديد والديمقراطية ليسا حلقة من حلقات التقدم ، بل هي الشرط اللازم للتقدم ، وبدونها فان المدنية المنشودة ، لا تكون غير قشرتها الخارجية ، المتمثلة في البنايات والشوارع والسيارات والملابس النظيفة ، والديمقراطية شرط للاستقرار الاجتماعي ، وبدونها فان الدولة مضطرة لانفاق جانب كبير من مواردها في تعزيز اجهزة السيطرة المادية وما يسمى - تجاوزا - الامن ، ومع ذلك فان مسببات الاضطراب الاجتماعي والتمرد تبقى قائمة ومتفاقمة ، وان لم يلحظها الناظر للامور من الخارج ، والديمقراطية اخيرا هي الاداة الوحيدة المتوفرة في عالم اليوم ، لضمان كرامة الانسان وتحقيق انسانيته ، وتحريره من العبودية للاشخاص والاجهزة والمؤسسات السرية والعلنية .

اظهرت التجربة الفعلية في عدد من اقطار العالم ، ان التجديد وفتح المجتمع المغلق ، كان عسيرا ومكلفا ، رغم انه حدث في نهاية المطاف ، باختيار النخبة أو غصبا عنها ، وما نخشاه جميعا ان تتكرر هذه التجارب في الخليج ، ولهذا فانه من الضروري استعراض الفرص المتاحة لانتقال تدريجي وهاديء ، انتقال من حالة الانغلاق الاجتماعي والجمود السياسي ، إلى الانفتاح والحركة وتجديد الذات ، باستعمال آليات النظام الاجتماعي نفسها ، وبمرافقة ادوات النظام السياسي نفسه ، تغيير من داخل النظام لا بالالزام الخارجي ، كي نتدرج في سيرورة لينة تحقق الغرض ، دون الاضطرار إلى دفع الثمن المؤلم الذي اضطرت اليه اقطار أخرى .

ترى هل هناك فرص جدية لانتقال من هذا النوع في الخليج ؟
وهل يمكن للخليج ان يقدم مثالا على امكانية التقدم دون اللجوء إلى حلول موجعة ؟ .

ازعم ان هذا ممكن ، لكننا بحاجة اولا إلى وضع اليـد على مكامن الداء السياسي وتشخيص العلل .

يناير 2001

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...