يفخر
السياسيون في الخليج بان الوصول إلى اصحاب القرار ، لا يكلف المواطن غير الوقت
الذي يصرفه في الطريق من داره إلى مكتب المسؤول ، بينما - في دول عربية أخرى -
تعتبر مقابلة الوزير أو وكيل الوزارة حلما لأصحاب النفوذ فضلا عن عامة الناس .
وفي
الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على سبيل المثال ، ينجز
الكثير من الناس حاجاتهم بهذه الوسيلة ، حيث يخصص معظم الوزراء أو وكلاؤهم ساعات
محددة من دوامهم اليومي ، لتلقي الشكاوى أو المطالبات من كل شخص ، بغض النظر عن
صفته الاجتماعية أو طبيعة مشكلته ، وقد شهدت شخصيا عددا من المجالس تقدم خلالها
موظفون اجانب ينبيء مظهرهم عن فقر مسكنة ، جاؤوا لمقابلة امير أو وزير لتقديم شكوى
ضد ارباب عملهم ، أما في الكويت فان قيام
عضو مجلس الامة بهذا الدور لصالح ناخبيه وسكان دائرته الانتخابية ، هو بمثابة وعد
الشرف الذي يتوقع الناخبون من ممثلهم الوفاء به طوال سنوات نيابته ، وهذا هو الامر
الذي مكن من تصنيف اعضاء المجلس إلى ما يطلق عليه محليا نواب الخدمات ونواب الرأي
.
ينتمي
هذا الاسلوب من العلاقة بين الدولة والمواطن إلى التقاليد القديمة ، حينما كان شيخ
القرية أو القبيلة أو وجيه الجماعة يقوم بمهمات الدولة ، أو كان وسيطا وحيدا بين جماعته
وبين الدولة ، وفي ذلك الوقت كانت الدولة بسيطة ومحدودة ، وكانت تخاطب شعبها
كمجموعات .
لكن
التطور المعاصر في طبيعة الدولة ودورها ، غير القاعدة ، فدولة هذا العصر تخاطب
شعبها كافراد ، وهؤلاء بدورهم ينظرون إلى الدولة كجهاز خدمة ، يجب عليه ان يعطي
بقدر ما يأخذ ، لكن على الرغم من هذا التطور في الرؤية ، فان دولة العالم
الثالث لم تطور جهاز عملها كي يستوعب
المتغيرات التي طرأت على طبيعة عملها ، ونشير خصوصا إلى الانتقال من حالة الحكومة
الشخصية إلى حكومة القانون ، الذي اوجب انشاء جهاز اداري يقوم بمهمات الدولة وفق
قواعد قانونية ونظم عمل عامة ومعيارية .
ويعتبر
كثير من علماء السياسة قيام البيروقراطية علامة مهمة على عقلنة الدولة ، اي تحولها
من إطار العلاقة الشخصية بين الحاكم والمحكوم ، إلى العلاقة الوظيفية ، حيث يحصل
الجميع على حقوق متساوية ويؤدون واجبات متماثلة ، ويتحدد على اساسها وبناء عليها ،
ارتباط كل منهم بالدولة ، فاذا تحقق هذا التطور المهم ، انتفت الحاجة إلى العلاقة
الشخصية أو الواسطة أو نائب الخدمات ، ولم يعد الوزير أو المسؤول الكبير مضطرا إلى
صرف ساعات طويلة من يومه لاستقبال مراجعين ، يمكن لموظف صغير في دائرة من الدوائر
ان ينجز حاجاتهم .
واذكر
الان زيارة قمت بها لاحد الوزراء ، فوجدته يمضي وقتا طويلا ، امتد إلى ساعتين ، في
الاطلاع على طلبات فردية وكتابة مذكرات تحويل إلى دوائر حكومية مختلفة ، ادهشني ان
تحتاج معالجتها إلى مسؤول في مستواه ، وكان بينها طلب اعفاء من غرامة صغيرة ،
وبينها استرجاع رخصة قيادة سحبها ضابط مرور ، وبينها الحصول على سرير في مستشفى
رفيع المستوى ، وبينها تخفيض رسوم على بضاعة مستوردة ، وبينها الموافقة على تبادل
قسيمة سكنية مع مواطن آخر ، وامثال هذه المعاملات .
كبار
المسؤولين يصرفون وقتا ثمينا في مثل هذه الاعمال ، والاكبر منهم يشددون على ضرورة
فتح الابواب امام المواطنين وحل مشاكلهم ، وما ذكرته من المشكلات لم تكن استثناءات
من القاعدة ، فالاعم الاغلب مما يحصل في هذا النوع من المجالس ، لا يتجاوز ذلك
المستوى ، وبالتالي فان التشديد على سياسة المجالس المفتوحة ينصرف - من الناحية
الواقعية - إلى تكليف الوزير أو الوكيل باعمال صغار الموظفين ، في الوقت الذي
يتوقع الناس ان يصرف الوزير أو الوكيل جل وقته في اداء الاعمال الكبيرة ، والتخطيط
لمستقبل البلاد ، وحل المشكلات التي تحتاج إلى كفاءة استثنائية أو رجلا ذا صلاحيات
تمكنه من التدخل حيث يعجز الآخرون.
السبب
في هذا يعود إلى ضيق إطار القانون ، الذي يفترض ان يتضمن حلولا لمثل تلك المشكلات
الصغيرة ، أو ضيق افق الموظفين الاداريين الذين لا يبدون تفهما لهذا النوع من
المشكلات ، أو الطريقة الخاطئة في توزيع الصلاحيات ، حيث جرت العادة على سلب
الاداريين صلاحية البت في الامور ، واعادة الصغير والكبير منها إلى السلطة
المركزية التي يمثلها الوزير أو الوكيل . وهناك بالاضافة إلى هذا ، رغبة كبار
المسؤولين في ممارسة هذا النوع من الاعمال الذي يتيح لهم تعزيز مكانتهم الاجتماعية
والتاكيد على حضورهم الفعال في الميدان الاجتماعي .
اسلوب
المجالس المفتوحة يتمتع بايجابيات لا تخفى ، لكنه - من الناحية الثانية - يولد
مشكلات كبرى ذات اثر يتجاوز سعة وعمقا اي فائدة من فوائده المنظورة ، واول تلك
المشكلات واهمها هو شخصنة السلطة ، حيث تتلخص الدولة في المسؤول ، ويترتب على هذا
تفاقم العجز في الجهاز الاداري الادنى مرتبة ، وتحوله من نظام للحكم والادارة ،
إلى جهاز من الكتبة مفرغ من الصلاحيات والمسؤولية ، كما يترتب عليه ضياع هيبة
القانون ، فما دام يمكن للمسؤول الكبير تجاوز القانون - ايا كان سبب التجاوز -
فسوف تكون الواسطة والعلاقة الشخصية - على الدوام - فوق القانون ، وهذا يفتح الباب
لنشوء طبقة من المستفيدين ، عملها ومصدر عيشها الوحيد هو الواسطة ، ووسيلتها
التزلف والمجاملة واحتقار القانون العام ، وسوف يكون التقرب إلى رجال الدولة مطلبا
، يسعى اليه الشطار وطلاب الصعود ، بغض النظر عن كفاءاتهم الشخصية ، ولاحقا سوف
يشكل هؤلاء حجابا بين المسؤول والشعب .
ومن
المشكلات التي تترتب على شخصنة السلطة ، انصراف كبار المسؤولين عن المهمات الكبرى
التي تتطلبها ادارة الدولة ، ولا سيما تلك التي تقتضي جهدا فكريا أو عصبيا ، أو
احتمالا لمعرة الناس وخاصة المتزلفين والاصدقاء .
ومن
المشكلات ايضا ، انكماش اهمية التخطيط العملي والموضوعي ، وتفاقم تاثير الارادات
الشخصية في السياسات ، وهذا قد يصل إلى حد وضع السياسات على مقاس الاشخاص ، بدلا
من دعوة الاشخاص إلى التكيف وفقا لمتطلبات العمل .
واخيرا
فان من اعظم المشكلات المترتبة عليه ، احتكار النخبة العليا للعمل السياسي ،
فالحاجات الصغيرة التي يعالجها المسؤول سوف تكون بديلا - عند المواطن - عن الحاجات
الكبرى التي طبيعتها عامة ، وذلك لان الحاجات الصغرى تاخذ مكان الكبرى في العلاقة
بين المواطن والدولة ، وقضاء تلك يدفع بالمواطن إلى السكوت عن هذه ، وهذا ثمن
يدفعه المواطن وهو يعرف ، كما ان المسؤول يقدم الخدمة وهو يعرف ما سوف يحصل عليه
ازاءها ، وينتج عن هذا انعدام المساواة امام القانون وانعدام التكافؤ في الفرص ،
فالذي يحصل على الخدمة ويسكت يعتبر مواليا ، والذي لا يحتاج إلى خدمة أو لا يطلبها
ثم يعترض على سياسات الدولة يعتبر معارضا اي مستبعدا .
اننا
بحاجة إلى تحكيم القانون ، وبحاجة قبل ذلك إلى توسيع هذا القانون كي لا يضيق عن
حاجات الناس ، ونحن بحاجة إلى قدر كبير من الشفافية والعلنية كي لا يضطر الناس إلى
الواسطة والشخصنة حين تعييهم الحيلة ، وفي اعتقادي ان الكف عن شخصنة السلطة ليس
امرا عسيرا ، ولا هو مكلف ، لكني لا اقترح المبادرة قبل علاج الاسباب التي ادت
اليه ، إذا ارادت الدولة فرض هيبتها واحترامها ، فالخطوة الاولى تبدأ من هنا ،
هيبة القانون وهيبة الدولة هما اولى ضحايا شخصنة السلطة .
نشر
في الرأي العام - الاربعاء, 17 يناير 2001
مقالات ذات
علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق