عرض المشاركات المصنفة بحسب التاريخ لطلب البحث ازمة الهوية. تصنيف بحسب مدى الصلة بالموضوع عرض جميع المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب التاريخ لطلب البحث ازمة الهوية. تصنيف بحسب مدى الصلة بالموضوع عرض جميع المشاركات

12/10/2023

بدايات الانقسام الاجتماعي


النتيجة التي انتهى اليها مقال الاسبوع الماضي ، لم تلق هوى عند كثير من القراء الاعزاء ، بل اثارت بعض الجدل ، ولاسيما حول الربط بين ازمة الهوية وتراثنا الثقافي. فقد ذكر هناك ان هذا التراث "يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته". رأى الناقدون ان هذا ينطوي على تعريض بموقف الانسان من دينه. وتساءل أحد الاصدقاء: لماذا نجد الدين في كل جدل حول تحولات المجتمع.. الا يمكن ان نغض الطرف أحيانا؟.

يهمني هنا ايضاح فكرة ، اظنها غائبة عن أذهان بعض القراء الاعزاء. وخلاصتها ان التحولات الجارية في حياة المجتمع ، على مستوى العلاقات الداخلية والثقافة والاقتصاد والسياسة ، تتأثر من حيث السعة والعمق ، بعوامل عديدة ، سوف اركز على ابرزها في اعتقادي ، وهو الحدود الخاصة بالبنية الاجتماعية.

دعنا نتخيل النظام الاجتماعي شبيها بجسد الانسان ، الذي يتلقى تأثيرات الطقس والمشكلات الحياتية الاخرى ، فيقاوم بعضها ، ويتكيف مع البعض الاخر ، فيتعايش معه ، او يتفاعل فيؤثر فيه ويتأثر ، يزداد قوة او يضعف. ومثل هذه الحالات تحصل للمجتمع حين يتعرض للمؤثرات الخارجية ، مثل التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى او الحروب او الكوارث.

لا تأتي تلك المؤثرات على نسق واحد. كما ان المجتمع لا يتعامل معها بنفس الطريقة في جميع الأوقات. وقد ذكرت في الأسبوع الماضي ان التحولات العميقة في المجتمع السعودي ، ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، نظرا لنضج التنمية الاقتصادية وتغلغل انعكاساتها في مختلف الأوساط. وللاطلاع على بحث تفصيلي عن تأثير هذا العامل ، اقترح العودة الى كتاب د. سعيد الغامدي "البناء القبلي والتحضر" الذي قدم صورة مفصلة عن الحراك الاجتماعي ، لحظة استقبال أولى انعكاسات الاقتصاد الجديد ، في قرية زراعية جنوب المملكة. ان التأمل في هذه الحادثة تعين على فهم العديد من الظواهر التي عرفناها خلال السنوات التالية ، فيما يخص التكوين الاجتماعي وتوزيع مراكز القوة ، المعنى الاجتماعي للمال والثروة ، موقع المرأة في المجتمع والاقتصاد ، والموقف من الاخر الديني او المذهبي.

الذي حصل في سنوات التحول الاقتصادي تلك ، عبارة عن عاصفة هائلة القوة ، تمثلت في برامج التنمية الاقتصادية ، هبت على مجتمع ساكن ومستقر. ازدهار الاقتصاد يؤدي – بطبعه – الى تعزيز الفردانية على حساب الروابط الاجتماعية ، كما يحرك الطبقات ومواقع الافراد في سلم التراتب الاجتماعي ، فيرفع بعض من كان في المراتب الدنيا ويهبط بمن في الاعلى ، ويأتي بأفكار جديدة متعارضة – بالضرورة – مع الموروث والسائد. وتجري هذه كلها في وقت قصير ، فلا يتسع المجال للنظام الاجتماعي كي يعيد ترتيب أوراقه او ينظر في القادم الجديد. لهذا يعود المجتمع الى موقفه المفترض في الاصل ، اي الرفض والمقاومة. هذه المقاومة تمهد – شئنا ام ابينا – لانقسام اجتماعي ، بين المستفيدين من الوافد الجديد والمستفيدين من الوضع السابق.

المثال البسيط هو الاب الذي استمد جانبا من سلطته من انفاقه على ابنائه وبناته ، وسوف يخسر هذه السلطة اذا التحق الابناء بالوظائف ، وباتوا اغنى من والديهم. هؤلاء الابناء لن يحتاجوا أيضا الى الواعظ ، فقد صار بوسعهم مراجعة الكتب التي توفر معرفة تشبه ما يقوله الواعظ. ولن يحتاجوا شيخ القبيلة او كبير القرية للواسطة او الحماية ، فلديهم الشهادة المدرسية التي تمكنهم من الالتحاق بسوق العمل دون واسطة.

اظن ان هذا الشرح الموجز قد اوضح لماذا كان الدين في قلب جدالات التحول الاجتماعي. اما ما يخص مشاركة الناس في صياغة حياتهم الدينية ، فيحتاج معالجة اوسع ، ربما اعود اليها في مقال قادم.  

الخميس - 27 ربيع الأول 1445 هـ - 12 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4600181/

مقالات ذات صلة

استمعوا لصوت التغيير

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

صناعة الشخصية الملتبسة

طريق التقاليد

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

غلو .. ام بحث عن هوية

 ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب

من جيل الى جيل

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

 

05/10/2023

أزمة هوية؟


كرس د. محمدالرميحي مقالته المنشورة بهذه الصحيفة ، يوم السبت الماضي ، للتعليق على جدل عنيف ، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لالغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتسم هذا الجدل بعنف لفظي واضح من جانب الذين يدعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف ، بل يتعداه الى شتم صاحب الرأي ، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين ، وما اشبه.

وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي ، ان تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال اثار نقطة جوهرية ، تستحق المزيد من المعالجة ، وهي إشارته الى ان هذا الجدل وأمثاله يعبر عن "أزمة هوية" ، تتجلى كلما برزت على سطح الحياة اليومية ، تحديات الانتقال من عصر التقاليد الى عصر الحداثة.


وفقا لتعريف أريك اريكسون ، عالم النفس الأمريكي ، فان ازمة الهوية تعبير عن اخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية ، خصوصا في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة ، ثقافية واقتصادية ، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم ، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.

وقد لاحظت ان أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا ، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وانماط حياة جديدة ، تعارض ما ورثناه عن الاسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق يرجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم ، إضافة للتوسع في الحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. اما ذروة التحول فقد حدثت – وفق تقديري – في السنوات الخمس الماضية ، نتيجة لوصول الانترنت السريع الى كل قرية وبلدة في انحاء المملكة.

وفر الانترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله ، الا القليل من التأثير على ذهنية الفرد ، اما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه ، الذي يختار بوعي ومن دون وعي ، من موائد لا أول لها ولا آخر ، موائد بعيدة تماما عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.

كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحد جديد ، يدعمه نمط حياتي اكثر تقدما واكثر يسرا وجاذبية ، الامر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم او الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.

وفقا لرؤية اريكسون ، فان التحول المشار اليه ، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم ، ليس لأنهما يرفضان التفاهم ، بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلا من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة ، بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. ان حاجة الاب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة ، يؤدي بالضرورة الى قدر من التكلف والعناء ، الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية ، هي ما نسميه أزمة الهوية.

رؤية اريكسون تنطبق على الشباب. لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضا. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر ، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم ، تمثل مظهرا آخر لازمة الهوية.

اظن ان مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء ، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي ، الديني وغير الديني ، وبين متغيرات العصر الثقافية ، ولا سيما منظومات القيم الجديدة ، وما يترتب عليها من علائق بين الناس وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.

اعتقد ان شريحة واسعة من ابناء مجتمعنا ، من الآباء خصوصا ، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا ، لرأيناه في حقيقة ان تراثنا الثقافي يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلا ومتأثرا ، ان أراد التمتع بفضائل النظام القديم.

الشرق الاوسط الخميس - 20 ربيع الأول 1445 هـ - 5 أكتوبر 2023 م https://aawsat.com/node/4585886/

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

جدل الهوية الفردية وتأزماتها

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق

سجناء التاريخ

عن الهوية والمجتمع

فيديو : نادر كاظم وتوفيق السيف حول اشكالات الهوية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

04/08/2021

المساومة والتنازل والانتصار


لا أبالغ لو قلت ان معظم بلدان العالم ، قد واجه سؤال "الاجماع الوطني" ، لاسيما في الثلاثين عاما الاخيرة. ان تحديد هذا التاريخ يرجع لظاهرة "انفجار الهوية" التي شهدها العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. لقد قيل الكثير حول اسباب هذه الظاهرة. لكن لو اغفلنا – مؤقتا – مسار تشكلها ، وركزنا على اجزاء وتفاصيل الظاهرة بذاتها ، فلربما نجد ما يكفي من المبررات التي تخبرنا عن التحولات التالية ، والتي لازال بعضها نشطا في بعض البلدان ، حتى اليوم.

برز عناصر الظاهرة المذكورة هو نهوض الهويات الصغرى او الفرعية ، ومزاحمتها في حالات عديدة للهوية الوطنية الجامعة. نعلم ان هذا التحول قد ادى الى استقلال معظم القوميات ، التي كانت منضوية في اطار "اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية". ثم تمدد في بلدان عديدة ، من آسيا الى اوربا وأفريقيا. ومن بين الأمثلة الحديثة عليها ، التمرد في اقليم التيغراي - اثيوبيا ، وقبله بفترة وجيزة ، التظاهرات المطالبة باحترام حياة السود في الولايات المتحدة الامريكية ، والتي كانت عاملا هاما في هزيمة الرئيس السابق دونالد ترمب.

ونستطيع القول (بكلام مجمل) ان هذه الظاهرة اتخذت مسارا لينا نسبيا في القارة الاوربية ، بينما اتسمت في المجتمعات الافريقية والآسيوية بطابع خشن ، وفي بعض الاحيان شديد العنف. واحتمل ان هذا يرجع لسببين ، اولهما سياسي يتمثل في تلبس الهويات الفرعية ببعضها ، وتحولها من تعارض احادي (عرقي على سبيل المثال) الى ثنائي او متعدد الابعاد ، تتداخل فيه العوامل المعيشية والدينية والطبقية والعرقية وربما غيرها (وهذا ما حصل لشعب الاويغور شمال غرب الصين ، وشعب الروهينغيا في غرب ميانمار).

اما السبب الثاني فهو بنيوي ، يتمثل في عجز اطراف المجتمع الوطني عن التفاوض والمساومة ، التي لاتنجح – كما نعلم – دون استعداد مسبق لتقديم تنازلات. اني اعتبر هذا العجز بنيويا ، لأنه مرتبط بالتراث الثقافي والمنظومة القيمية والاخلاقية ، التي ترجح الصراع حتى لو ادى الى الخسارة الكلية ، على المساومة ، ولو أدت الى المعادلة المعروفة رابح-رابح ، اي المعادلة التي لا تنتهي بالسقوط التام للطرف المقابل.

اعتقد ان الثقافة السائدة في عالمنا العربي (وغالب البلدان الاسلامية التي نعرفها) تنحو هذا المنحى. فهي تعلي من شأن الحرب والصراع العنيف وتدمير العدو ، وتقلل من قيمة التفاوض والمهادنة ، التي تنتهي باقتسام المكاسب مع العدو او تقليل الخسائر المنتظرة.

لدينا تجربة مزدوجة من بلدين افريقيين ، توضح الفرق بين المنهجين ، المساومة والتشدد. ان تجربة جمهورية جنوب افريقيا ملهمة بحق ، في مقابل التجربة المحزنة لجمهورية زمبابوي. في 1980 انتصرت جبهة تحرير زمبابوي بقيادة الرئيس موغابي ، فكان اول قراراته تفكيك قوة البيض الذين احتكروا حكم البلاد قبله ، فانتهى الامر بهذه البلاد الى الجوع والخوف والاضطراب ، وهرب الاف السكان الى دول الجوار بحثا عن لقمة العيش. اما في جنوب افريقيا ، فقد قرر زعيم السود نيلسون مانديلا اقتسام السلطة والثروة مع البيض ، بعدما انتصر عليهم في 1994. ان هذه الدولة هي اقوى الدول الافريقية اليوم ، واكثرها ثراء واحتراما على المستوى الدولي. وتظهر المقارنة بين التجربتين المتجاورتين ان نصف انتصار هؤلاء ، اعظم من الانتصار الكامل لاولئك ، واكثر انسانية ونفعا لكافة الاطراف.

هذه التجارب وامثالها تخبرنا ان الخطوة الأولى لترسيخ الاجماع الوطني هي بناء الثقة ، من خلال التاكيد على قيمة التراضي والتنازل والمساومة ، حتى لو كنت تملك الحق كله ، وحتى لو كنت تملك القوة كلها.

الأربعاء - 25 ذو الحجة 1442 هـ - 04 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [15590]

https://aawsat.com/node/3113951

 

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

من باريس الى التغراي .. العالم يواجه ازمة هوية

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

الهوية المتأزمة

 

25/11/2020

حول أزمة الهوية


هذه تكملة لمقال الاسبوع الماضي ،  الذي تعرضت فيه لما ظننته هوية متأزمة ، يعانيها كثير من المسلمين المعاصرين ، لاسيما هؤلاء الذين استوطنوا في اوربا ، حيث الثقافة والأعراف غير ما عرفوه في بلدانهم ، او ما ظنوه أصدق تمثيلا لمرادات الدين الحنيف.

كتبت تكرارا عن مشكلة الهوية في السنوات الماضية. وظننت انها باتت مفهوما واضحا لغالبية الناس. لكن النقاشات التي أطلعت عليها هذه الأيام ، أوضحت لي ان الغموض المحيط بالفكرة لازال كما  تركته قبل بضع سنين. ليس هذا بالأمر الغريب ، فمفهوم "الهوية" جديد على الثقافة العربية ، ولو راجعت المعاجم القديمة  لما وجدت له عينا ولا أثرا.

انه مثال عن مئات التعابير التي نتداولها ونظنها عربية صميمة. لكنها ليست كذلك ، فهي مستوردة من إطار معرفي مختلف. ولهذا فان حمولتها المفهومية والقيمية متباينة بين شخص وآخر ، تبعا لقبوله بمغازيها.  وكنت قد التفت لهذه المشكلة ، حين وجدت من يدعو الناس لاختيار حرج بين الدين والوطنية والقومية ، ووجدت الناس مضطرين للقول بانهم مسلمون فقط او مسلمون أولا ، خشية ان يكون القول بالهويات الثلاث معا ، خادشا لصفاء الاعتقاد.

هذا الشعور المرتبك يكشف جانبا من مشكلة الهوية التي يعانيها المسلم اليوم. وهي قليلة الخطورة في ظني ، مع انها تثير التباسا غير محمود. انها مشكلة نظرية ،  فردية غالبا. اما الجانب الأصعب من المشكل ، فيتجسد في حالة المسلمين الذين استقروا في البلدان الصناعية. هؤلاء يعيشون أزمة مضاعفة ، دينية وثقافية. 

فالمجتمعات التي استوطنوها لا تقيم للدين اعتبارا خاصا ، كحال مجتمعاتهم الاصلية ، وبالتالي فان العرف والقانون لا يقف في صفهم. وهم يواجهون كل يوم تقريبا سلوكيات مزعجة ، وقد تنطوي على مضمون عدواني (هذا يظهر خصوصا في المظهر الشخصي والعلاقات بين الجنسين). 

ولعل بعض القراء قد تابع الجدالات الواسعة ، التي أعقبت منع النقاب في دول اوربية ، مثل الدانمارك وبلجيكا هولندا. ان عدد الذين يستعملون النقاب قليل جدا ، لكن منعه كان إشارة الى تغيير (قانوني) لعلاقة الآباء المسلمين مع نسائهم. وهو يولد ضغطا شديدا على نفوسهم ، وربما يودي بهم الى مزيد من الانكماش على الذات.

حسنا.. لماذا نذكر هذه الامثلة في سياق الحديث عن "أزمة هوية"؟.

يقودنا هذا السؤال الى جوهر المشكلة. لقد افترض بعض الناس ان الهوية الدينية متمثلة في النموذج الاجتماعي الذي يشمل خصوصا موقع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية ، مظهره الشخصي ، والتزامه بالاعراف السائدة. ويعج التراث العربي بنصوص وشروح حول كل من هذه العناصر ، وثمة تأكيد على علاقتها بالدين او حتى كونها جزء منه ، كحال النقاب الذي ذكرته آنفا.  

حين تكون في مجتمع يطلب هذه المظاهر او يتقبلها ، فلن يكون ثمة مشكلة. لكنها ستبرز حتما حينما تعيش في مجتمع يعارضها او يفضل غيرها ، كحال المجتمعات الاوروبية اليوم. اقول ان هذا يعيد طرح السؤال من جديد: هل الزي (بما فيه الشكل المسمى حجابا شرعيا) وبقية المظاهر ، وكذلك الاعراف الحياتية ، هل هذه جميعا من جوهر الدين ، وان الدين لا يقوم الا به ، ام انها من اعراض الحياة التي اكتسبت لونا  دينيا ، او احتملت لونا دينيا ، مع انها ليست من جوهر الدين؟.

اني اعلم بنوعية الاجوبة التي تقابل سؤالا كهذا. لكن الجواب الانطباعي او العاطفي المألوف ، لا يفيدنا كثيرا. مانحتاجه هو التأمل العميق في الاشكال الحقيقي ، اعني جدل العلاقة بين الاسلام والعصر ، وان تمظهر اليوم في اطار ما نسميه "ازمة الهوية".

الشرق الأوسط الأربعاء - 10 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 25 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15338]

https://aawsat.com/node/2645236/

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

18/11/2020

من باريس الى التغراي .. العالم يواجه ازمة هوية

 

أشعر ان العالم على اعتاب أزمة جديدة ، مصدرها الرئيس هو تأزم الهوية وتفاقم نزعات التعصب الاثني. ينتابني شك قوي في الدوافع الحاسمة وراء قتل المعلم الفرنسي صمويل باتي ، منتصف اكتوبر الماضي ، وما تلاه من هجمات في جنوب فرنسا ، ثم في العاصمة النمساوية فيينا ، وكلها بررت بقصة واحدة ، هي قيام المعلم القتيل بعرض كاريكاتور للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ، نشرته جريدة ساخرة قبل خمسة اعوام.


لدي شك في ان الشبان الذين قاموا بتلك الاعمال الخطرة ، كانوا مدفوعين باضطراب نفسي ، يتمظهر في شكل تعصب ديني او قومي ، متواز مع رغبة عارمة لتمثيل نوع من البطولة الاسطورية. وهو احد الوجوه لما نسميه أزمة هوية.

على الجانب الاخر من الاطلسي ، في الولايات المتحدة الامريكية شارك 150 مليون مواطن في الانتخابات الرئاسية. وهي اعلى نسبة مشاركة منذ 120 عاما. وقال الرئيس السابق باراك اوباما ان هذه النسبة العالية تؤكد شدة الانقسام في المجتمع الامريكي. وهذا قول تدعمه استطلاعات الراي التالية للانتخابات. فقد استأثر الرئيس المنتخب بايدن بدعم الشرائح غير التقليدية ، فصوت له 87% من السود ، و55% من الحاصلين على شهادات جامعية اضافة الى 62% من الشباب (بين 18-29 سنة).

وطبقا لتقدير الاستاذ ياسر الغسلان ، الصحفي المتخصص في الشؤون الامريكية ، فان فوز اوباما بالرئاسة في 2008 هو الذي مهد الطريق لصعود ترامب (الذي يعتبر الى حد ما ، نقيضه الاجتماعي). ان فوز ترمب ثم بايدن ، تعبير ضمني (ثقيل) عن تجاذب شديد بين مركز القوة الامريكية التقليدية ، أي سكان الريف البروتستنت ذوي الاصول الشمال اوربية ، وبين سكان المدن المؤلفة من خليط واسع من الاعراق والانتماءات الثقافية.

وبعيدا نحو الشرق ، انتهت للتو جولة عسكرية في صراع مزمن بين الاذريين والارمن ، على ملكية اقليم ناغورنو قره باغ ، الواقع ضمن اراضي اذربيجان لكن معظم سكانه من الارمن. وقد تداول الاعلام العالمي صورة جندي آذري ينتزع صليبا من سطح كنيسة. كما انتشرت صور لسيدات ارمنيات يبكين على مصير دير تاريخي ، يخشى ان تطاله يد العبث. المعروف ان مستوى الالتزام بالشعائر الدينية في كلا البلدين ضعيف جدا ، لكن الهوية الدينية تلعب دورا تعبويا مؤثرا في اوقات الازمة.

اخيرا نشير الى الصراع الذي انبعث من جديد في شمال اثيوبيا ، بين سكان اقليم التغراي والحكومة المركزية.  وهو صراع تحركه عوامل اقتصادية وسياسية ، لكنه يتلبس رداء اثنيا.

هذا المرور السريع على حوادث متزامنة ، تجري في بقاع مختلفة في شرق العالم وغربه ، تجعلنا نشعر بالقلق من ان العالم ربما يكون مقبلا على مرحلة ، يمكن ان نسميها "انفجار الهوية" ، شبيهة بما جرى في مطلع العقد التاسع من القرن المنصرم.

الغرض من هذه الاشارة هو اظهار القلق من ان الدين ا(لاسلامي خصوصا) يمكن ان يستثمر كواجهة في صراع واسع جدا. ومرادي هو دعوة اهل الرأي المسلمين ، للبحث عن اطروحة او مشروع يحول دون تحميل الدين عبء الانحياز الهوياتي ، نظير ما حدث في اوربا. اقول هذا لعلمي بان فريقا كبيرا جدا من المسلمين ، يرى ان الاسلام هوية في الاساس ، اي انه ليس انتماء انسانيا مفتوحا ، يستطيع اضافة نفسه كمكون لاي هوية اخرى ، بل هو هوية موازية او حتى معارضة للهويات الاخرى. في اعتقادي ان هذا المنظور سقيم وقد كان – حتى الان – سببا في اقحام الدين الحنيف واتباعه ، في صراعات لا شأن لهم بها ، ولا ثمرة وراءها.

الشرق الأوسط الأربعاء - 3 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 18 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15331]

https://aawsat.com/node/2631561/

 

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

20/05/2015

الهوية المتأزمة



ازعم ان الميل العميق للتمثل بالتاريخ ، سيما عند مسلمي الشرق الاوسط ، يمثل انعكاسا لهوية متأزمة. تقديس رجالات التاريخ واعتبار مجرياته معيارا يقاس عليه الحاضر ، يؤدي بالضرورة الى انكار الحاضر واعتباره نكسة. رغم ان التحليل الواقعي يؤكد عكس هذا تماما. 
صحيح ان المسلمين لم يعودوا سادة العالم ، لكن انتشار الاسلام اليوم ، وما يملكه اتباعه من علم وثروة وقوة يفوق كثيرا ما كان لديهم في ذروة مجدهم الغابر. اعتبار الماضي نموذجا ، يصدق في شيء واحد فقط ، هو تفوقنا السابق على غيرنا.
تصوير الاسلاميين والقوميين للغرب كعدو مطلق او كسبب لفشلنا الحضاري ، يعبر في احد وجوهه عن تلك الهوية المتأزمة ، التي لا تتشكل في سياق وصف مستقل للذات ، بل في سياق التناقض المقصود او العفوي مع "الاخر" الغربي الذي يوصف ايضا بالكافر. اما السبب المباشر لتأزم الهوية فيكمن في عجزنا عن المنافسة ، وهو ليس عجزا عضويا او تكوينيا. ان سببه كما اظن هو عدم الرغبة في دفع الثمن الضروري للتمكن من المنافسة. هذا الثمن هو ببساطة التماثل الاولي والتعلم ثم اعادة انتاج القوة ، تمهيدا لمنافسة الآخر على قدم المساواة وربما تجاوزه.
معظم النزاعات الدائرة حولنا تحمل هوية تناقضية. هذه نزاعات يحركها او يعمقها تناقض هوياتي ، يجري تبريره بمبررات دينية او قومية. ولذا فهي تسهم في تعزيز المفاصلة بين الدين والعصر ، وتشدد على ربط الدين بالماضي بدل الحاضر ، وبالتالي فهي تعزز اغترابنا عن عالمنا الواقعي.
من ملامح الهوية المتأزمة ايضا انها تحمل في داخلها ازدواجية مدمرة. تؤكد بحوث ميدانية ان معظم عرب المشرق يعتبرون "الغرب" سيما امريكا والولايات المتحدة عدوا حضاريا ، او على الاقل ، مصدر تهديد. لكن ارقام المبتعثين السعوديين مثلا تشير الى ان 67 بالمائة منهم اختاروا الدراسة في هذه الدول ، وعلى الخصوص الدول التي شاركت في حرب الخليج (1991) التي اعتبرها بعض الدعاة ذروة الهجوم الغربي (النصراني) على قلب العالم الاسلامي. ومن الطريف ان كثيرا من اولئك الدعاة رحبوا باختيار ابنائهم لتلك الدول بالذات للدراسات العليا. هذه الازدواجية تعني اننا نكره الاخر (الغرب) ونعتبره عدوا ، بل ونرحب بمن يقاتله.  لكننا بموازاة ذلك نحتفي به ونحب ان نكون مثله.
هذا يوضح اننا لا نشكل هويتنا ، اي معرفتنا بذاتنا وتصورنا لذاتنا بطريقة ايجابية تنطلق من الرغبة في ان اكون كما احب او كما يليق بي ، او - على الاقل – ان اكون كما استطيع. على العكس من ذلك فاننا نشكل هويتنا من خلال مناظرة الاخر ، اي في سياق التعارض معه والتباعد عنه ، ولو على المستوى الشعوري ، مع رغبتنا في تقليده على المستوى المادي.
خط التأزم هذا يحيل نقد الغرب الى مجرد كلام للتسلية وتبرير المواقف ، لكنه على اي حال يبقى فعالا في تعطيل التفاعل الايجابي البناء مع الغرب المعرفي والحضاري ، تفاعلا يقود الى التعلم العميق المؤدي للقدرة على المنافسة فالاستقلال.
من الناحية الواقعية لسنا قادرين على مناوأة الغرب ، ولا يوجد بيننا من يعتقد  - جادا – انه قادر على التحرر من الحاجة اليه في المدى المنظور. ومثل هذا الشعور المتناقض يحول التصارع الى جدل مؤرق داخل النفس ، الامر الذي يتطلب تنفيسا من نوع ما. ولسوء حظنا فقد استبدلنا المنازعة الملكلفة مع الغرب بمنازعة تبدو سهلة مع اطراف اخرى في المجتمع ، نختلف معها سياسيا او فكريا. العجز عن مناوأة الغرب يدفع دعاة الصراع الى مناوأة من يصفونها بالنخبة المتغربة او المتاثرين بالغرب اي – بعبارة اخرى – تحويل الصراع الخارجي المكلف الى صراع داخلي يبدو قليل الكلفة.
زبدة القول ان الهوية المتأزمة تفسر العديد من الصراعات الاجتماعية والسياسية ، التي يستعمل فيها الدين اوالقومية كشعار او كمبرر. انها تعبير عن ارادة للتحرر من "آخر" تجاوزنا ، ونشعر بالعجز عن مجاراته. لكن عجزنا عن دفع الثمن الضروري للمنافسة جعلنا ننشغل قاصدين او غافلين ، بصراعات داخلية بديلة ، تشير الى العدو لكنها لا تصل اليه.
الشرق الاوسط -  1 شعبان 1436 هـ - 20 مايو 2015 مـ
http://bit.ly/1LlwrlI

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...