23/10/2004

التامين الاجتماعي الشامل



لا بد ان كل مواطن قد خصص بعض ماله او تفكيره خلال هذا الشهر الكريم لضعفاء الخلق الذين ضاقت بهم الحال وقصرت ايديهم عن النوال. شهر رمضان فرصة تمينة يرغب الناس خلالها في مد يد العون الى الغير. الاساس في فكرة التكافل الاجتماعي ان لكل انسان حق على مجتمعه مثلما لمجتمعه حقوق عليه. وتتجلى هذه الحقوق المتقابلة في وقت حاجة كل طرف الى الاخر. المجتمع يحتاج الى الفرد مثلما يحتاج هذا الى ذاك.

يمكن تصور فكرة التكافل الاجتماعي على ثلاثة مستويات : فردي يتجلى في العون المباشر من شخص الى شخص ، ومؤسسي يتمثل في الجمعيات الخيرية العامة او المتخصصة ، ثم المستوى الوطني الذي يتمثل في الضمان الاجتماعي الشامل. في الوقت الحاضر يتوفر الضمان الاجتماعي لموظفي الحكومة والشركات الكبرى على شكل حقوق مالية تدفع عند يلوغ الموظف سن التقاعد. هناك فرصة لغير الموظفين ايضا للحصول على معونات ضمن نفس الاطار عند بلوغهم سن العجز عن العمل . لكن يبدو ان عددا ليس بالقليل من المواطنين لا يتمتع بهذه الفرصة ولا تلك لسبب او لآخر. والفكرة التي اود طرحها هنا هي دعوة الى تطوير نظام للتامين الاجتماعي الشامل تشمل ضمان راتب تقاعدي لكل مواطن يصل سن التقاعد وعونا محددا في حال البطالة او العجز عن العمل او انخفاض دخله الشخصي عن مستوى معين . واظن ان الانتعاش الاقتصادي الحالي يمثل فرصة مناسبة لدراسة مشروع من هذا النوع من جانب مجلس الشورى او الهيئات الحكومية المختصة .

قبل اشهر قليلة رفض وزير العمل فكرة تقديم مساعدة مالية للعاطلين عن العمل بدعوى ان تجربة الدول التي لديها مثل هذا النظام غير مشجعة . ولم نسمع بمثل هذا التبرير ، لكنه مقبول بالنظر الىاختلاف الحالة عندنا . فالدول التي تقدم مساعدة للعاطلين تفرض على كل مواطن عامل مشاركة الزامية في النظام الوطني للتامين الاجتماعي وبالتالي فان ما يحصل عليه هو حق مكتسب دفع في مقابله ، او هو ملتزم بدفعه عند حصوله على عمل . ومثل ذلك يقال عن الضمان التقاعدي. لكن من ناحية اخرى فان ترك المسالة دون اي تنظيم بديل سوف يؤدي الى تثبيت نسبة الفقر وجعلها مستحيلة العلاج ، خاصة وان التشغيل الكامل لكافة المواطنين في سن العمل مستحيل او غير مرغوب . ان نسبة معينة من البطالة تعتبر ضرورية لتثبيت معدلات التضخم ، وهذا امر معروف بين الاقتصاديين .
على اي حال فان موضوع الضمان الشامل لا يقتصر على شريحة العاطلين عن العمل ، بل ان الجانب الابرز منه يتوجه الى الشريحة الواسعة من المواطنين الذين يصنفون كعاملين مستقلين وتضم هذه الشريحة معظم الحرفيين الذين يملكون اعمالهم وجميع المزارعين اضافة الى الاغلبية الساحقة من النساء غير المتزوجات من موظفين .

لا تقوم هذه الفكرة على تحميل ميزانية الدولة عبئا اضافيا ، وواضح ايضا ان اضافة موارد انفاق جديدة واسعة النطاق ربما يستتبع اثارا سلبية على الاقتصاد الوطني . تتكون الفكرة من جانبين متلازمين : وضع نظام للتامين الاجتماعي الالزامي ، بحيث يتوجب على كل فرد في سن العمل – مواطنا او مقيما – ان يدفع جزء معينا من دخله الشهري كمشاركة في الضمان مثلما يفعل موظفو الدولة ، وفي المقابل يحق له الاستفادة من المزايا التي يوفرها النظام . لجعل هذا النظام ممكنا فاننا بحاجة الى اطلاق حملة ارشاد واسعة ومحددة الاهداف غرضها توعية الجمهور بضرورة هذا النظام وفوائده ، ثم البدء بتطبيقه بصورة تدريجية . سيحتاج الامر بطبيعة الحال الى دراسة كافية لمعدلات الاقتطاع الشهري المناسبة خاصة من اصحاب الحرف المتغيرة الدخل كالمزارعين وبعض فئات العمال ، كما يحتاج الى ربط مستوى الاقتطاع  والراتب التقاعدي بمعدل التضخم السنوي بحيث يكون العائد مجزيا ومقنعا للمشاركين.

صحيح ان اطارات المساعدة الحالية تعالج قدرا معقولا من الحاجات ، لكننا نحتاج الى جعل الامر روتينيا وقائما على قاعدة ان الضمان الاجتماعي هو حق مكتسب لكل مواطن ، يحصل عليه بصورة اتوماتيكية مقابل مشاركته المسبقة . التامين الالزامي يمثل من ناحية اخرى وسيلة هامة لتوفير راس المال على المستوى الوطني ، وهو يعتبر في دول كثيرة احد المداخل الرئيسية للاستثمار ، وتجربة صندوق التقاعد عندنا هي مثال على هذه الفائدة ، فهذا الصندوق يعتبر اليوم احد اعمدة الاستثمار في البلاد . الاستثمار المتجدد يعني تحفيز النمو وتحسين مستوى المعيشة.  لو نجحنا في توسيع تجربة صندوق التقاعد من الحدود الحالية التي تقتصر على موظفي الدولة والشركات الكبرى الى كافة المواطنين في سن العمل ، فمن المرجح ان قدرته على الاستثمار ، وبالتالي مساهمته في معالجة الفقر وتوفير فرص العمل ستكون اكبر بعدة اضعاف.

رمضان اذن فرصة للتفكير في التكافل بين جميع المواطنين ، واظن ان خير صور التكافل هي تلك التي توفر للجميع حلولا اقتصادية وطويلة الامد.
  (السبت - 9/9/1425هـ ) الموافق  23 / اكتوبر/ 2004  - العدد   1224
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/10/23/Section_6.xml

16/10/2004

افكار للاستعمال الخارجي فقط


شدد وزير التربية والتعليم على ضرورة اتباع معايير الكفاءة في انتخاب مسؤولي القطاعات التعليمية بدلا من التعيين وفق القرب القبلي او العائلي او الطائفي او الميول والمصالح الشخصية . وقد اختار الوزير المنطقة الشرقية لاطلاق هذه التصريحات وهو اختيار لا تخفى دلالاته ومعانيه. مسألة المساواة في الفرص والمساواة امام القانون هي – ربما – اهم القواعد التي تقوم عليها الدولة الحديثة ، ولا يمكن لاي مجتمع ان ينهض الا اذا استثمر جميع ما فيه من قوى مادية وفكرية واجتماعية . مثل هذه النهضة لا تتحقق ولا تكتمل الا اذا كان الجميع سواسية في المغانم والمغارم .


ولا يختلف اثنان على ضرورة المساواة بين المواطنين من الناحية المبدئية . ما دامت الفكرة محصورة في الاطار النظري والمثالي فالكل معها والكل يدعو اليها . لكن مشكلة الافكار الجميلة جميعا هي انها محدودة الاستعمال ، مثل بعض الادوية التي يكتب على غلافها تحذير : للاستعمال الخارجي فقط ، او للاستعمال بواسطة الراشدين فقط . يجب ان نقول لمعالي الوزير ولكل دعاة المساواة بين بني الانسان: ان فورمول ( للاستعمال الخارجي فقط) لم يعد ينفع ، لان مشكلة التمييز لم تعد عرضا ثانويا يمكن تسكينه باسبرين الكلام عن المثاليات ومكارم الاخلاق بل علة متاصلة ومتكررة . المساواة في الفرص حق طبيعي ثابت واصلي لكل مواطن بمقتضى الشراكة في تراب الوطن ، وهي حق قانوني مكتسب لكل مواطن بمقتضى النظام الاساسي. مقولات النظام الاساسي هي التزام على عاتق كل مسؤول وصاحب منصب ، ليس القبول بها فحسب بل تطبيقها في الواقع ، كلا ضمن دائرة عمله .

الكل يتحدث عن الكفاءة واعتبارها مقياسا اعلى للتفاضل في الفرص الوظيفية ، والكل يمتدح المساواة بين الناس باعتبارها من اعظم تمثلات العدالة الاجتماعية التي اقرها الاسلام . لكننا مع ذلك ما زلنا نشكو من ان هذه القيمة الجميلة مازالت محدودة في (الاستعمال الخارجي فقط).

رغم ان تراثنا يدعو الى المساواة بين الناس (كلكم لآدم وآدم من تراب) الا ان سيطرة الفكر المذهبي والطائفي بتفرعاته الكلامية والفقهية على هذا التراث ، جعلنا – عن وعي احيانا وعن غفلة في معظم الاحيان – نتحدث عن المساواة كفرضية ثم ننقضها في الاستنتاج والممارسة. بكلمة اخرى: نحن نتعامل مع قيمة المساواة كقيمة اخلاقية مجردة لكننا نقيدها بعشرات من القيود حتى تنتفي تماما . وبهذه الممارسة فاننا نريح انفسنا من حرج التنكر للقيمة الاخلاقية البديهية ، دون ان  نتحمل عبء تبنيها فكريا او تطبيقها عمليا .
هذا التفارق بين المناداة بالمثاليات المجردة على مستوى الكلام والكتابة من جهة ، وتفكيكها او صرفها الى نقيضها من جهة اخرى ، هو مظهر آخر لعلة عميقة الجذور في ثقافتنا ، هذه العلة هي التعامل مع القيم العليا كجدليات تفيد في المناكفة والمساجلة مع الخصوم ، وليس كاشارات تدلنا على طريق العمل او معايير لتقييم سلوكياتنا الحياتية . اننا نجادل الغربيين باننا لا نحتاج الى مواثيق حقوق الانسان التي يدعوننا للالتزام بها ، لانها موجودة بالتمام والكمال في تراثنا . ترى الم نسأل انفسنا : اذا كان هذا حقا فلماذا اذن لا نجدها مطبقة في حياتنا العامة ؟.

من الواضح ان المساواة بين الناس ليست من القيم النشطة في واقعنا الحياتي ، و هذا راجع الى انها ليست مكينة وراسخة في ثقافتنا (خارج حدود المثالية المجردة) . بل ان تراثنا يحفل بما هو نقيض لقيمة المساواة  على المستوى التطبيقي . وقد ذهب الكثير من قدامى المفكرين ، من المسلمين وغيرهم ، في الشرق والغرب ، الى ان امر المجتمع لا يستقيم الا بانقسامه ، بل ودافع بعضهم عن الحدود التي تفصل الطبقات والشرائح الاجتماعية حتى البسها ثوب القداسة . وفي عصور امارات الطوائف ، حوالي القرن الثامن الهجري ، ذهب بعض المفكرين المسلمين الى تحريم زواج الاعجمي من عربية لانها اعلى مرتبة ، والزواج يقتضي جعل الزوج اعلى من زوجته في النظام الاجتماعي . ولا زلنا في العصور الحاضرة نسمع من يحرم التزاوج بين اصحاب المذاهب الاسلامية لنفس المبرر او قريبا منه .
اذا اراد معالي الوزير ان يحقق فكرة المساواة في وزارته ، وان يجعل الكفاءة معيارا اعلى للتفاضل بين موظفيه وادارييه ، فان الخطوة التالية بعد المناداة بالفكرة تتمثل في وضع قانون يحدد كيفية تطبيق الفكرة ، ويعين جهة ادارية محددة يمكن الشكوى اليها في حال جرى العبث بالقانون او مخالفته. ثمة شكاوى كثيرة حول هذا الموضوع تترامى الى الاسماع من هنا او هناك ، وحري بمعاليه ان ينظر اليها باهتمام خاص، ليس كحلقات منفصلة بل كاعراض لعلة قد لا تكون واضحة امام الاعين  ، وان كانت نشطة من وراء الستار. الاصلاح يبدأ بكلمة ، لكنه لا يكتمل الا بالفعل .

09/10/2004

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر


؛؛ روح الرجعي متعلقة بالاموات، قبورهم وكتبهم ومقولاتهم وميولاتهم واحلامهم. فالعقل والجمال - عنده – كائنات عاشت في الماضي ثم ماتت فلم تعبر بوابة الزمن؛؛


يمكن لأي انسان ان يكون تقدميا دون عناء، اذا تبنى منهج التغيير كقاعدة في التفكير وادارة الحياة والتعامل مع الاشخاص والاشياء. من السهل عليه ايضا ان يكون رجعيا اذا تبنى منهج تثبيت الزمن ضمن معادلة تبدأ وتنتهي في الماضي. لتبسيط الفكرة يمكن المقارنة بين شخصين احدهما يتحرك الى الوراء والاخر يتحرك الى الامام. لو نظرنا الى العملية من زاوية الزمن ، فان الرجعي هو الذي يتراجع عن موقعه المعاصر متوغلا في التاريخ بروحه أو ثقافته، بينما التقدمي هو الذي يعيش في المستقبل روحيا أو ثقافيا.
من الناحية الواقعية، لا يتحرك الناس الى الماضي أو المستقبل، لذلك فان الحديث عن حركة لا يتناول شكلها المادي. كما ان المتراجع الى الماضي لا ينفك، بل ربما من المستحيل عليه ان ينفك - حتى لو اراد - من قيود الحاضر. لهذا فمن الافضل التركيز على مفهوم التغيير باعتباره المعيار الرئيس للتمييز بين الرجعي والتقدمي. لنقل اذن ان الرجعي هو الشخص الشديد الرغبة في المحافظة على ما هو موجود، ما ورثه من التاريخ أو ما حصل عليه في الحاضر. الحاضر يصبح باستمرار تاريخا ماضيا فور ان تتحرك عقارب الساعة . 
في المقابل فان التقدمي هو ذلك الذي ينظر الى التاريخ والحاضر معا باعتبارهما حالة مؤقتة، اي مرحلة نحو الاتي، وبالتالي فان ما ورثه من التاريخ وما يحصل عليه اليوم، كلاهما مجرد تمهيد لما سيأتي في المستقبل. الرجعي اذن يمثل عامل استمرار وتواصل بين الماضي والحاضر. معادلة العلاقة بين الازمنة عند الرجعي محكومة بالماضي : ما حدث في الماضي هو دائما معيار لتقييم الحاضر والمستقبل، ويترتب عليه بالضرورة ان الحاضر والاتي كلاهما موضع ارتياب لايحصل على صك البراءة الا اذا ثبت اتصاله بالماضي أو انبثاقه منه. بكلمة اخرى فان الرجعي ينظر الى الماضي كمصدر للقيمة، الاشخاص والحوادث والاعتبارات التي شكلت حياة الناس في الازمان الماضية، تتحول كلها الى مصادر للقيمة. الحاضر والمستقبل، اهله وحوادثه وما يدور فيه من افكار، مطالبون جميعا بان يثبتوا انسجامهم مع الماضي كي يحصلوا على قيمة واعتبار.
خلافا لهذا فان التقدمي ينظر للماضي والحاضر والمستقبل باعتبارها جميعا اطارات - مادية أو ثقافية - لحركة الانسان. هذه الاطارات وما فيها من مضامين، اضافة الى الانسان الذي ينتجها أو يستعملها أو يعيش ضمنها، كلها كائنات سائلة تتفاعل مع بعضها فتتغير بين يوم وآخر . ثقافة الامس تختلف عن ثقافة اليوم، انسان الامس يختلف عن انسان اليوم، قيم الامس تختلف عن قيم اليوم. ليست هذه افضل من تلك ، ولا تلك خير من هذه. المقارنة بين هذه وتلك مستحيلة تقريبا، لانه لا يمكن العثور على معيار موضوعي - اي متحرر من تاثير كليهما - للحكم على هذه أو تلك. لا يمكن ايضا الرجوع الى قيمة مطلقة واحدة للحكم على كلا الطرفين، لان القيم المطلقة غير قابلة للاشتغال الا اذا حددت وقيدت، فاذا حددت أو قيدت، اصبحت شخصية أو نسبية لا تفيد كثيرا في معايرة موضوعية صارمة. ما اردت قوله، ان الكلام عن تفاضل بين الرجعي والتقدمي، كلام لا قيمة له ولا فائدة فيه، ومن الافضل اذن ان ننظر الى المسارين كلا ضمن معاييره الخاصة، وفي كل الاحوال فإن حكمنا عليهما سيكون منحازاً.
عالم الرجعي عالم باد بعدما ساد، عالم زال وانتهى، اصبح خبرا بعدما كان فعلا، عالم مجازي، عاد الى الحياة لان صاحبه ألبسه عباءة الاحياء لا لانه حي بالفعل. روح الرجعي متعلقة بالاموات، قبورهم وكتبهم ومقولاتهم وميولاتهم واحلامهم و ما كانوا يحبون أو يكرهون. يرقص الرجعي طربا اذا عثر على فكرة قالها احد في الماضي، ويغرق في الفخر اذا وجد احدا من الاحياء يكرر ما قاله الميتون أو يثني عليهم أو يشير اليهم أو ينقل عنهم. الناس والاشياء التي تستمتع بحياتها امام عينيه هي مجرد كائنات سائبة تعيش في عالم مجهول أو مجنون. فالعقل والجمال - في نظر الرجعي - عاش في الماضي ثم مات فلم يعبر بوابة الزمن.
يحن الرجعي الى الماضي ويتمنى لو عاش فيه. لكن هذا الحنين هو مجرد تامل مثالي، ربما هو احتجاج على حاضر لا يمكن القبض عليه أو التحكم في تحولاته. الرجعي - مثل كل انسان اخر - يشعر باستحالة الانفلات من قيود الزمن والرجوع المادي الى الخلف، لهذا فان حنينه الى الماضي قد يكون محاولة لتغيير قوانين اللعبة، اي استثمار السلطة المعنوية التي تولدت عن نجاح الماضين في تبرير سلطة على الاحياء.
الطريق الى الرجعية بسيط جدا : ثقافة الاموات متوفرة في المكتبات، مجتمع الاموات موجود على شكل احياء-اموات أو على شكل قبور لها شواهد، ثقافة الموت هي الاخرى متوفرة في الصحف وشبكات التلفزيون وفي كل مكان. تحتاج فقط ان تدير ظهرك للحياة والاحياء، ان تنتمي - ثقافيا وروحيا - للاموات وزمن الاموات، وقد وصلت فعلا.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/10/9/Art_152790.XML

18/09/2004

فضح العيوب واستنهاض المجتمع

طبقا لتصريحات د. الخثلان فان الجمعية الوطنية لحقوق الانسان سوف تقوم بجولات تفتيش في السجون ومراكز الامن للتاكد من تمتع الموقوفين بحقوقهم الطبيعية والدستورية. ومع هذه الخطوة الهامة فاني اقترح على اللجنة ان تصدر تقارير علنية عن نتائج تلك الزيارات . ثمة انطباع سائد في عالم اليوم بان العلنية او الشفافية هي اقصر الطرق واقلها كلفة لمعالجة المشكلات. بل ان هذا النوع من العلاج قد اخذ طريقه الى الطب النفسي فثمة عيادات كثيرة في العالم تعالج مرضاها من خلال الجلسات الجماعية التي يبوح فيها كل مريض لحضور الجلسة الاخرين بما يعانيه .

على المستوى العام، الاداري او السياسي،  تقوم فكرة الشفافية على فرضيتين: الاولى : ان العيوب الادارية والمشكلات منفصلة موضوعيا عن المتسببين فيها او المسؤلين عنهم ، وبالتالي فانه يمكن التعاطي معها دون تحميلهم المسؤولية بمفردهم او الاساءة الى اشخاصهم. ثانيا :  ان المشكلات والعيوب في الادارة او العلاقات بين الادارة والجمهور هي اعراض لعيوب جذرية خفية ، ولهذا فان الاعلان عن وجود المشكلة وطرحها للنقاش العام يؤدي بالضرورة الى زيادة الوعي بعناصرها الاخرى واسبابها الجذرية وبالتالي فانه يساعد الاخرين الذي يواجهون المشكلة نفسها او سيواجهونها في المستقبل على معالجتها مبكرا حتى لو لم تظهر اعراضها بصورة كاملة او جلية.

واضح ايضا ان العلنية تجبر المسؤلين في الادارات العامة على تحمل المسؤلية عن اعمالهم . في مثل مجتمعنا يميل الاداريون الى ربط متكلف بين اشخاصهم وما يقومون به من عمل ، فاذا نجح عمل ما ، اعتبروه انجازا شخصيا واذا فشل او تعطل ، سكتوا عنه كأن لم يكن . ولهذا لا يحصل عادة ان يخرج احد المسؤولين ليقول ان مشروعا معينا او مهمة كلف بها قد فشلت او انها نجحت ولكن دون المستوى المطلوب. العلنية في هذه الحالة تعني بالتحديد جعل المعلومات المتعلقة بكل عمل متاحة لعامة الناس: المشروع المقرر والاموال التي رصدت له ، والوقت المحدد لتنفيذه ونسبة الانجاز او اسباب الاخفاق. الاساس الذي تقوم عليه هذه الفكرة هو ان المشروع العام لا يرتبط بالشخص القائم عليه ، فهو ملك للمجتمع ككل ، ومن حق المجتمع ان يعرف كيف تدار امواله واعماله. الموظف المسؤول ، مسؤول امام المجتمع ، وينبغي ان يكون صادقا حين يفشل عمله وحين ينجح.
الكل يعلم ان السجون ومقرات الامن ليست اماكن نزهة ، ولهذا لا يتوقع ان يسأل مفتشو حقوق الانسان عن نوع الايسكريم الذي يقدم للنزلاء ، بل عما اذا كانوا يعاملون باحترام يليق بالمواطن والانسان ، وتحفظ كرامتهم وحقوقهم . وابرز تلك الحقوق هي تمكين المتهم او الموقوف من اثبات براءته او تخفيف عقوبته ، اضافة الى تمكينه من المحافظة على مصالحه الجارية وراء الاسوار ، كي لا يكون التوقيف بداية النهاية لحياته الاعتيادية التي يفترض ان يعود اليها يوما ما .

في المجتمعات التقليدية ينظر الى الموقوف كمذنب حتى يثبت العكس ، ولهذا قيل في بعض البلدان ان الداخل الى دوائر الامن مفقود والخارج منها مولود . نسأل الله ان لا يبتلينا وبلادنا بهذا الحال المؤلم . وفي العالم كله فان اكثر انتهاكات حقوق الانسان تجري في دوائر الامن ، ليس في المجتمعات التي تخضع لحكم الحديد والنار ، بل حتى في المجتمعات الديمقراطية التي تتوفر فيها ادوات قانونية وسياسية للدفاع عن المتهمين والموقوفين . والسبب في ذلك هو تفاوت القوة – على المستوى الشخصي - بين السجان والسجين ، وغلبة الجانب الوظيفي على العلاقة بين الاثنين مقابل ضمور الجانب الانساني.  ولهذا السبب فان انتهاكات حقوق السجناء والموقوفين متوقعة دائما. لكن ما ينبغي الاهتمام به هو حجم هذه الانتهاكات ، ودرجة استمراريتها . بكلمة اخرى فان نجاح جمعية حقوق الانسان في مسعاها الجديد مرهون بقدرتها على تخفيض حجم الانتهاكات المكتشفة من ظاهرة عامة روتينية الى حالات فردية يمكن ادانتها وتحديد المسؤولية عنها .

يبدو ان الوقت لا زال مبكرا لمطالبة الجمعية بتقرير (فني) بالاسماء والتواريخ عن الحالات التي بحثتها ، لكننا نتوقع على الاقل تقريرا اجماليا يخبرنا انها زارت المقر الفلاني ووجدت فيه ، او لم تجد ، ما كانت تبحث عنه ، ويخبرنا ايضا عما اذا كانت ترى نفسها قادرة على معالجة المشكلة المطروحة ام لا . في ظني ان مجرد الاعلان عن انتهاكات محتملة للحقوق الانسانية في اي دائرة ، سوف يؤدي فورا الى اطلاق عملية تصحيح فيها وفي نظائرها . ولهذا اعود الى التاكيد بان العلنية بذاتها علاج ، لانها ببساطة تجعل المسؤولين وعامة الناس طرفا في التصحيح ، وهذا ما نسميه استنهاض المجتمع لابداع الحلول الضرورية لمشكلاته.

عكاظ السبت - 4/8/1425هـ ) الموافق  18 / سبتمبر/ 2004  - العدد  1189

11/09/2004

مؤشر السوق ومؤشر القلق

 قد لا يختلف اثنان على ان القلق اصبح ظاهرة ملموسة في مجتمعنا خلال السنوات الاخيرة . الاوضاع الاقتصادية والازمات في المحيط الاقليمي والشعور المتفاقم بالغموض حيال المستقبل ، كلها تمثل مصادر لهذا القلق الذي قد ترتفع مؤشراته في ظروف الازمات كما تتراجع في ظروف الرخاء . من المؤسف انني عاجز عن تقديم ارقام محددة رغم محاولتي الحصول على اية مؤشرات جديرة بالثقة . لكن اذا اخذنا صور التعبير المختلفة واحاديث الناس عن انفسهم كمؤشرات اجمالية ، اضافة الى المقارنة مع الدراسات الميدانية في مجتمعات مماثلة ، فانه يمكن القول اننا بحاجة الى اخذ المسألة بقدر كبير من الاهتمام قبل ان تتحول الى علة عسيرة العلاج .
قبل عدة اعوام شدد د. الببلاوي في دراسة له على فاعلية الحراك الاقتصادي في امتصاص الميل للمنازعة في نفوس الافراد ، واستخدم المؤشرات المسجلة عن ثورة الشباب في فرنسا (1968) لوضع مقارنة بين العوامل المختلفة التي تقوي الميل للمنازعة او تضعفه . لكن منذ ذلك الوقت فان البحث عن عوامل التذمر الفردي والاجتماعي مال الى التركيز على مسالة الهوية باعتبارها صلب الموضوع . على المستوى الفلسفي فان المشكلة نفسها تعالج كطرف من قلق الوجود ، او افتقاد الانسان للقدرة على تحديد مكانه او السيطرة على مصيره في هذا المحيط الكوني الهائل والمذهل.

وجود القلق في مجتمعنا هو امر طبيعي تماما اذ يستحيل ان يخلو منه اي مجتمع على الاطلاق . الذين تخلصوا من القلق هم اولئك الذين انقطعت صلتهم بالعالم الذي حولهم وما فيه من الناس والاشياء. ايا كان تعريفنا لمشكلة القلق او جذورها ، فان ما يهمنا هو فهم المشكل ثم احتواؤه ضمن الحدود الطبيعية بحيث يستطيع الفرد ضبط انعكاساته بنفسه او بمساعدة الاليات الاجتماعية المتوفرة. تحول القلق الى ميل للتمرد والمنازعة هو الجانب الخطر في المشكلة. وتزيد احتمالات هذا التحول في ظروف اختلال التوازن على المستوى الاجتماعي او السياسي ضمن المحيط الذي يتفاعل معه الفرد.

في مثل هذه الاحوال فان واضعي السياسات واصحاب القرار عموما بحاجة الى الاخذ بعين الاعتبار الانعكاسات المحتملة لقراراتهم على نفوس الناس ، بكلمة اخرى عليهم ان يدرسوا ما اذا كان تطبيق تلك القرارات سيثير الارتياح في نفوس الشريحة الاوسع من الجمهور ام انه سيثير ضيقهم .  الضيق هو العامل الرئيس في تحويل القلق الطبيعي الى ميل للمنازعة في نفوس الافراد . نحن نسمع في نهاية كل شهر عن مؤشر ثقة المستهلكين في اسواق الدول الصناعية كدلالة على اتجاهات الاقتصاد . وثمة مؤشرات مماثلة للرضى تعكس في العادة انطباع الجمهور عن الوضع السياسي والاجتماعي . هذه المؤشرات التي توضع على اسس علمية تساعد كثيرا من تحسين القدرة على اتخاذ القرار ، بنفس الدرجة التي يساعدنا بها مؤشر سوق الاسهم في اتخاذ قرارات الاستثمار.
الامر المؤكد ان كفاءة القرار في المجال العام تعتمد جوهريا على فلسفة العمل التي يتبعها اصحاب القرار. حينما يكون رضى الجمهور هدفا محوريا فان الانعكاسات المحتملة للقرار على نفوس الناس سوف تكون عاملا منظورا في اتخاذ القرارات ، والعكس بالعكس. وأظن اننا في هذه الظروف بحاجة الى التخلص من تلك السياسات والاجراءات التنفيذية المثيرة للضيق والتي لا يرغب فيها الا اقلية من الناس . ثمة قائمة طويلة جدا من الاجراءات التي يمكن تصنيفها ضمن هذا الاطار .

شكوى الناس من الروتين ومن المعاملات المعقدة ، ومن سوء معاملة الموظفين ، هي في حقيقتها احتجاج على هذا النوع من الاجراءات التي وضعت لغرض محدد لكنها تحولت مع مرور الزمن الى ما يشبه العقوبة الجماعية . واظن ان المسؤولين في الدوائر الرسمية بحاجة الى استعرض كافة القرارات المتخذة والاجراءات التنفيذية التي ترجع اليها ومساءلة انفسهم : ما هي ضرورة كل من هذه الاجراءات؟ . كم من الناس سينتفع من ورائها وكم سيتضرر؟ . كم من الناس سيرتاح وكم منهم سيضيق ؟. مثل هذه المراجعة ضرورية كي لا يتحول القرار الى مولد للتذمر بدل ان يكون حلالا للمشكلات.

( السبت - 26/7/1425هـ ) الموافق  11 / سبتمبر/ 2004 



28/08/2004

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة


يقال عادة ان التنمية السياسية ليست وصفة جاهزة  قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان . منذ اواخر الستينات الميلادية اصبحت المقومات المحلية للتطور السياسي – او الخصوصيات كما تسمى احيانا - الموضوع المحوري للابحاث حول امكانات النمو وعوائقه. الخصوصية قد تكون وصفا ايجابيا ، بمعنى وجود فرص افضل لتنمية سياسية واسعة ، وقد تكون وصفا سلبيا بمعنى انعدام او عسر فرص الحراك السياسي او الاقتصادي او ضيق الامكانات المتاحة للنمو.
رغم كثرة الدراسات حول التنمية في العالم الثالث ، فان الاهمية الكبرى تعطى في العادة للوصف الذي يقدمه مفكرو كل بلد عن خصوصيات مجتمعهم ومدى قربها او بعدها عن معايير التنمية المتعارفة عالميا . في حقيقة الامر فان مفكري كل بلد مطالبون باقتراح النموذج التنموي الاكثر تلاؤما مع ظروف مجتمعهم الاقتصادية والثقافية وطرحه للنقاش. وفي الوقت الراهن فان علم التنمية يتمثل في مجموع الابحاث المحلية والمناقشات المتعلقة بها ، ومقارناتها مع المعايير العامة لفكرة التنمية الشاملة .
نموذج التنمية هو تركيب منظومي من المفاهيم الاساسية ، الاهداف المرحلية ، الطرق وادوات العمل التي تصمم على ضوء الشروط الخاصة للمجتمع المحلي . انه بكلمة اخرى النموذج المتعارف في العالم مع بعض التعديلات ، من اضافة او حذف.  من بين النماذج التي حققت نجاحا ملحوظا ضمن شروط العالم الثالث ، يعتبر النموذج الصيني متميزا ، لا سيما في ظل تغير اسواق العمل الدولية خلال العقد المنصرم.
يقوم هذا النموذج على اعتبار الاقتصاد محورا اساسيا – بل وحيدا الى حد كبير – للنمو ، ولهذا فهو يعتبر قاصرا عن المقاييس العالمية المتعلقة بالتنمية الشاملة . لكن الصين لفتت الانظار بقدرتها على تصميم منظومة من المحفزات للنمو جعلتها الهدف المفضل للاستثمارات الدولية . والحقيقة ان عددا هائلا من الشركات الكبرى في الدول الصناعية قد نقلت جانبا مهما من اعمالها الى الصين ، الامر الذي وفر لها فرصة لنمو سنوي ثابت في الناتج القومي ، كان هو الاعلى عالميا خلال السنوات الماضية . وخلال العام الجاري كان الحجم الهائل للنمو في هذا البلد سببا في ضغوط قوية على اسواق المواد الانشائية والوقود في العالم كله .
يقوم النموذج الصيني على استبدال الديمقراطية بالحريات الاجتماعية والثقافية . لقد اصبح من البديهي اعتبار الحريات العامة وحاكمية القانون قاعدة اساسية لاي تحرك تنموي . ان الاستثمار طويل الامد غير متوقع في مجتمعات تغيب عنها الحريات وسيادة القانون . والحقيقة ان دولا كثيرة – معظم دول الشرق الاوسط مثلا - قد حاولت اقناع العالم بان هيمنة الدولة يمكن ان تعوض عن سيادة القانون وان الانضباط هو بديل افضل عن الحرية ، وقد نجحت احيانا في استقطاب مستثمرين مهتمين بالميزات النسبية التي تتمتع بها هذه البلدان .
الا ان الاستثمارات الاجنبية منها والمحلية بقيت محدودة جدا بالقياس الى حركة راس المال العالمي . وكشف تقرير نشر العام الماضي ان الصين وحدها استقبلت ما يزيد عن مئة ضعف ما حصلت عليه اقطار الشرق الاوسط مجتمعة من استثمارات . كما ان تقريرا اخر يظهر ان الاموال الخليجية التي استثمرت في اوربا وشرق اسيا زادت خلال العقد الماضي عن تلك التي استثمرت في الخليج نفسه.
لا يفاخر الصينيون بالديمقراطية فهم يفتقرون اليها ، لكنهم يفاخرون بالحريات الاجتماعية والثقافية الواسعة وسيادة القانون التي تعني المساواة بين الجميع في الفرص وامام القانون ، كما تعني الشفافية والتاكيد على المسؤولية والمحاسبة. وتدعي الحكومة الصينية انها قد نجحت بنهاية العام الماضي في توفير التعليم الالزامي لكل الاطفال ، بمعنى انه لم يعد اي طفل في سن الدراسة خارج المدرسة. بالنسبة للمستثمر فان ما يهمه هو ضمان استثماراته على المدى البعيد . هذا الضمان مستحيل في غياب الحريات العامة وسيادة القانون . بالنسبة للحكومة فان الاستثمار الاجنبي يوفر وظائف للملايين من طالبي العمل .
يمثل النموذج الصيني – رغم قصوره في الجانب السياسي - محاولة ناجحة حتى الان في الربط بين حاجة السوق الدولية والميزات النسبية المحلية – اليد العاملة المؤهلة والرخيصة بالدرجة الاولى – والحدود الخاصة بالسياسة . لم يكن هذا الخيار سهلا او دون عوائق ، فقد تطلب تنازلات من النخبة الحاكمة وتركيزا على المواءمة بين عناصره المختلفة .
 عكاظ ( السبت - 12/7/1425هـ ) الموافق  28 / أغسطس/ 2004  - العدد  1168

24/08/2004

حدود القوة وحدود السياسة


في نهاية المطاف سيكون لدى مقتدى الصدر حزب سياسي يتنافس مع الاحزاب الاخرى ضمن دائرة محددة. قد تزيد حصته او تنقص لكنها لن تكون حاسمة. رغم قصر المدة التي مرت على العراق منذ سقوط النظام السابق ، فقد كشفت عن عدد من الحقائق التي تمثل قيودا على السياسة او حدودا موضوعية لما يمكن استخدامه من قوة مادية وما يمكن استخدامه من مساومات.
لو اتجه الصدر الى الجنوب قليلا فلربما كان اقدر على صناعة قوة شعبية اكبر حجما, لكنها حينئذ ستكون اقل تأثيرا في المعادلة السياسية العراقية. اختيار النجف ومدينة الصدر كمركز لادارة الصراع كان على الارجح تطورا طبيعيا لوجوده شخصيا ووجود انصاره في المدينتين. ولو نجح في تطبيع هذا الوجود لضمن لتياره موقعا مؤثرا في اللعبة السياسية.
قبل صدام حسين كانت النجف مركزا مؤثرا في السياسة والنخبة السياسية. ورغم تراجع اهميتها خلال العقود الثلاثة الماضية, الا ان المقومات الجوهرية للقوة بقيت كامنة, وسرعان ما عادت الى الظهور بعد سقوط النظام. هذه المدينة التي يصل عدد سكانها بالكاد الى ربع مليون نسمة يستحيل تقريبا السيطرة عليها من جانب قوة واحدة. ليس فقط مقتدى الصدر, بل حتى المرجع الديني الشيعي الذي يتجاوز تأثيره حدود العراق, لا يستطيع ادعاء السيطرة على النجف بمفرده والسبب البسيط لهذه الصعوبة يكمن في حقيقتين: الاولى ان شريحة النخبة فيها واسعة جدا, والثانية انها مدينة يشعر كل عراقي بان له حصة فيها. العراقي في البصرة والعراقي في بغداد والعراقي في الكوت يشعر بالقلق لما يحدث في النجف بدرجة اكبر من حساسيته لما يحدث في الحي المجاور لمسكنه. وبالتالي فان لعبة السياسة فيها اوسع بكثير من حدودها الجغرافية.
أما مدينة الصدر التي ربما يتمتع فيها مقتدى الصدر بقوة أكبر من تلك التي في النجف, فلها شأن آخر. تقع هذه المدينة التي تزيد عددا عن مليون نسمة على الحاشية الشمالية الشرقية للعاصمة بغداد, وقد بدأت بالتشكل في أوائل الستينات مع تزايد هجرة الريفيين الباحثين عن عمل. وتضاعف حجمها خلال الثمانينات بسبب تصاعد الهجرة من المحافظات الجنوبية خلال الحرب مع إيران وغزو الكويت.
وعند تأسيسها في عهد الرئيس الاسبق عبد الكريم قاسم, حملت اسم مدينة الثورة, ثم مدينة صدام في التسعينات قبل ان تأخذ اسمها الحالي في العام المنصرم. والصدر الذي تحمل اسمه هو والد مقتدى, السيد محمد صادق الصدر, المرجع الديني الذي وجه اهتماما خاصا لسكانها قبل ان يقتل على يد المخابرات العراقية. تنتمي الاغلبية الساحقة من سكان المدينة الى الطبقة الفقيرة والمهمشة. وبسبب تشكيلتها الخاصة فانها مورد خصب للطاقة البشرية لاي قوة سياسية, لكنها مدينة يستحيل عليها تشكيل اجماع على اي قضية. انها - بكلمة اخرى - تلخيص للعراق كله بعشائره وطوائفه وقومياته, لكنها ايضا متخارجة عن كل منها.
 ابن العشيرة الذي يسكن هنا ينتمي الى عشيرته لكنه لا يخضع لتقاليدها, فهو في نهاية المطاف ابن المدينة. لكنه ايضا لا ينتمي للطبقة الوسطى المدينية, فهو لا زال محكوما بحدود الفقر وحدود التقاليد التي تربطه الى اصوله. مدينة الصدر تلخص مشكلة الهجرة العشوائية من الريف في كل المدن العربية الكبرى بكل تعقيداتها وهمومها وانعكاساتها.
لو سيطر تيار مقتدى الصدر على مدينة الصدر, لكان في وسعه تشكيل ضغط هائل على العاصمة بغداد, لكن هذا يتجاوز حدود قدرته الراهنة. وهو لن يكون قادرا بالتأكيد على السيطرة على النجف حتى لو بدا لوهلة انه لاعب اساسي فيها. لكن المؤكد ان حركته في المدينتين قد تركت تأثيرا في المحافظات الجنوبية. ولو بادر اليوم الى تشكيل حركة سياسية فسوف يضمن تأييد شريحة مؤثرة في معظم محافظات الوسط والجنوب. لكنه في كل الاحوال لن ينفرد بتمثيل الشيعة فضلا عن غيرهم. السبب البسيط لهذا هو الحدود الموضوعية للسياسة التي اشرت اليها في البداية.
 يتجه العراق -كما يظهر حتى الآن- الى اقامة نظام سياسي يماثل ما يعرف عند دارسي العلوم السياسية بالديمقراطية التوافقية. مثل هذا النظام يقوم على تقسيم المجموع الى وحدات سياسية لا يمكن لاي منها الانفراد بتقرير مستقبل الجميع. وفي الوقت نفسه فان تشكيل وتركيز القوة في داخل كل من هذه الوحدات يتأثر سلبا وإيجابا بتوجّهات الوحدات الاخرى. في مثل هذا النظام فان القوى المعتدلة هي الاقدر دائما على ربح المعارك السياسية, لأنها - ببساطة- أقدر على المساومة.
« صحيفة عكاظ » - 24/08/2004م 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...