قد
لا يختلف اثنان على ان القلق اصبح ظاهرة ملموسة في مجتمعنا خلال السنوات الاخيرة .
الاوضاع الاقتصادية والازمات في المحيط الاقليمي والشعور المتفاقم بالغموض حيال
المستقبل ، كلها تمثل مصادر لهذا القلق الذي قد ترتفع مؤشراته في ظروف الازمات كما
تتراجع في ظروف الرخاء . من المؤسف انني عاجز عن تقديم ارقام محددة رغم محاولتي
الحصول على اية مؤشرات جديرة بالثقة . لكن اذا اخذنا صور التعبير المختلفة واحاديث
الناس عن انفسهم كمؤشرات اجمالية ، اضافة الى المقارنة مع الدراسات الميدانية في
مجتمعات مماثلة ، فانه يمكن القول اننا بحاجة الى اخذ المسألة بقدر كبير من
الاهتمام قبل ان تتحول الى علة عسيرة العلاج .
قبل
عدة اعوام شدد د. الببلاوي في دراسة له على فاعلية الحراك الاقتصادي في امتصاص
الميل للمنازعة في نفوس الافراد ، واستخدم المؤشرات المسجلة عن ثورة الشباب في
فرنسا (1968) لوضع مقارنة بين العوامل المختلفة التي تقوي الميل للمنازعة او تضعفه
. لكن منذ ذلك الوقت فان البحث عن عوامل التذمر الفردي والاجتماعي مال الى التركيز
على مسالة الهوية باعتبارها صلب الموضوع . على المستوى الفلسفي فان المشكلة نفسها
تعالج كطرف من قلق الوجود ، او افتقاد الانسان للقدرة على تحديد مكانه او السيطرة
على مصيره في هذا المحيط الكوني الهائل والمذهل.
وجود
القلق في مجتمعنا هو امر طبيعي تماما اذ يستحيل ان يخلو منه اي مجتمع على الاطلاق
. الذين تخلصوا من القلق هم اولئك الذين انقطعت صلتهم بالعالم الذي حولهم وما فيه
من الناس والاشياء. ايا كان تعريفنا لمشكلة القلق او جذورها ، فان ما يهمنا هو فهم
المشكل ثم احتواؤه ضمن الحدود الطبيعية بحيث يستطيع الفرد ضبط انعكاساته بنفسه او
بمساعدة الاليات الاجتماعية المتوفرة. تحول القلق الى ميل للتمرد والمنازعة هو
الجانب الخطر في المشكلة. وتزيد احتمالات هذا التحول في ظروف اختلال التوازن على
المستوى الاجتماعي او السياسي ضمن المحيط الذي يتفاعل معه الفرد.
في
مثل هذه الاحوال فان واضعي السياسات واصحاب القرار عموما بحاجة الى الاخذ بعين
الاعتبار الانعكاسات المحتملة لقراراتهم على نفوس الناس ، بكلمة اخرى عليهم ان
يدرسوا ما اذا كان تطبيق تلك القرارات سيثير الارتياح في نفوس الشريحة الاوسع من
الجمهور ام انه سيثير ضيقهم . الضيق هو
العامل الرئيس في تحويل القلق الطبيعي الى ميل للمنازعة في نفوس الافراد . نحن
نسمع في نهاية كل شهر عن مؤشر ثقة المستهلكين في اسواق الدول الصناعية كدلالة على
اتجاهات الاقتصاد . وثمة مؤشرات مماثلة للرضى تعكس في العادة انطباع الجمهور عن
الوضع السياسي والاجتماعي . هذه المؤشرات التي توضع على اسس علمية تساعد كثيرا من
تحسين القدرة على اتخاذ القرار ، بنفس الدرجة التي يساعدنا بها مؤشر سوق الاسهم في
اتخاذ قرارات الاستثمار.
الامر
المؤكد ان كفاءة القرار في المجال العام تعتمد جوهريا على فلسفة العمل التي يتبعها
اصحاب القرار. حينما يكون رضى الجمهور هدفا محوريا فان الانعكاسات المحتملة للقرار
على نفوس الناس سوف تكون عاملا منظورا في اتخاذ القرارات ، والعكس بالعكس. وأظن
اننا في هذه الظروف بحاجة الى التخلص من تلك السياسات والاجراءات التنفيذية
المثيرة للضيق والتي لا يرغب فيها الا اقلية من الناس . ثمة قائمة طويلة جدا من
الاجراءات التي يمكن تصنيفها ضمن هذا الاطار .
شكوى الناس من الروتين ومن
المعاملات المعقدة ، ومن سوء معاملة الموظفين ، هي في حقيقتها احتجاج على هذا
النوع من الاجراءات التي وضعت لغرض محدد لكنها تحولت مع مرور الزمن الى ما يشبه العقوبة
الجماعية . واظن ان المسؤولين في الدوائر الرسمية بحاجة الى استعرض كافة القرارات
المتخذة والاجراءات التنفيذية التي ترجع اليها ومساءلة انفسهم : ما هي ضرورة كل من
هذه الاجراءات؟ . كم من الناس سينتفع من ورائها وكم سيتضرر؟ . كم من الناس سيرتاح
وكم منهم سيضيق ؟. مثل هذه المراجعة ضرورية كي لا يتحول القرار الى مولد للتذمر
بدل ان يكون حلالا للمشكلات.
(
السبت - 26/7/1425هـ ) الموافق 11 /
سبتمبر/ 2004
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق