22/05/2010

الخجل السياسي وتطبيقاته

||اعتدنا مشاهدة الاحتفالات الدعائية عند الاعلان عن مشروع جديد ، فلماذا يسكتون اذا تعثر؟ ||
لا تتوقف الصحافة عن الكلام في قضايا الاصلاح وموضوعاته ، ولا يمر يوم واحد دون ان تقرأ في صحيفة شيئا يتعلق به مباشرة او مداورة. موضوع الاصلاح ليس اذن مسألة جديدة او مجهولة او غامضة. لكننا مع ذلك نتحدث عنها كما لو انها بنت اليوم. فما هو السبب ياترى؟
بديهي ان بعض موضوعات الاصلاح تتطلب زمنا طويلا حتى تنضج وتظهر اثارها. لكن ثمة شريحة كبيرة من الاصلاحات المطلوبة لا تحتاج لاكثر من ارادة قوية وقرار. على ان الموضوع الاكثر اثارة للاهتمام هو مشروعات الاصلاح التي تقررت فعلا ووضعت قيد التنفيد لكنها تعثرت او تباطأت.
واظن اننا نعاني نوعا من الخجل السياسي ، يتلخص في اعراض بعض المسؤولين عن مكاشفة الراي العام ، اذا تعثر مشروع او تأخر او تم التخلي عنه. نعرف  عددا من الاستراتيجيات التي سبق تبنيها وعلقت عليها امال كبيرة ، لكنها طرحت او اجلت او استبدلت لاسباب اقتصادية او سياسية او غيرها. لكن الادارة او الوزارة التي تبنت المشروع ، لم تعلن صراحة انها تخلت عنه او اجلته. فهي تكتفي في العادة بالصمت . ويطلع عليه الناس من خلال الصحافة الاجنبية او تسريبات الانترنت او سوالف المجالس وامثالها.
كمثل على هذا: قبل ثلاثة عقود من الزمن ، تبنت الحكومة استراتيجية الامن الغذائي التي تتركز على تشجيع الزراعة المحلية ودعمها ماليا وقانونيا. ونعلم ان هذا الاستراتيجية قد طرحت الان ، واستبدلت بمشروعات مثل الاستثمار في الزراعة في الخارج الخ. لكن وزارة الزراعة لم تعرض على الراي العام هذا القرار وتبريراته. كل ما عرفناه وصل الينا من تسريبات او كلام ضمني او تقارير اجنبية ، او من تحليل بنود الانفاق في الميزانية العامة للدولة. 
 على المستوى المحلي نرى مشروعات صغيرة او كبيرة تعلن الجهات الحكومية انها ستوضع قيد التشغيل خلال عام او عامين. لكن بعد عام او عامين لا ترى سوى اللوحة التي بهتت الوانها ، او ربما سور التنك الذي يحيط بالموقع. هناك طبعا اسباب للتعطيل ، قد تكون جدية ، لكن الاعلان عن التاجيل  او التاثر ليس عيبا. نحن نقرأ في الصحيفة ان الوزارة الفلانية تنفذ المشروع الفلاني بقيمة كذا مليون ، وحين نذهب الى الموقع لانرى غير سافي التراب ، فليس هناك تنفيذ ولا من ينفذون. هذه المشروعات الصغيرة مصابة بنفس علة الاستراتيجيات الكبيرة التي يعلن عن انطلاقها لكن يسكت عن تعثرها او الغائها.
لو تحدث المسؤول صراحة عن قرار التعطيل وقدم اسبابه ، او اصدرت الوزارة بيانا رسميا بذلك ، فسوف يحصل على تقدير اكثرية الناس ، لان الجمهور يحترم المسؤول الصريح. اما اذا سكت الجميع ، فسوف يعلم الناس بعد حين من سوالف المجالس او تسريبات الانترنت ، او من عدم رؤية نتاج المشروعات التي جرى الكلام عنها . وسوف يظنون ان ما قيل سابقا ليس سوى تمنيات او مسكنات. والاسوأ من ذلك ما يترتب عليه من تراجع ثقة الناس في وعود الرسميين او في المشروعات المقترحة.
دعوت سابقا الى الاعلان عن مشروعات كل وزارة ، واقصد بذلك صدور بيان رسمي من قبلها يحدد ما سوف تنفذه من اعمال خلال السنة المالية. ومع ان احدا لم يستجب لهذا الاقتراح ، الا اني اضيف اليه اليوم الحاجة الى اقامة مكتب صحفي في كل وزارة يقدم ايجازا شهريا عن نشاطات الوزارة ، ويتولى التواصل المنتظم مع وسائل الاعلام. هذا سوف يعزز الشفافية في الادارة ، وسوف يكشف للمسؤولين عن هموم الجمهور ومطالباته ، كما سيكشف للجمهور الاعمال الجارية وتلك المتعثرة ، الامر الذي يعزز الثقة في العمل الاداري ويقيم فرصة للتفاعل والتعاون بين الادارة والجمهور.
 

مقالات ذات علاقة


22  مايو 2010

16/05/2010

أين تضع المرحوم محمد عابد الجابري


||رأى الجابري ان المجتمع العربي ورث نظاما أحادي البنية ،   تندمج فيه ثلاث مكونات: القبيلة والدين والغنيمة||
  محمد عابد الجابري الذي رحل عنا قبل بضعة ايام (1936-2010) لم يكن وحيدا في ميدانه. خلال العقدين الأخيرين تعرفنا على عشرات من الدراسات الجادة التي اهتمت بقراءة التجربة التاريخية للمجتمعات المسلمة وتفكيكها باستعمال أدوات نقدية معاصرة ومنفصلة إلى حد ما عن مكونات تلك التجربة. لكن بين العديد من الباحثين امتازت دراسات الجابري بعناصر خاصة جعلته مؤثرا بشكل استثنائي في الثقافة العربية الراهنة. هذا يتضح على الأقل من الإقبال الكبير للمثقفين على كتبه التي طبع بعضها سبع مرات وبعضها الآخر خمس مرات ولا تزال بين الأكثر رواجا في سوق الكتاب.
د. محمد عابد الجابري
 لعل أبرز ميزات الجابري هي قدرته الفائقة على الجمع بين التزام شخصي بالخطوط الكبرى للثقافة العربية - الإسلامية مع انفتاح كامل على المعارف والمناهج التي تطورت خارج هذا الإطار. في كتابه «العقل السياسي العربي» لا يشعر الجابري بالحاجة إلى تبرير استخدامه لمناهج النقد والتفكيك الغربية، ماركسية أو ليبرالية، لفهم المنظومة الايديولوجية - السياسية التي شكلت التجربة التاريخية الإسلامية.
لكنه في نهاية المطاف يوضح دون لبس أن مشروعه العلمي يستهدف بعث تفكير إسلامي جديد، عقل يفخر بهويته التاريخية دون أن ينبهر بجمالياتها أو يتغاضى عن إشكالاتها، أي عقل إنساني يفهم ذاته ويفهم الطريق الذي تشكلت عبرها هذه الذات. خلافا للرؤية الماركسية التي تميز بين البنية التحتية للنظام الاجتماعي (مصادر الإنتاج) والبنية الفوقية (القيم والأفكار)، فإن الجابري يرى أن المجتمع العربي قد ورث نظاما أحادي البنية ، تندمج فيه ثلاث مكونات هي القبيلة والدين والغنيمة. تشكل القبيلة مصدرا لنموذج التنظيم السياسي، والدين مصدرا للمثاليات، والغنيمة محورا للاقتصاد السياسي. رغم أن هذه المكونات متفاعلة بشدة، يؤثر كل منها في الآخر، إلا أنها بقيت مستقلة عن بعضها، وساهم كل منها في تشكيل جانب من هوية الإنسان العربي القديم والمعاصر على السواء.
هذا الوضع ليس مثاليا عند الجابري. لكن من المهم أن نفهمه ونسعى للتحكم في تأثيراته. وهو يحاول من خلال تفسيره للماضي لفت النظر إلى المصادر التي تشكلت على ضوئها نقاط الاشتباك والجدل الكبرى التي نشهدها في وضعنا الاجتماعي المعاصر وفي ثقافتنا. وحسب تعبيره فإن «تحليل الحاضر يعطينا مفاتيح الماضي».
الهدف الأسمى للجابري هو إعادة صوغ الثقافة والهوية على نحو يسهل الانتقال إلى الديمقراطية التي يقر بأنه منحاز إليها دون تردد. أين نضع الجابري بين المفكرين والنخبة الثقافية العربية؟ البعض رآه علمانيا. والدليل عليه أحاديثه المتكررة واستدلالاته الموسعة على عدم وجود شكل محدد للسلطة السياسية في الإسلام، وأن الطرق التي اتبعها المسلمون السابقون هي إنشاءات عرفية تأثرت بعمق بالعوامل الثلاثة المذكورة أعلاه. وبالتالي فإنها لا تصلح كمرجعية تتمتع بقيمة الإلزام. البعض يراه ليبراليا، فهو داعية للحريات الفردية والعامة وحقوق الإنسان، وهو ناقد عنيف لما يصفه بمبررات الفردية والاستبداد، حتى لو استند إلى مبررات دينية أو قومية. آخرون رأوا فيه مفكرا تقليديا منغمسا في المقولات التراثية وعاجزا عن التمرد على مسلماتها. ومتخذا من عنصري القومية العربية والدين الإسلامي محورا لجميع مثالياته ومسلماته. أما أنا فأجده أقرب إلى التيار المحافظ حسب التصنيف الأوروبي (وليس العربي أو الشرقي). فالتزامه بالعروبة وبالمكون الديني للهوية يضعه بين المحافظين، لكن تحرره من المقولات الموروثة والقائمة على مبررات ايديولوجية يضعه بين المفكرين العقلانيين الأقرب إلى الليبرالية في المنهج. مثل هذا التصنيف قد يصعب تمييزه بسبب الصورة الانطباعية السائدة حول المحافظين الغارقين في التراث والعاجزين عن الخروج من حدود الوعظ إلى رحاب التفكير الحر..
الاتجاه الذي يجمع بين الالتزام والعقلانية هو أكثر الاتجاهات جاذبية في العالم الإسلامي اليوم، لكنه لازال غامضا عند الكثير من الناس. حزب العدالة والتنمية التركي وحزب امنو الماليزي هما أبرز التعبيرات السياسية عن هذا الاتجاه ، كما يعبر عنه مفكرون بارزون مثل عبد الكريم سروش ومحمد أركون ومحمد خاتمي.. يتطلع الجابري ــ مثل بقية الناشطين في هذا الاتجاه ــ إلى تجديد الحياة الدينية وانتهاج علاقة تفاعل مع تجارب الحضارة الإنسانية، من أجل إعادة تأسيس ثقافة عامة عقلانية ومتحررة من قيود الماضي.
غاب الجابري جسدا، لكن فكره سيبقى علامة بارزة في تاريخ المعرفة العربية والإسلامية في هذا العصر.
عكاظ  2 / جمادى الآخرة / 1431 هـ الاحد 16 مايو 2010
مقالات ذات علاقة

13/05/2010

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن


الوطن في رايي شراكة مادية اعتيادية قابلة للتجريد والتقييد بحسب ارادة الشركاء. وهي قابلة للتاسيس على ارضية القيم الدينية ونتائج الدراسات الفقهية.

التعريف الذي قدمه الزميل محمد المحمود لفكرة الوطن (الرياض 6 مايو 2010) ينطوي على عناصر مثيرة للاهتمام ، لكنه يستدعي جدلا في مؤدياته. الوطن لا يمثل – حسب عبارته – اكثر من " فعالية شركاء متعاقدين ، شركاء يُمارسون تنفيذ عقودهم الضمنية والصريحة على مساحة من الجغرافيا التي يمتلكها المجموع ، المجموع كوجود (ما بعد فردي) ، ولا يملكها أي أحد ، أي ليست ملكية أفراد من حيث هي : وطن".
محمد المحمود
بدأ المحمود بالتاكيد على مفهوم الشراكة ضمن مساحة مادية (اي بما يتضمن شراكة في الماديات المتوفرة في هذه المساحة)، لكنه انتهى بنفي المشترك المادي. في نهاية المطاف لا احد – باعتباره الفردي – يملك شيئا ، طبقا لما يؤدي اليه راي الزميل. نوقشت هذه الفكرة كثيرا في بحوث الفلسفة السياسية ، وذهب اليها بالخصوص قلة من التيارات الفكرية والسياسية المحافظة التي تنفي هوية الفرد وتشكك في استقلاله ، وتنظر الى الرابطة الجمعية ، وما ينطوي تحتها من مصالح وموارد ، كموجود مستقل عن المشتركين فيها اي افراد المجتمع. بينما ذهب الليبراليون الى التاكيد على ان العقد الاجتماعي لا ينفي الحقوق او الهويات الفردية او الفرعية السابقة ولا يغير من طبيعة العلاقة بين المتعاقدين وموضوع العقد ، بل يقيم اعتبارا معنويا جديدا هو الشراكة في تلك الحقوق ضمن الرابطة الاجتماعية التي تتولد في اطارها مصالح مشتركة وارادة مشتركة (او عامة حسب تعبير روسو).
هل لهذا الكلام اي اهمية ؟
اذا اتفقنا مع الزميل المحمود وقلنا بان الشراكة الوطنية مفهوم  مجرد لا يتضمن العلائق المادية السابقة على التجريد ، اوقلنا انه كل واحد او وصف نوعي ، يشترك المجموع – ما بعد الفردي حسب تعبيره - في ملكيته اشتراكا اعتباريا ، لا اشتراكا ماديا ، عندئذ فان ملكية الجميع لذلك العنصر المادي الواحد لا تتجلى في الواقع الا حين يجتمع كافة المالكين دون استثناء . فاذا اراد كلهم او بعضهم المطالبة بالحقوق التي تترتب على الملك (ونعلم ان الملك اقوى مصادر الحق) فان هذه الحقوق المدعاة لا تثبت الا اذا اتفقوا جميعا ومن دون خلاف.
من البديهي ان هذا الشرط مستحيل ، وبالتالي فان المشروط غير قابل للتحقق. ويترتب عليه سقوط كل حق للمجتمع في الموارد والمصالح العامة التي افترضنا شراكة اعضائه فيها. بعبارة اخرى فان نهاية تلك الدعوى هو سقوط مفهوم الشراكة في التطبيق رغم ثبوته على المستوى النظري
هذه الفكرة ، اي تجريد الشراكة من مضمونها المادي بعد قيامها في اطار العقد الاجتماعي ، كانت من اركان نظرية العقد الاجتماعي في الصيغة التي اقترحها جان جاك روسو. لكن معظم المفكرين اللاحقين طرحوها جانبا لاستحالتها ، اي كونها غير واقعية ، رغم امكانية اثباتها فلسفيا.
البديل الذي نقترحه هو تعريف الوطن كشراكة مادية اعتيادية قابلة للتجريد والتقييد بحسب ارادة الشركاء. وقد ناقشت الفكرة بشيء من التفصيل في اطار نظرية "شراكة التراب" التي عرضتها في كتابات سابقة. واوضحت انها قابلة للتاسيس على ارضية القيم الدينية ونتائج الدراسات الفقهية. في هذا الاطار ينبغي التمييز بين مفهوم "الملك المشترك" الذي تترتب عليه حقوق معلومة لافراد المشتركين ، وبين "الارادة العامة" التي هي بمقتضى الطبع مفهوم مجرد.
الفارق بين المشترك والعام يتمثل في قابلية الاول للتخصيص . ولهذا يصح حيازة بعض الافراد لبعض الاجزاء ، وهو امر معروف وسائد. بخلاف المفهوم المجرد للارادة العامة ، التي يكمن جوهرها في عمومها وتجريدها ، فاذا قيدت او جزئت فقدت مفهومها وسقطت.

الشراكة التي نقترحها تطابق مفهوم "الملك الشائع " المتداول في البحوث القانونية والفقهية. والفارق بينها وبين المفهوم السابق يكمن في سريان الحقوق المترتبة على الملك لكل فرد من المالكين او لمجموعهم ، مجتمعين او متفرقين ، سواء اختص احدهم ببعض المشاع او تركه ضمن الملكية المشتركة. واهم تلك الحقوق هو المطالبة باحترام رايهم عند تصرف بعضهم في الملك المشترك. وعلى هذا الاساس اقرت معظم دساتير العالم مبدأ التصويت كوسيلة لتعبير الافراد عن رايهم في الشؤون العامة والمشتركة.
الايام البحرينية العدد7703 | الخميس 13 مايو 2010 الموافق 28 جمادى الأولى1431هـ
https://www.alayam.com/Article/Article/19967/Index.html

مقالات ذات صلة


"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

26/04/2010

كي تستمر المنتديات الأهلية رافدا للحياة الثقافية

تمثل المنتديات الثقافية الأهلية رافدا هاما للنشاط الثقافي في المملكة، ولعل أبرز ما يميزها هو :

 أ) كونها أهلية تطوعية.

 ب) انتظامها طوال العام، أسبوعية أو شهرية.

 ج) اعتمادها على الجدل والحوار الشفهي الحر كبديل عن المحاضرات التوجيهية.

ثمة أجهزة رسمية كثيرة تعمل في المجال الثقافي، بدءا من وزارة الثقافة والإعلام المشرفة على هذا القطاع مرورا بالهيئات الدعوية وانتهاء بوزارتي التربية، والتعليم العالي، فضلا عن العديد من المؤسسات الأخرى. لكن تبقى للنشاطات الأهلية ميزة التنوع في الطروحات والآراء وكونها نافذة لتوجهات لا تتسع لها قنوات الثقافة الرسمية.

 المرحوم عبد المقصود خوجة مؤسس منتدى الاثنينية بجدة

حسنا فعل وزير الإعلام بتكريمه المنتديات الثقافية في المملكة. وقد وفق في اختياره لثلاثة نماذج مضيئة، هي منتدى الدكتور راشد المبارك، الذي عرف بتنوعه وثرائه العلمي، ومنتدى الثلاثاء، الأشهر في المنطقة الشرقية والأكثر تعبيرا عن تنوعها وغناها الثقافي، ومنتدى الشيخ عبد المقصود خوجه الذي أضاف إلى الجدل الثقافي بدعا كثيرة طيبة مثل تكريم أهل الفكر وطباعة كتبهم وشكل لسنوات طويلة وجها مشرقا لبلدنا في داخلها وفي الخارج.

أعرف في محافظة القطيف وحدها خمسة عشر منتدى ثقافيا، ويوجد مثلها أو أقل أو أكثر في معظم محافظات المملكة، تشكل بمجموعها روافد غنية للحراك الثقافي وإنتاج الأفكار أو نقد الأفكار . لكن أغلبها غير منتظم. وهذا وإن كانت له مبررات قابلة للتفهم، إلا أنه في نهاية المطاف يقلل من أهمية الغاية، أي إغناء الحياة الثقافية في المجتمع. لن يكون لدينا حياة ثقافية نشطة ما لم تتحول الثقافة إلى عمل مستمر، منتظم، ومتزايد.

ثمة آلاف من الناس يرغبون في تطوير معارفهم، وثمة عشرات يشعرون بأن لديهم شيئا يستحق أن يقال، ونشعر جميعا بأن هناك العديد من الأفكار الجديدة التي تستحق أن تطرح للنقاش. هذه الحاجات لا تجد فرصتها إلا بوجود إطارات نشطة، فعالة، ومنتظمة، يرجع إليها كل صاحب فكرة وكل باحث عن فكرة.

في أواخر القرن التاسع عشر نشر الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل رسالة عنوانها «حول الحرية»، أصبحت فيما بعد مرجعا في الفلسفة السياسية. في هذه الرسالة الهامة ركز ستيوارت ميل على ما وصفه بـ «السوق الحر للأفكار»، وكان يعني ضرورة إلغاء القيود التي تعيق تدفق المعلومات أو تقيد حرية التعبير. رغم المعارضة الشديدة التي واجهت تلك الرسالة في وقتها، إلا أننا نعرف اليوم أن الرجل كان يرى المستقبل، فقد أكد على أن المجتمع الذي يطلق حرية الرأي والتعبير ويلغي القيود المفروضة على العقول، سوف يتقدم علميا واقتصاديا وسوف يزدهر ويكون أمة قوية وغالبة. وبالعكس فإن المجتمعات التي تقيد التعبير وتحدد نوع المعلومات المسموحة والممنوعة، سوف تبتلى بالهزال الفكري وسوف تبقى ضعيفة متخلفة، تعتمد على الأولى وتتبعها في كل شأن من شؤون حياتها.

بعد أكثر من قرن على آراء ستيوارت ميل، نشهد اليوم ما تحقق فعليا. فالذين اتبعوا نصيحته أصبحوا سادة العالم في كل فن، والذين سخروا منها أو جبنوا من عواقب تطبيقها أصبحوا أتباعا للفريق الأول، وشتان بين التابع والمتبوع في القيمة والمكانة.

إذا أردنا أن نتحول من مستهلكين لأفكار الآخرين وعلومهم إلى منتجين أو مشاركين في إنتاج العلم، فإن أول الطريق هو الإقرار بحرية التعبير والجدل لأنفسنا ولغيرنا. الإقرار بحرية التعبير هو الطريق إلى تحرير الفكر والعقل. لا يمكن للعقل أن يتحرر وينطلق ما لم يجد أمامه قنوات للتعبير عما ينتجه من أفكار.

نحن لا نحتاج إلى التوجيه والإرشاد والوعظ بقدر حاجتنا إلى النقاشات الحرة ومضاربة الأقوال والآراء. إحياء الثقافة لا ينتظر المواعظ والتوجيهات بل ينتظر الجدل الحر حتى لو بدا عسيرا في أول الأمر. لهذا السبب فإني آمل أن تحافظ المنتديات الأهلية على هذه الميزة الغالية وأن تتوسع فيها. فبها وبالاعتماد عليها تزدهر الثقافة ومن دونها تتحول إلى كلام مكرور، يقال بأشكال شتى وفي صيغ منمقة، مثل سجين يدور طوال يومه في زنزانة صغيرة، يقطع عشرات الأميال لكنه يبقى ملتصقا في النقطة التي انطلق منها.

https://www.okaz.com.sa/article/328863
مقالات ذات صلة

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...