28/09/2023

زمن ثقافي جديد


قد لا أبالغ لو قلت ان هذه الايام هي افضل ما مرت به الثقافة السعودية منذ زمن طويل. احتمل ان بعض الناس من الجيل السابق لي سيبتسم قائلا: ان النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي هي الحقبة الذهبية للثقافة ، فهي التي شهدت ابرز المعارك الثقافية ، وأرست حجر الزاوية الأبرز في تاريخنا الثقافي ، بين التقاليد والحداثة. انها الفترة التي انكسر فيها طوق التقاليد ، ليس في المدن الكبرى والمجتمعات المعروفة بالانفتاح ، بل في المجتمع السعودي كله ، أقصاه وأدناه.

حسنا. اعرف أن هذا صحيح. لكن دعنا نستعرض باختصار معنى الثقافة ، كي يتضح لماذا ارجح المرحلة الحالية على غيرها.

ينصرف لفظ الثقافة الى ثلاثة معان كبرى ، هي:

1-المعارف المكتوبة والمسموعة التي وضعت على نحو منظم ، واختزنت في وسائل حفظ معيارية ، كالكتب والاشرطة والخوادم الرقمية. وتشمل العلوم بمختلف حقولها ، والبرامج والمعادلات الرياضية ، والآداب بأنواعها والفنون المرئية كالأفلام واللوحات والخرائط وامثالها.

2-ما تخزنه الذاكرة الفردية والاجتماعية من قيم واعراف وقواعد عمل ، هي – في الغالب – نتاج للمعارف الموروثة والتجربة التاريخية للمجتمع. وهي تتفاعل كثيرا او قليلا ، مع النوع الاول فتعطيه وتأخذ منه. تتشكل هذه الذاكرة على صورة انطباعات وقيم وقناعات مستقرة ، وتسهم بقدر كبير في تشكيل موقف الفرد والجماعة من البشر والاشياء ضمن نطاقهم الحيوي. هذه الذاكرة ، التي نسميها ايضا "الذهنية" او "الخلفية الذهنية" او "العقل الجمعي" مسؤولة عن معظم السلوك العفوي للانسان ، وهي ايضا مسؤولة عن الاعم الاغلب من مواقف المجتمع تجاه ما يجري من حوله.

3-الطريقة التي يعبر بها الناس عن ذواتهم وعن آرائهم ومواقفهم وتجليات حياتهم ، في الفرح والحزن ، وفي العلاقة مع الغير ومع البيئة الطبيعية في نطاقهم الحيوي. ويدخل ضمنها اللغة (واللهجات) والفولكلور والازياء وطرق الاحتفال والعزاء ، كما تدخل فيها نظم البناء والعلاج ومفاهيم الجمال والتجميل ، وكل عرف او تقليد يمثل مظهرا من مظاهر الحياة التي يختص بها المجتمع ويتمايز بكيفيتها عن غيره.

المعاني السابقة تكشف ان الثقافة ليست مجرد افكار يتداولها الناس ، وليست مجرد تعبيرات عن قضايا حياتية بعينها ، بل هي الوسيط الذي يربط الانسان بكل شيء آخر. إنها اقرب الى ما يعرف في عالم الالكترونيات بالبرامج التي تربط جهازا بجهاز آخر ، فتمكن الجميع من التفاعل والعمل بشكل متوائم.  الثقافة اذن هي السوفتوير software او الوسيط الذي يمتد من عقل الانسان الى كل شيء آخر ، فيجعلها قابلة للتفاعل.

لأن الحياة متنوعة ، فان كل مجتمع يتفاعل مع بيئته الطبيعية ومحيطه الانساني على نحو معين ، فيؤلف تجربة حياتية مختلفة كثيرا او قليلا عن تجارب المجتمعات الاخرى. ان مجموع التجارب المختلفة ينتج تاريخا مختلفا. ومن هنا يأتي التنوع الاجتماعي في التعبير عن الذات ، اي محتويات المعنى الثاني.

في الازمنة الماضية ، كان الاحتفاء بالثقافة يعني بصورة محددة جانبين ، هما الأدب ولاسيما الشعر ، والمعارف الدينية. وهما جزء من محتويات النوع الأول. وكان النوع الثالث ، ولاسيما الفولكلور والفنون يقام في نطاقات ضيقة جدا. بل استطيع الادعاء ان بعض الاطراف كانا مهتما بحجب التنوع الذي تتميز به المملكة ، واظهار وجهها الثقافي احادي اللون ، لا يعبر عن اي بيئة من البيئات الاجتماعية العديدة فيها.

في هذه الأيام تعود الثقافة الى دورها الطبيعي كتعبير عن حركة الحياة ذاتها ، بما فيها من تنوعات وتموجات وألوان. نشهد الفولكلور المحلي يعود للواجهة بعد غياب طويل ، كما نشهد عودة المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل. الازياء والطبخ وانظمة البناء التقليدية ، تستعيد مكانتها كتعبير عن ثقافة المجتمع.

ثمة عنصر في غاية الأهمية ، أشعر انه لازال بعيدا عن الاهتمام وهو البحث العلمي والنشر العلمي. لا تنمو الثقافة ولا يتقدم المجتمع دون حياة علمية نشطة. الحياة العلمية تعني انتاج العلم وترجمة العلوم ونشرها وجعلها متاحة لعامة الناس صغارا وكبارا.  

الشرق الاوسط الخميس - 13 ربيع الأول 1445 هـ - 28 سبتمبر 2023 م https://aawsat.com/node/4572446

 مقالات ذات صلة

اخلاق المدينة وحدودها

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

فكرة التقدم باختصار

الفكــرة وزمن الفكـرة

القيم الثابتة وتصنيع القيم

من ثقافة النخبة الى ثقافة الشارع

21/09/2023

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

 

جوهر المسألة التي حاولت ايضاحها في الأسبوعين الماضيين ، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم ، لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكي لا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي ، يهمني الاشارة الى انه ليس صفة سيئة. انه اقرب الى معنى العرف العام ، اي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما ، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول ان هذا المجتمع بسيط او متحفظ ، وان المجتمع الثاني كريم او بخيل ، والثالث نشط وسريع الاستجابة.. الخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع او ذاك ، لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

داريوش شايغان (1935 - 2018)

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة ، اي مصادر الانتاج ووسائله ، وقابليتها للتجدد والتطوير ، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على افراد المجتمع. نعلم ان غالب المجتمعات العربية ، في وضع أقل من المطلوب. لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جدا ، في مختلف المجالات ، في انتاج العلم والتقنية وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة ، الى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا الى العنصر الاول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم ، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. ان النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية ، ومن سار على اثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا ، لأننا في امس الحاجة الى علاج ما اعتبره عقدة تفسد نفوسنا: وهي العقدة المتمثلة في اعلان الكراهية للغرب وادعاء العداوة له ، رغم ميلنا الصريح او الضمني لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على ارضية الدين كما يتخيل كثيرون ، بل "استعملت" عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. ان الشتيمة الايديولوجية والشتيمة السياسية للغرب ، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش ، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك "النفس المبتورة" حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام الى ركب منتجي العلم ، ولن نقيم اقتصادا قادرا على الصمود في وجه الأزمات ، الا اذا اجتهدنا في تنسيج اصول العلم والادارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الاصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جديا مع الكثير من قناعاتنا واعرافنا الموروثة. فاذا بقينا على "وهم" ان تبني فلسفة الحياة الجديدة ، مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي ، فلن نخرج أبدا من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد عن 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام ، مهما كان الثمن.

اما العنصر الثاني فهو اعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بان بعض الناس سيعترض قائلا: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟. وجوابي لهم: ان الدين الذي يفهم كمزاحم للعلم او معارض له ، لا يصلح لقيادة الحياة ، ولا يمكن ان يكون دين الله ، بل هو نسخة اخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم ، ولا يحتل مكانه في ادارة الحياة وتسييرها. للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر ، ولا يمكن لأحدهما ان يحتل مكان الثاني. فان اردت ان تعرف من يقود الحياة ، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الاعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم او في سياقه ، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث ، فان اردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال ، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة ، اي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. واعني هنا الحياة العامة ، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب ان شاء الله.

الشرق الاوسط الخميس - 07 ربيع الأول 1445 هـ - 21 سبتمبر 2023 م     https://aawsat.com/node/4559076

مقالات ذات صلة

تأملات في حدود الديني والعرفي   
تبجيل العلم مجرد دعوى

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الثقافة المعوقة للنهضة

 حول تطوير الفهم الديني للعالم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

داريوش الذي مضى

عجلة التنمية المتعثرة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

اليوم التالي لزوال الغرب

14/09/2023

الواسطة ، راس مال اجتماعي

احتمل ان بعض القراء قد سمع عبارة "فيتامين واو" التي يتداولها الناس أحيانا في العراق والخليج. وهم يعرفون بالتأكيد ان "الواو" هنا تشير للواسطة. وقد سمعتها اول مرة في الكويت حوالي العام 1978 ، حين تحدث زميل لي مع احد الوجهاء ، طالبا شفاعته كي ينجح في اختبار قيادة السيارة ، وكان يومها شديد العسر. وحين سمع الزميل موافقة الطرف الثاني ، قال ضاحكا "فيتامين واو حلال المشكلات". وعلمت فيما بعد ان معظم الناجحين جاؤوا مع ذلك الفيتامين القوي.  

وتعرفت في بداية القرن الجديد على رئيس بلدية مشهور عندنا ، كان يتباهى بعبارة "اشفع تُشفَّع" التي تدعو – دون مداورة - الى اعتماد الواسطة اذا اغلقت الأبواب. ورأى صمويل هنتينجتون في مقالة مثيرة للجدل ، ان الواسطة (الرشوة بين قوسين) قد تكون علاجا محتملا اذا تخشبت القوانين ، فباتت سدا يعيق الاستثمار الضروري لتوليد الوظائف وتحسين مستوى المعيشة.

لكنا جميعا نعلم ان الواسطة ليست بالخيار الأمثل ، حتى لو لجأنا اليه أحيانا. ذلك انها تؤدي لاستئثار فئة من الناس بما هو حق للجميع. اي تقريب جماعة واقصاء بقية الخلق.

-         حسنا دعنا من هذا الكلام الخطابي. فكل الناس يعرفونه. ولنذهب الى مسألة مفيدة ، تندرج في سؤالين ، اولهما: ماهو جوهر "الواسطة" ولماذا هي مفيدة اكثر من غيرها؟. والثاني: اذا كانت فعالة ومفيدة ، فهل يمكن تعميمها ، اي تحويلها من امتياز لفئة خاصة إلى امتياز لجميع الناس؟.

"الواسطة" هي الثمرة الرئيسية للاشتراك مع جمع محدد من الناس ، في منظومة قيم أو معايير ، تولد خيطا من التعاطف والثقة المتبادلة فيما بينهم ، بحيث يشعر كل منهم ان بوسعه الاعتماد على دعم الآخر واسناده.

ربما تنشأ هذه العلاقة عن الانتماء المشترك الى قبيلة واحدة ، او قرية او مذهب او حزب ، او حتى الصداقة التي تولدت خلال سنوات المدرسة او العمل. لكن هذا القدر من الثقة المتبادلة يفيد اقلية من الناس فحسب وقد يؤدي – كما اسلفت – لاستئثار جماعة صغيرة بما هو حق للجميع.

السؤال الذي طالما راود الباحثين في علم الاجتماع ، هو: هل يمكن تحويل منظومة القيم والمعايير تلك ، الى أساس للعلاقة بين جميع أهل البلد؟. بعبارة أخرى: هل يمكن تصميم منظومة قيم ، او تطوير المنظومة القائمة ، بحيث تستوعب كافة الناس... وتبعا لهذا ، هل يمكن لكافة الناس في بلد معين ان يتمتعوا بما يشبه الواسطة في علاقاتهم واعمالهم ، بحيث يعاملهم موظف البنك والشركة والدائرة الحكومية ، كما يعامل أهله واصدقاءه؟.

وجهت هذا السؤال لعدة اصدقاء هذا الاسبوع. فوجدتهم متشككين في امكانية توسيع "دائرة الثقة" خارج حدود التعارف الشخصي. وقال احدهم ان قلة الشركات الكبرى في بلدنا ، سببها ضيق دائرة الثقة واقتصارها على المعارف. لكني تذكرت على الفور مثالا جيدا ، هو الشركات المساهمة ، التي شارك فيها آلاف الاشخاص مع انهم لا يعرفون بعضهم ولا يعرفون مؤسسي الشركة ولا مديريها. بعبارة أخرى ، فقد توفرت لديهم الثقة الكافية ليضعوا اموالهم بيد اشخاص لا يعرفونهم. اليس هذا مثال جيد؟.

هنا يظهر دور الثقافة. اي القناعة التي تولدت في أذهان هؤلاء الناس ، بأن القانون يمكن ان يضمن اموالهم ، وانهم لا يعطون اموالهم الى شخص بعينه ، بل الى نظام عمل ، اذا نجح فالكل رابح واذا فشل فالكل خسران ، بمن فيهم المدير والمؤسس. هذه الثقافة تقود الانسان من الثقة بالأشخاص الى الثقة بالنظام الذي يخضع له الجميع.

"دائرة الثقة Radius of Trust" تتناول في المقام الاول التعويل على القيم الموضوعية (مثل القانون) بدل الشخصية ، والاقتناع بأن عامة الناس حريصون على حقوق بعضهم بعضا ، ولذلك يمكن ان تأتمنهم وتطمئن الى عقلانيتهم. هذه كلها عناصر ثقافية يمكن غرسها في أذهان الناس كما يمكن انتزاعها منهم.

الشرق الاوسط الخميس - 29 صفَر 1445 هـ - 14 سبتمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4545201/

مقالات ذات صلة

أم عمرو وحمار أم عمرو

بيروقراطية مقلوبة

البيروقراطية والإدارة

حتى لا تكون الادارة الحكومية عش دبابير

حول التفسخ السياسي

الخطوة الأولى لمكافحة الفساد.. تيسير القانون وتحكيمه

خطوط الانكسار

رأس المال الاجتماعي

رأي الجمهور

سلطة المدير

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

 العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

فضح العيوب واستنهاض المجتمع

قليل من صور الفساد

 فاتورة الوزير

كي لا يمسي الخيال دليلا في السياسة

كي نقتلع شبكات الفساد

من أبواب الفساد

07/09/2023

رأس المال الاجتماعي

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الامريكي المعروف فرانسيس فوكوياما ، وهو مساهمته في الكتاب المعنون "الثقافات وقيم التقدم" الذي حرره صمويل هنتنجتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) ان الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعا - لتحولات ثقافية. اقول انها مسلمة شائعة ، لأني اقبلها من جهة ، واتحفظ على تفاصيلها من جهة اخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبدا من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

د. فرنسيس فوكوياما

على ان هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الاشارة للاتجاه المعاكس ، اي تفصيح السؤال الهام: هل يمكن للثقافة ان تغير الاقتصاد ، كما ان الاقتصاد يغير الثقافة؟.

حسنا..

لماذا نعتبر هذا السؤال هاما؟.

من البديهيات ان الأمم تبجل ثقافاتها ، وتعتبرها جزء اساسيا من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت ايا من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن ، فقد تلاحظ انه يعتبر الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعتبر العرب انفسهم أعلى الأمم كعبا ، ولغتهم اوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون الى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها ، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم او مثبطة ، أو تكون – على العكس من ذلك - محركا للتقدم ، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث العديد من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلا الى مقدمة ابن خلدون ، الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها او سمع عنها. لكن أبرز من طرحه للتحليل العلمي ، هو – على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه "الاخلاق البروتستنتية وروح الراسمالية". قدم فيبر مقاربة تجريبية – تفسيرية ، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين ، حيث توصل الى ان العقيدة البروتستنتية ، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الاصلاحي جون كالفن ، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي ، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي ، وتمجيد العمل الذي يعد الانسان لحياته في العالم الآخر ، بعد ان يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة ، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الايمان بالمركزية الأوروبية. لكنها – رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

-         حسنا... ماذا عنا؟.

-         هل نستطيع الجزم بان الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم او العكس؟.

اعتقد ان هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب امام نقاشات غير مفيدة. ذلك ان كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع ، وعناصر مضادة. واذا قلت – مثلا – ان الثقافة الفلانية مثبطة او معيقة ، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها ، وتستثير شعورا دفاعيا او تبريريا بين اتباعها ، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف اطرافها.

هنا نأتي الى اخينا "فوكوياما" الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب ، وهو ما اطلق عليه "راس المال الاجتماعي" وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما ، أي نواظم ومحددات ما اسميناه "العقل الجمعي". هذه ثوابت يشترك فيها كافة أهل البلد ، وتمثل أساسا للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار ، ومن هنا فهي تخلق نوعا من الفعل الجمعي المنسجم ، الذي يمكن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية ، او التعاون في الاعمال ،  تشكل موضوعا للنقاش ، وتحديد دورها ، سلبيا كان او إيجابيا ، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة ، ضمن جبهة التقدم او العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.

الخميس - 22 صفَر 1445 هـ - 7 سبتمبر 2023 م   https://aawsat.com/node/4531371/

 مقالات ذات علاقة

الثقافة المعوقة للنهضة

حول برنامج التحول الوطني

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عجلة التنمية المتعثرة

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

كي نتحول الى دولة صناعية

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...