30/11/2022

هل حضرتم صلاة الجماعة؟


يقول بعض الزملاء ان الدعوة للحرية ، عبث لا طائل تحته. وهم يحتجون بأنه لا يوجد تعريف معياري  متفق عليه للحرية ، وأن المجتمعات الغربية قد أخفقت في تطبيقها ، رغم أنها عنصر محوري في الثقافة العامة لتلك المجتمعات ، كما انها جزء من الأرضية الفلسفية التي يقوم عليها نظامها الاجتماعي والقانوني.  فاذا كان مؤسسو هذا المبدأ قد اخفقوا فيه ، فغيرهم – أي المجتمعات الشرقية – أقرب للاخفاق وأولى به.

نعلم جميعا ان هذا كلام لا يصح في ذاته. كما لا يصلح دليلا على عبثية الدعوة للحرية في أي مجتمع ، شرقيا كان او غربيا.

دعنا نبدأ بافتقار الحرية الى تعريف معياري: الواقع ان الغالبية العظمى من دارسي العلوم السياسية ، متفقون على التعريف الذي اقترحه المفكر البريطاني ايزايا برلين في محاضرته الشهيرة "مفهومان للحرية". تتعلق اكثر بحوث ايزايا برلين بتاريخ الأفكار. وهو يرى ان مرور الزمن ينحت في الأفكار والمصطلحات الشائعة ، فيغير في مضامينها او في حمولتها السياسية او الأخلاقية ، او في موقعها ضمن منظومات القيم السائدة في المجتمع. لكن ثمة خيط خفي يربط بين النسخ العديدة للفكرة الواحدة ، رغم تحولاتها عبر التاريخ. هذا الخيط يدلنا على حقيقة الفكرة ، والمعنى العميق الذي يريد البشر اظهاره حين يستعملونها. وجد برلين نحو 200 تعريف مختلف للحرية. ثم حدد الخيوط التي تصل بينها ، فلخصها في معنيين ، اطلق على الأول اسم الحرية السلبية (الحرية من) وتعني الأمان من تدخل الاخرين اعتباطيا في حياتك. واطلق على الثاني اسم الحرية الإيجابية (الحرية في) أي التمتع بالحقوق التي ينشئها القانون. وأميل شخصيا الى اعتبار الأول شرطا لكرامة الانسان.

لكن دعنا نفترض انه لا يوجد تعريف واحد للحرية ولا معنى منضبط كما يقولون.. فهل هذا يبرر انكارها او استنكار الدعوة اليها؟. هل يتقبل الرافضون ان يطرق احد المارة باب بيتهم ، ليسأل ان كان اهل البيت قد حضروا صلاة الجماعة ام لا ، هل يتقبلون ان يوقفهم شخص في الشارع ، كي يفتش جوالاتهم للتأكد من انها لا تحوي أشياء سيئة ، هل يودون ان تقوم جهة ما بتسجيل مكالماتهم ، ثم مساءلتهم عما يقصدون بهذه الكلمة او تلك؟. هل يقبلون ان يتصل بهم شخص ، ليسألهم عن مصدر أموالهم وكيف صرفوها ولماذا ، هل يرغب أستاذ جامعي في ان يستدعى بين حين وآخر ، لتقديم مبررات كلامه للطلبة حول هذا الموضوع او ذاك؟. وأخيرا.. هل نرغب في رؤية شيء يشبه محاكم التفتيش التي أقيمت في القرون الوسطى ، للتحقق من "صحة اعتقاد" المتهمين بالابتداع والمروق عن الكاثوليكية؟.

لقد ضربت هذه الأمثلة لأنها  كانت تحدث فعليا ، في وقت من الأوقات في بعض بلدان المسلمين. وأعلم ان الذين يجادلون ضد الحرية لا يريدون أيا مما ذكرناه ، ويخشون جديا من حدوثه. ولهذا أقول لهم ان رفضهم لتلك الأمور ، هو التعبير الدقيق عن الرغبة في الحرية ، ولا سيما في معناها الأول. فلنبحث عن عاقل في أي مكان في العالم ، يقول بالفم الملآن انه يرحب بأي واحدة من التدخلات التي ذكرتها.

أخيرا.. أتساءل هل يمكن لمواطني أي بلد ، غربي او شرقي ، ان يتخلصوا من تلك التدخلات التي ذكرناها ، هل يمكن ان يضعوا قانونا يمنع المتدخلين والمتطفلين؟.

اجزم انهم سيجيبون بنعم. فهم بالتأكيد قادرون على منعها بقوة التثقيف او قوة القانون. وهذا بذاته دليل على إمكانية نجاح الدعوة للحرية وضمانها بالقانون ، في الشرق او في الغرب.

واضح اذن ان التعريف ليس مشكلة ، وان التطبيق في أي مجتمع ليس مستحيلا ، اليس كذلك؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 7 جمادى الأولى 1444 هـ - 30 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16073]

https://aawsat.com/node/4015911


مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج

التخصص ام سلطة المتخصص؟

التخلي عن التلقين ليس سهلا

حول البيئة المحفزة للابتكار

سلطة المدير

العلم والحيرة

فتاة فضولية

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

23/11/2022

الليبرالية البغيضة!


بعض القراء الاعزاء يقولون كلاما فحواه انهم يحبون الحرية ، لكنهم يبغضون الليبرالية. هذا ليس أمرا سيئا بطبيعة الحال ، فلكل منا طريقة في عيش حياته ، وفي التعبير عن أولوياته ، واختيار الاطار الذي يجمع اطراف رؤيته لذاته والعالم المحيط به. وهذا هو المضمون الداخلي لما نسميه "الانتماء".

بيان ذلك: حين يقول شخص انه مسلم او ليبرالي او يساري او محافظ ، وحين تصف فتاة نفسها بانها نسوية او قبيلية الخ.. فان كلا من هؤلاء يشير الى الاطار الذي تنتظم فيه الرؤى والصور العديدة ، التي تشكل ما نسميه الرؤية الكونية ، أي فهم الانسان لذاته وحياته وموقعه ، وطريقة تعبيره عنها. انها اقرب الى عنوان الكتاب الذي يلخص ، في كلمات قليلة ، الفكرة العامة التي تشرحها مئات الصفحات.

  الانتماء - اذن - ليس علاقة مادية تربط الانسان بالمكان او بالأشخاص الآخرين ، بل هو حالة ذهنية ، مضمونها الرغبة في الوقوف تحت هذه اللافتة او تلك ، حمل هذا الوصف او ذاك. قد يكون الامر قرارا واعيا ، مسبوقا بتأمل وربما تعاقد واتفاق مع بقية أعضاء الجمع (كما يحصل حين تنتمي الى شركة او حزب سياسي مثلا) وقد تكون مجرد رغبة أحادية بالانخراط في حشد تربط بينهم عاطفة مشتركة ، مثل الالتحاق بمشجعي ناد رياضي مثلا.

واذا كنت تنتمي لمجتمع شرقي ، وقررت تبني الليبرالية كمذهب في السياسة او في الحياة ، فان قرارك هذا سيكون – على الاغلب – نتاج تأمل ومكابدة ذهنية ، تتضمن سلسلة من المجادلات الداخلية ، حول المكاسب والخسائر ، وردود فعل المحيط الاجتماعي على ما يعتبرونه انحيازا عن الطريق المعتاد.

حين يدعي شخص ما الانتماء الى الليبرالية كتيار سياسي او كمنهج حياتي ، فهو يشير الى قناعته بشريحة من العناصر التي تشكل أركانا أساسية لهذا المذهب ، وفي طليعتها الحرية. الحرية جوهر المذهب الليبرالي ، وهي الفارق الرئيس بينها وبين اي مذهب آخر ، ومن هنا فان نزعها يعادل الغاء المذهب كله.

ما يميز الليبرالي عن عامة المؤمنين بالحرية ، هو قناعته بفوقيتها على أي قيمة أخرى. فلو احتجنا الى استثناء او تعديل ، بناء على قيمة المساواة او النظام او التكافل مثلا ، فان هذا التعديل يجب ان يؤسس على أرضية الايمان بالحرية ، وكونها الفرض الأولي والمعيار الرئيس ، في تعيين ما هو صحيح وما هو خطأ. من الأمثلة الشهيرة في هذا الصدد نذكر رأي الفيلسوف المعاصر جون رولز ، الذي عارض الليبرالية الكلاسيكية ، لصالح نظرية في العدالة تركز على انصاف الطبقات الضعيفة ، إلا أنه أكد في كل جزء من شروحاته لتلك النظرية ، على ان الحرية الفردية جزء حيوي في مفهوم العدالة ، بحيث لا يمكن التضحية بها ، حتى لو توقفت على هذا مصلحة المجتمع كله. تبعا لرؤية رولز ، فان هدر حرية الفرد تعادل هدر العدالة الاجتماعية في ادق تعريفاتها.

ليس ضروريا ان تقف تحت لافتة الليبرالية ، مع انها اكثر العناوين اشراقا. ما هو مهم في حقيقة الامر هو ان تؤمن بالحرية في معناها الكامل ، أي كون حريتك الشخصية معادلة لحق الاخرين في ان يعيشوا حياتهم دون تدخل او جبر. وان التمتع بالحرية يعادل الإقرار بالمسؤوليات والتكاليف التي تترتب على الحرية والتي تؤدي بالضرورة الى تحديدها. وأخيرا الايمان بان التطبيق الحضاري لمفهوم الحرية ، ممكن فقط في ظل المجتمع المدني وسيادة القانون ، القانون الذي يصون حرية الجميع ، فيمنع تدخل الاخرين في حياتك ، كما يمنعك من التدخل في حياة الاخرين.

الشرق الاوسط الأربعاء - 29 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 23 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16066]

https://aawsat.com/node/4002711/

مقالات ذات علاقة

الأخ الأكبـــر

طريق التقاليد

الطريق الليبرالي

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات 

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

الليبرالية ليست خيارا

منهجان في فهم الحرية

نموذج مجتمع النحل

نهاية الليبرالية

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا 

 

16/11/2022

نهاية الليبرالية


يعتقد الكاتب والسياسي المغربي د. حسن اوريد ان الحضارة الليبرالية بلغت نهاية الطريق ، ولم يعد لديها طاقة للاستمرار. كنت قد سمعت سابقا عن كتاب الدكتور أوريد "أفول الغرب" ، ثم التقيته خلال "منتدى أبو ظبي للسلم" الذي انعقد الأسبوع الماضي. لفت انتباهي دعوته لعقد اجتماعي عالمي بديل ، كي نتلافى الانزلاق الى ما أسماه "عالم هوبز" او "حرب الجميع على الجميع" حسب توصيف المفكر الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679م) للمرحلة التي عاشتها البشرية ، قبل تبلور مبدأ العقد الاجتماعي وظهور الدولة.

د. حسن اوريد

اثار كتاب اوريد المذكور ، كثيرا من الجدل ، يوم نشر في 2018. وقيل يومها ان كاتبه قد انزلق فعلا في هاوية العداء الأيديولوجي للغرب ، واعتبره بعض الناقدين ردا (في العموم) على مقولة الانتصار النهائي لليبرالية ونهاية الأيديولوجيا ، وفق تصوير المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما ، في كتابه الجدلي "نهاية التاريخ". الواقع ان اوريد لا يخفي معارضته لهذه الرؤية ، بل انه اسمى الفصل الثاني من الكتاب "نهاية نهاية التاريخ" في إشارة لما يعتقد انه أفول متوقع للحضارة الليبرالية.

لم يركز اوريد نقده على الجزء الجوهري من رؤية فوكوياما ، أي نهاية الحتميات الرؤيوية المنبثقة من قناعات أيديولوجية مسبقة التصميم. بدلا من ذلك اهتم بالتطبيقات الاقتصادية لليبرالية ، ولا سيما الملكية الفردية المفرطة ، الهيمنة المطلقة للسوق ، وتحول مستلزمات التبادل الاقتصادي الى مصدر للقيم ، او معيار لقبول القيم الناظمة لحياة المجتمعات والافراد.

في محاضرته بمنتدى ابوظبي للسلم ، قدم الدكتور اوريد مطالعة عميقة في الأزمات التي يعيشها عالم اليوم. خلال السنوات الأخيرة ، بدا واضحا ان النظام الدولي والاعراف المنظمة للتبادلات الاقتصادية ، مليئة بالثغرات ، على نحو ينذر بكوارث مؤلمة ، نظير ماعرفناه خلال جائحة كورونا. لم تنته هذه الجائحة حتى تعرفنا على أزمات الغذاء والطاقة التي تسببت فيها الحرب الروسية – الأوكرانية. وأخيرا كارثة السيل التي ضربت باكستان ، وأدت الى تهجير مليون عائلة ، تضررت منازلهم او جرفت مزارعهم ، فما عاد لديهم مأوى ولا مصدر عيش. الواقع ان مشكلة الهجرة والنزوح تحولت الى هم مقيم في العديد من مناطق العالم ، وسببها دائما النزاعات الاهلية او الكوارث الطبيعية.

تنسب الكوارث الطبيعية الى الاستهلاك الجشع لموارد البيئة الكونية. وهذا بدوره ناشيء – وفقا لتقدير الدكتور اوريد – عن هيمنة الفكرة القائلة بامتلاك الانسان للطبيعة. أما الحروب فهي تستمد وقودها من تسليع الحياة الإنسانية ، الأمر الذي جعل قيمة الانسان أدنى من الموارد التي يقاتل من اجل الاستئثار بها ، او يقاتل دفاعا عنها.

ربما لم يقل احد صراحة ، انه سيخوض الحرب من اجل السيطرة على مصادر البترول او الغاز او المياه او التكنولوجيا. لكن تجربة البشر تخبرنا ، ان هذه العوامل كانت محركا دائما للنزاعات السياسية ، التي تقود للحرب. ان الخلاف الراهن بين الصين والولايات المتحدة مثال على نوعية الصراعات الجديدة التي يحركها - في المقام الاول - الفارق التقني ، اي شعور النخبة الامريكية بأن هيمنة الصين على تقنيات الجيل الخامس من نظم الاتصالات ، ربما تمنحها نفوذا بالغا على مسارات التبادل العالمي.

تنتمي الفكرة التي يطرحها د. اوريد الى منظومة من القيم تتبني فكرة الشراكة الكونية والمسؤولية الجمعية عن مصير الكوكب. وهي فكرة جديرة حقا بالاهتمام. من هذه الزاوية كانت محاضرته مثيرة جدا للاهتمام. لكني – من زاوية أخرى – لم اقتنع بان الليبرالية قد استنفذت اغراضها او  خسرت زخمها. فهي – حسب تقديري – لازالت الحل الأقل كلفة لمشكلات العلاقة بين البشر ، رغم انها – بطبيعة الحال – لا تخلو من عيوب ، وبينها ما ذكره  الأستاذ اوريد.

الشرق الأوسط الأربعاء - 22 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 16 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16059]

https://aawsat.com/home/article/3989526

09/11/2022

دور الراي العام في التشريع


تحدثت في الاسبوع الماضي عن اشكال يحيط بمفهوم الجماعة ، فحواه أنها مبجلة – نوعا ما – في الشرع والقانون ، لكنها في الوقت نفسه موضع جدل ، منشؤه الفكرة السائدة حول سلوك الحشود/القطيع.

أردت من ذلك الحديث تمهيد الطريق لطرح الفكرة التي خلاصتها ، ان عرف الجماعة وتوافقاتها وتشخيصها للمصالح ، يمكن ان يشكل مصدرا مناسبا للقانون والاحكام الشرعية.

لو طرحت هذه الفكرة في مجتمع أوروبي ، فلن تثير جدلا ، فهي بديهية في ثقافتهم الحديثة. أما في المجتمعات المسلمة فالامر بالعكس.

ولعل معظمنا قد سمع يوما ، من يستنكر اعتماد الراي العام كأساس للتشريع او تفويض السلطة (عبر الانتخابات مثلا). مفهوم ان الناس لا يقولون هذا صراحة ، سيما في النقاشات العامة ، بل يضعونه في قالب المقارنة بين رأي العالم ورأي الجاهل ، فيقولون مثلا: الانتخابات طريقة سيئة ، لأنها تساوي بين راي العالم الكبير والعامل البسيط. فهل يصح ان نعطي لكلا الرأيين نفس الوزن ، ونغفل فارق المعرفة بينهما؟.

ورأيت في هذه الأيام تعبيرا آخر عن الفكرة ، حين تبرم بعض الناس بالنقد الموجه لعلماء الدين او الإنتاج العلمي للهيئات الشرعية. يقولون مثلا: ان طالب العلم يثني ركبتيه عشرات السنين عند شيوخه ، قبل ان يفتي في مسألة ، ثم يأتي شخص "قرأ كتابين" ، فيدعي الاهلية للرد على تلك الفتوى. فهل هذا سائغ او معقول؟.

يسهل على الناس تقبل هذا القول ، بل واعتباره محاكيا للحقيقة ، لأنه ينطلق من مفهوم مستقر في الثقافة العامة ، فحواه تقديم اهل العلم على غيرهم ، ثم تقديم حملة العلم الديني ، في مختلف مستوياتهم ، على كل أحد ، حتى العلماء في المجالات الأخرى.

احتمل ان القاريء العزيز قد توصل الآن الى حقيقة ان النقاش حول الراي العام والعرف والجماعة ، يشوبه خلط كثير ، أدى في أحيان كثيرة ، الى انحراف النقاش نحو نقاط لا علاقة لها بالموضوع أصلا. ان تفكيك هذا الاختلاط يستدعي التأمل في كل من عناصر الموضوع بمفرده ، ثم البحث عن الرابط الصحيح بينها.

المسالة الأولى التي يجب الانتباه اليها ، هي اطار النقاش: اذا كنا في المجال العلمي البحت ، فان راي الأكثرية وراي الفرد الواحد سواء. والمقدم هو ما يبنى على دليل مقنع. اما في حل الاختلافات العملية ، او في تعيين ممثلي الجماعة ، او تفويض السلطة ، فان رأي الأكثرية هو المقدم.

بعبارة أخرى ، فان جميع الآراء محترمة على مستوى العلم ، بما فيها الآراء في الدين. مع ان العقلاء سيأخذون بالرأي المستند الى دليل متين ، حتى لو كان صاحبه ممن "قرأ كتابين" كما يقال احيانا. لهذا فقوة الدليل هي المعيار. ويبقى لكل فرد حق تام في اختيار ما يراه ، طالما لم يفرضه على غيره.

الاخذ برأي الأكثرية في القضايا العامة ضروري ، لان الناس يختلفون في تشخيص المصالح ، فلا بد من طريقة للتوصل الى حل يتجاوز الاختلاف. لكن ثمة – إضافة الى هذا - مبرر آخر ، وهو اجتماع العقول. فالمؤكد ان دعوة الناس للتعبير عن آرائهم والمشاركة في القرار ، سوف توفر لنا رؤية واسعة ، تستند الى مئات العقول ، من تخصصات ومشارب مختلفة ، وهذا يسمح بالتعمق في فهم خلفيات القرار ونتائجه المحتملة قبل إصداره. وقد ورد في الأثر "اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله".

عقلانية الاخذ بالراي العام ثابتة في الأمور العامة ككل ، ومن بينها – في رايي - الاحكام الشرعية التي تفرض بواسطة هيئات الدولة على عموم الناس.

الأربعاء - 15 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 09 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16052]

https://aawsat.com/node/3976421/

 

مقالات ذات صلة

جبر العامة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

مكانة "العامة" في التفكير الديني

طريق الحزب الى السلطة

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الثاني

اقامة الشريعة بالاختيار

 

02/11/2022

العرف العام وبناء العقلاء

ثمة مفاهيم تبدو للوهلة الأولى في غاية البساطة. لكنها تنكشف عن تعقيد غير متوقع ، حين توضع امام نقائضها ونظائرها. تحدثت في الأسبوع الماضي عن "العقل الجمعي" محاولا تمييزه عن مفهوم الحشد او ذهنية القطيع/سلوك القطيع. وكان الداعي لهذا التمييز ، هو الخلط المتكرر بين المفهومين ، حتى من جانب كتاب وخطباء ، يفترض فيهم تجنب الخلط بين المفاهيم ، سيما حين يؤدي الى تعقيد ثقافي او أخلاقي غير مستحب.

من ذلك مثلا ظن بعض الناس ان "العقل الجمعي" مساو لتلاشي شخصية الفرد وضياع العقلانية. وهذا ظن لا يخلو من مبالغة. لكن ما يهمني في هذا المقام هو مراجعة اصل الفكرة ، أي مفهوم الجماعة ، حيث بدا لي أنه يستعمل على وجهين متعارضين: في بعض الأحيان تذكر الجماعة باعتبارها موضع الحق والوحدة والطريق الوسط ، أي انها معاكسة لحالة الخروج عن الجادة (الباطل) والتنازع والتطرف. وفي أحيان أخرى تذكر الجماعة كقرين للجمود والتأخر والارتهان للماضي (أي ما يجب التمرد عليه).

بعبارة أخرى فان الثقافة العربية الحديثة ، تنطوي على التباس في مفهوم الجماعة وعلاقة الفرد بها ، وكذا الدور الحياتي والوظيفة المفهومية التي يشغلها كل منهما في النظام الاجتماعي.

بيان ذلك: ان ثقافتنا الموروثة – مثل سائر الثقافات القديمة – تميل لإعلاء مكانة الجماعة. وهو ميل عززه تأكيد الفكر الديني على الوحدة والانسجام ، وتصوير الجماعة كنظام عضوي ، له دور محوري في التجربة الدينية. ان تحليل السياقات التي استعمل فيها مفهوم الجماعة في النصوص التراثية ، يحمل على الاعتقاد بان المفهوم يشير في غالب الأحوال الى ما نسميه الآن "التيار العام" أي الأكثرية العددية المعلنة (اود التأكيد على وصف المعلنة ، لتمييزها عن الأكثرية العددية الحقيقية ، حيث انها غير متحققة ، لكونها صامتة او مهملة او مقهورة ، كما هو حال المسلمين الجدد والنساء اللاتي لم يكن رايهن معتبرا ضمن حساب الأكثرية والاقلية).

اخذا بعين الاعتبار هذا التمهيد ، أود الإشارة أيضا الى ان المقارنة بين الأكثرية والأقلية ، ليس اصيلا في ثقافة المسلمين. لم يكن ثمة ما يطلق عليه أقلية. ولذا لم يكن ثمة أكثرية أيضا. لقد جرى التعبير عن الكثرة والقلة بوصفين: الجماعة والخارج عن الجماعة ، الذي يطلق عليه أحيانا الشاذ ، بمعنى المتمرد. وفي هذا السياق اشتهر الحديث المنسوب للنبي "عليكم بالجماعة ، فان يد الله على الجماعة". وزاد عليها بعض الرواة "ومن شذ شذ في النار". والظاهر انها ليست جزء من الحديث.

هذا التحليل يضع راي الجماعة في موقع "العرف العام". اني أحاول هنا تقريب العرف العام/راي الجماعة الى ما يسميه الفقهاء "بناء العقلاء/عرف العقلاء" ، أي احكام العقل ، أو القيم التي تلقى على الافعال من جانب عقلاء العالم ، أيا كانت اديانهم وازمانهم.

أرى هذا التقريب/التعريف ضروريا لجعل الثقافة العربية والإسلامية تتقبل المشترك الإنساني ، أي ما توافق عليه عقلاء البشر ، وتضيفه الى نسيجها الخاص كي يمسي جزء منها ، حتى لو كان في الأصل منسوبا الى ثقافات الأمم الأخرى. لابد من الإشارة هنا الى ان حديثنا كله يتعلق باطار العمل والقيم الاجتماعية التي تنظم العلاقة بين الناس. اما مجال العلم فبعيد عن هذا كله. ان الرأي العلمي للفرد والجماعة سواء ، لا يعلو احدهما الاخر ولا يلغيه. وقد اشرت في مقالات أخرى الى ان مفهوم الاجماع وتقديم رأي الجماعة ، يستهدف وضع قاعدة لعلاج الاختلاف في الراي المتعلق بقيمة عمل ما ، ولا يستهدف الموازنة بين الأدلة العلمية.

الشرق الأوسط الأربعاء - 8 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 02 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16045]

https://aawsat.com/node/3964226

مقالات ذات صلة

 

بماذا ننصح أينشتاين؟

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التعصب كمنتج اجتماعي

الخوف من التغيير

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في معنى التعصب

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...