من المؤلم القول ان المجتمعات
الغربية تجاوزتنا بمسافة طويلة ، في الاقرار بالتنوع قانونيا وسياسيا وعمليا ، بينما
لانزال نتحرك بسرعة السلحفاة. وهو أمر أسبابه معروفة لمن تأمل في البنية
الثقافية-الاجتماعية ، ولم يكتف بالوقوف عند التبريرات اللفظية.
السؤال
المثير للدهشة حقا هو : لماذا نجح الغربيون – ولو نسبيا – في تجاوز حدود الطوائف
والاعراق والثقافات ، فما عاد أحدهم يخشى ان ينقض عليه الآخر أو ان يتآمر. نقول
هذا مع علمنا بأن تلك المجتمعات قامت على أرضية تعاقد مادي ومصلحي. في المقابل فان
مجتمعاتنا التي تتحدث كثيرا جدا عن التعاون والتكافل والتراحم ومحبة الآخر
والايثار ، تبدو وكأنها تعيش على الدوام في مجتمع ما قبل الدولة ، حيث الجميع في
حالة حرب مع الجميع ،
على النحو الذي صوره توماس هوبز.
غالبية الدول الإسلامية تعاني مما يمكن وصفه
بأزمة هوية ، ليس عند الأقليات فقط ، بل وبنفس القدر عند الاكثريات أيضا. الأقليات
تظن ان الأكثرية تظلمها حقها ، والأكثرية تظن ان الأقلية تخونها. وثمة لدى هذا
الطرف عشرات من الأدلة التي تدعم دعواه ، ولدى الطرف الاخر أدلة مثلها. لكن السؤال
الذي يبقى حائرا: لماذا تعاملت الأكثرية مع "افراد" الأقلية باعتبارهم
جمعا واحدا؟ ولماذا فعلت الأقلية الشيء نفسه بالنسبة الى "افراد"
الأكثرية.. أي بدل ان تؤاخذ المذنب ، وضعت كل من يشاركه الانتماء في قالب واحد ،
وعاملتهم جميعا كمذنبين.
ثم
دعنا نفكر في السؤال التالي: لماذا يناصر "افراد" كل طرف دعاوى فريقه من
دون نقد او مساءلة؟. ولماذا لا يسمح هذا الجمع بمساءلة مواقفه ونقدها من داخل
الجماعة ومن خارجها.
ان
اردتم معرفة الطريقة التي يتشكل من خلالها الفارق البنيوي بين المسلمين وغيرهم ، انظر
لسلوك الإسرائيليين خلال الحرب المشتعلة منذ أكتوبر 2023 في مقابل سلوك العرب: يخرج
السياسيون والمواطنون والمحللون الإسرائيليون في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون
والصحف ، يوجهون اشد النقد للحكومة ورئيسها وللجيش وقادته ، وفي المساء يذهبون الى
بيوتهم آمنين. اما على الجانب الفلسطيني والعربي ، فان الذي يوجه نقدا ولو بسيطا ،
يتهم بالخيانة والعمالة والتصهين.. الخ. بعد حرب 1973 شكلت إسرائيل لجنة عالية
المستوى لتحديد أخطاء القيادة ، وقد نشر التحقيق ، وترجم الى العربية باسم
"التقصير". وهو يحوي نقدا شديدا للحكومة والجيش وأجهزة الأمن. فهل علمتم
عن أي دولة عربية قامت بتحقيق مماثل ونشرته على الملأ؟.
سوف اتفاءل اذا سمعت ان اللجنة التي شكلتها الحكومة السورية للتحقيق في حوادث القتل التي جرت في الشمال الغربي ، تضم فعلا فريقا مستقلا غير منحاز ، او على الأقل ممثلين لمختلف الأطراف ، واعتمدت المعايير الدولية في التحقيق ، ثم نشرت في وقت قريب شهادات الذين استمعت اليهم ، وحددت المسؤولية عن الأفعال الشنيعة التي جرت منذ سقوط النظام السابق.
اصلاح البنية الاجتماعية المتأزمة يستدعي معالجة التأزم المزمن في الهوية عند الأكثرية والأقلية معا. وهذا لا يتم اذا اكتفينا باعلانات سياسية او حتى دستورية ، بل يحتاج أيضا لمبادرات سريعة عملية ، تعزز الاطمئنان وترسل رسائل لجميع من يهمه الأمر ، بان لدى الحكومة عزم أكيد على احتضان الجميع والتعامل معهم كمواطنين ، يحاسبون على فعلهم وليس على انتمائهم.
الشرق الأوسط الخميس - 14 رَمضان
1446 هـ - 13 مارس 2025 م https://aawsat.com/node/5121368
مقالات ذات علاقة
الازمان
الفاسدة والناس الفاسدون
بدايات
تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة
التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية
شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية
الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن
الطائفية
ظاهرة سياسية معاكسة للدين
في
ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء
من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة
الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات
الوطن شراكة في المغانم والمغارم