كل تحول اجتماعي تصاحبه سيولة في الافكار والمفاهيم ، تؤثر على عقائد الناس واعرافهم ، وبالتالي مواقفهم الفكرية والاجتماعية.
-
ماذا نعني بالتحولات الاجتماعية وسيولة
الافكار؟.
تأمل وضع السعودية اليوم: هل تلاحظ التغير الحاصل في الشخصيات المرجعية ، في تركيب قوة العمل ، في العلاقات الاجتماعية ، مفهوم ومحتوى "وقت الفراغ" ، نوعية القيم الموجهة ، وفي لغة النقاش العام وموضوعاته؟. وهل تلاحظ التغير في منظومات الادارة الوسطى وبعض العليا ، في الادارة الرسمية والقطاع الخاص؟. انشغالات الناس واهتماماتهم ومواقفهم ومواقعهم؟. اذا كنت تلاحظ هذا ، فانت ترى جانبا مما نتحدث عنه.
يتحول المجتمع حين تتغير طريقة الناس في
التعبير عن انفسهم ومواقفهم. وتبعا لهذا تتغير موضوعات النقاش بين الناس ، في لغتها وفي اتجاهاتها
، من توكيد المألوف والمتعارف الى معارضته وابتداع قيم واعراف جديدة.
حصل هذا في اوائل القرن الجاري مع تعرف جمهور الشباب
على الانترنت. وهو يعود اليوم على نطاق اوسع ، مع نضج الجيل الجديد ، لاسيما الذين
أتموا تعليمهم الجامعي خلال السنوات العشر الأخيرة ، والذين يتمتعون بقدرة على
الوصول الى المعلومات وجرأة على التعبير عنها ، تتجاوز كثيرا ما يملكه الجيل السابق
، فضلا عن الذي قبله.
أما سيولة الافكار ، فتعني
كثرتها وتنوع مجالاتها ، وكثرة "المتحدثين في العلن". واريد استعمال هذا التعبير بدل تعبير
"المتحدثين في الشأن العام" كما هو متعارف ، لأني أرى للحديث في العلن
ميزات تشابه الحديث في الشأن العام ، لكنه اوسع منه وأعمق تأثيرا. الحديث في العلن
يعني خروج الفرد من حالة التلقي والانفعال ، الى حالة الالقاء والفعل او التفاعل.
وهذا يعادل ما نسميه تبلور "الفردانية" ، أي شعور الفرد بكينونته
المستقلة ، وكونه صاحب إرادة مستقلة عن إرادة الجماعة التي ينتمي اليها او يعيش في
وسطها. الحديث في العلن قد يشمل أشياء قليلة القيمة او حتى تافهة ، لكنه مع ذلك
يعبر عن نزوع استقلالي.
تكاثر
المتحدثين في العلن يؤدي لظهور الافكار المخالفة للسائد ، في كل مجال ، من السائد
الديني الى السياسي الى الأدبي والفني والمهني والتجاري.. الخ. وهذا يستثير رد فعل
الطبقات المحافظة والمستفيدة من الاعراف الموروثة
، فتشتبك مع المتحدثين الجدد ، فينقسم المجتمع بين هذا القطب وذاك ، ويزداد تبعا
لذلك عدد المتحدثين على الطرفين وعدد الافكار المطروحة ، كما ان الجدل فيها يزيدها
عمقا ومتانة ، حيث ان التراكم الكمي يولد تراكما كيفيا ، كما يقال.
لكن سيولة
الافكار ، وظروف التحول ذاتها ، تسبب فوضى عارمة في المفاهيم ، اي اختلاف الصور
الذهنية للشيء الواحد بين شخص وآخر. اظن ان كثيرا من الناس قد لاحظ النقاشات التي
تشابه ما يسمونه حوار الطرشان ، حين يتجادل اشخاص كثيرون حول مفهوم معين ، ثم يتبين
لاحقا ان هذا المفهوم مجرد اسم ، أما صورته الذهنية ومضمونه فمتعدد بعدد الذي
يتجادلون حوله.
لست متشائما من سيولة الأفكار ولا فوضى المفاهيم ، فهي
ظرف انتقالي يصعب تفاديه. وأظنه سيوصلنا الى نمط حياة ليبرالي وعقلاني. لكنني أردت
لفت نظر القراء الأعزاء للتدقيق في المفاهيم والمسميات التي يسمعونها او يقرأونها
، للتحقق من مطابقتها لتصورهم الذهني عن ذات المفهوم او المسمى. لقد لاحظت هذا
بشكل واسع حين كتبت حول العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية ، وعن المسافة بين
المصلحة الشخصية والعامة ، لاحظت ان الناس يتحدثون عن العدالة وهم يبررون التمييز
بين الناس ، او ينكرون الحرية بدعوى صون المصلحة العامة .. وهكذا.
الشرق الاوسط الأربعاء
- 16 جمادى الآخرة 1443 هـ - 19 يناير 2022 مـ رقم العدد [15758]
https://aawsat.com/node/3422476/
مقالات ذات علاقة
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات
سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)
صناعة الشخصية الملتبسة
عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي
على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة
من جيل الى جيل
ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب
؟
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق
نقد مقولة "التغرير"
النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت
هكذا نتغير... مختارين او مرغمين