معظم
القراء يعرفون على الارجح الدكتور محمد يونس ، الذي فاز بجائزة نوبل في 2006. أسس
يونس مجموعة مشاريع تستهدف اجتثاث الفقر في ارياف بنغلادش ، أشهرها "بنك غرامين" الذي أصبح أمثولة عالمية لمكافحة الفقر، سيما بين النساء.
د. محمد يونس |
لا
اعرف ان كان يونس متدينا بالمفهوم المتعارف. لكني أعلم انه بالتأكيد يقيم بعض أعظم
شعائر الدين ، وهي احياء النفوس "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض
فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". احياء النفوس
هو ارث الانبياء وعظماء العالم وجوهر الرسالة الدينية ، كما في الآية المباركة
"يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ".
لم
ينجز يونس هذا الدور عن طريق الدعوة اللفظية الى الدين ولا مصارعة الكافرين. فلسفة
عمله تتلخص في عنصرين:
أ-
معظم
الناس لا يعرفون طريق التحرر من ربقة الفقر او ربما لا يستطيعون تدبير الحاجات الاولية
اللازمة لصعود الدرجة الاولى في السلم.
ب-
معظم
الأثرياء لم يرثوا ثرواتهم بل استثمروا الفرص العظيمة التي أتاحها الاقتصاد
الحديث. وهي فرص يجهلها اكثرية فقراء الريف. ولو عرفوا بوجودها فهم على الاغلب
يجهلون كيفية الوصول اليها واستثمارها.
آمن
يونس بأن الانقطاع الثقافي بين الريف والمدينة ، أو بين الطبقات الفقيرة ونظيرتها
الثرية هو الذي جعل سكان الريف اسرى لميراث الفقر القديم. فقرر ان يبدأ مشروعه بالعنصر
الثاني ، اي استغلال الفرص التي جاء بها الاقتصاد الحديث.
تضم
قائمة المشروعات التي اقترحها يونس او دعمها ، مئات من الافكار البسيطة ، مثل
خياطة الملابس لبيعها على بوتيكات المدن ، وتربية الاسماك لبيعها على المطاعم ،
واستقبال المكالمات من ابناء القرية العاملين في الخارج .. الخ. هذه مشروعات لم
يكلف اكبرها الف دولار. لكنها اقامت نموذجا عما يمكن للناس ان يفعلوه لانفسهم ، اذا
حرروا أذهانهم من عزلتها ، واندمجوا في عصرهم ، واستوعبوا فرصه وحاجاته.
في
الوقت الحاضر يشعر ملايين الناس في بنغلادش ، بالامتنان لجهود محمد يونس ، الذي
فتح عيونهم وعقولهم على طريق للخلاص من بؤسهم واعادة بناء حياتهم من جديد.
يقول
يونس في حديث تلفزيوني انه لم يوزع اي صدقة. بل قدم قروضا وتوجيهات. واكتشف ان
فقراء الريف اكثر التزاما بتعهداتهم ، لأنهم اكثر خوفا من الله. تبرهن التقارير
التي ينشرها بنك غرامين ان نسبة سداد القروض تفوق 90% وهي نسبة تتجاوز تلك التي
تحققها البنوك التي قصرت قروضها على الاثرياء.
قبل
ثمانين عاما تقريبا كتب الفيلسوف والشاعر الهندي محمد اقبال ، ان مهمة تجديد الدين
الاسلامي لن تنجز على الارجح على يد الفقهاء والمفكرين ، بل على يد المجتمع.
المجتمعات الحية الناهضة تنتج فكرا حيا متجددا ، بينما تعيد المجتمعات الساكنة
موروثها الثقافي وتكرر حياة أسلافها.
طريقنا
الى تجديد الحياة الدينية يمكن ان يبدأ باستثمار الايمان في تحسين دنيا الناس. اذا
نهضنا بحياتنا فسوف نفهم ديننا على نحو متفاعل مع عصرنا ، اي مع ثقافاته وفرصه
والزاماته. الخطوة الاولى في هذا الطريق هي التحرر من أوهام التاريخ وقصصه ،
الانفتاح على عصرنا بكل فضائله وآثامه ، التفاعل مع تيارات التقدم والتجديد
الهادرة فيه ، ثم اعادة انتاج التجربة الانسانية المعاصرة ضمن اطارنا المعرفي
الخاص ، وصولا الى انتاج القوة التي تجعلنا شركاء متساوين في المدنية المعاصرة.
الشرق
الاوسط 3-اغسطس – 2016
http://aawsat.com/node/705071
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق