ذكرت في مقال سابق ان فقهاء الشريعة ، تختلف آراؤهم في الموضوع الواحد ، كما تختلف احكام القضاة في القضية الواحدة. وهكذا الأمر عند مفسري القرآن وعلماء الطبيعيات والهندسة ، بل كل علم يعرفه الانسان.
لولا الخلاف في
المواقف لسادت الأحادية ، وتحول المجتمع البشري الى ما يشبه مجتمع النحل.
ولولا تقبل العقلاء للاختلاف في الرأي والاجتهاد ، لانجبر الناس في طريق واحد ،
ومات العلم. الخلاف والاختلاف هو الماء الذي تحيا به شجرة العلم.حلقات الدرس في المسجد الهندي-النجف
هل ينطبق هذا
المبدأ على علوم الدين أيضا؟.
نعم بطبيعة الحال.
لكن لماذا هذا السؤال؟.
السبب الأول
للسؤال هو الاختلاط المشهود بين ما هو علمي بحت وما هو مقدس ، الأمر الذي يجعل
البحث العلمي المحايد في غاية العسر. ولهذا يواجه دعاة الاصلاح والتفكير الديني الجديد
عنتا شديدا ، حين يحاولون استعمال المناهج الجديدة في البحث العلمي ، وهي مناهج تتعامل
مع قضايا العلم وأدلتها من زاوية تقنية او وظيفية بحتة ، ولا تعبأ بالجانب المقدس
في موضوع البحث. من عوامل التأخر في علوم الشريعة ، الخوف من خرق المقدسات. وهو قد
يكون خوفا صحيحا ، او ربما مجرد وهم.
أما السبب
الثاني فهو اعتقاد كثير من عامة الناس ،
بأن ما يسمعونه من الخطيب او الفقيه ، وما يقرأونه في كتب الفقه ، هو نفس ما قاله
النبي او صحابته الذين سمعوا منه. وإذا كان ثمة اختلاف ، فهو قصر على الشرح
والتوضيح ، ولا يخالف الأصل في كثير ولا قليل. وهذا غير صحيح طبعا.
ما يقوله الخطيب
او الفقيه هو اجتهاده الخاص ، او اجتهاد من يرجع اليه. بديهي انه ليس كل حافظ للقرآن
والحديث ، قادر على الاستدلال واستخراج الحكم الشرعي. ولو كان الاستدلال بهذا
اليسر لما احتجنا الى متخصصين في علوم الشريعة ، ولاكتفينا بكتب النصوص المعتمدة
والتي تتوفر لكل من يطلبها ، مع شروحها وتفاسيرها.
لكنا نعلم ان الاستدلال
عملية مغايرة لقراءة النص وشروحه. الفرق هنا يماثل الفرق بين عالم الميكانيكا ،
وبين شخص قرأ دليل الاستعمال او ربما اخذ دورة في صيانة المحركات. فالأول محيط
بالقواعد العلمية التي تحكم عمل المحرك والتقنيات المستخدمة فيه ، وبالتالي فهو
مؤهل لتعديل المحرك ان اقتضى الأمر. أما الثاني فحده الأقصى هو تنظيف المحرك او
ربما إصلاح بعض اعطاله ، بمعنى المحافظة عليه كما هو.
حسنا.. لماذا لا
يتكل طلبة العلم الشرعي على اجتهادات من سبقوهم ، بدل ان يعيدوا النظر فيها ويطرحوا
آراء جديدة ، غير التي اعتاد عليها الناس؟.
الجواب بسيط: تخيل
لو بقي الناس على الرأي
القديم القائل بحرمة التصوير ، او حرمة المطبعة أو السفر الى البلاد الاجنبية
او تعلم الجغرافيا والفلسفة واللغات الاجنبية وحرمة التعامل مع البنوك.. الخ .. كيف
سيكون حال الناس وحال دينهم؟.
لولا الاجتهادات
الجديدة ، لكان الناس في حرج شديد ، بل ربما تخلوا عن دينهم من اجل ضرورات الحياة.
هذه امثلة بسيطة تظهر ان الاجتهاد ، اي نقد الآراء السائدة والبحث عن بدائل ، هو
الطريق الوحيد لتمكين الناس من الجمع بين متطلبات دينهم وضرورات دنياهم.
أظن ان هذا يوضح
بما يكفي الحقيقة التي يعرفها كل العقلاء ، وهي ضرورة المراجعة المستمرة للخطاب
الشرعي ، من اجل تكييفه مع ضرورات الحياة الجديدة ، كي لا يقع الناس في الحرج. هذه
الضرورة هي التي تملي علينا قبول الاختلاف والمخالفة ، حتى لو تعلقت بما نعتقد انه
من الاساسيات والثوابت.
الشرق الأوسط الأربعاء - 25 جمادى الأولى 1443 هـ - 29 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15737]
https://aawsat.com/node/3383581
مقالات ذات صلة
الاسلام في ساحة السياسة: متطلبات العرض والتطبيق
التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني