08/02/2017

وراء تصريحات ترمب وتهديداته



العالم ، شرقا وغربا ، مشغول بالرئيس الامريكي الجديد ، نظرا لغرابة طروحاته والتباين الواضح بين مارآه الناس في شخصه ، وبين الصورة الذهنية المعتادة عن سادة البيت الأبيض. فوز باراك اوباما بالرئاسة في 2008 كان هو الآخر استثنائيا ومفارقا للمألوف ، رغم التباين بين الرجلين وطبيعة ردودالفعل على فوز كل منهما. وأذكر للمناسبة مارواه صديق حضر الاحتفال بإعلان نتائج الانتخابات في السفارة الامريكية. يقول الصديق ان السفير ، وهو جمهوري ذو ميول محافظة ، كان لايخفي قلقه من فوز اوباما. لكنه صعد المنصة فور اعلان النتيجة ، والقى خطبة عصماء ، بكى في أولها ، ثم قال ما مضمونه ان فوز اوباما يمثل في محتواه الرمزي انتصارا للذات الانسانية العميقة التي تحن للإنصاف والفضيلة ، وتعبر عن الصورة التي يريدها الأمريكيون لأنفسهم ، حتى وان اخفقوا في تجسيدها في غالب الأحيان.
اوباما يخطب في برلين
واظن ان الترحيب الواسع الذي حظي به فوز اوباما على امتداد العالم ، لا تختلف دواعيه عن تلك التي أبكت السفير. يتوقع العالم ان يرى الدولة الأقوى – بل أي دولة - ملتزمة بفضائل السياسة واخلاقياتها ، وعلى رأسها الانصاف والمساواة.
اهتمام العالم بفوز ترمب مختلف تماما عما حظي به اوباما. فهو يعبر عن القلق مما ينتظره في العهدالجديد. بينما ولد انتخاب أوباما قدرا من اليقين والكثير من الأمل ، في ان الدولة العظمى الوحيدة ، تعود للاعتدال في التعامل مع ذاتها ومع العالم.
زبدة القول ان الترقب وعدم اليقين هو المحرك العميق لانشغال العالم بالرئيس الجديد. ومحوره هو تصريحات ترمب حول العلاقات الدولية ، مثل حديثه عن الغاء اتفاقية باريس للمناخ ، والزام أوربا بتحمل نفقات الحلف الاطلسي ، وحديثه عن جدار المكسيك ، وخطة القضاء الفوري على داعش ، وتهديده بالغاء الاتفاق النووي مع ايران. هذه جميعا تكشف عن نمط متشدد في العلاقات الدولية.
لكن التدقيق في مجموع وعود ترمب (وتهديداته) قد يعزز فرضية ان "العامل الداخلي" هو موضع اهتمامه الوحيد. جميع احاديث الرئيس خلال الحملة الانتخابية وبعد فوزه بالمكتب البيضاوي ، تدور حول مسلمة رئيسية هي ان الولايات المتحدة قوية بما يكفي كي تستغني عن الدول الاخرى ، اقتصاديا وأمنيا. وان على الحكومة ان تلعب دور صانع المشهد ، وان تجسد تلك القوة في سياساتها الداخلية والخارجية. تنصرف هذه المسلمة الى معنيين على وجه التحديد:
الاول:  ان الولايات المتحدة لا تتحمل كلفة اصلاح العالم أو حمايته. واذا شاركت ، فان حصتها من الكلف لن تزيد عن حصة الآخرين. وان مساعدة الولايات المتحدة للاخرين يجب ان تحسب على اساس تجاري وليس على اساس اخلاقي او سياسي بحت.
الثاني: مهمة الحكومة هي المحافظة على ازدهار بلادها. وهذا ينصرف تحديدا الى المعنى الاقتصادي دون غيره. ويشمل معالجة البطالة ، خفض الضرائب ، زيادة الصادرات ، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية.
اذا صح هذا التحليل ، فعلينا الانتظار بضعة أسابيع ، ريثما تبدأ الادارة الجديدة في مواجهة استحقاقات السياسة العادية. عندها سيتحدد مدى التحول الذي يمكن للبيت الأبيض فرضه في المشهد المحلي والدولي. وأحتمل ان ابعد تقدير لزمن الاختبار هو قمة مجموعة العشرين المقرر عقدها في المانيا مطلع يونيو. الشهور الاربعة التي تفصلنا عن موعد القمة ستكون مختبرا لمعرفة ماذا سيفعل ترمب في السنوات الاربع القادمة. واحتمل ان معظم انعكاساتها سيكون باتجاه الداخل الامريكي وليس العالم.
الشرق الاوسط 8 فبراير 2017
http://aawsat.com/node/849256

01/02/2017

ترمب على خطى يلتسن



أحتمل ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسرور جدا بسياسات نظيره الامريكي دونالد ترمب. ليس فقط لأن ترمب يحاول ردم الفجوة التي اتسعت بين البلدين منذ استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم أوائل 2014. بل أيضا ، وربما بدرجة أكبر ، لأن تلك السياسات ستؤدي - موضوعيا - الى تراجع الحضور الأمريكي في السياسات الدولية ، مما يوسع الطريق امام بوتين ، الساعي لاحياء مكانة روسيا كقطب ثان في النظام العالمي.
الرئيس الروسي بوريس يلتسن (يسار) مع الرئيس الامريكي كلينتون (يمين)

المقارنة بين التوجهات الحالية للرئيسين تذكر بمقارنة عكسية بين الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن ونظيره الامريكي جورج بوش ثم بيل كلينتون خلال الفترة من 1991 حتى 1999. تولى يلتسن الحكم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وتبنى في ولايته الاولى سياسة انكماشية محورها الاهتمام بالداخل الروسي ، واغفال دورها التقليدي في الساحة الدولية. لكنه سرعان ما اكتشف الثمن الفادح للانكماش. فقد أمست روسيا دولة ثانوية مثقلة بالديون ، تلهث وراء السياسات الامريكية ، بعدما كانت منافسها الرئيس في العالم.
في المقابل تبنى الرئيس بوش الأب ومن بعده كلينتون ، سياسة دولية نشطة ، حولت واشنطن الى موجه شبه وحيد لسياسات العالم. وأثمرت عن تصفية النفوذ الروسي في اوربا وافريقيا ، واضعافه بشكل ملموس في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
حين انتبه يلتسن الى هذه الحقيقة في ولايته الثانية ، وجد الوقت قد فات ، ولم يعد بالمستطاع بعث الموتى. والحقيقة انه بذل جهدا خارقا لاقناع الصين بالتعاون معه لاعادة احياء القطبية الثنائية. لكن الصينيين لم يثقوا في جديته. في ديسمبر 1999 ، قبل اسبوع واحد من انتهاء ولايته ، كان يلتسن قد خرج للتو من المستشفى ، حين تحامل على أوجاعه وقام بزيارته الاخيرة للعاصمة الصينية ، في محاولة أخيرة لاقناع زعمائها بجدوى التحالف مع موسكو.  لكن الصينيين المولعين بالتخطيط الاستراتيجي ، لم يروا في الرجل سوى مغامر شعبوي ، تثيره المشكلات الآنية ، ولا يلقي بالا للاستراتيجيات طويلة الامد.
يبدو ان بوتين تعلم الدرس جيدا اثناء عمله مع يلتسن. منذ توليه السلطة في مايو 2000 ، ركز بوتين على استعادة موقع روسيا في الساحة الدولية عبر تخطيط صبور وطويل الأمد. ولعل مبادراتها الاخيرة في سوريا تعكس احد الوجوه البارزة لهذا الدور الجديد.
تذكرت المقارنة بين شخصية ترمب ويلتسن خلال قراءتي لمقال يدعي ان سيد البيت الأبيض يتفاعل مع أخبار التلفزيون ، أكثر من تقارير الاجهزة المتخصصة كالاستخبارات ووزارة الخارجية وغيرهما. انه رجل مؤمن بشخصه أكثر من ثقته بالمؤسسة التي يديرها. ولهذا يعول على انطباعاته الآنية في تكوين الاراء والمواقف. ولعله يبادر لكتابة تغريدة على حسابه في تويتر ردا على ما سمعه في التلفزيون ، بدلا من تحويل المسألة الى وزارة الخارجية او مكتب الناطق الرسمي للبيت الأبيض ، الأكثر احترافا في هذا الشأن. وقيل ان هذا بالضبط ما حصل في الجدل المعروف حول لقائه مع الرئيس المكسيكي ، الذي الغي بتغريدة على تويتر.
من المحتمل ان يعيد ترامب مراجعة سياساته ، سيما مع ما يبديه الحلفاء الاوروبيون من رفض صريح او ضمني ، فضلا عن تململ النخبة في امريكا نفسها. من المحتمل ايضا ان يصر على منهجه. وفي هذه الحالة فهو يوفر الفرصة الذهبية التي تمناها نظيره الروسي الطامح لتقليم أظافر واشنطن في العالم ، مثلما فعلت هي بموسكو في عهد سلفه. 
الشرق الاوسط 1 فبراير 2017 
http://aawsat.com/node/843781

04/01/2017

في علاقة التعليم بالتوتر الاجتماعي


بداية العام الجديد تدعونا للتوقف قليلا لتقييم ما شهدناه في العام المنصرم. لارغبة في ادانة أحد ، بل محاولة لفهم أسباب الفوضى الضاربة في المجتمعات العربية. وسوف أخصص هذه المساحة لبيان الحاجة الى مراجعة الفلسفة العامة للتعليم ، سيما ذلك الذي يتكفل بتشكيل ذهنية الطالب وهويته ، اي مناهج العلوم الانسانية.
لا ينتقل الناس من حال الوئام الى الشقاق والتنازع ، لأن سحرا قد مسهم فغير طبائعهم وقلب اخلاقياتهم.  لا تنعدم الثقة بين الناس ، ولا تنبت العداوة في نفوسهم بين ليلة وضحاها. انما تتفتح بذورها وتمتد جذورها على مدى زمني طويل ، يدركه المتأمل البعيد النظر ، الذي يرى نهاية المسار فور ان يضع الناس أقدامهم على أوله. 
 لطالما أثار اعجابي المستوى الرفيع للمناهج الدراسية في العراق وسوريا. لكن هذين البلدين بالتحديد ، ابتليا في السنوات الماضية بصراع أهلي جسد الكراهية والتوحش على نحو نادر المثال. بطبيعة الحال ليس ثمة رابط بين جودة المناهج وتفاقم الكراهية. انما العيب في المنهج الموازي الذي يربط الوطنية بالعدوان ، ويقرن التفوق بالغلبة وهزيمة الاخر المختلف ، ويصور التنافس الطبيعي على مصالح الدنيا ، كحرب وجود بين أمتنا والأمم الأخرى.
مثل كل الاحزاب الشمولية ، سعى حزب البعث الذي هيمن على السلطة في البلدين الى اعادة كتابة التاريخ ، من خلال تصوير الصراعات التي مرت على المنطقة ، طوال القرون العشرة الماضية ، كمحاولات أجنبية للقضاء على الأمة العربية. الهزائم صورت كمؤامرات ، والانتصارات صورت كبراهين على تمايز الدم العربي عن غيره. وجرى تصوير العربي باعتباره شجاعا وصادقا وصاحب حق لا جدل فيه ، والاجنبي طامعا وجبانا ومحتالا. وجرى تصوير الدين باعتباره منتجا قوميا ، يؤكد تمايز العرب وكونهم شهودا على البشر كافة.
التضخيم المبالغ فيه للهوية القومية ، استلزم التضحية بثلاث هويات ، اولاها الهوية الدينية العامة التي تشكل رابطا بين الفرد وسائر الناس وقناة لتفريغ الاحتقانات وتسكين الجراح. والثانية الهوية الوطنية التي تجمع العربي الى مواطنيه غير العرب. واخيرا الهوية الفردية التي تشير لاستقلال الانسان وتمايزه ، وكونه متحكما في مصيره الخاص.
تتماثل الايديولوجيات السياسية الشمولية ، في انها جميعا تسعى لصياغة هوية المواطن ، على نحو يحوله من شخص طبيعي الى جندي ، في خدمة الاهداف الكبرى لتلك الايديولوجيا والنظام السياسي الذي تقيمه أو تدعو اليه. ولهذا السبب فهي تعمل على تغييب العاطفة ، وتحتقر المصالح الشخصية ، وتركز على مثال الانسان الذائب في الجماعة ، الانسان الذي ينسى مراداته الخاصة وحقوقه الفردية ، وبالطبع حقوق الاخرين الفردية أيضا.
لقد رأينا الان عواقب هذه التربية. وجدير بنا ان نعيد توجيه التعليم العام على نحو يسمح لشبابنا بتشكيل شخصياتهم وفق ثقافة سياسية تفاعلية ، يدرك صاحبها قيمة ذاته واستقلالها ، كما يدرك في الوقت نفسه قيمة القانون والنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه. ثقافة تدفع الفرد لاصلاح حياته والاسهام في اصلاح بيئته عبر القانون ، وبالتعاون مع مواطنيه ، وليس بالخروج على النظام العام وقسر الاخرين على اتباع مراداته.
لايوجد كتاب عنوانه "كيف تتمرد على النظام الاجتماعي". لكن مضمون كتاب كهذا ، قد يكون موزعا في العديد من الكتب والمناهج والممارسات التعليمية ، فضلا عن التربية الاجتماعية. وهو يسهم في تشكيل شخصية انفعالية ، تميل الى الاتباع لا الابداع. شخصية جاهزة دائما للولاء وتحويل الولاء بحسب الانفعالات والميول الظرفية.  
الشرق الاوسط 4 يناير 2017

http://aawsat.com/node/822051

21/12/2016

سوريا بعد معركة حلب: تقدير موقف

معركة حلب ليست نهاية الحرب بين المعارضة والحكومة السورية. لكنها بالتأكيد التحول الأبرز في تاريخ الصراع. بين 2011 وحتى نهاية 2014 نجحت المعارضة في الوصول عسكريا الى جميع المدن الرئيسية ، عدا اللاذقية التي بقيت وحدها بيد الحكومة. يومذاك لم تكن مدينة حلب وريفها الموقع الاهم للمعارضة. بل احياء جوبر وببيلا ومخيم اليرموك ، التي تبعد كيلومترين فحسب عن وسط العاصمة. فضلا عن ثلاثين بلدة في محيط دمشق الشمالي والشرقي. يومها ساد اعتقاد بان قوات المعارضة توشك على محاصرة العاصمة ومن ثم تفكيك النظام.
لكن المعارضة أخفقت في تحويل المكاسب العسكرية في الميدان الى مكاسب سياسية. ويرجع هذا في المقام الأول الى النزاعات التي لم تتوقف بين تنظيماتها المختلفة ، وتدخلات القوى الخارجية ، فضلا عن افتقار معظم المعارضين الى الخبرة السياسية التي تحتاجها ساحة في حالة تحول شبه يومي.
نتيجة بحث الصور عن معركة حلب
تبعا لهذا ، انحسرت سيطرة المعارضة تدريجيا ، سيما في العام الجاري ، حتى باتت محصورة في الشمال الذي تشكل "حلب" مفتاحه الرئيس. ومن هذه الزاوية فان خسارة المعارضة فيها ، يعني فقدانها لآخر ورقة مهمة ، يمكن استثمارها سياسيا.
اظن ان الاشهر الستة القادمة ستشهد أولى انعكاسات هذا التحول ، في جبهة المعارضة والحكومة على السواء.
ابرز الانعكاسات في ظني هو ان محور تركيز الداعمين الرئيسيين للحكومة والمعارضة ، اي روسيا وتركيا ، سيتحول من استهداف نصر عسكري حاسم ، الى اطلاق عملية سياسية ، تلعب فيها الدولتان دور الدينامو والضامن. كانت موسكو قد بذلت محاولات سابقة ، لكنها أخفقت. كما ان انقرة قررت تركيز جهدها على منع قيام فيدرالية كردية في الشمال السوري ، خشية اطلاق عملية مماثلة في اراضيها.
التحول الى دور الوسيط يؤدي – بالضرورة – الى بروز مسافة في المواقف وخلاف في التقديرات ، بين موسكو ودمشق في جانب ، وبين انقرة والمعارضة في الجانب الآخر. رد الفعل الطبيعي من طرف الوسيطين سيتمثل على الارجح في ضغط على حليفيهما ، قد يقود الى تفكيك جزئي وما يشبه اعادة هيكلة ، تتضمن تغييرا في المواقف والشخصيات لتسهيل التحرك السلس للعملية السياسية المنتظرة. هذا يعني تحديدا انفتاح انقرة على دمشق وحلفائها ، وانفتاح موسكو على اطراف المعارضة ، بما فيها التنظيمات المسلحة.
من المقرر ان تستضيف موسكو اجتماعا بين الروس والايرانيين والاتراك ، أظن ان موضوعه الرئيس هو اطلاق خارطة طريق للحل السياسي ، وآلية لضمان نجاح مرحلته الأولى على الأقل. بالتوازي دعت موسكو وانقرة الى مفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة في كازاخستان ، سيكون محورها "فرز" القوى الراغبة في الانضمام للعملية السياسية ، من تلك المصرة على مواصلة الحرب.

زبدة القول ان معركة حلب كانت فاصلة بكل المقاييس. ليس فقط في كلفتها المادية والبشرية ، بل لأنها تضع الحكومة والمعارضة السورية امام تحد غير مسبوق ، قد يتضمن إعادة هيكلة لكل من الجبهتين ، على نحو يعيد تأهيلهما للتحول من المواجهة المسلحة ، الى التفاوض الذي يفترض ان يؤدي في نهاية المطاف الى تأليف نظام سياسي جديد ، لا يحقق مرادات الجميع ، لكنه ينهي الحرب الأهلية. وأظن ان هذا هو الهدف الوحيد حاليا للشعب السوري ، ولدول العالم التي يبدو انها سأمت من تطاول الحرب دون ان يلوح في الأفق حل أو نصر حاسم لأحد الأطراف.

الشرق الاوسط 21 ديسمبر 2016
http://aawsat.com/node/811816

14/12/2016

الاصلاح الديني: لقد بدأنا فعلا

خلافا لما ظننت حتى أيام خلت ، فان الاهتمام بالاصلاح الديني ليس قصرا على النخبة او الناشطين في المجال الثقافي. النقاشات التي سمعتها في الاسبوعين الماضيين ، اخبرتني ان شريحة واسعة من الناس تبحث فعلا عن رؤية جديدة. ليس دافعها مجرد الفضول المعرفي ، ولا مناكفة التيار السائد. بل الرغبة العميقة في ان يساهم كل فرد ، من زاويته ، وبقدر معرفته ، في تطوير صيغة للتدين ، تناسب حاجات اليوم وتستوعب تحدياته.
 لطالما واجهت سؤال: من أين يبدأ الاصلاح؟. واظن ان كل قاريء قد سمع او قرأ مقترحات تحدد نقاط البداية. صديقي د. مسفر القحطاني مولع باعادة تأسيس الاجتهاد في اطار نظرية المقاصد ، وقد كتب كثيرا في هذا الباب. المفكر المعروف حسن حنفي وعبد الجبار الرفاعي وآخرون رأوا ان علم الكلام الجديد ، اي الرؤية الفلسفية الجديدة للذات والعالم هي مبدأ كل تجديد. الدكتور وجيه قانصو وآخرون رأوا ان إعادة موضعة النص المؤسس ضمن إطاره التاريخي ، والتركيز على رسالته الداخلية ، هي الكفيلة بجعله منفتحا على تحديات العلم الحديث والعالم الحديث. وهناك بطبيعة الحال من فضل الاكتفاء بتجديد الصيغ الموروثة دون المس بمضمونها ، مثل الدعوة الى وضع مدونة للاحكام ، نظير تجربة الموسوعة الفقهية في الكويت ومصر ، ومجلة الاحكام العدلية التي وضعت في العهد العثماني وسار على خطاها العديد من الدول العربية.
جميع هذه المقاربات مفيدة. وهي تؤدي ، على مراحل متفاوتة ، الى تمهيد الطريق لرؤية دينية جديدة ، أو انها ، على أقل التقادير ، تسهم في فتح صناديق التراث المغلقة ، ووضعها وجها لوجه أمام تحدي التجديد ومستلزماته.
قلت لأحد الزملاء اننا قد بدأنا فعلا. نفس التساؤلات والجدالات حول واقع الدين وصورة المتدين في هذا العصر ، اعتراض الناس على بعض الاحكام الشرعية وما قام على أرضيتها من قوانين ، تدل كلها على ان مسلم اليوم غير مقتنع بالموروث ، ولا هو راض ببقاء الخطاب الشرعي حكرا على أهل حرفة بعينها.
لا أستطيع الجزم بنسبة أو رقم محدد. لكني استطيع القول ان آلاف المسلمين المتعلمين يريدون الاسهام في صياغة صورة جديدة للاسلام ، صورة يعتقدون انها اكثر استجابة لتحولات العلم الجديد والعصر الجديد ، صورة قادرة على استيعاب حاجاتهم التي لم يعرفها الاسلاف ولم يتخيلوا مثلها.
مسيرة الاصلاح الديني لا تنطلق - في اعتقادي – من اصدار المزيد من البحوث والدراسات الموسعة او العميقة ، بل من اقرار المسلمين ، كل فرد فيهم ، بأنه شريك في تشكيل زمنه وصناعة حياته.

الدين ليس عالما مستقلا عن حياة الفرد او الجماعة.  بل هو جزء منها. قد تراه اعظم جوانب الحياة قيمة او اعلاها مرتبة او اشدها قدسية ، لكنه في نهاية المطاف جزء من هذه الحياة ، وهو يتأثر بكل العوامل التي تعرض لها أو تؤثر فيها. المجتمع المتخلف يبحث في دينه او في ثقافته او تراثه عن تبرير لنكوصه وانكماشه. والمجتمع الناهض ينتج فكرا يعكس روح النهضة وحاجاتها.
نقطة البداية إذن هي ايمان الجميع بان دينهم صورة عن واقعهم ، وانهم لهذا السبب ، شركاء في صياغة التجربة الدينية وتجديدها ، مثلما يفعلون في جوانب حياتهم الأخرى. اي ايمانهم بأن الدين لهم جميعا ولأجلهم جميعا ، وليس صندوقا مغلقا اختصت بمفاتيحه طبقة بعينها او أهل حرفة دون غيرهم.
الشرق الاوسط14 ديسمبر 2016
http://aawsat.com/node/806611
مقالات ذات علاقة


07/12/2016

اصلاح المجال الديني


"اصلاح المجال الديني" هو عنوان الندوة العلمية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في تونس نهاية الشهر الماضي. في نفس الوقت نفسه تقريبا ، عقدت في بيروت ندوة مماثلة حول الحرية الدينية والمواطنة. كلا الندوتين والكثير من النقاشات المماثلة التي شهدناها هذا العام بالتحديد ، تشير الى انبعاث جديد لفكرة الاصلاح الديني ، باعتبارها طريقا ضروريا لحل اشكالات العلاقة بين الثقافة العامة والسياسة في العالم العربي.
منذ منتصف العام 2011 كان واضحا ان الأجيال العربية الجديدة ، تواجه عسرا في تحديد المسافة بين ما  هو موضوع ديني يعالج في إطار الشريعة ، وما هو متروك لعقول البشر وعلومهم. وأحتمل ان هذا العسر قد ساهم في تأزيم العلاقة بين أطراف التيار الديني ، و كذا علاقتها بالحكومات والقوى الاجتماعية الأخرى. نعلم ان الجدل المتواصل حول مشروعية السياسات ومعاني الوصف الديني ، وواقعية الحل الديني لقضايا الحياة العامة ، أمسى مبررا للتصنيف الحاد ، ومن ثم الانقسام بين من يصنفون كدعاة أو حماة للدين وبين ناقديهم. وهو انقسام مشهود في المجتمعات العربية دون استثناء.

ثلاث من اوراق النقاش التي طرحت أمام ندوة تونس ، ركزت على اشكاليات التعامل مع ما يسمى بالنص التأسيسي.  الدكتور عزيز العظمة مثلا لاحظ ان جميع المحاولات الاصلاحية في المجال الاسلامي ، توقفت عند مرجعية النص. نعلم ان التيار العام بين الفقهاء يتقبل فكرة الاجتهاد في النص ، مما سيؤدي – بشكل طبيعي – الى ظهور افهام جديدة واحكام جديدة. لكن واقع الحال يخبرنا ان التوقف عند النص ، لم يؤد الى تعالي النص عن الافهام والتفسيرات ، اي جعله موضوعا للاجتهاد المتحرر من قيود التفسيرات والافهام السابقة. تاريخ الاجتهاد يكشف عن تحول افهام السلف واجتهاداتهم الخاصة الى مرجع بديل عن النص ، بمعنى ان الفقيه لا يبحث الآن في النص القرآني او النبوي بشكل مباشر ، بل ينشغل في الحقيقة بكيفية فهم السابقين وتفسيراتهم له. وهذه التفسيرات والافهام تتحول الى إطار يوجه ويحدد عملية الاجتهاد. ولهذا فمن النادر ان تجد فقيها يخرج برأي أو تفسير ، لم يرد نظيره في تراث السابقين. وقد أوردت في تعقيبي على ورقة د. العظمة أمثلة صريحة عن اكتشاف فقيه ما لعيوب في اجتهاد السابقين ، لكنه – مع ذلك – يميل في استنتاجه النهائي ، الى متابعة ما اشتهر أو ادعي الاجماع عليه. وأظن ان هذا من ثمرات الهيمنة القوية للنسق الفقهي التقليدي ، التي قادت فعليا الى عزل جميع الآراء الغريبة عن المألوف والمتعارف ، بغض النظر عن أدلتها أو مطابقتها لروح التشريع.
المجال الديني ، مثل سائر مجالات الحياة الأخرى ، بحاجة الى مواكبة التحولات الاجتماعية ، واستيعاب التحديات الناتجة عن تطور حياة البشر وعلاقتهم مع الطبيعة. أظن ان جانبا من المشكلة يكمن في انكماش العلم الديني ورجاله ، وما حدث جراء ذلك من تفارق بينهم وبين سائر الناس ، في اللغة وأدوات الفهم والتعبير ، ونوعية الهموم والانشغالات الذهنية. يركز رجال الدين على السلوكيات الفردية ، ويريدون السلطة كأداة ضبط للسلوكيات الفردية ، لكنهم نادرا ما اهتموا بالمسارات المحركة للحياة العامة ، مثل الاقتصاد وانتاج العلم وحقوق الانسان ، وأمثالها.
اعتقد ان الاصلاح الديني لم يعد خيارا للمجتمعات العربية. بل أمسى لازما لاستعادة السلم الداخلي ، فضلا عن ضرورته للحفاظ على مكانة الاسلام كموجه لحياة البشر في عالم سريع التغير.
الشرق الاوسط 7 ديسمبر 2016
http://aawsat.com/node/801421

23/11/2016

عكس العولمة : اليمين يتجه يسارا

"الشقيقات السبع: شركات البترول الكبرى والعالم الذي صنعته" لم يكن ابرز مانشره الصحفي والكاتب البريطاني انتوني سامبسون. لكنه بالتاكيد الكتاب الذي عرف العالم عليه. كان سامبسون قد نشر قبله "تشريح بريطانيا" الذي احتل قائمة الكتب الاكثر رواجا في حينه. ويقال ان سبب رواجه هو تحليله العميق والموثق لدور الشركات الكبرى في صناعة السياسة البريطانية.
انتوني سامبسون
اتخذ سامبسون اتجاها مماثلا حين أصدر "الشقيقات السبع" في 1974. وخلاصته ان شركات البترول الدولية الكبرى تخوض منافسة شرسة فيما بينها ، لكن سياساتها جميعا تمهد الطريق الى هدف واحد ، هو الغاء الحدود والعوائق السيادية للدول ، وصولا الى جعل العالم كله سوقا مفتوحا لعملياتها. ويعتقد سامبسون ان تلك الشركات الهائلة القوة ، قد نجحت في تغيير سياسات العديد من دول العالم ، بل وتدخلت في صراعات سياسية أثمرت عن تغيير الحكومات التي لم تستجب لحاجاتها ، في الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.
لم يكن مفهوم "العولمة" قد ظهر يومذاك كمصطلح قياسي. لكن كتاب سامبسون فتح الباب أمام عشرات من المقالات والكتب الاخرى ، التي تتحدث عن "عالم جديد" أبرز سماته زوال الحدود المعيقة لحركة رأس المال وقوة العمل والتكنولوجيا ، اي التمظهر الرئيس لما يعرف اليوم بالعولمة. وفي العقدين الاخيرين من القرن العشرين اصبح هذا المفهوم من اكثر المفاهيم تداولا في النقاشات الخاصة بالعلاقات الدولية. وفي العام 2000 اقترح صندوق النقد الدولي  اربعة مجالات تندرج في اطار هذا المفهوم هي التجارة ، حركة راس المال والاستثمارات ، هجرة اليد العاملة ، وتدفق المعلومات والتقنية.
كان تيار اليسار  ابرز المعارضين للاقتصاد المعولم. وينسب لهذا التيار الفضل في انتاج أهم الادبيات المتعلقة بتغول راس المال العالمي والشركات التي تديره. وهو موقف غريب بعض الشيء. فاليسار يدعو لعالم واحد يبرز قيمة العاملين وصناع التغيير. لكنه في مواجهة عالم راس المال ، اختار منهجا انكماشيا يركز على قيمة الحدود القومية. ويدعو لتوسيع تدخل الحكومة في الاقتصاد ، على نحو يضمن للطبقات الدنيا فرصا أفضل للعيش الكريم.
نعلم بطبيعة الحال ان اليمين كان يدعو لنموذج مضاد ، اي دولة لا تتدخل مطلقا في حياة الناس ولا السوق ، دولة نموذجها الاعلى "الحارس الليلي".
ها نحن اليوم امام انقلاب جديد. الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب ، الآتي من أقصى اليمين ، نجح في استنهاض الشرائح الاكثر تضررا من عولمة الاقتصاد ، أي عمال المصانع التي نقلت اعمالها خارج الحدود. الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي كشف عن تنامي نفس الاتجاه اليميني الذي يدعو للانكماش على الذات والتركيز على مصالح الطبقات الدنيا. ويبدو ان نمو هذا التيار في فرنسا التي تستعد لانتخابات رئاسية يتحرك بنفس الدوافع.
ثمة مفارقة في هذه الحوادث كلها ، فالصراع لا يدور بين الطبقات العليا والدنيا كما جرت العادة ، بل بين شريحتين متصارعتين في الطبقات الدنيا نفسها: شريحة ذات ميول يسارية كانت تخشى العولمة فباتت اليوم متعاطفة معها ، وشريحة ذات ميول يمينية تعاطفت أولا مع العولمة ثم جنت شوكها.
هل هذا نموذج لما سيكون عليه العالم خلال العشرين عاما القادمة؟. هل سنشهد تراجعا عن مبدأ العالم الواحد والاقتصاد المعولم؟. هل سيلحق العالم الثالث بهذا القطار ام يرى مصلحته في عالم بلا حدود؟.
الشرق الاوسط  23 نوفمبر 2016 http://aawsat.com/node/790836

16/11/2016

كسب الارض وكسب القلوب


بعد شهر من بدء عمليات الموصل ، استعاد الجيش العراقي جميع البلدات التابعة للمحافظة ، إضافة الى عدة أحياء داخل المدينة ، خلافا لتقديرات امريكية سابقة بان العملية ستأخذ نصف عام أو أكثر. هذه المفارقة تخبرنا ان سكان الموصل لم ينهضوا لنصرة داعش ، بل تركوهم وخليفتهم وحيدين في الميدان.
المؤكد ان النخبة السياسية سعيدة بما تحقق. فهو يؤكد ان المدينة تكره داعش ومشروعه ، رغم انها لم تكن - قبل ذلك - محبة لحكومة بغداد. عامة العراقيين أيضا تفاءلوا بان الحروب المتنقلة في بلدهم تطوي الآن صفحتها الأخيرة. لكني أخشى ان ينخدع السياسيون بوهج الانتصار ، فيغفلوا عن واحد من أبرز دلالاته ، اعني به تخلي الموصليين عن داعش. على صناع القرار في العاصمة ان يشعروا – بدل ذلك - بالقلق ، وان يتأملوا مليا في الاسباب التي أدت إليه وامكانية تكراره.

هذا الحدث لم يأت بلا سابقة. ففي يوليو 2003 هاجمت قوة امريكية منزلا في شمال الموصل يختبيء فيه عدي وقصي ابنا صدام حسين. وحين سيطر المهاجمون على المنزل ، وجدوا ثلاث جثث فحسب ، تعود للرجلين وابن قصي الشاب. لم ينهض رجل واحد من أهل الموصل لنصرتهم ، بمن فيهم اصحاب البيت نفسه وجيرانهم ، فضلا عن بقية أهل المدينة التي ينتسب اليها معظم القيادات الوسطى في الجيش العراقي.
تكرر الأمر ثانية في منتصف 2014 حين اجتاح تنظيم داعش مدينة الموصل واحتلها في بضع ساعات. لم ينهض احد من سكان المدينة لمواجهة داعش ، مثلما لم يتحركوا هذه الأيام لدعمها. هذه الأمثلة التي تكررت بتفاصيل متشابهة تقريبا ، وخلال مدى زمني قصير نسبيا ، تستوجب التساؤل عن سر الموقف السلبي لسكان المدينة ، تجاه أي قوة تمثل الدولة او تدعي انها دولة.
ليس لدي تفسير قطعي لهذا الموقف. لكني استذكر رأي باحثة بريطانية كتبت يوما عن مفهوم " الحقوق الطبيعية" واهتمت خصوصا برد فعل الناس ، حين يحرمون من حقهم الفطري في اختيار طريقة عيشهم وصياغة مستقبلهم. تقول السيدة مارغريت ماكدونالد ان ظرفا كهذا سيدفع معظم الناس لتناسي الواجب الاجتماعي على الاغلب "المواطن المحروم من حقوقه الأساسية سيسأل نفسه يوما: لماذا يجب علي التضحية من اجل المجتمع او الوطن ، طالما لم احظ فيه بفرصة للعيش الكريم او حرية الاختيار؟".
ربما يستطيع الجيش تحرير الموصل بجهد اقل مما كان متوقعا. لكن هذا ليس نهاية المطاف. ان تحصين المدينة ، (والبلد ككل) من احتمالات شبيهة بما فعله داعش في 2014 رهن باقتناع المواطنين بانهم في ظل دولتهم ، وليسوا خاضعين لقوة احتلال او هيمنة تسيرهم رغما عنهم. لقد تفاءلت حين اجريت بحثا سريعا ، فوجدت ان معظم الضباط الذين يقودون عمليات الموصل ، ينتمون الى نفس المدينة. لكن هذا ليس كافيا لتوليد الايمان عند اهلها ، بانهم باتوا اصحاب القرار فيما يخص حياتهم ومستقبلهم.
يتوجب على الحكومة العراقية ان تجري مراجعة عميقة لنظام الادارة والتمويل ، والعلاقة بين المحافظة والمركز ، ودور المجتمع المحلي في القرار ، حتى يتخلص الموصليون (وبقية المواطنين ايضا) من الشعور بان حياتهم يصنعها ويصوغها اشخاص لا يعرفونهم او لا يثقون في نواياهم.
قد نعتبر النجاح الحالي فخرا لمن سعى فيه. لكن القائد لا ينشغل بالفرح ، بل بوضع السياسات الضرورية لمعالجة العوامل التي ادت الى تكرار الفشل في الماضي.
الشرق الاوسط 16 نوفمبر 2016 http://aawsat.com/node/785611



اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...