بعد شهر من بدء عمليات الموصل ، استعاد الجيش العراقي جميع البلدات
التابعة للمحافظة ، إضافة الى عدة أحياء داخل المدينة ، خلافا لتقديرات امريكية
سابقة بان العملية ستأخذ نصف عام أو أكثر. هذه المفارقة تخبرنا ان سكان الموصل لم ينهضوا
لنصرة داعش ، بل تركوهم وخليفتهم وحيدين في الميدان.
المؤكد ان النخبة السياسية سعيدة بما تحقق. فهو يؤكد ان المدينة تكره
داعش ومشروعه ، رغم انها لم تكن - قبل ذلك - محبة لحكومة بغداد. عامة العراقيين أيضا
تفاءلوا بان الحروب المتنقلة في بلدهم تطوي الآن صفحتها الأخيرة. لكني أخشى ان
ينخدع السياسيون بوهج الانتصار ، فيغفلوا عن واحد من أبرز دلالاته ، اعني به تخلي
الموصليين عن داعش. على صناع القرار في العاصمة ان يشعروا – بدل ذلك - بالقلق ،
وان يتأملوا مليا في الاسباب التي أدت إليه وامكانية تكراره.
هذا الحدث لم يأت بلا سابقة. ففي يوليو 2003 هاجمت قوة امريكية منزلا
في شمال الموصل يختبيء فيه عدي وقصي ابنا صدام حسين. وحين سيطر المهاجمون على
المنزل ، وجدوا ثلاث جثث فحسب ، تعود للرجلين وابن قصي الشاب. لم ينهض رجل واحد من
أهل الموصل لنصرتهم ، بمن فيهم اصحاب البيت نفسه وجيرانهم ، فضلا عن بقية أهل
المدينة التي ينتسب اليها معظم القيادات الوسطى في الجيش العراقي.
تكرر الأمر ثانية في منتصف 2014 حين اجتاح تنظيم داعش مدينة الموصل
واحتلها في بضع ساعات. لم ينهض احد من سكان المدينة لمواجهة داعش ، مثلما لم
يتحركوا هذه الأيام لدعمها. هذه الأمثلة التي تكررت بتفاصيل متشابهة تقريبا ،
وخلال مدى زمني قصير نسبيا ، تستوجب التساؤل عن سر الموقف السلبي لسكان المدينة ، تجاه
أي قوة تمثل الدولة او تدعي انها دولة.
ليس لدي تفسير قطعي لهذا الموقف. لكني استذكر رأي باحثة بريطانية
كتبت يوما عن مفهوم " الحقوق الطبيعية" واهتمت خصوصا برد فعل الناس ، حين
يحرمون من حقهم الفطري في اختيار طريقة عيشهم وصياغة مستقبلهم. تقول السيدة
مارغريت ماكدونالد ان ظرفا كهذا سيدفع معظم الناس لتناسي الواجب الاجتماعي على
الاغلب "المواطن المحروم من حقوقه الأساسية سيسأل نفسه يوما: لماذا يجب علي
التضحية من اجل المجتمع او الوطن ، طالما لم احظ فيه بفرصة للعيش الكريم او حرية
الاختيار؟".
ربما يستطيع الجيش تحرير الموصل بجهد اقل مما كان متوقعا. لكن هذا
ليس نهاية المطاف. ان تحصين المدينة ، (والبلد ككل) من احتمالات شبيهة بما فعله
داعش في 2014 رهن باقتناع المواطنين بانهم في ظل دولتهم ، وليسوا خاضعين لقوة
احتلال او هيمنة تسيرهم رغما عنهم. لقد تفاءلت حين اجريت بحثا سريعا ، فوجدت ان
معظم الضباط الذين يقودون عمليات الموصل ، ينتمون الى نفس المدينة. لكن هذا ليس
كافيا لتوليد الايمان عند اهلها ، بانهم باتوا اصحاب القرار فيما يخص حياتهم
ومستقبلهم.
يتوجب على الحكومة العراقية ان تجري مراجعة عميقة لنظام الادارة
والتمويل ، والعلاقة بين المحافظة والمركز ، ودور المجتمع المحلي في القرار ، حتى
يتخلص الموصليون (وبقية المواطنين ايضا) من الشعور بان حياتهم يصنعها ويصوغها
اشخاص لا يعرفونهم او لا يثقون في نواياهم.
قد نعتبر النجاح الحالي فخرا لمن سعى فيه. لكن القائد لا ينشغل
بالفرح ، بل بوضع السياسات الضرورية لمعالجة العوامل التي ادت الى تكرار الفشل في
الماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق