14/01/2001

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكـبر ى


بعد ربع قرن من صعود تيار الاسلام السياسي ما يزال التوسع المدهش للحركة الاسلامية ، يثير الكثير من العواصف الفكرية والسياسية ، في داخلها وبين المنافسين ، فهي لا زالت اكثر الموضوعات السياسية اثارة للاهتمام ، واستقطابا للجدل في داخل العالم الاسلامي ، وفي الدول التي لها مصالح واهتمامات باقطاره ، بديهي ان بعض هذا الجدل كان يستهدف تحجيم اندفاعة الحركة ودفع مشروعها الى الزاوية ، ومن الواضح انهم قد نجحوا في تحقيق هذه الغاية في عدد من الاقطار ، الامر الذي جعل الحركة تضيق صدرا بالاشكالات المثارة من حولها .

على ان الانصاف يقتضي الاشارة الى ان تحول الحركة الى مادة رئيسية للاهتمام ، من جانب الاصدقاء والاعداء على السواء ، ليس ظاهرة سلبية ، بل هو مؤشر ايجابي يدلنا على تنامي الوزن السياسي لهذا التيار الجديد .
على الوجه الآخر من الصورة يوفر الجدل والشكوك المثارة ، فرصة ثمينة لاستبيان نقاط الضعف في تفكير الحركة الاسلامية وفي برامجها وعلاقاتها ، فالانسان لا يكتشف نفسه الا عندما يقارن بالغير ، خاصة وان الكثير مما عند الحركة لا يزال غير نهائي ، وبعضه لم يخرج عن اطار العناوين العامة ، فهو غامض عند الاسلاميين انفسهم فضلا عمن سواهم . ولهذا لا ينبغي اغفال الجوانب الايجابية لهذه الاثارات ، ان التعامل السجالي مع ما يطرح من مقولات ونقد ، قد يشفي الغليل ، لكنه في المحصلة النهائية يشغل الانسان عن رؤية الحقائق المجردة ، وفي  ظني ان معظم الاسئلة التي اثيرت خلال هذا الجدل ، تحتاج الى وقفة من جانب الحركة الاسلامية ، بغض النظر عن اغراض المنافسين ، وايا كانت الثمرة المرجوة من مشاركتهم جدلهم .

امثلة عن الاسئة :

ثمة كثير من الاسئلة التي أثارها قيام الحركة ، يتعلق بعضها بالمشروع السياسي الذي تدعو اليه الحركة الاسلامية ، وبعضها بالمرجعية الفكرية والمنهج النظري المتبع في التوصل إلى الآراء والمواقف ، ويتعلق البعض الآخر بطبيعة الحركة ذاتها ، حدود الارتباط بين الحركي والديني فيها والعلاقات الداخلية بين اعضائها ، وعلاقتها بالغير الذين ينافسونها في نفس الساحة .
المشروع السياسي : في الجانب الأول المتعلق بالمشروع السياسي ، لا توفر تجربة الحركة الاسلامية الاطمئنان الكافي لكثير من الناس ، أو لنقل على وجه الدقة انها تقدم اشارات متعارضة ، هي من ناحية دليل على تنوع الحركة وتنوع طروحاتها ، لكنها من ناحية أخرى دليل على عدم وجود مشروع واحد ، الامر الذي يجعل من العسير معالجة موضوع الحركة باعبتاره واحدا .
لقد انتقلت سريعا من ميدان العمل الثقافي والاجتماعي إلى السياسي ، ويبدو ان الوقت لم يتسع كي تحدد فواصل واضحة بين طروحاتها في الميدان الأول الذي يعبر عن دعوة ايديولوجية خالصة ، والطروحات المفترضة في الميدان الثاني الذي ينبغي ان يكون دعوة للحوار والشراكة ، وربما استمد بعض المنافسين رؤيتهم للحركة من المنظور الذي دعا اليه سيد قطب في الستينات ، والذي يقوم على اعتبار الدور الاساسي للحركة الاسلامية هو تصحيح اعتقاد المجتمع الذي رأى انه يخضع فعلا لسيطرة الجاهلية الجديدة ، وان العمل لاقامة حكومة اسلامية في ظل الاوضاع القائمة يعتبر هزلا  لا يليق بالدين .

وخلال العقدين الاخيرين من القرن العشرين ظهر العديد من الحركات الاسلامية في تجارب فعلية ، تقوم اساسا على استبعاد الاخرين أو رفض مشاركتهم في الحياة السياسية ، ومنها مثلا تجربة المقاومة المسلحة في الجزائر التي تطورت إلى اعلان تكفير الدولة والمجتمع واستباحة دماء واعراض واموال كل من رفض مشروع الجماعات التي تتبنى هذا الاتجاه .

ومن بينها ايضا تجربة الامارة الاسلامية التي اقامتها حركة طالبان في افغانستان ، التي تعبر عن تيار في الحركة الاسلامية لـه انشداد عميق إلى التقاليد القروية التي كانت سائدة في العالم الاسلامي قبل نهضته الحديثة ، واتبعت الحركة سياسات داخلية ، لا يمكن لمعظم الناس القبول بها ، مثل ابعاد النساء عن العمل واغلاق وسائل الاعلام وفرض قيود مشددة على اللباس والمظهر الشخصي ، فضلا عن الاعتماد على القوة العسكرية في فرض السياسات ومقاومة أي دعوة لاشراك ممثلي المجموعات الاجتماعية الأخرى في السلطة .

 لقد بادر معظم الحركات الاسلامية إلى التبرؤ من تجربة (طالبان) ولاحقا تبرأ الجميع من تجربة القتال التكفيري في الجزائر ، إلا انه لا يمكن انكار حقيقة ان بعض الجماعات الاسلامية اظهرت - في بعض الاحيان على الاقل - تعاطفا معها وقدمت تبريرات لعلمها ، وبصورة عامة فان هذا الوضع قد قدم صورة قاتمة عن الحركة الاسلامية في أحد احتمالاتها .
خلافا لامثال هذه التجارب البائسة فان فصائل اسلامية أخرى قدمت طروحات ونماذج عمل يمكن اعتبارها مشروعات سياسية بديلة ، ومن بينها مثلا تجربة الحركة الدستورية الاسلامية في الكويت ، وتجربة حزب العمل الاسلامي في الاردن ، وحركة مجتمع السلم في الجزائر ، وجماعة الاخوان المسلمين في مصر ، وحزب الرفاه في تركيا ، التي اعلنت بوضوح التزامها بمشروع للتغيير السلمي وقبول غير مشروط بمشاركة المنافسين في الميدان السياسي ، واعتبار صناديق الانتخابات مصدرا وحيدا للتفويض الشعبي لممارسة السلطة ، كما قدمت تجربة حزب الله في لبنان مثالا على الالتزام العميق باهداف الجمهور العام ، وعدم استثمار المكاسب في الانقلاب على النظام المدني .
كما ان تجربة الاسلاميين في اليمن تمثل هي الأخرى مثالا جيدا على الالتزام باللعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ، اذ ان التجمع اليمني للاصلاح ، وهو حزب الاسلاميين الرئيسي ، حافظ على التزامه بالدستور واصول اللعبة السياسية بعد خسارته الانتخابات النيابية ، فانتقل بهدوء إلى صفوف المعارضة بعدما تمتع بالمشاركة في السلطة لسنوات .

ونشير ايضا إلى تجربة الانتقال السلمي للسلطة في ايران ، رغم ان الانتخابات الرئاسية ، ولاحقا النيابية جاءت بفريق يعارض المتبنيات المعلنة لأقطاب النظام ، كما فشل ابرز رموزه ، وكان الاعتقاد السائد بين المراقبين في الغرب خاصة ، ان فوز السيد ناطق نوري ، المرشح  المعبر عن توجهات زعماء النظام ، يعتبر امرا محسوما ، إلا ان صناديق الانتخاب جاءت بالسيد محمد خاتمي ممثل الفريق المعارض ، وكان وصول خاتمي إلى الرئاسة مثيرا لدهشة المراقبين الغربيين الذين عبروا صراحة عن شعورهم بالدهشة ، لان زعماء النظام الاسلامي التزموا - على غير توقع - بأصول اللعبة الديمقراطية ، ولم يستخدموا ما يملكون من سلطة لفرض مرشحهم .

يشير هذا الاختلاف في الممارسة السياسية ، إلى اختلاف التنظير الايديولوجي الذي يدعمها أو يوفر لها المبررات ، فمن البديهي ان كل فصيل يدعو إلى مشروعه مدعوما بمبررات نظرية تنتمي إلى الفكر الاسلامي ، وازاء اختلاف الاستنتاجات ، فلا مفر من القول بان المناهج المستعملة في التنظير والاستنباط مختلفة ، الامر الذي يؤدي - ضرورة - إلى نتائج متعارضة ، وهذا مع انه يوفر مخرجا مناسبا لتفسير الاختلاف ، إلا انه من جهة أخرى يلقي بظلال من الشك حول مدى العلاقة بين الحركة والدين ، أي بين المشروع السياسي الفعلي والمرجعية النظرية .

الدين والحركة : 
في ايران حكمت المحكمة على رجل دين ومفكر معروف هو د. محسن كديور بالسجن لانه عارض نظرية (ولاية الفقيه) وسجن الوزير السابق عبد الله نوري ، وهو ايضا رجل دين واعلامي لاسباب مشابهة ، وشن عدد من علماء الدين التقليديين حملة متواصلة ادت إلى اقالة وزير الثقافة عطاء الله مهاجراني ، لانه دعا إلى ازالة القيود عن حرية التعبير ، بما مكن المعارضين للمدرسة الثقافية والايديولوجية السائدة ، من التعبير عن ارائهم في الصحافة ، وهدد بعض القضاة بتقديم مهاجراني للمحكمة لما وصوفوه بتساهله أو تشجيعه للانفتاح الثقافي على الغرب وتذليله العوائق امام محاولات الغزو الثقافي الاجنبي ، وفي كل هذه الحالات وغيرها ، كان المعيار في تحديد الاتهام هو عدم توافق المتهم ، تفكيره أو عمله ، مع المدرسة الفكرية السائدة ، فكأن هذه المدرسة منحت قداسة أو عصمة واعتبرت مسطرة يحدد وفقا لها ما هو صحيح وما هو خاطيء .
وفي الجزائر اعلن بيان للجماعة الاسلامية المسلحة وقعه اميرها ابو عبد الرحمن امين (جمال زيتوني) في 3 يناير 1996 عزمها على محاربة جبهة الانقاذ الاسلامية وجناحها العسكري لانه (طائفة ذات شوكة ومنعة اجتمعت على اساس رابطة حزبية من اجل العودة الى الديقمراطية والانتخابات وصناديق الاقتراع والاحتكام اليها والرضا بحكم غالبية الشعب وهذا شرك وكفر وانحراف عن المنهج السليم) و (ان جيش الانقاذ كان اضافة الى بدعته المكفرة خارجا عن الجماعة الاسلامية المسلحة التي تحمل الراية الوحيدة المبصرة والوحيدة في هذه الديار خصوصا بعد صدور بيان الوحدة والاعتصام بالكتاب والسنة وكذلك بيان ابراء الذمة الذي كان بعدما اقيمت عليهم الحجة مرارا من طرف اخواننا سواء في الشرق او الغرب ) وعليه (نقول لاخواننا ان قتالنا لجيش الانقاذ هو قتال واجب …. فيجب علينا ان نقاتل هؤلاء ونثخن فيهم حتى يعودوا الى امر الله ويتوبوا عن بدعهم وضلالهم ويلتزموا المنهج السلفي ) [1] ويتضح من البيان ان الجماعة تعتبر نفسها والانتماء اليها مقياسا للكفر والايمان ، وعلى أساس هذا التصنيف يتقرر من يستحل دمه ومن يعصم .

وتثير هذه التجارب اسئلة حرجة عن تصور الحركة لنفسها وطبيعة علاقتها بالمجتمع ، وبصورة خاصة موقع تشكيلاتها الحزبية الخاصة ضمن مشروعها. مثل هذه الاسئلة مبررة تماما بالنظر للغموض القائم حول الحدود الفاصلة بين المشروع النظري الذي تطرحه الحركة وبين النظام الحزبي الخاص الذي تتوسل به لايصال ذلك المشروع إلى سدة السلطة ، ويساور القلق كثيرا من الناس  - وهم على حق تماما - في ان الدعوة إلى البديل الاسلامي قد لا تكون غير مركب يمتطيه الطامحون للوصول إلى واجهة الحياة السياسية ، وربما تكرار التجربة البائسة لحكومة الحزب الواحد التي عانى منها العالم العربي ولا يزال .

وفي الستينات ادت دعوة المرحوم سيد قطب إلى إعادة تديين المجتمع الذي وصفه بالجاهلي ، إلى حملة على جماعة الاخوان المسلمين ، من منطلق ان أي مفكر أو جماعة لا يحق لها الحكم على الغير بالايمان أو الكفر ، اعتمادا على متبنياتها الخاصة ، لان كل مسلم لـه الحق في الاجتهاد والوصول إلى الله سبحانه من خلال تجربته العلمية أو الروحية الخاصة ، واصدر مرشد الجماعة السابق حسن الهضيبي كتابه المشهور (دعاة لا قضاة) للرد على هذا الموقف ، وبين ان الجماعة لا تتبنى بصورة مفتوحة الفكرة التي دعا اليها قطب ، رغم ان كثيرا من الحركيين اعتبرها ، وبقية الافكار المماثلة لها والتي وردت في كتابه المشهور (معالم في الطريق) ، اعتبرها دليلا نظريا للعمل .
وفي الوقت الحاضر يتفق الاكثرية على رفض اعتبار أي حركة نفسها أو طروحاتها ومتبنياتها الخاصة ، مقياسا للحق والباطل ، لكن - على مستوى الممارسة - فان كثيرا من الجماعات الحركية تتبنى أو تمارس سياسات من هذا النوع ، وهذا يظهر خصوصا في الصراعات القائمة بين بعض الفصائل ، كما هو الحال في موقف الحركة السلفية في الكويت من نظيرتها الحركة الدستورية الاسلامية التي تعبر عن جماعة الاخوان المسلمين ، ومثله موقف اكثر الجماعات السلفية من الفصائل الشيعية .
وبين التعبيرات المهمة عن إعادة النظر في هذه التوجهات ، يجدر الاشارة الى تصريحات عبد الله بن كيران وهو من زعماء حركة التوحيد والاصلاح ، أحد احزاب الاسلاميين الرئيسية في المغرب العربي:  (مفهوم ومضمون الاقصاء وسم المشروع الاسلامي لمدة غير يسيرة .. لايزال في سلوكات ومشروعات البعض .. وهو يتضمن اقصاء القوى المجتمعية الاخرى والمجتمع والسلطة في الاصلاح والتغيير .. .انه اقصاء نظري ينطلق من الذات بمعنى ان ذاتك خير من ذوات الاخرين .. في مقابله توجد فكرة المشاركة التي تنطلق من فكرة انه طالما ان الهدف هو خدمة الاسلام ورفع شانه فان التعاون مع من انطلق من اصل الاسلام او انطلق من نتائج الاسلام امر مقبول ..
كان للحركة في بعض المواقع تصرفات افزعت الاطراف الاخرى فاغلقت الابواب دونها  او اعطت الفرصة للاطراف ان يخوفوا منها …
ما يطلب اليوم من الحركات الاسلامية هو الاعتراف بالاطراف الاخرى وبتعيين برامجها .. وهي مدعوة الى مراعاة الخصوصيات .. انظمة الحياة التي يدخل اغلبها في اطار النمط الغربي اصبحت بمثابة خصوصيات من الضروري الحذر في التعامل معها لانه لايمكن القطع معها ومع النظام الغربي ومع دول وحكومات هذا النظام ..) [2].

النظام الاجتماعي : 
ومن بين الاسئلة التي كثيرا ما تطرح هو موقف الحركة الاسلاميين من عناصر النظام الاجتماعي القائم ، عناصر هذا النظام في وقته الراهن هي نتاج تطور طبيعي للمجتمع من صورته التقليدية القديمة إلى الصورة المعاصرة ، ومن نافل القول ان الاتصال بالغرب كان ابرز محركات هذا التطور ، ونجد تجسيدات ذلك في الاعلام وفي حركة تحرر المرأة وفي قنوات الثقافة والترفيه ، كما نجده في الاقتصاد .
وفي هذا المجال ايضا قدمت الحركة الاسلامية مواقف متعارضة ، وينقل فهمي هويدي الذي قام بتحقيق ميداني في افغانستان عن رحيم الله زرمتي نائب وزير الثقافة والاعلام وهو من اكبر رجال طالبان سنا ، ان (علماء افغانستان لم يجيزوا التلفزيون الذي ثبت ان الضرر فيه اكثر من النفع ناهيك عن ان فيه تصويرا للاشخاص وذلك محرم شرعا ، وإذا قيل  ان في الامكان الاكتفاء بالمواد المشروعة فما يدريك ان الناس لن تتركه إلى المحطات الاخرى التي تبث اشياء فاسدة … عند علمائنا صوت المرأة عورة والموسيقى حرام والرسم جائز ما لم يكن فيه ذو روح أما المسرح والسينما فممنوعان لما فيهما من المفاسد والاختلاط وتدليس على الخلق ثم الن السينما فيها تصوير ) [3].
أما  في الكويت فقد وقف معظم ممثلي الحركة الاسلامية في البرلمان ، ضد قانون أصدرته الحكومة يتضمن منح المرأة حقوقها السياسية ولا سيما حق العضوية وانتخاب نواب الشعب في مجلس الامة ، وثمة جدل لا يزال محتدما حول حرية المرأة ، حقوقها الاجتماعية والسياسية ، من يحدد لها ما هو صالح وما هو غير صالح ، ومع ان التجربة الايرانية تعتبر متقدمة في هذا المجال ، حيث  تتمتع النساء بحقوق سياسية واسعة ، وتشغل إحدى السيدات وظيفة معاون رئيس الجمهورية ، كما سمح لهن اخيرا بتولي مناصب قضائية ، عدا عن مشاركتهن في عضوية مجلس الشورى ترشيحا وانتخابا ، إلا ان الاشكال لا يزال قائما ، وثمة جدل حول المبررات الفقهية وحدود ما تسمح به الشريعة ، ويعكس حديث للشيخ القرضاوي جانبا من طبيعة هذا الجدل حين يقول (توجد فتوى قديمة لبعض علماء الازهر تمنع المراة من حقوقها السياسية في الانتخاب والترشيح. وادلة الفتوى هي انها بمقتضى الخلق والتكوين لها وظائف خاصة تجعلها ادعى للتاثر بدواعي العاطفة. واورد [المفتي] ادلة من القرآن تدل على ان نساء البيت النبوي كن على هذه الشاكلة فكيف بغيرهن. والرد على هذا الاستدلال ان المفتي قد فاته بان هؤلاء النسوة قد اخترن في النتيجة الله ورسوله والدار الاخرة. وهذا من ادلة تغليبهن العقل على العاطفة . ثم هل بريء الرجال من هذه العواطف والله يقول عن صحابة محمد (واذا راوا تجارة او لهوا انفضوا اليها وتركوك قائما) وكثير من الايات مثلها في الرجال مثل (حتى اذا فشلتم وتنازعتم من بعد ما اراكم ما تحبون ..) فهل يؤخذ من هذه الايات ان الرجال تغلب عليهم عند الازمات العواطف ، ثم استدلت الفتوى  بقوله (وقرن في بيوتكن..) وهي خطاب لنساء النبي فقط واتفق المسلمون على جواز ان تخرج المراة للعلم او للعمل والسفر الخ .. ومما استدلت به الفتوى حديث (ما افلح قوم ولوا امرهم امرأة)  وهو قول قاله النبي عندما بلغه ان الفرس ولوا امرهم بنت كسرى بعد موته ، وهذا مع اننا نرى صرفه الى خصوص الواقعة الا انه على فرض عمومه مصروف الى الامامة العظمى التي هي خلافة على جميع المسلمين ، ثم ان النظام القائم حاليا في العالم لا يسمح لفرد بان يكون حاكما بامره بل هو شريك لمؤسسات وافراد في حمل المسئولية)  [4] .

وفي الجانب الاقتصادي وجه شيخ الازهر د. طنطاوي انتقادا شديدا لتجربة البنوك الاسلامية ، وقيام بعض البنوك المصرية بتاسيس فروع تعمل تحت اسم المعاملات الاسلامية وقال ان تحديد الارباح مقدما لايعتبر من الربا ، ودعا المسلمين الى التعامل مع البنوك التي تحدد الربح مقدما ليضمن كل حقوقه ، وشكك في البنوك التي لا تحدد الربح تحت اي مسمى ، ووصف ظهور فروع اسلامية للبنوك بانه نوع من السفه والحمق ، واعلن استعداده لعقد مناظرة في الازهر لاثبات رايه في هذا الموضوع ، وقال انه ليس اول من قال بهذا الراي فقد سبقه اعضاء مؤتمر اسلامي انعقد في القاهرة عام 1976 شارك فيه 13 عالما برئاسة الشيخ محمد فرج السنهوري واتفق ثمانية منهم على جواز التعامل مع البنوك المعروفة من خلال شهادات الاستثمار وغيرها من التعاملات [5].

الاممية والتناسخ :
 ادى تصاعد قوة بعض الفصائل الاسلامية في اوائل الثمانينات ، ووصول بعضها إلى سدة الحكم ، ادى إلى اضفاء قدر من التبجيل أو القداسة على بعض شعاراتها ، ونجد تأثير هذا في مبادرة فصائل أخرى إلى محاولة نسخ تلك الشعارات وتقليد صورة الحركة المنتصرة التي كانت قد وصلت إلى غايتها ، رغم ان الفصائل (الناسخة) كانت قد بدأت للتو ، أو انها لم تخط خطواتها الاولى في ميدان العمل الفعلي ، أو ان الظرف الاجتماعي والسياسي الذي تعمل في ظل شروطه ، كان مختلفا عن ذلك الذي عملت فيه الحركة الاولى (المنسوخة). ونشير هنا إلى الشعارات الشمولية مثل شعار (الثورة الاسلامية في لبنان) الذي رفعه حزب الله في اوائل ايامه ، وتصريحات الشيخ علي بلحاج نائب رئيس جبهة الانقاذ الاسلامية عشية الانتخابات النيابية في 1991 عن الغاء الدستور الجزائري واعادة بناء الحكومة الاسلامية على انقاض ما وصفه بالنظام الطاغوتي .
وزاد الطين بلة ظهور تطورات عكسية ، يمكن اعتبارها نكسات ، من بينها مثلا تحول بعض الناشطين الاسلاميين في الجزائر إلى العنف العشوائي ، وقيام نظام الامارة الاسلامية في افغانستان على يد حركة طالبان .

 ويتفق الجميع على استحالة نسخ تجربة بحذافيرها بين بلد واخر ، الا ان منافسي الحركة الاسلامية في مختلف الاقطار ، انطلقوا في جدلهم من موقع الحركة في تجاربها الواقعية القائمة ، في السلطة أو في المعارضة. وعلى الطرف الاخر فان الحركيين الذين لم تنضج تجربتهم الفكرية ، لم يجدوا بأسا في تبني بعض هذه التجارب ، مثل ارتداء عدد من التنظيمات العراقية عباءة التجربة الايرانية ، رغم سعتها بالقياس الى حجمهم ،  والدفاع عن مشروعهم من ذات الموقع ، ونعني خصوصا الطروحات الفكرية والشعارات السياسية ، وليس بالضرورة ادوات العمل وأساليبه .
بالنسبة لايران فان قائد الثورة ورجاله لم يوفروا جهدا في التاكيد على الترابط البنيوي بين الدولة والسلطة والحركة. وقد ساعدهم على هذا ما تحقق لهم من قوة ونفوذ مطلق في ساحة عملهم ، وصيرورتهم اسياد الساحة بلا منازع. ان القوة تصنع الافكار بقدر ما الافكار صانعة للقوة. لكن الامر ليس كذلك في بقية الساحات ، اذ لم تحظ اي جماعة اسلامية اخرى بقدر مماثل من القوة لكي تقيم الدولة على صورتها .

في وقت متاخر اكتشف معظم الحركيين ان نجاح الحركة الاسلامية في ايران ، أو نجاح الاسلاميين الكاسح في الانتخابات الجزائرية ، ليس ـ بذاته ـ دليلا على امكانية نسخ المشروع ، او الاعتماد عليه كدليل. ثم جاء فشل التجارب اللاحقة ، ولا سيما التجربتين الافغانية والجزائرية ، ليدفع بقطاع واسع من الحركيين الى البحث عن نقاط الضعف في مشروعهم السياسي ، ولا سيما تلك الجوانب النظرية التي صنفت في الماضي كثوابت.
 ونجد اليوم ان الجماعات الاسلامية التي دفعتها حداثة التجربة ، ثم الانبهار بتلك النجاحات ، الى وضع تصورات عن الدولة والسلطة ، هي اقرب الى الاحلام منها الى الاهداف ، عادت بطروحات اكثر نضجا ، واقدر على السير في طريق التكامل ، وعلى اي حال فان دروس الممارسة الفعلية ، قد توفر للاجيال التالية من الحركة  ، فرصة الاتكال على مشروع نظري متكامل وسابق التجهيز ، ونشير هنا - على سبيل المثال - إلى نموذج حزب الله اللبناني الذي قرر في وقت لاحق الانضمام إلى النظام السياسي اللبناني القائم على أساس علماني . ومثله ايضا جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر التي عاد قادتها بعد المحن الشديدة التي واجهتها بلادهم منذ انقلاب 1992 إلى الاعلان صراحة عن القبو ل بالمشاركة المتكافئة ضمن النظام السياسي القائم .

لا يوجد الان - بين الحركات الاسلامية - من يفكر في نسخ نماذج سابقة ، إلا انها لم تتخل عن علاقاتها الوثيقة بالجماعات التي تتفق معها على المنهج أو المرجعية. ويمكن الان تمييز الجماعات التي تنتمي إلى تيار الاخوان المسلمين التقليدي ، من تلك التي تنتمي إلى تيار الجماعة الجديد (المتمرد على السابق). ويمكن تمييز المجموعات التي تنتمي إلى التيار السلفي ، وتلك التي تنتمي إلى التيار المتأثر بالثورة الاسلامية الايرانية ، من تلك التي تعبر عن توجهات محلية في المقام الأول ، ويشكل كل من هذه التيارات فريقا غير قطري يتبنى طروحات متشابه ومرجعيات موحدة ، حتى لو اختلفت اساليب العمل وربما جهة القرار في كل قطر. هذا الارتباط - الذي يبدو في النظرة الاولى غير مؤثر في القرار المحلي ، يثير هو الآخر بعض التساؤلات عن حدود استقلال كل جماعة ، وهو يشبه كثيرا ذلك الاشكال الذي اثير على الجماعات الشيوعية ، يوم كان الاتحاد السوفيتي قائما .
لكن لا ينبغي المبالغة في خطورة هذا النوع من العلاقة ، اذ ان كل فريق سياسي ، ايا كانت الايديولوجيا التي يتبناها ، يرتبط بتحالفات أو علاقات فكرية و احيانا سياسية مع فرقاء مماثلين لـه في التوجهات خارج حدود القطر الذي ينتمي اليه .

لقد ساعد انتقال حركة الاسلامية إلى العمل السياسي ، على وضع فصائلها في مواجهة الوقائع كما هي. وهذا مهد السبيل امام إعادة نظر كانت ضرورية في كثير من المقولات والمتبنيات السابقة ، كما اثار الشكوك حول بعض الافكار التي لم تخضع لدراسة ، لكنها اعتبرت من المسلمات ، قبل ان تطرح على مائدة النقاش ، والحقيقة ان ممارسة السياسة ، في دوائر السلطة أو ضمن المعارضة تهيء للانسان فرصة للنظر في الامور من زوايا تختلف كثيرا عن تلك التي اعتاد ان ينظر الهيا يوم كان مبشرا وداعيا في المسجد أو الجامعة.
 وحسب تقدير الوزير السابق جمعان العازمي الذي مثل الاخوان المسلمين في البرلمان والحكومة الكويتية فان المشاركة في السلطة مكنته من معرفة كيف تدار الامور ويتخذ القرار في الدوائر السياسية[6]  . والمؤكد ان هذه المشاركة ، وما ترتب عليها من معرفة جديدة كانت طريقا ضروريا لعقلنة الطروحات والنظر إلى الامور من زوايا اوسع . ولهذا فيمكن القول ان الممارسة الفعلية للسياسة قد ساعد على تحديد او تكييف كثير من الاسئلة التي كانت تواجه الحركة الاسلامية ، من داخلها أو من جانب الغير ، وهو الخطوة الاولى الضرورية لتشخيص نطاق الاشكال والبحث عن اجابته .

لكن من السابق لأوانه القول ان مشروع الحركة الاسلامية قد نضج في جانبه النظري ، الضروري لتاسيس مشروع سياسي نهائي. ان الطروحات التي قدمتها بعض الفصائل ما تزال غير نهائية ، وان كثيرا منها مؤسس على معادلات براغماتية يمكن اتهامها بالتكتيكية ، بينما يقتضي الحال دعم المشروع السياسي الجميل المظهر بمرجعية تنتمي بصورة دقيقة وواضحة إلى الشريعة الاسلامية التي تمثل مصدر مشروعية هذه الفصائل ومبرر وجودها. وعلى سبيل المثال ، فاننا لا نزال بحاجة إلى جواب نهائي ومؤسس نظريا على الاسئلة التي تتناول الموقف من النظام السياسي القائم ، وهل تعتبر مشاركتها فيه تكتيكا مرحليا ، أم هو تعبير عن ايمان جديد بامكانية العمل في ظل نظام يقوم على المشاركة مع الغير في صناعة السياسة ، وهل تسعى الحركة إلى تطوير يقبل بالمعادلات القائمة أم انها تسعى - عندما يشتد عودها -  لخلق معادلاتها الخاصة ، كما فعلت حركة طالبان في افغانستان مثلا ؟ .

صعود مفاجيء
 يمكن الاعتذار عن تأخر الحركة الاسلامية في التوصل إلى اجابات نهائية عن تلك الاسئلة ، بحداثة عمرها ، فحتى اواخر السبعينات الميلادية ، كان رواد الدعوة الاسلامية في شغل عن موضوع الدولة ، وكان همهم الاكبر هو الدفاع عن الاسلام ، واثبات صلاحيته لهذا الزمان ، كما كان صالحا للازمنة التي شهدت ظهوره وتطبيق احكامه ، ووجدنا ان معظم النشاط الثقافي في الخمسينات والستينات ، وحتى اوائل السبعينات الميلادية ، قد تمحور حول رسالة محددة ، هي اعادة الاعتبار الى الاسلام ، واقناع المسلمين باستعادة الثقة فيه ، في فاعليته وامكاناته .

اما في النصف الثاني من السبعينات وما بعدها ، فان الكلام العمومي حول قدرة الاسلام ، وحول افضليته على غيره من العقائد ، لم يعد ذا اهمية ، ذلك ان فشل ايديولوجية التحديث التي قادتها نخب العالم الاسلامي ، واتجهت غالبا الى التماهي مع الامم المتقدمة ، قد تكفل باعادة الناس الى التفكير من جديد في دينهم باعتباره مخرجا وحيدا ، او مخرجا رئيسيا ـ على الاقل ـ من الازمة المزمنة ، التي عاشوها منذ وقوع بلادهم تحت يد الاجانب ، ولم يجدوا لها حلا في ظل الحكومات الوطنية .

لقد عاد الاسلام الى نفوس الناس من جديد تحت عنوان اكثر تقدما ، الا وهو تطبيق الشريعة ، اي جعلها حاكمة على الحياة والسياسة . وهذا يتجاوز كل العناوين السابقة ، التي تنطوي على التوفيق بين الاسلام والافكار الاوربية ، وهو منهج كان سائدا عند بعض رواد الدعوة في اوائل القرن العشرين ، كما يتجاوز ـ بالضرورة ـ الافكار التي تعتبر الدين علاقة محدودة بين الانسان وخالقه ، يقتصر تاثيرها على حياة الانسان الشخصية واخلاقياته .
ويبدو لي ان صعود المشروع الاسلامي الى المرتبة الاولى بين خيارات الجمهور للمستقبل ، قد فاجأ الحركة الاسلامية ، التي لم تكن ـ وقتئذ ـ قد اعدت عدتها للدخول في معترك السياسة وتمثيل الشعب ، ولهذا فان طروحاتها التي اعدت على عجل ، لم تتجاوز الخطوط العامة والعريضة للمشروع الاسلامي ، بمضمون اقرب الى السجالية منه الى خطة العمل .

السجالية والتركيز على العناوين العامة والخلط بين الشعار الذي ينادى به لاجتذاب التاييد ، والخطوط العامة لمشروع العمل الذي يعتبر وعدا ، لا يلتزم به إلا من عرف نهاياته وتأكد من قدرته على تحويله إلى واقع عملي ، هذا الخلط هو سمة بارزة في الحياة السياسية العربية ، يستوي في ذلك الحزب المعارض والسلطة الرسمية ، ويتماثل فيه السياسي الماركسي والليبرالي والقومي والمسلم ، فالكل يزف البشائر والكل يسرف في الوعود ، والكل يستهدف غرضا محددا هو الحصول على تعاطف الجمهور ، أما  بعد ذلك ، فهو موضوع آخر .
 ومع الاخذ بعين الاعتبار كون السياق العام للجدل السياسي في اقطار العالم الاسلامي ، لا يخرج عن حدود العناوين والشعارات العامة ، فان الجانب الجدير بالاهتمام هو تقييم كفاءة الحركة ـ بعض فصائلها على الاقل ـ في الانعتاق من قيود الشعار العام ، والانتقال الى طرح السياسات التي تتبناها بوصفها علاجا للازمات العامة ، التي يعانيها هذا القطر او ذاك من الاقطار التي تنشط فيها الحركة.
 نعلم ان كل جماعة سياسية بحاجة إلى مادة تثير اهتمام الجمهور ، ولهذا فلن نتوقف عند الشعارات ، الفخمة منها والبائسة ، لكن الذي يهمنا حقا هو الامساك ببعض النقاط التي يمكن - انطلاقا منها - تطوير خطاب سياسي جديد فعلا وقابل لان يكون بديلا اكثر تطورا مما اعتادت عليه الساحة ، واريد التأكيد هنا على ان محل اهتمامنا هو الخطاب وليس الخطابة ، وشتان بين الامرين ، لقد مضى ربع قرن من الزمن على انبثاق الحركة الاسلامية الحديثة ، وهي مدة كافية لتطوير مشروعات عمل جدية ، خاصة وان بعض الفصائل قد حصل على فرصة التجربة المباشرة في السلطة ، وجرب بعضها العمل السياسي القانوني وان لم يصل إلى السلطة ، مما يتيح لكل منهما النظر في الامور من زوايا اوسع واشمل من تلك التي اعتادت عليها الحركة يوم كان الصراع سمة العلاقة بينها وبين القائمين على الحكم في كل بلد نشطت فيه .

 من  غير المنطقي مطالبة الحركة الاسلامية او غيرها ، ببرنامج عمل تفصيلي عن كل صغيرة وكبيرة من امور الدولة ، الا ان من الضروري التعرف على المواقف والاتجاهات ، التي تشكل اطارا لعمل هذا الحزب او ذاك في السلطة ، اضافة الى بعض البرامج المفصلة في القضايا التي تشكل محاور ازمة في كل بلد .  واظن ان هذه الحاجة اكثر الحاحا في حالة الحركة الاسلامية عما هي في الحالات الاخرى ، ذلك ان المشروعات البديلة للاسلام ، تستطيع الاتكاء على تجارب قائمة ، تستوحي ذات المنطلقات وتعمل في نفس المحيط الايديولوجي ، فالمشروع الاشتراكي يستوحي تجارب الاشتراكيين ، والمشروع الليبرالي يستوحي التجارب الليبرالية ، اما تجربة الحكم الاسلامي فلا تزال حديثة بما لا يكفي للحكم على نتائج تجربتها ، فضلا عن نقلها الى اقطار أخرى .

نضيف الى هذا ان التجربتين الرئيسيتين (السودان وايران) بدأتا بصورة انقلابية ، ولازالتا تعبران المرحلة الانتقالية ، حيث يصعب الحصول على معلومات تفصيلية قابلة للمقارنة ، الامر الذي يعيق الاستفادة من هاتين التجربتين ـ ضمن وضعهما الراهن على الاقل ـ في وضع مشروع يتبنى فكرة التداول السلمي للسلطة ، او يدعو الى تنافس حر  بين برامج العمل ، ان التجربة التركية تعتبر فريدة في هذا المجال ، فقد وصل حزب الرفاه الى السلطة من خلال تنافس سياسي سلمي ، ركز على البرامج والسياسات بالدرجة الاولى ، ومع المحاولات غير المنصفة التي استهدفت عزل الاسلاميين او منعهم من تشكيل الحكومة ، الا ان حزب الرفاه نجح في المصابرة واحتفظ برباطة جأش نادرة ، حتى استطاع ان يكسر ( جدار برلين ) السياسي الذي اراده اتاتورك واحفاده سدا يحول دون عودة الاسلام السياسي الى تركيا ، لكن من المؤسف ان السقوط السريع للحكومة التي شكلها زعيم الحزب نجم الدين اربكان ، لا يسمح الان بتقييم جدوائية المشروع السياسي الذي تبناه أو فاعليته ، على الرغم من الاضافة الهامة التي قدمها والمتمثلة في اصراره على التداول السلمي للسلطة واعتبار صناديق الانتخاب طريقا وحيدا للحصول على التفويض القانوني لممارسة الحكم .



 [1] الحياة 10 يناير 1996
[2]   عبد الاله بن كيران مقال بصحيفة المستقلة 11 نوفمبر 1996
[3]   فهمي هويدي : في مملكة طالبان . الشرق الاوسط 13-12-1998 
[4]  يوسف القرضاوي : مقال بجريدة الشرق القطرية 25 يناير 97
[5]  الحياة 1 يناير 1997
[6]  المجتمع الكويتية 15-7-97

01/07/2000

الحرية وحق الاختلاف في منظور الاسلاميين: عرض كتاب "الاسلام في ساحة السياسة"


عرض : ابراهيم محمد (كاتب تونسي) 
مجلة الكلمة
العدد (28) ـ السنة السابعة، صيف 2000م ـ 1421
الكتاب: الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق.
الكاتب: توفيق السيف
الناشر: دار الجديد ـ بيروت
الصفحات: 126 من القطع الوسط
سنة النشر: ط1، 2000م.

«الحرية حلية الإنسان وزينة المدنية، فيها تنمى القوى وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وتورق أفنان العلوم» (1) .

لايكاد يختلف إثنان على امتداد وطننا العربي والإسلامي على تزايد أهمية «الحرية» في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويذهب العديد إلى أن غيابها يعد السبب الرئيسي في تخلفنا وانحطاطنا. وأن خروجنا من هذه الحالة لايتأتى إلا إذا نسجنا من خيوطها (الحرية) نهجاً يوجه مآلات فعلنا الفردي والجماعي.

وقد تكثفت الدعوات للمطالبة بها، بعد تيقظ الوعي العربي والإسلامي على خطورة ما نسجته «الدولة الحديثة» في حياتنا من مظاهر الاستلاب والاستبداد. فإذا كان مشروع النهضة في بواكيره حدّد لنفسه أهدافاً يتجاوز بها حالة الانحطاط بالتخلص معاً من مظاهر الاستعمار المباشر ورواسب التخلّف في نسيجنا الاجتماعي المنسوب إلى مراحل سابقة من تاريخنا. فالمقاربات الراهنة استفاقت على أن مشاريع «التحديث» التي قامت بعد مرحلة الاستعمار المباشر، لم تحقق المنشود. بل في أحد مظاهرها «استنسخت» مراحل غابرة من تاريخنا وتاريخ المستعمِر.


وأصبحت مقولة الحرية من القواسم المشتركة الجامعة لكل الأطراف من ليبرالية وقومية وماركسية وإسلامية. وتوجه كل طرف للتنظير والإدعاء بكون «الحرية» هي مقوم أساسي من مقومات مشروعه، بل هي الفاعل الجوهري في بنيته النظرية ولاتفترق في هذا الإدعاء السلطة عن المعارضة. ولكن يبقى الإشكال العملي قائماً. فالممارسة اليومية هي المحك لصدقية الشعارت والدعوات. وقد حاول البعض التغلّب على هذه الإحراجات بتوظيف التاريخ في الدفاع عن صورته في الماضي ولكن دون أن يكون قادراً على سحب ذلك على الحاضر والمستقبل. الأمر الذي يستدعي مواجهة حقيقية وجرأة في الطرح. ونحسب أن مقاربة الأستاذ توفيق السيف (2) تتحرك في هذا الفضاء، إذ هي تهدف إلى تناول إشكالية الحرية من منظور الإسلاميين بعيداً عن تعظيم التاريخ أو تهوينه، ودون أن تكون مجنّحة في التنظير، إذ الهدف هو الكشف عن إمكانية التنزيل العملي للمشروع الإسلامي من خلال التأكيد على مطلب الحرية في واقعنا المعيش. محاولاً استكشاف مواطن الضعف والخلل في «منظور الإسلاميين» بعقلية المشارك والمنخرط في المشروع لا المنافح أو المشكك، الأمر الذي يعطي للمقاربة مصداقية نقدية تفتقد إليها كثير من كتابات الإسلاميين اليوم.
والمقاربة في اعتقادنا هي صورة جديدة لطموح الإسلاميين في المساهمة في تجديد الفكر السياسي العربي والإسلامي. وهو ما سنحاول تبيانه في قراءتنا السريعة لجديد الأستاذ توفيق السيف. مستجيبين لدعوة المؤلف الذي يدعونا لقراءة نصه «بعين الناقد لابعين المتلقي السريع الاستجابة، ليكون الحوار قائماً بين الكاتب والقارئ ولو عن بعد».
1ـ في العنوان والمنهجية:
يذكر الأستاذ توفيق السيف أن العنوان الذي اختاره في البدء لمصنفه هذا هو «نقد المشروع الإسلامي»، وتخلّى عنه بناء على نصيحة من زملائه، لأنه عنوان ملتبس، ربما يؤدي إلى سوء فهم أو بالأحرى سوء «استقبال». ولسنا هنا في وارد مصادرة حق المؤلف في تحديد العنوان الذي يراه ملائماً للكتاب وفق ما حدده من أهداف عند نشره. ولكن هناك ملاحظة جديرة بالذكر هو إن تغيير العنوان إما لاعتبارات تقنية أو جمالية أو علمية أو مادية أو نفسية لاشك أنه يشير إلى عقلية المصنّف وتأثير ذلك في الأفكار المُراد بثها في الكتاب. «فالحذر» الذي قاد الأستاذ توفيق السيف إلى تغيير عنوان كتابه لامسناه أيضاً في متن الكتاب. إذ اتسم في كثير من مسائله «بالتعميم» و«الحذر» وعدم الجرأة في التطرق لإشكاليات هي بأمس الحاجة إلى الطرح خاصة من الإسلاميين أنفسهم. ونحسب أن المتتبع بدقة للكتاب يشعر بوجل الكاتب الذي لايفصح عن نفسه إلا عند ذكر مسألة اختيار العنوان.
ولكن رغم ذلك نحسب أن هذا «الحذر» و«الوجل» ليسا بذميمة للكاتب إذا كان هدفه هو شيوع فكرة النقد في مجتمع لانقدي. فالتدرج ومراعاة المقام والحال ضرورة لابد منها لمن يروم بناء مشيداً. ونحسب أن العنوان الجديد اقرب إلى حقيقة ما يتضمنه الكتاب.
أما فيما يتعلق بالمنهجية المعتمدة فهي استقرائية، إذ عمد المؤلف إلى استقراء النصوص الدينية وتجربة الإمام علي في موضوعة حرية الرأي. ولانشك في قدرة هذه المنهجية في الوصول إلى تحديد الكلّي في الرؤية الإسلامية للمسألة المطروحة. وذلك من خلال المرور بجمع واستقراء الجزئيات التي ندعي بأن لها علاقة بالمسألة. والتي جمعت كما ذكرنا من بعض النصوص الدينية ومن أقوال الإمام علي. ولكن ما تجدر الإشارة إليه ان همّ الكاتب في هذه المقاربة ليس التنظير للحرية وتقديم مقاربة متكاملة. وهو ما لايدعيه. ولكن همّه تفكيك العقلية القائمة على مهمة التنظير للمشروع الإسلامي، وتبيان مظاهر الخلل فيها والتي تمثل عوائق ابستمولوجية في أسلوب عرض الإسلام والتي يمكن إجمالها في:

1ـ الخلط المنهجي في لاوعي الإسلاميين بين النص الديني ومشاريع قراءته.
2ـ الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل.
3ـ قيمة العيب وتحكمها في العقلية الإسلامية.
4ـ قلق الفتنة وتأثيرها في الحراك السياسي الداخلي والخارجي.

وبقدر ما ركز الأستاذ توفيق السيف على إبراز العوائق الابستمولوجية بقدر ما غيّب الحديث عن المعوقات السوسيولوجية التي لاينكر أحدٌ أهميتها ودورها فيما تشهده الساحة الإسلامية من مظاهر الخلل.
«فالعقلية التعميمية» التي تسيطر على الذهنية الإسلامية من الأكيد أن لها أسباب تاريخية ـ سوسيولوجية تتجاوز مشاريع القراءات المختلفة للنص والتاريخ وهو ما سنحاول الاتيان عليه في إبانه.

2ـ الإسلام وحق الاختلاف:
بنى المؤلف رؤيته لحق الاختلاف في الإسلام على مجموعة أدلة مباشرة وغير مباشرة في محاولة لفك الارتباط بين معنى «التعدد» ومعنى «الخلاف في الدين وشق عصا المسلمين». وذلك بغية إلغاء هذا الفهم الملتبس في ذهن المسلم والذي يرجعه الكاتب إلى «حرمان المسلمين لقرون طويلة من ممارسة الحرية والجمود في فهم النص القرآني والتفسيرات الخاطئة، المقصودة أحياناً والعفوية أحياناً أخرى». وللحقيقة أن الفكرة المستهدَفَة (فتح الدال وفتح الفاء) هي فكرة خطيرة وهي سائدة بين الإسلاميين والتي مفادها كما يقول د. صالح كركر «أن كل تجديد وتغيير للمألوف يمثل تهديداً لسلامة الدين، ودساً من الأعداء ضده، وذلك على أساس قاعدة خاطئة مفادها أن كل مخالف لنا هو خصمنا، ومن هو كذلك فهو عدو لنا وعدو للإسلام، فاسق عنه!» (3) . ويرجع د. كركر سبب سيادة هذه الأفكار والتعميم في الفهم والعرض إلى «أن الحركة الإسلامية لم تسلك مسلكاً يكوّن لدى أفراد مجتمعاتها «العقلية المجهرية» ويزيح الستار على ملكات العقول الإبداعية، وبقيت بسبب التقليد متأخرة عن دورة الزمن تجتر خطاب التراث التعميمي، فبقي خطابها تعميمياً غير قادر على تقديم البديل العملي والمميز» (4) .

ونعود إلى الأدلة التي اعتمدها الكاتب في تأكيده على مشروعية الاختلاف في الإسلام. وقد بدأ حديثه بالأدلة غير المباشرة أي غير النصية والتي هي:
1ـ التفريق بين الدين والمعارف الدينية.
2ـ اعتبار التخطئة في الاجتهاد.
3ـ أدلة الشورى.
4ـ فردية التكليف والاختيار.
5ـ أدلة الاجتهاد، وكما يرى الكاتب أن «الاجتهاد ليس في حقيقته سوى استخدام المجتهد لحقه في مخالفة رأي الغير».
أما الأدلة المباشرة أي النقلية والمستمدة مباشرة من القرآن الكريم فقد اقتصر المؤلف على إبراز النصوص الدالة على المعاني المقصودة من خلال التمثيل بثلاثة سياقات للآيات القرآنية:
1ـ تشنيع القرآن على الذين رفضوا الدعوة الربانية تقليداً لآبائهم.
2ـ تجهيز الخالق تعالى للإنسان بالوسائل التي تمكنه من حرية الاختيار.
3ـ منع إكراه الغير على ما لايريد.
ونقدر بأن المؤلف أفلح في إبراز شرعية الاختلاف عقلياً ونقلياً. ولكن كان مروره سريعاً، خاصة وأن الاستدلال النصي يستدعي استدلالاً نصياً معارضاً له، الأمر الذي يدعو إلى تقديم مقاربة نقدية للمنهجية النصوصية (5) التي يعتمدها الطرف السلفي، وللمنهجية الإسقاطية التي يتبناها بعض «التحديثيين»، والأمر يدعو إلى إبراز منهجية بديلة، وهو ما يتوجه إليه المؤلف ولكن من الواضح أن عقبات حالت دون تحقيق ذلك.

3ـ الخلل في أسلوب عرض الإسلام:
كنا أشرنا سابقاً أن الكاتب حاول إبراز مجموعة العوائق الابستمولوجية في هذا العرض والتي يتطلب تجاوزها. وهي مطالب أساسية في عمليتي العرض والتطبيق للمشروع الإسلامي في ساحة العمل السياسي العام. فوحدانية الصورة بين النص وقراءته تمثل أولى العوائق. وقد أكد العديد على خطورة هذه المسألة، ونحسب أن الوعي الإسلامي اليوم بدأ يتجه وبشكل واضح وملموس إلى الإقرار بتعدد القراءات. وإن كانت عقلية نشر الضوابط هي المهيمنة في هذا المجال. ولكن في اعتقادنا هي صورة أولية لتجاوز حالة التردد والخوف على الذات من الآخر.
أما الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل فيعود إلى التباس في الوعي بين التفصيل في تقديم المشروع الإسلامي والابتداع في الإسلام. فالبقاء في مرحلة الشعار يحقق الوحدة والكفيل بعدم السقوط في البدعة!

فالمرحلة الأولى تحافظ على طهارة وقداسة الإسلام وبالتالي على قوة الخطاب الإسلامي في مواجهة بقية الخطابات العلمانية. بينما المرحلة الثانية تجعلهم في نفس المرتبة وهو ما يفقدهم الكثير في صراعهم. وإن كان د. صالح كركر يرجع ذلك إلى غياب «العقلية المجهرية» وجمود الذهنية الجماعية ولكن لاشك أن الاعتبارات البسيكولوجية والسوسيولوجية لها دور لاينكر. ولايمكن تقديم تفسير موضوعي لهذه المسألة دون اعتمادها مع بقية الاعتبارات. ونحسب أن الاعتبارات النفسية والاجتماعية والتاريخية لم تغب كلياً عن التحليل إذ حديث الكاتب عن «قيمة العيب» و«قلق الفتنة» يصب في جوهر المسألة. ففهم آلية النقد وماهيته عند الإسلاميين خطوة ضرورة للكشف عن العقلية التي تقف خلفه والأمر يستدعي هنا تناول العديد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بعملية النقد بالتحليل والتفكيك والتي تعج بها الثقافة الشعبية والتي للأسف الشديد لاتزال تأسر الوعي الإسلامي والعربي عموماً. وبما أننا نؤكد على المجال السياسي أكثر من غيره فتجدر الإشارة إلى ضرورة إعادة قراءة مدونات السياسة الشرعية والآداب السلطانية، لأن باكتشاف بعض مفاعيلها في العقل العربي والإسلامي اليوم يمكن تجاوز الكثير من السلبيات التي تعج بها حياتنا. وللحقيقة يعد كتاب د. كمال عبد اللطيف الأخير من أفضل ما نُشر في هذا المجال. وكما لاحظ د. عبد اللطيف أنه في «أغلب الدول العربية الإسلامية لاتزال علاقة الحاكمين بالمحكومين تتم بتوسط لغة الآداب السلطانية» (6) ، خاصة وأن الكتابة السياسية في نظام الآداب السلطانية: «كتابة تنتصر لتدابير واختيارات السلطة السائدة، وتحذر العامة من مغبة نقد السلطة أو الخروج عليها. كما تنشر أخلاق الطاعة والصبر، بحجة المحافظة على النظام، والتغلب على أزمنة الفتن التي تزهق فيها الأرواح، وتُمتحن فيها الرسالة التي تحملها الأمة وترعاها السلطة» (7) .
وهذه الكتابة هي المَعين الأساسي للفكر السياسي الإسلامي المعاصر. لذلك فإعادة قراءة الآداب السلطانية مهمة آنية لاغنى للمتتبع للفكر الإسلامي المعاصر من إنجازها، ودون ذلك لايستطيع فهم الكثير مما يروج في هذه الساحة.
تبقى مسألة أخيرة لابد من الاتيان عليها والتي حظيت في تقديرنا بالتحليل القيم من طرف الأستاذ توفيق السيف، وهي مسألة التكفير والتي يعتبرها في صورتها الحديثة «هي انعكاس لضيق إطارات التعبير عن الذات، أو اليأس من تحقيق الأهداف بالطرق السلمية، أو القلق من العجز عن الجدل المفتوح»، ولكن لابأس هنا من إضافة بعض الأسباب الدافعة لظهور هذه الموجة والتي أجملها د. رضوان السيد في (8) :

1ـ القلق الشديد على الهوية ورموزها من الحداثة العصرية اللادينية.
2ـ سرعة تحول أولئك الإسلاميين إلى الحزبية والسرعة النسبية لتبلور الإسلام السياسي.
3ـ الصراع على المرجعية.

بينما يرى د. صالح كركر بأن كثيراً من الخلل القائم في تصورات الإسلاميين يعود إلى عاملين أساسيين:
1ـ التنظيم الذي هو للتنفيذ لا للتفكير والبحث والتنظير.
2ـ الصفة السياسية والحزبية.
وفي هذه الأخيرة يقول كركر: «والحزبية على أساس الصفة الإسلامية قسّمت أفراد نفس المجتمع المسلم بين إسلامي وغير إسلامي، ولا يخفى ما لهذه الإزدواجية من سلبيات شديدة الخطورة. فقد قسمت المجتمع إلى فريقين وعمقت الهوة وجذرت القطيعة بينهما في وقت تجد فيه مجتمعانا نفسها فيýأشد الحاجة إلى رص الصفوف ولمّ الشتات وتوحيد الأرضية الفكرية التي تقوم عليها. وقد ساهمت هذه الحزبية في مزيد عزل غير الإسلاميين عن الإسلام وفي مزيد تشنّج النخبة المثقفة العلمانية ضد الإسلام وفي مزيد البعد عنه ومعاداته» (9) .

وتبقى الأسئلة التي تثيرها مقاربة الأستاذ توفيق السيف مفتوحة وتبقى الحاجة إلى إعادة قراءته ومعاودتها ضرورة ملحة.

* كاتب من تونس.

الهوامش:
1)ـ ابن عاشور، محمد الطاهر، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس، الشركة التونسية للتوزيع. د. ت. ص170.
2)ـ السيف، توفيق، الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق، بيروت، دار الجديد، ط1، 2000، ص126.
3)ـ كركر، صالح، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة، فرنسا، 1998، ص19.
4)ـ المصدر نفسه، ص16.
5)ـ في هذه المسألة انظر، صافي، لؤي، إعمال العقل، دمشق، دار الفكر، ط1، 1998، خاصة الفصل الثالث من الباب الثاني.
6)ـ عبد اللطيف، كمال، في تشريح أصول الاستبداد، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1999م، ص270.
7)ـ المصدر نفسه، ص266ـ267.
8)ـ السيد، رضوان، قراءة النص وتوظيفاته السياسية والثقافية (1)، في «السفير» يوم 7/10/99، ص19.
9)ـ كركر، صالح، مصدر سابق، ص22.

08/05/2000

بانوراما الخليج: نظرة على السطح السياسي عند بداية القرن



وراء القشرة الخارجية التي توحي بالارتخاء ـ واحيانا الركود ـ تشهد الدول العربية في الخليج تغيرات سياسية واسعة النطاق ، وبعضها عميق التأثير ، وتطال في المقام الأول النظام السياسي ، طبيعته وتركيب هيكل القوة والتراتب فيه .

غداة حرب الخليج الثانية سيطرت على الجو السياسي توقعات متضاربة ، بعض المراقبين انتظروا تغييرات فورية في السياسة المحلية ، وشدد آخرون على ان هزيمة العراق هي تأكيد على الاستمرارية لا التغيير ، ويظهـر الان بعد مرور عقـد من الزمن على تلك الحرب ، انها لم تكن بذاتها عامل التغيير أو الاستمرارية ، بقدر ما كانت البرق الخاطف الذي كشف لكثير من الناس ، ضمن النظام السياسي وخارجه ، عن المأزق الذي آلت اليه الامور كنتيجة لتجميد الحراك السياسي لما يزيد عن عقدين من الزمن ، في الوقت الذي كانت آليات الاستقرار السياسي ، ولا سيما التمويل الحكومي المباشر للمناشط الاجتماعية ، قد وهن فعلها وتراجع تأثيرها ، مما قلص إلى حد واضح من مبررات استمرار النظام السياسي التقليدي .

من نافل القول ان كفاءة الدولة في تدوير عوائد البترول ، كانت المولد الرئيسي للشرعية السياسية ، وبالتالي الاستقرار ، في دول الخليج العربي ، وربما لهذا السبب جرى التاكيد دائما على نموذج دولة الرفاهية والوفرة ، وانعدام الواجبات الضريبية المباشرة ، وكفالة النظام السياسي لحاجات الناس الاساسية وبعض الكمالية ، وتمكين الناشطين من الاثراء ، وبالتالي تميز كل قطر من اقطار المنطقة ضمن محيطه الاقليمي ، جرى التاكيد عليها باعتبارها مبررات لضرورة الانسجام والتكيف مع النظام الاجتماعي الموروث .

والحق ان العلاقة بين المجتمع والسلطة في كل من الدول الست الاعضاء في مجلس التعاون ، تتميز بصفات قلما وجد مثيل لها في اي دولة عربية أخرى ، ومن بينها مثلا فكرة الشراكة في المال التي استعملت كبديل عن المشاركة في السياسة ، وهذه ، رغم كونها دون الحد الادنى من المشاركة السياسية المتعارفة في النظم الحديثة ، إلا انها ساعدت في امتصاص التوترات الاجتماعية ذات المنشأ المحلي ، خلافا لما جرى حتى الان في جميع الدول العربية الأخرى ، حيث تحتكر فرص الاثراء الاقلية التي تملك القوة السياسية ، وبالتالي تكون الثروة مرادفا للقوة السياسية وناتجا عنها ، وهو ما ادى إلى تركيز الصراع حول محور السياسة وما توفره من نفوذ ، ونعلم ان الصراع من اجل القوة السياسية يستوجب اشراك اعداد من عامة الناس ، بينما الصراع من اجل الثروة يكفيه جهد المصارع وذكاؤه وقدرته على استثمار الفرص السانحة أو حتى اختلاق الفرص .

لكن هذا المضمون للعلاقة بين المجتمع والسلطة لـيس ـ هو الآخر ـ بلا ثمن ، فالموارد بطبيعتها متناقصة ، بينما المطالب والحاجات متزايدة ، ولنقل - على سبيل التحفظ - ان الزيادة في الموارد ، لا يمكن ان تقابل الزيادة الموازية في المطالب والحاجات ، والتي يستتبعها ازدياد طبيعي في عدد المحتاجين والمطالبين ، وازدياد في انواع المطالب ، باضافة تلك التي لا يمكن مقابلتها بالمال ، وان امكن تحييدها مؤقتا عن طريق هذه الاداة ، وتبدو على السطح مبادرات عديدة في جميع اقطار المجلس ، يمكن تصنيفها كمحاولات للاصلاح السياسي ، وفي هذا المجال بالخصوص فان النموذج الكويتي يلعب دور البوصلة ، واعتقد ان تجربة الكويت وتطوراتها ستكون مثالا معياريا لاتجاه وسرعة الاصلاح السياسي في بقية اقطار المجلس.

تمتع شعب الكويت برفاهية نادرة سبقت زمنيا جميع دول الخليج الأخرى ، لكن الاجتياح العراقي لاراضيها قد فاقم المطالبة العامة باعادة الحياة الدستورية ، وهو الامر الذي ادى - عقب التحرير مباشرة - إلى احياء الدستور المجمد واعادة مجلس الامة ، الذي كان قد استبدل خلال منتصف الثمانينات بمجلس استشاري في مرتبة ادنى من مرتبة السلطة التنفيذية ، خلافا لمجلس الامة الذي يصنفه الدستور في المكان الأعلى ، وكانت المطالبة باعادة الحياة البرلمانية خلال فترة الاحتلال العراقي ، قد ارتكزت على ادانة تعطيل الحياة الدستورية من جانب الامير ، باعتبارها انتقاصا من شرعية الحكم وسببا غير مباشر في قصور الاداء الحكومي ، الامر الذي ادى إلى تيسير السبيل امام الغزو .

وفي هذا المورد بالخصوص فان الضرر الذي اصاب العلاقة بين المجتمع الكويتي والحكومة ، لم يكن ناتجا بصورة مباشرة عن انخفاض كبير في القدرة على التمويل ، بل على العكس من ذلك فان الحكومة قامت - رغم ظروف الغـزو المريـرة ورغم انهيار الجهاز الحكومي - بتوفير حد معقول من الموارد لمساعدة عشرات الالاف من الاسر الكويتية التي غادرت البلاد اثر اجتياحها ، وهو موقف يحسب لصالح العائلة الحاكمة ، التي لم تستأثر بالمال ، ولم تتخل عن مسؤولياتها تجاه مواطنيها في ذلك الظرف الصعب .

الضرر الذي اصاب العلاقة بين الطرفين ، نتج - تحديدا - عن تفاقم الشعور بان شرعية الحكم لم تعد قائمة على كفاءة الاداء الاقتصادي والتمويل ، بل على مستوى تمثيل النظام السياسي لارادة الجمهور ، ولهذا السبب فان أكثرية الكويتين لم يشككوا في شرعية الاسرة الحاكمة ، وكونها جزء من النسيج السياسي الوطني ، رغم ان ظروفا مثل تلك كانت جديرة بان تثير شيئا من هذه الشكوك ، لكن الذي حصل هو ان معظم الكويتيين ولا سيما القوى السياسية ، ركزت دعوتها على إعادة الحكم الدستوري والتمثيل النيابي والحريات العامة .

ومنذ عودة الكويتيين إلى بلادهم بعد انسحاب القوات العراقية ، كانت هناك دعوات إلى الفصل بين رئاسة الحكومة وولاية العهد ، المرتبطين تقليديا منذ استقلال الكويت في الستينات ، لكن هذه الدعوة لم تصعد إلى واجهة النقاشات المحلية قبل 1998 ، أما  في الاشهر الخمسة الماضية فان الجدل حول الفصل بين المنصبين لم يعد مقتصرا على مجالس نواب المعارضة ، بل انتقل للمرة الاولى إلى ديوانيات الشيوخ وكبار السياسيين الذين اعتادوا التحفظ في مناقشة امور كهذه امام الملأ ، وكان السبب المباشر لهذا التحول هو تدهور الوضع الصحي لولي العهد رئيس مجلس الوزراء  الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح ، واضطراره إلى الاعتكاف في داره والسفر إلى الولايات المتحدة وبريطانيا لفترات طويلة طلبا للاستشفاء .

ويقول الكويتيون ان الفصل بين المنصبين ، والذي سيؤدي بالتاكيد إلى تولي وزير الخارجية الشيخ صباح الاحمد منصب رئيس الوزراء ، هو تحصيل حاصل لان الشيخ صباح يتولى - فعليا -  رئاسة الحكومة بصفته نائبا لرئيس الوزراء ، لكن اهمية التغيير لا تتعلق بشخص رئيس الحكومة ، بل في المعنى السياسي الذي ينطوي عليه ، فوجود ولي العهد ، وهو امير البلاد المستقبلي على راس السلطة التنفيذية كان سببا لاحراج القوى السياسية التي تريد فرض رقابة برلمانية اوسع على عمل الحكومة ، والعرف القاضي بتضامن الحكومة في مواجهة المجلس ، يقضي بتوجيه النقد إلى شخص ولي العهد ، وهو ما لم يكن ممكنا بسبب ما يتمتع به من الحصانة العرفية ، أما  في حال رئاسة اي شخص آخر فان مساءلة الحكومة ومراقبتها ستكون خالية من الحرج ، اضافة إلى ان الغاء العرف القاضي بالربط بين منصبي ولاية العهد ورئاسة الحكومة ، قد يفتح الباب أمام تولي اشخاص من خارج العائلة الحاكمة هذا المنصب أو المناصب الوزارية السيادية التي درجت العادة على ايكالها إلى اعضاء العائلة الحاكمة .

وتتمتع الكويت الان بقدر من الانفتاح السياسي ، ليس لـه مثيل في دول الخليج الأخرى ، ويريد السياسيون واعضاء البرلمان تقنينه لقطع الطريق أمام تصادم محتمل بين واقع يتمثل في حريات واسعة يمارسها الناس ، بما فيها تشكيل احزاب علنية وتجمعات ذات طابع سياسي ، وبين القوانين القديمة التي لا تقر بمشروعية هذا القدر من الانفتاح ، رغم ان هذه القوانين لا تنفذ بشكل فعال في الوقت الراهن .

ان الجزء الاهم من مشروعية النظام السياسي الكويتي يعتمد على العقد القائم بين العائلة الحاكمة والشعب ، والمتمثل في الدستور ، ولهذا فان اي اضطراب اقتصادي ، أو عجز في التمويل لا يتوقع ان يضعف من مكانة العائلة الحاكمة أو يخدش مشروعيتها ، رغم ما يفرضه من تغييرات في السياسات والاشخاص ، أما  الجزء الباقي من المشروعية فلا زال مرتبطا بدور الدولة كموزع لعائدات البترول ، وهو دور لا يتوقع لـه ان ينتهي في المستقبل المنظور ، إلا ان القوى السياسية ولا سيما تلك المثلة في البرلمان تسعى للحد من قدرة الحكومة على استثمار المال العام في اغراضها السياسية ، وهو تطور متوقع ، ولكن ليس بصورة سريعة أو كاملة .

أما  المملكة العربية السعودية ، وهي الدولة الكبرى في مجلس التعاون ، فلم تشهد تغييرات كبرى على المستوى السياسي خلال العقد الأخير ، وربما كان التطور الاهم في بداية التسعينات ، هو اقامة مجلس الشورى ووضع نظام للحكم بمثابة دستور ونظام للحكم المحلي ، لكن يبدو ان القليل فقط من المراقبين اعتبر هذه التطورات كبيرة الاهمية ، فالنظام الاساسي لا يعتبر قانونا أعلى للحكم ، فهو ينص على امكانية تعديله بامر ملكي ، وبالطبع فانه لم يتضمن اشارة إلى هيئات ذات طابع دستوري ، لها صلاحية تفسير النظام ، كما ان الحقوق والحريات العامة التي تحدث عنها بصورة اجمالية ، لم تقترن بتحديد وسائل قضائية أو سياسية للاحتكام عند التنازع ، أو الشكوى من انتهاك الحقوق المشار اليها ، وبصورة عامة فان كبار اعضاء الحكومة قادرون إذا شاؤوا على تجاوز اي بند في نظام الحكم ، الذي لا ينص على حدود للسلطات أو وسائل لكبح التجاوز.

مجلس الشورى لا يعتبر هو الآخر هيئة سيادية ، فقد صنفه النظام السياسي في مرتبة ادنى من السلطة التنفيذية ، وهو اقرب إلى هيئة استشارية يعـود اليها مجلس الوزراء عند الحاجة ، لكنه لا يناقش القضايا الحساسة مثل الميزانية العامة والعلاقات الدولية واوضاع القوات المسلحة واجهزة الامن ، كما لا يحق لـه مساءلة الوزراء والمسؤولين الرسميين .

أما  نظام المناطق الذي افترض انه سيكون الاساس القانوني لتقليص المركزية الادارية الشديدة ، فانه لسبب ما لم يؤد إلى هذه النتيجة ، فلا زالت جميع الوزارات تعمل بصورة شبه مستقلة انطلاقا من مكاتبها في العاصمة ، على الرغم من ان رؤساء مجالس المناطق جميعا هم من الامراء البارزين ، ويبدو ان التنافس الخفي بين الحكومة المركزية والادارات الاقليمية ، كان يحسم على الدوام لصالح الاولى التي تضم كبار امراء العائلة المالكة .

وخلال السنتين الماضيتين بدا ان جولة جديدة من الاصلاحيات على وشك ان تبدأ ، وتفاءل كثيرون بهذه الجولة ، التي بررتها الظروف الاقتصادية الصعبة ، والشروط التي وضعتها الولايات المتحدة واوربا لقبول المملكة في منظمة التجارة الدولية ، والحقيقة ان هذا التطور كان مدعاة لدهشة كثيرين رأوا ان المملكة فرطت في فرص جدية لادخال اصلاحات غير مكلفة ، لكنها حيوية ، مثلما جرى حين توصلت إلى اتفاق مع المعارضة الشيعية في المنطقة الشرقية ، كان سيتيح لها تحقيق الاستقرار في واحدة من اكثر مناطق المملكة توليدا للتوتر ، فضلا عن كونه نموذجا لاصلاح سياسي يتلافى مبررات القلق التقليدي من تجاوز المعارضة المحلية لحدود النظام .

 على الجهة الأخرى فان عددا اكبر من النخبة الجديدة ، ولا سيما من المثقفين والتجار ، يميل إلى الاعتقاد بان اي اصلاح سياسي مهم لن يقدر لـه النجاح ما لم يكن مدعوما بضغط دولي ، ولهذا فان الاصلاحات التدريجية التي قصد من ورائها تمهيد الطريق امام انضمام المملكة إلى منظمة التجارة الدولية ، تعتبر - في رأي هؤلاء - مؤهلة للثبات والتطور بدرجة اقوى من اي اصلاحات تنطلق من دوافع محلية .

على هذا المستوى ، فقد جرى وضع نظام للاستثمار الاجنبي ، سوف يؤدي إلى تعديل انظمة الاقتصاد المحلي ، وتلك المؤثرة فيها ، ومن بينها مثلا نظام توظيف العمال الاجانب ، وملكية الاجانب للاصول الثابتة واسهم الشركات المحلية المساهمة ، ونظام التقاضي والضمانات القضائية للمتنازعين امام المحاكم  ، فضلا عن برنامج تخصيص الخدمات العامة .

ورغم ان بعض المراقبين المحليين قد قلل من شأن هذه التطورات ، إلا ان الانصاف يقتضي النظر إلى تأثيراتها ضمن منظور شامل ، فالحديث عنها قد اتاح الفرصة - للمرة الاولى منذ زمن طويل - لطرح مسألة الانغلاق والتكتم الذي يسم الحياة العامة في المملكة ، والذي يؤدي - بالضرورة - إلى حصر ممارسة السياسة والحديث عنها في شريحة ضيقة جدا ، ونعتقد ان الالحاح الشديد في الصحافة المحلية على تطوير نظام المطبوعات ، ومحاولتها للافلات من طوق الرقابة المشدد ، كان إحـدى الثمرات غيـر المباشـرة لذلك التطور ، أما  برنامج التخصيص ، والذي سيطال خدمات الهاتف والكهرباء والطيران ، فهو سيؤدي إلى تخفيف تدخل الدولة في حياة الناس ، وهو أحد العناصر المهمة في إعادة صياغة الدور المستقبلي للدولة ، وعلاقتها بالمجتمع .

معظم المحللين في الصحافة الامريكية والاوربية ، يميل إلى ربط الاصلاحات بدواع اقتصادية ، وهم يشيرون إلى نقص السيولة الذي اعقب انخفاض اسعار البترول منذ النصف الثاني من الثمانينات ، وتفاقم خصوصا خلال النصف الثاني من التسعينات بسبب الاعباء المالية لحرب الخليج الثانية ، والحق ان انخفاض التمويل قد اثر ايجابيا في تعامل الدولة مع المجتمع ، وسمعنا للمرة الاولى - ربما - كلاما من مسؤولي الدرجة الاولى يتضمن مناشدة للشعب لمساعدة الحكومة في احتمال الاعباء الاقتصادية الثقيلة ، خلافا للخطاب الذي اعتاده المسؤولون ، والذي يتضـمن ان الامور جيدة جدا وان المشكلات الاقتصـادية هي " كلام جرايد " و" دعايات حاسدين " .

ونعتقد ان الحكومة قد اكتشفت فعلا استحالة التعويل على المال السياسي في دفع المطالبة بالاصلاح ، لكن من جهة أخرى فان هذا لم يؤد - في اعتقادي - إلى تغيير جذري في طبيعة التفكير السياسي وفلسفة الحكم ، كما انه يتأثر بتحسن ايرادات البترول المستمر منذ اواخر اغسطس الماضي ، لكن ينبغي على اي حال اتخاذ جانب الحذر في اصدار احكام قطعية ، فالتفاعل بين دواعي الاصلاح والنظام القديم ، لا زال في بداياته ، ولهذا فان  ما يتوقعه البعض من انعكاسات فورية أو بارزة ، قد لا يكون واقعيا ، سيما بالنظر إلى تراخي الطبقات الاجتماعية التي تعتبر صاحبة المصلحة الاولى في التغيير السياسي ، تراخيها في دفع مسيرة التغيير أو المساهمة فيها أو بلورة مبرراتها .

النموذج الذي يستحق التامل هنا هو النموذج القطري ، ثم العماني ، فالواضح ان قطر تسير على الطريق الذي شقته الكويت من قبل ، وهي تزمع وضع دستور للحكم يكون بمثابة عقد اجتماعي بين العائلة الحاكمة والشعب ، وقد اوضح امير قطر الشيخ حمد بن خليفة في افتتاح الدورة الحالية لمجلس الشورى ، ان الدستور العتيد سيضمن الحريات العامة كما يحدد الاساس القانوني لتشكيل برلمان منتخب .

 وقطر هي الدولة الخليجية الوحيدة التي شهدت تحريرا واضحا للاعلام المحلي ، رغم ما اثمر عنه من غضب كثير من الدول العربية التي انزعجت من الانفتاح الاعلامي ولا سيما الظاهر في قناة ( الجزيرة ) الفضائية ، لكن قطر حافظت حتى الان على موقف ثابت نسبيا ازاء ردود الفعل هذه ، حتى بعد ان سحبت دول عربية مثل ليبيا وتونس سفراءها من الدوحة ، وهو ما يعزز الامال في ان مسيرة الاصلاح السياسي في قطر قد تكون ارسخ قدما واوسع من نظيرتها الكويتية ، لكن لا ينبغي المبالغة في تناسي الفارق بين الدولتين ، لجهة النضوج السياسي للمجتمع المدني والقوى السياسية الاهلية في الكويت ، والتي تجسد ابرز نماذج الفعل السياسي الاهلي في المنطقة ، وتساهم في صياغة الحياة السياسية بشكل محدد ، قد لا تكون مقوماته متوفرة في دولة قطر بالمستوى ذاته .

سلطنة عمان التي اختارت اصلاح النظام السياسي بمبادرة من الحكومة نفسها ، اتخذت نهجا تجريبيا - إذا صح التعبير - فبدأت بعد ازمة الخليج الثانية في اختبار ظرف التمثيل السياسي باقامة مجلس نيابي محدود الصلاحيات ، تتراوح طبيعته بين التمثيل الشعبي والتعيين الحكومي ، وجرى تطوير التجربة في الدورة التالية ، أما  في الدورة الحالية فان المجلس هو اقرب إلى نموذج التمثيل النيابي للمجتمع ، كما انه سمح للمرة الاولى بتمثيل النساء ، وجرى اختبار قدرة المجلس على مساءلة الوزراء ، والمطلوب الان هو الانتقال إلى المرحلة الاعلى اي اعتبار الحكومة مسؤولة امام المجلس ، مع حقه في اقالة الوزراء الذين يتعرضون للاستجواب ، وفتح الباب امام الترشح لعضوية المجلس امام كل عماني مؤهل دون قيود ، وهذا الأخير يبدو محتملا جدا في الدورة القادمة لمجلس الشورى.

أما  دولة الامارات العربية فهي البلد الوحيد في المنطقة تقريبا ، الذي لم يشهد اي تغيير يذكر ، وليس هناك على السطح حديث جدي عن تغييرات سياسية كبيرة ، ويبدو ان المشكلات الهيكلية الناشئة عن النظام الاتحادي نفسه ، حيث تتوزع السلطة السياسية - ولا سيما في الشان المحلي - بين عدد كبير من الزعماء ، اضافة إلى مشكلة التركيبة السكانية ، تقف حجر عثرة امام اي طرح جدي لبرنامج اصلاح سياسي ، لكن بصورة عامة ، فان الظرف السياسي في الامارات ، ظرف ارتخاء ويبدو ان الانتعاش الاقتصادي المستمر منذ ربع قرن على الاقل ، قد ساعد بشكل جدي في تقليص مبررات الازمة ، وبالتالي المبادرات السياسية التي تبرر بالقلق منها .

ما يجمع بين دول الخليج العربي ، هو تفاقم الشعور ، على المستوى المحلي وفي الخارج ،  بالحاجة إلى تجاوز ما كان يوصف بالمتطلبات السياسية لمرحلة دولة الرفاه التي لم تنقض تماما ، وهي متطلبات يراها معظم المثقفين والنخبة تحميلا غير منطقي ، وتتلخص في ان استمرار الرفاهية مشروط باستمرار نمط الدولة الريعية ، وفوقية السلطة السياسية ، وامتلاك النخبة التقليدية لكل ازمة الحكم ، وانعدام الاساس القانوني الذي يسمح بدور للمجتمع الاهلي في الحياة العامة .

 وبصورة اجمالية فان شرعية الحكم التي اقيمت ابتداء على متطلبات ظروف تاسيس الدولة وبنائها وتحديث المجتمع ، لم تعد الان مكينة وراسخة كما كان الامر في السبعينات ، وثمة حاجة ماسة إلى إعادة تاسيس منظومة الشرعية السياسية على اسس جديدة ، تستمد جوهرها من تعاقد المجتمع مع النخب الحاكمة ، فهذا هو السبيل الوحيد لضمان الاستقرار السياسي على المدى البعيد ، ولا سيما في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها العالم عند نقطة الاستدارة نحو القرن الجديد .

ومن الواضح ان حكومات المنطقة تستوعب دواعي التغيير التي تشهدها المنطقة ، سواء المحلية منها أو تلك التي هي انعكاس لتغير العالم ، وآية هذا الاستيعاب ، هي المبادرات التي تشهدها جميع اقطار المنطقة ، والتي تصب جميعا في مسار واحد هو اصلاح النظام السياسي وتحديثه .

لكن من الواضح ايضا ان تلك المبادرات لا تزال بطيئة وشديدة الحذر ، مما قد يجعلها عاجزة عن احتواء الاسباب التي بررت الاقدام عليها ، والحق اننا بحاجة إلى تحرك سريع في اتجاه توسيع اطارات العمل السياسي ، وبصورة محددة فتح ابواب السلطة وممارسة العمل العام امام جميع المواطنين ، وتحرير الاعلام من الرقابة الحكومية ، وكبح المنظومات الامنية التي اعتادت انتهاك حقوق المواطن لسبب ولغير سبب ، ان اصلاحات من هذا المستوى هي الكفيلة بتغيير العلاقة بين المجتمع والسلطة ، بحيث ينظر الناس إلى الحكم باعتباره ممثلا لـهم لا مفروضا عليهم بقوة الحاجة أو بالقهر.

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...