22/10/1998

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟



استهل الأستاذ عبد الله الحصين مقاله يوم الأحد الماضي (لماذا الهجوم على الثوابت) بالاشارة إلى أن التساؤلات التي طرحها مفكرون وباحثون حول التراث الإسلامي ، قوبلت (بالتحفظ الشديد مرة وبالرفض مرات أخرى) ثم عرض نماذج لاولئك المفكرين ولما قالوا. لكنه غفل عن ذكر الثوابت التي هجموا عليها ، أو لعله افترض أن النماذج التي عرضها هي من نوع الثوابت ، لكنه لم يخبرنا عن الأساس الذي اعتمده في تقرير هذا الاعتبار لها .
المرحوم د. محمد عابد الجابرى
والواضح أن الأستاذ الحصين قد انطلق من حرص مطلوب ومستحسن على التراث الإسلامي ، وخشية محمودة من أن تطاله أيدي العابثين والجهال ، لكن التوفيق لم يكن حليفه حين اختار الأمثلة التي عرضها للتدليل على مدعاه ، فالأساتذة الذين عرض أسماءهم ، لا سيما محمد عابد الجابري ومحمد أركون ومحمد شحرور ، لا يمكن تصنيفهم ضمن الجهال أو العابثين أو المعادين للمذهبية الاسلامية .
كتب الجابري عشرات من الدراسات القيمة ، محاولا البحث عن الجانب المضيء في التراث الإسلامي ، الجانب الذي يجسد مجد العقل والفعل الانساني ، وإنسانية الشريعة وكفاءتها ، أما محمد أركون فقد وضع النتاج العلمي للمسلمين ، في أزمان مجدهم الغابر ، على طاولة التشريح ، محاولا التأكيد على أن إلحاق هذا التراث الكبير بالشريعة والتفكير الديني ، لا ينبغي أن يؤخذ كمسلمة ، اذ لا بد من الفصل في كل حال بين النص الديني ، المعصوم والمتعالي على حدود الزمان والمكان ، وبين فهم البشر وتفسيرهم للنص ، المحدود والمقيد بأحوال الزمان وهموم المكان ، وكذلك فعل شحرور الذي ذهب إلى مدى أوسع فطالب بتركيز النظر على القرآن الكريم والغوص في بحوره ، منطلقا من افتراض أن محاولات المسلمين السابقين ليست نهائية ولا نتائجها قطعية  .
ولعل الاساتذة المذكورين قد خانهم الحظ في اقناع الاستاذ الحصين بالنتائج التي توصلوا إليها ، وهذه طبيعة العلم الذي يأبى أن يأتي موافقا لكل ميل ، لكن من جهة أخرى ، فان الاختلاف مع النتائج التي توصل إليها باحث ، لا تصح أساسا للتشكيك في نواياه أو الغمز من زاوية (حقه) في البحث ، بمثل القول انه (تخرج من جامعة الحادية تعتبر الالحاد ثابتا من ثوابت مناهجها) ذلك أن البحث في الاسلام ، ليس حكرا على طبقة من الناس ، ولا على أصحاب اختصاص معين ، أو خريجي مدرسة معينة ، أو المنتمين إلى مذهب فكري أو اجتماعي خاص .

 البحث في الاسلام ، كالبحث في  أي موضوع علمي آخر ، متاح لجميع الناس ، دون أن اعتبار النتائج التي توصل إليها الباحث أيا كان ، ملزمة لأي كان ، إلا بدليل آخر ، مثل أن يكون مقلدا له ، كما يفعل العامة مع المجتهدين ، أو أن تتحول نتيجة البحث إلى نظام ملزم للعامة أو الخاصة ، بعد أن تصدر وفق الأصول الشرعية المؤسسة للالزام القانوني .

حق البحث ليس حكرا على أحد ، والنتائج التي يتوصل إليها الباحث ليست ملزمة لأحد ، وانما هي مساهمة في الارتقاء بالعقل الانساني ، ليصبح أقدر على فهم الشريعة ، نصوصها وتجارب البشر في تطبيقها ، وهي مساهمة ذات طابع مؤقت ، تمهد لما هو أرقى منها ، فاذا وصل المتلقي إلى هذا المستوى الجديد استغنى عنها واستعاض بجديده عن قديمها .

ويستذكر الكاتب قصة مشهورة في  النهي عن بناء الحكم على الريبة في النوايا ، حين وضع أسير كافر في إحدى غزوات الرسول (ص) بين الاسلام والنطع ، فرفع صوته بالشهادة ، فأراد الخليفة عمر قتله قائلا انه اسلم خوفا من السيف ، فأجابه المصطفى صلوات الله عليه بقوله (هلا شققت قلبه فنظرت ما فيه) والأصل في الجدل العلمي أن يؤاخذ الباحث بما قال ، لا بما ينوي أن يقول ، أو بما يقصد من وراء القول  ، إلا أن يكون قصده صريحا بينا ، ولا يهم إذا ذاك أن يكون قد تخرج من جامعة توحيدية أو من جامعة الحادية ، خاصة في هذا الزمان الذي يصعب فيه تحديد ما هو الحادي وما ليس إلحاديا ، كما يندر أن تجد جامعة أو مدرسة للدراسات العليا ، ليس في مناهجها أو أساليب تعليمها شيء من الالحاد ، والالحاد هو الميل أو الانحراف عن الجادة الصحيحة ، أو شوب ما هو مستقيم بما هو أعوج ، ولو أردنا الخوض في هذا لما سلم جامعي من الريبة فيما يقول ويفعل ، إلا من عصم الله .

وما دام الاستاذ الحصين قد طرق موضوع التراث ، فقد ألزمنا بتكرار ما ينبغي التذكير به في كل حين ، وهو أن ما نطلق عليه (التراث الإسلامي) هو شيء آخر غير (الشريعة الاسلامية) فالشريعة المقدسة هي عبارة عن النص القرآني المحفوظ بأمر الله سبحانه ، وحديث الرسول (ص) الذي اجتهد المسلمون في توثيقه والمحافظة عليه ، منذ غيابه صلوات الله عليه إلى اليوم ، ومنذئذ ، وخلال مئات من السنين التالية ، عمل المسلمون في النص الديني شرحا وتفسيرا واستلهاما منه .

ومع تقدم المعرفة في ظل ارتقاء الحضارة الاسلامية ، أبدع المسلمون علوما وفنونا جديدة غير مسبوقة ، واستعانوا في كثير من الحالات بما أخذوه وما ترجموه من علوم الأمم الأخرى غير الاسلامية ، وأصبح لدينا في المحصلة النهائية كم هائل من المعارف ، المرتبطة بالنص ، أو المستقلة عنه ، في موازاة تجربة الحياة الاسلامية ، خلال بضعة قرون من الكفاح والارتقاء ثم الهبوط ، تشكل بمجموعها ما نسميه تراث الامة الاسلامية .

ان النتاج الثقافي والمعرفي لأي أمة هو تعبير عن مستواها الفكري وطبيعة أوضاعها الاجتماعية في ذلك الوقت ، فالفكر لا يتطور مستقلا عن الظرف الاجتماعي الذي يوجد فيه ، ولهذا السبب أيضا فان طبيعة التراث ومكوناته متطورة من حال إلى حال ، فهي لا يمكن ان تكون جامدة ، ولا عابرة للزمان ، ولو لم تكن متحولة ، لعجزت عن التفاعل مع المحيط الاجتماعي الذي أوجدها أو استثمرها ، ولأصبحت غير ذات قيمة .

ثم وصل العالم الإسلامي إلى المرحلة الدنيا من مراحل انحطاط حضارته ، فاصبح لا ينتج علما بل ينشغل باجترار ما أبدعه السالفون ، وفي وقت لاحق بدأ يبحث عند الغير عما يستغني به عن تجربة أسلافه .

غير أن الدعوات التي تكررت سابقا ، إلى البحث في الذات والتجربة التاريخية عن معين صاف ، لاعادة تكوين هوية العالم الإسلامي في هذا العصر ، هذه الدعوات تجد اليوم أصداء في كل مكان ، من جانب مثقفين وباحثين يريدون إعادة وصل ما انقطع بين مسلم العصر وبين مصادر هويته الثقافية ، ليس انقطاعا بالمعنى المادي ، بل بغلبة التفسيرات والأفهام المحدودة على النص المرجعي ، بحيث لم يعد المسلم قادرا على قراءة القرآن أو السنة بصورة مباشرة ، أي متحررة من التصور المسبق عن المقصود ، وهو تصور قد يصدق أحيانا وقد يخون ، أو قد يكون قاصرا عن بلوغ تمام المقصود .

 ومع غلبة الافهام والتفسيرات وشيوعها ، واضطرار المسلم المعاصر للأخذ بما انجزه الماضون ، فقد أصبح النص الديني أسيرا لتلك القوالب ، والتي مهما بالغنا في تقدير صحتها ، فانها لن تكون أكثر من تعبير عن عصرها ، بما فيه من أوضاع اجتماعية ، وبما بلغه أهله من مستوى عقلي ومعرفي ، بينما يقتضي خلود النص وعبوره لحواجز الزمان والمكان ، ان يكون نبعا متجددا ، يرده أهل كل عصر فيجدونه معينا عذبا ، قادرا على الاجابة على ما يطرحه زمانهم من اسئلة جديدة ومن تحديات .

نحن بحاجة إلى فهم متجدد للقرآن والسنة ، كل جيل بحاجة إلى فهم خاص ، يستثمر تطور العقل الانساني الذي لا يتوقف في زمن ، ويستثمر نتاج التجربة الانسانية من معارف وعلوم . لكي نجدد فهمنا للقرآن فسوف نحتاج إلى النظر اليه بعين عصرنا لا بعين العصور الماضية ، سوف نحتاج إلى التخلص ـ ولو مؤقتا ـ مما يعتبر بديهيات وثوابت ، تحكمنا قبل ان نصل إلى النص ، ينبغي ان لا تكون ثمة عوائق بين العقل والنص ، بين الانسان وروح النص ، لكي يحاوره متحررا من كل ضغط ، ومن كل التزام مسبق بالوصول إلى نتيجة محددة .

لكي نتخلص من ضغط الفهم المسبق ، فاننا بحاجة إلى نقد التجربة التاريخية للمسلمين ، والتراث المعرفي الذي نتج عنها ، نقد لا يؤدي بالضرورة إلى تسفيه ما كان ، بل إلى الفصل بين ما هو مرجعي وما هو عارض قليل القيمة أو معدومها ، لكي نعيد إحياء ما اندثر من ثقافتنا ، سوف نحتاج إلى نضع أنفسنا في قلب الدائرة ، ثم ننظر إلى ما ورثناه نظرة الحاكم على ما يملك ، لا نظرة السجين إلى شباك هذا القفص الذي نسميه التاريخ .

01/10/1998

نادي الكبار ليس قيادة للعالم




المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد مؤتمره السنوي في دافوس ، منتجع سويسرا الجبلي ، هو واحد من محاولات عديدة بذلها سياسيون وشخصيات دولية ، لايجاد ما يمكن اعتباره قيادة كونية .
وكانت منظمة الأمم المتحدة أولى تلك المحاولات ، لكن ظروف تأسيسها بعد قليل من نهاية الحرب العالمية الثانية ، جعلها تحت تأثير التجاذب بين الأعضاء ، لا سيما في ظروف الحرب الباردة التي امتدت طوال الفترة بين نهاية الحرب الكونية وانهيار الاتحاد السوفيتي في 1991 . والواقع ان الدافع الرئيس لانشاء الأمم المتحدة لم يكن قيادة العالم على وجه التحديد ، بل تلافي اندلاع حرب عالمية ثالثة ، رغم ان ميثاقها الأساسي وما كتب حوله من أدبيات يعطي انطباعا بأنها تسعى إلى عالم واحد يدار بروحية واحدة .
وقد نجحت الأمم المتحدة إلى حد معقول في الحيلولة دون اندلاع حرب كونية ، لكنها أخفقت تماما في تأسيس رؤية كونية مشتركة بين أعضائها ، كما أخفقت في تحديد إطار واضح لمشاركة المنظمات غير الحكومية في الشان الدولي ، على رغم تصاعد الدور العالمي لهذه المنظمات في الحياة الدولية .
على أرضية الشعور بهذا الاخفاق بادرت شخصيات دولية إلى تأسيس منتديات للحوار بين من يوصفون بأنهم قادة العالم في مختلف الميادين ،  ومن بين ابرز تلك المنتديات ، لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي ، التي أسسها مستشار ألمانيا السابق ويلي برانت في 1990 وأصدرت تقارير مهمة حول التحديات التي تواجه العالم وسبل مواجهتها ، من بينها التقرير الشامل (جيران في عالم واحد) الذي صدر عام 1995 ، لكن يبدو ان هذه اللجنة قد فقدت كثيرا من قوة دفعها بعد غياب بعض قادتها الرئيسيين ، مثل ويلي برانت وجوليوس نيريري وادوارد هيث .
كما يعتبر نادي روما تجربة مهمة من هذا النوع ، ويبدو ان القضايا التي تبناها منذ قيامه في 1968 قد تحولت بالفعل إلى أولويات في برامج الحكومات الغربية ، ونشير خصوصا إلى مشكلة البيئة التي كان النادي أول من تناولها بصورة مركزة ، لكن نادي روما فشل في التأثير على الأجيال الجديدة من السياسيين في الغرب ، نظرا لمحدودية العضوية فيه حيث لا يسمح نظامه بمشاركة أكثر من مائة عضو .
أما التجربة الأطول عمرا ، والأكثر بروزا في هذا المجال ، فهي المنتدى الاقتصادي العالمي الذي تأسس في 1971 وانضم إلى عضويته خلال السنوات اللاحقة عدد كبير من السياسيين والاقتصاديين والمفكرين ورؤساء المنظمات غير  الحكومية من شتى أنحاء العالم ، وهو يدعو إلى المشاركة في مؤتمره السنوي نحو 1000 من كبار رجال الأعمال و250 من الشخصيات السياسية ومثلهم من الاكاديميين البارزين ، وكذا من القادة الاعلاميين ، وحملة جائزة نوبل ، بهدف محدد هو تأسيس رؤية كونية للمشكلات التي تواجه العالم كمجموع ، والتي تحتاج إلى برنامج علاج طويل الأمد .
 ويستهدف جمع هذا العدد الكبير والمتنوع ، الحصول على رؤية من زوايا متعددة ، ثم ايصال النتائج إلى مختلف الشرائح التي يتشكل منها المجتمع العالمي .
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة ، طغى موضوع العولمة على مؤتمرات المنتدى ، لكن المؤتمر الأخير شهد اهتماما خاصا بالانعكاسات السلبية للعولمة على مجتمعات العالم ، لا سيما تلك التي لا تزال غير جاهزة لتحدياتها ، وعكس شعار المؤتمر طبيعة هذا الاهتمام فهو يقرن العولمة بالمسؤولية عن انعكاساتها (العولمة المسؤولة : إدارة انعكاسات العولمة).
والواضح ان انعكاسات الأزمة الآسيوية وامتدادها إلى روسيا والبرازيل ، والقلق من تمددها إلى مواقع أخرى هو الذي أثار الاهتمام بانعكاسات العولمة ، لكن أبرز ما طرح خلال المؤتمر هو حملة (انهضي يا أوروبا) التي أطلقها خمسون من الشباب الذين يتقلدون مراكز قيادية في أوروبا ، وتقترح الحملة قائمة معايير لمستوى الحياة ، التي ينبغي ان تكون سائدة في أوروبا بحلول العام 2050 ، وتشمل 11 مؤشرا عن مستوى الدخل الفردي ، مستوى تلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون ، بطالة الشباب تحت سن 25 ، متوسط العمر المتوقع ، كلفة الرعاية الصحية نسبة إلى الناتج القومي ، حال الفقراء الذين يقعون في النصف الأسفل من سلم الدخل ، انعكاس الجريمة المنظمة على التجارة ، الاتصال بشبكة الانترنت ، نسبة السكان المعتمدين على المساعدات ، التسجيل في المدارس . مع اعتبار المؤشرات الثلاث الأخيرة ، مؤشرا تجميعيا على جاهزية المجتمع لتحديات منتصف القرن .
والخلاصة ان منتدى دافوس ، لا يمكن تصويره كقيادة للعالم ، لكن من المؤكد ان فرصة اللقاء التي يوفرها ، ونوعية المشاركين ، تساعد على تقريب التصورات ، ونسج خيوط العلاقة بين أفراد طبقة يمسكون بعدد من أهم مفاتيح السياسة والاقتصاد والعلم على امتداد الكرة الأرضية .

24/09/1998

حكومة العالم الخفية

لا زال بعض الناس في الولايات المتحدة الأمريكية ، يعتقد أن منظمة الأمم المتحدة ، ما هي إلا الصورة الظاهرة لحكومة خفية تدير العالم ، وفي أوقات سابقة ، ولا سيما في الثمانينات ، كشف النقاب عن وجود ميليشيات مسلحة ، تتكون أساسا من المحاربين السابقين في فيتنام ، يصل بعضها من حيث الحجم إلى ما يقارب حجم الجيوش الصغيرة ، عقيدتها الرئيسية هي الدفاع عن الولايات المتحدة في مواجهة غزو خارجي محتمل ، تخطط له وتديره هيئة الأمم المتحدة .

 ويقال أن الارهابيين الذين فجروا مبنى الحكومة الفيدرالية المركزي في مدينة أوكلاهما ، في أبريل 1995 ، وقتلوا 168 من المدنيين فيه ، كانوا أعضاء في ميليشيا من هذا النوع ،  وحين اعتقل بعض أعضاء تلك الميليشيا ، برروا عملهم بأن حكومة واشنطن ليست إلا (مسرح عرائس) تتحكم في حركة شخوصه ، خيوط ، نهاياتها في نيويورك ، حيث المقر الرئيسي للأمم المتحدة ، وسأل المحققون سجناءهم : هل تعتقدون أن الحكومة التي انتخب الشعب الأمريكي رئيسها وأعضاء الكونغرس ، هم مجرد أدوات بيد الأجانب ، أجاب أولئك بأنهم لا يشكون مطلقا ، بأن حكومة واشنطن عميلة لقوى أجنبية غير ظاهرة على المسرح .

 وبدا الأمر مثل صورة كاريكاتورية ، لكنه حدث فعلا ، وهو يحدث الآن أيضا ، ولولا انشغال الأمريكيين بفضائح رئيسهم الجنسية ، فلربما اتسع المجال في التقارير الاخبارية ، التي تبثها شبكات التلفزيون ، لتنقل إلينا  مشاهد عن تظاهرة صغيرة أمام القاعة الكبرى التي يجتمع فيها ممثلو دول العالم ، يطالب المشاركون فيها برحيل المنظمة الدولية وأعضاءها عن الأراضي الأمريكية .

وتذكرت للتو صورة مماثلة في كاريكاتوريتها ، حين سأل صحافي إيطالي ضابطا في ميليشيا صومالية ، قبل عقد ونصف من الزمن ، عن الدولة التي يسعى ورجاله لاحتذاء نموذجها ، حين يطيحون بالرئيس ـ يومئذ ـ الجنرال محمد سياد بري ، فقال ضابط الميليشيا ، انهم سيحتذون بنموذج ألبانيا ، وهي دولة صغيرة فقيرة في البلقان ، كان حليفها الوحيد في العالم هو الصين الشعبية ، قبل أن تتخلى عنها تماما في 1982 ، كانت ألبانيا ـ يومئذ ـ محكومة بحزب شيوعي شديد الانغلاق ، يقوده أنور خوجة ، الذي كان معاديا لواشنطن وموسكو وبكين وأوربا في آن واحد ، وسأل الصحافي صاحبنا الميليشياوي عن السر في إعراض جماعته عن الاتحاد السوفيتي الذي كان دولة عظمى ، فأجاب بأن حكومته عميلة ، فماذا عن الولايات المتحدة الأمريكية ، أجاب الرجل ان حكومتها عميلة أيضا ، فسأل الصحافي مستغربا .. موسكو وواشنطن ، كلاهما عميلة .. عميلة لمن في رأيك ؟ فأجاب الميليشياوي الهمام بأنهما عميلتان للجنرال سياد بري! . وهكذا اكتشف الصحافي معلومة لم تخطر على بال أحد مطلقا ، خارج الصومال على الأقل .

فكرة عمالة واشنطن للأمم المتحدة ، لا تقل ـ من حيث المستوى ـ عن فكرة عمالتها هي وموسكو معا للجنرال الراحل. لكن الحقيقة التي قد لا يعرفها كثير من الناس ، ان فكرة تأسيس منظمة الأمم المتحدة ، نبعت في الأساس من رغبة ثلاث من الدول الكبرى في اقتسام السيطرة على العالم ، أو على الأقل التحكم في مجاري العلاقات الدولية ، بحيث لا تخرج عن إطار يضع الكبار الثلاثة خطوطه .

أدى قيام الحرب العالمية الثانية إلى انتشار الاعتقاد بعجز عصبة الأمم ، عن الوفاء بالأغراض التي أقيمت لأجلها ، وفي طليعتها الحيلولة دون قيام حرب كونية ثانية ، وكان الحلفاء الذين انتصروا في الحرب الأولى ، قد اتفقوا عقب انتهاء الحرب ، على إقامة العصبة باعتبارها ممثلا لـ (المجتمع العالمي) لكن الحرب الثانية اندلعت بعد أقل من عشرين عاما ، فتهاوت في ضجيج مدافعها عصبة الأمم ، وانحلت دون أن يقرأ لها أحد قصيدة نعي .

في حمأة الحرب الكونية الثانية ، شعر البريطانيون بالأخطار التي ستنجم عن التعاون العسكري الوثيق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ، وكان الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل يؤمن إيمانا عميقا ، بأن جوزيف ستالين وحزبه الشيوعي ، لن يرضى بأقل من السيطرة على أوروبا ومستعمراتها ، وطرق  تجارتها في النصف الشرقي من الكرة الأرضية ، إذا أتيح له الخروج منتصرا في الحرب ضد ألمانيا وحلفاءها .

أما ستالين نفسه فكان يقلقه التوجه السياسي الأمريكي المتصاعد للانفتاح على العالم ، ومحاولاتها الحثيثة لوضع سياسة لما كان يسمى سابقا (وراء البحار) وأدرك ستالين ان الولايات المتحدة ، تملك القوة والامكانية المادية لوراثة النفوذ الأوروبي في العالم ، وما تحتاجه فقط هو التحرر من سياسة العزلة التقليدية ، التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في واشنطن ، وقد وفرت مشاركتها الواسعة في الحرب ، الفرصة لاخراجها من عزلتها .

أما تشرشل فقد وجد في الولايات المتحدة أهون الشرين ، فهي وان كانت تمثل تهديدا جديا لمصالح بريطانيا في العالم ، إلا ان التهديد السوفيتي بدا اكثر احتمالا وجدية ، وكان مهتما بايجاد توازن بين العملاقين ، يضمن لبريطانيا خاصة ، ولأوربا عموما ، مكانا في عالم ما بعد الحرب .

من هذه المخاوف والمطامع ، ولدت الأمم المتحدة ، ففي أغسطس 1941 وقع زعماء  البلدان الثلاثة ، روزفلت ، ستالين وتشرشل (ميثاق الأطلسي) الذي  يدعو لقيام نظام علاقات دولية يحول دون تجدد الحرب ، ووضع آلية لصون السلام في العالم ، تتمثل في اجتماع منتظم لممثلين عن كل الحكومات المستقلة ، وفي يناير من العام التالي اتفقت 42 دولة من الحلفاء على الخطوط العامة لهيئة دولية جديدة تنفذ تلك النوايا ، ثم عقد مؤتمر تمهيدي للكبار الثلاثة في موسكو في اكتوبر 1943 ، وآخر في طهران بعد شهر من قمة موسكو ، لكن الخطوة الحقيقية التي أدت إلى إقامة الأمم المتحدة ، كانت مؤتمر يالطا في فبراير 1945 ، الذي جاء بعد أن اتضحت صورة الموقف العالمي مع انتصار الحلفاء في الحرب ، وأصبح ممكنا الحديث عن (تقاسم حصص) بين المنتصرين ، وتم بالفعل الاتفاق على تقاسم النفوذ في العالم ، مما فتح الباب أمام الاتفاق على تشكيل الهيئة التي ستردع احتمالات تجدد الحرب ، لا سيما الحرب بين الدولتين الأعظم ، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة .

في منتصف هذا العام (1945) اجتمع ممثلون لخمسين دولة في سان فرانسيسكو ، غرب الولايات المتحدة ، للاعلان الرسمي عن قيام هيئة الأمم المتحدة ، ووضع ميثاقها الذي جاء في 111 مادة ، صودق عليها في أغسطس ، واعتبرت الهيئة قائمة رسميا ابتداء من سبتمبر ، ولهذا فان هذا الشهر يعتبر بداية الدورة السنوية للجمعية العامة ، حيث تتاح الفرصة لرؤساء الدول أو من يمثلهم لمخاطبة العالم ، من على منبر  الجمعية العامة ، ويحرص معظم الرؤساء على مخاطبة هذا الحشد الكبير من ممثلي العالم ، مرة واحدة على الأقل خلال ولاية كل منهم .

مع مرور الذكرى الخمسين لقيام الامم المتحدة في 1995 حاولت أقطار عديدة ادخال تعديلات على ميثاق الأمم المتحدة ، باتجاه توسيع دور البلدان النامية ، ولا سيما زيادة الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن ، باضافة ممثل عن كل من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ، إضافة إلى دولة صناعية ، واقترح بالتحديد اسم جنوب أفريقيا ممثلا عن القارة السوداء والبرازيل أو الارجنتين عن أمريكا اللاتينية ، وماليزيا عن آسيا ، إضافة إلى اليابان أو ألمانيا ، لكن الدول الدائمة العضوية ، وهي الخمس الكبرى في العالم ، لم ترغب في اشراك الآخرين في هذا المكان ، الذي يعتبر مطبخا حقيقيا للكثير مما يصنف تحت عنوان (الشرعية الدولية) و (المجتمع العالمي).

وقد شكا معظم أقطار العالم الثالث من تحكم الدول الكبرى ، ولا سيما الولايات المتحدة في قرارات الأمم المتحدة ومبادراتها ، ونادى بعضهم بالانسحاب من هذه المنظمة ، لكن أحدا لم ينسحب ، فمع كل سلبياتها ومع كل عناصر ضعفها ، لا تزال هذه المنظمة عنصرا مفيدا في نظام العلاقات الدولية ، ولا شك ان وجودها أنفع كثيرا من عدمها ، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ان نشاطات الأمم المتحدة لا تقتصر على الجانب السياسي ، فهي تعمل أيضا عبر منظماتها المتخصصة ، لرفع مستوى الحياة في العالم ، بوضع معايير ، وتقديم الخبرات والمعرفة الفنية ، وأحيانا المساعدات المالية والقروض ، في سبيل الارتقاء بمستوى الحياة في دول العالم الفقيرة ، والتي على طريق النمو .

انها ليست الحكومة الخفية للعالم ، وهي ليست هرقل القادر على حسم الأمور لاقرار الحق والعدل ، لكنها في كل الأحوال ، مجمع يمكن المظلوم من ان يتأوه فيسمعه الناس ، ويمكن المحتاج من طلب العون ، كما يمكن الأقوياء من تبرير سياساتهم ، مهما بدت قاسية أو خالية من المنطق.

عكاظ 24 سبتمبر 1998

10/09/1998

المدرسة ومكارم الاخلاق



نتحدث عادة عن دور (تربوي) للمدرسة ، إضافة إلى دورها التعليمي المعروف ، وكان قد لفت انتباهي ملاحظة لأحد المدرسين ، قال فيها ان التربية مهمة الوالدين ، أما المدرسة فمهمتها التعليم ، حيث لا يتسع الوقت لأداء المهمتين في آن واحد .

المبررات التي عرضها الاستاذ تبدو منطقية لا يصعب تفهمها وقبولها ، رغم صعوبة القبول بالمحصلة النهائية ، فهو يقول مثلا ان معظم الاساتذة يجدون المنهج الدراسي طويلا ، بالقياس إلى عدد الحصص والوقت المخصص له خلال العام ، كما ان عدد الطلبة في معظم الصفوف يتجاوز الحد المناسب ، مما يضطر المعلم إلى انفاق كامل الوقت المخصص في شرح المنهج ، سيما وانه سيكون مدار تقييم الطالب في الامتحانات الشهرية أو النهائية .
وعلى رغم منطقية التبرير ، فلا زلت مترددا في قبول محصلته ، وهو اذا صح في بعض المدارس ، فلا ينبغي ان يكون صورة عن الوضع الاعتيادي في جميعها .

ثمة مهمات تربوية لا يمكن للبيت ان يؤديها ، بل لا ينبغي التعويل عليه فيها ، الا اذا كنا واثقين من تفهم الوالدين لها ، وهو أمر لا يمكن ضمانه في اغلب الاحوال .

من ذلك مثلا اخلاقيات التعامل مع الغير ، فقد ورثنا قيما وسلوكيات تحتاج الان إلى شطب أو تحتاج إلى تهذيب ، ولا نتوقع ان يكون الآباء الذين اعتادوا على هذه القيم ، وربما آمنوا بها ، قادرين على نقضها وتعليم خلافها لابنائهم ، قيم من النوع الذي يلخصه القول المشهور (كن ذئبا والا اكلتك الذئاب) وقيم من النوع الذي يلخصه القول الآخر ( ما حك جلدك غير ظفرك) و (الذي يأخذ أمي اقول له عمي ) فهذه الامثال التي تشير الى قاعدة ثقافية لخط كامل من السلوك الاجتماعي ، انما تؤسس في الحقيقة لشخصية الانسان المتفرد ، الذي لا يؤمن بفضيلة التعاون مع الغير ولا الاندماج في الجماعة ، الا اذا ضمن عودة الفائدة عليه شخصيا ، حيث تكون مصلحته الذاتية معيار التفاضل ، دون مصلحة الجماعة التي هو عضو فيها أو جزء منها ، تلك القيم ، وان امكن رؤية وجه ايجابي لها ، الا انها تنتهي في المحصلة ، إلى تبرير الافراط في عبادة الذات ، ورؤية الاخرين باعتبارهم موضوعا للاستثمار ، لا شركاء في الكفاح من أجل ارتقاء الحياة وعمران الارض .

خلال السنوات القليلة الماضية تحدثت الصحف كثيرا عن مسألة التطرف ، وأشار بعضها إلى دور للمدرسة في بلورة أو تثبيط الاتجاه المتطرف ، ونحن نعلم ـ من قراءة تاريخنا الاجتماعي ـ ان المجتمع مؤهل لاعادة انتاج السلوكيات والافكار المتطرفة ، وان كثيرا من الآباء قد تبلورت شخصيتهم وثقافتهم  في وسط يؤمن بهذا النوع من التفكير ويمجد أصحابه ، قبل ان تظهر الثمار المرة للتطرف في السنوات الأخيرة .

 وفي حالة كهذه فاننا لا نستطيع الاعتماد على التربية المنزلية في انتاج شخصية الجيل الجديد ، الذي نتمنى ان نراه متواضعا ، متوازنا ، متعاونا ، قادرا على استقبال آراء الاخرين والتعامل معها بعقل مفتوح ، قادرا على التعامل مع الآخرين باعتبارهم أحد اثنين ـ كما يقول الامام علي بن ابي طالب ـ (اما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) . تحتاج بلادنا في مرحلتها الحاضرة وفي مستقبلها ، اشخاصا قادرين على الملاينة والتكيف ، قادرين على نسيان مسبقاتهم الذهنية والنفسية حين يعملون وحين يتعاملون .

ومن ذلك أيضا السلوكيات الفردية ، التي وان لم تتضمن إضرارا مباشرا بالغير ، الا انها تعبر عن شخصية عابثة ، لا أبالية ، لو نظرت مثلا إلى المعارك العظيمة التي يخوضها الناس في الشوارع من أجل اللحاق بالاشارة الخضراء ، أو تجاوز سيارة بطيئة ، المعارك التي تكلفنا في كل عام من الضحايا والاصابات وتلف الممتلكات ، ما يشبه نتائج الحروب ، فالواضح ان طالب المدرسة يتعلم هذه الاشياء من ابيه أو من اقرانه أو من الاخرين الذين يراهم في الشوارع ، ولعله يجد الامر ممتعا قبل ان يصبح ضحية . الذين يمارسون هذا النوع من السلوك ليسوا جميعا من الصبيان ، معظمهم من الكبار الذين لهم ابناء في المدارس .

انظر إلى مثال آخر على مستوى التهذيب الشخصي ، الاب الذي يفتح نافذة السيارة ليلقي بعلبة المرطبات ، أو بقايا المأكولات ، أو المناديل الورقية في الشارع  ، انما يعلم اولاده الجالسين معه في السيارة ، كيف يفعلون حين يصبحون كبارا ، انه لا يؤذي شخصا بعينه في هذه الحالة ، بل يؤذي مجموع الناس الذين يرغبون في رؤية بلادهم نظيفة ، وهو يزيد في أعباء المساكين ، الذين قضت عليهم اقدارهم بان يعملوا جامعين لقمامة الشوارع ، في صيف بلادنا الحارق ، الولد لا يتعلم هنا كيف يرمي الاوساخ ، بل يتعلم كيف يكون عابثا ، قليل الاهتمام بما لا يخصه مباشرة .

لننتقل إلى جانب آخر يتعلق بصورة المستقبل في عيون الطالب ، ففي السنوات الماضية اعتاد الناس على اعتبار الوظيفة الحكومية الضمان الوحيد للمستقبل ، وكانوا يعتبرون هذه الوظيفة شيئا مؤكدا اذا أنهوا دراستهم ، بغض النظر عن طبيعة الاختصاص ومستوى الاداء الدراسي ، ربما لهذا السبب لم يكن كثير من الطلبة يجهدون انفسهم في الدراسة ، ولا في اختيار التخصص المناسب ، همهم ان يتخرجوا بأسهل الطرق ، لكي يضمنوا كرسيا في دائرة وراتبا في آخر الشهر ، عن دوام لا يتجاوز الثلاثين ساعة في الاسبوع ، اذا بالغوا في الاخلاص .

لقد انقضى ذلك الزمان ، واصبح الحصول على وظيفة من هذا النوع مثل جوائز المسابقات ، لا ينالها غير المحظوظين ، اصبحنا اليوم نسمع عن مئات من الناس ، من خريجي المدارس والجامعات ، يبحثون عن وظيفة فلا يجدون ، ليس لانعدام الفرص كما أظن ، بل لقلة الكفاءة أو لصعوبة الشروط ، وهذه هي الحال الطبيعية التي كنا سنصل اليها على  أي حال ، رغم ان العادة قد جرت على اعتبار ظروف السنوات الماضية هي الحالة الطبيعية ، مع انها في حقيقة الامر حالة استثنائية محدودة بموضوعها وزمنها ، طالب اليوم بحاجة إلى تفكير جديد في مستقبله ، وبحاجة إلى مؤهلات جديدة لمواجهة تحديات هذا المستقبل . الاب الذي اعتاد على ما مضى ، لا يزال يظن بان الحصول على وظيفة حكومية ، ممكن دائما ، وان ما ينقصه هو (الواسطة) وهل يمكن ايجاد واسطة لعشرات الالاف الذين ينهون دراستهم كل عام ؟ .

ترى هل يمكن الاعتماد على الوالدين في توجيه ابنهم إلى الوجهة الاخرى ، وكيف لهما ان يعرفا طبيعة هذه الوجهة وحاجاتها ، هذه الوجهة الجديدة وليدة ظرف جديد ، لم يسبق لهما التعرف عليه ، ولا معرفة حاجاته ولا مواجهة تحدياته ، فمن أي كيس سيستخرج الاب ما يعطيه للولد ، وهل سمعتم باناء ينضح ما ليس فيه ؟ .

لكل ما سبق اعود إلى القول بأن (التربية) هي مهمة المدرسة ، فهي التي يفترض فيها العلم بالوجهة التي ينبغي ان يقاد الطالب اليها ، وهي التي ينبغي ان تعرف صورة الشخصية القويمة ، التي سيجتهد الطالب في اكتسابها ، وهي الجديرة بتوجيه الجيل الجديد إلى مكارم الاخلاق والفضائل .

قد تعيق ظروف خاصة هذه المدرسة أو تلك عن القيام بدورها التربوي ، فتنصرف إلى حشو أدمغة طلابها بالمعلومات بدل تربية نفوسهم ، لكن لا ينبغي ان تتحول هذه الحالة إلى قاعدة عامة مقبولة ، والا فاننا نغامر بأثمن ما لدينا ، اعني رأس مالنا البشري والانساني ، الذي لا قيمة لأي شيء إذا فقدناه أو فقدنا ما هو ضروري فيه .

03/09/1998

العودة الى المدرسة



 )سيكون اليوم الاول من العام الدراسي الجديد مخصصا للترحيب بالاساتذة الذين انضموا حديثا الى المدرسة ، وللتعارف بين الطلبة واساتـذتهم ، اضافة الى تعريف الطلبة الجدد بالمدرسة …(

تخيلت هذه الفقرة جزء من تعميم اصدره وزير المعارف الى مدراء المدارس في انحاء البلاد ، ليقيم بذلك سنة حسنة قوامها تحسين العـلاقة بين الطالب والمدرسة ، وبينه وبين اساتذته .
يقول لي جاري ، وهو مشرف تربوي واستاذ متمرس ، ان معظم الكتب التي عالجت قضايا التربية المدرسية ، تلح على ضرورة كسر الجاجز النفسي الذي يفصل الاستاذ عن تلاميذه ، وهو حاجز قائم بحكم فارق السن وفارق المكانة ، اضافة الى طبيعة العلاقة التي تقوم بين الطالب والمعلم منذ اليوم الاول ، وهي علاقة مضمونها الرئيسي الامر والنهي .

والمؤكد ان جميع الاساتذة ـ القدامى منهم والجدد ـ قد عرفوا هذه الحقيقة ،  خلال دراستهم أو من قراءاتهم الخارجية ، أو اكتشفوا الحاجة اليها من خلال التجربة العملية ، لكن الانسان قد ينسى أو يتناسى ، أو تشغله الأمور العاجلة الكثيرة عما يبدو قابلا للتأجيل .

في ماضي الزمان كان المعلم يدخل الى صفه ملوحا بعصا رفيعة ، يهذبها بعضهم ويتركها آخرون كما كانت في طبيعتها المتوحشة ، ويراها الطلبة فيفهمون الرسالة ، واي رسالة اسرع بلوغا من عصا في يد قادر على استعمالها ؟ لكن الامور تغيرت اليوم ، واصبح حمل العصا موجبا للعيب والاتصاف بالرجعية والتخلف ، ذلك ان أهل التربية في بلادنا قد اقتنعوا بان التربية بالعصا ، لا تخرج غير حامل عصا آخر ، فمنعوها ، واستراح ابناؤنا من منظرها المثير للرهبة ، بعد ان اكلت علقتها أنا ومن في سني مرارا وتكرارا .

رغم قلة معلوماتي فاني اجرؤ على الظن ، بأن كل طالب في  أي بلد من بلاد العالم ، يشعر بقدر من الرهبة ـ قليل أو كثير ـ سيما في الايام الاولى من العام الدراسي ، سواء كان المعلم يحمل عصا أو يحمل وردة ، وترتفع حدة الشعور بالرهبة ، لدى طلاب الابتدائية ، الذين اعتادوا على عطف الابوين ، ومحدودية العلاقات خارج البيت ، أما في مجتمعنا فاني اتوقع ان تكون الرهبة مضاعفة ، بالنظر لما يجتمع في المدرسة من صفات الاب والسلطة معا ، والشعور الغريزي لدى الطالب بانه ازاء سلطتين متداخلتين ، أو سلطة مكثفة .

شعور الرهبة لدى الطالب ، مريح لبعض الاساتذة ، فهو يوفر عليهم بعض العناء حين يحتاجون الى استجابة سريعة من جانب تلاميذهم ، ولعل هذا هو السر وراء التجهم ، والجدية المبالغ فيها ، التي يتكلفها بعض الاساتذة حين يقفون أمام طلابهم ، واذكر ان احد أساتذتي كان يدخل الى الصف كما يدخل العساكر ، يطرق الارض بحذائه الغليظ ، ويلوح يديه الى الامام والى الوراء ، بينما يهتز كرشه الممتليء كالحقيبة ، ثم يتجه الى السبورة فيواجهنا بظهره ، وبعد ان يكتب تاريخ اليوم وعنوان الدرس ، يستدير بخشونة ليشير على طالب ما ، سائلا اياه عن دفتر الواجبات ، أذكر انني وزملائي شعرنا بكثير من الخوف في البداية.

 لكننا اكتشفنا لاحقا ان الاستاذ كان في غاية اللطف مع زملائه ، وكان يجيد حبك النكتة التي لا تخطر على بال الكثيرين ، فأصبح الطلاب يتضاحكون سرا حين يدخل اليهم ، ويتبادلون النكات حول طريقته حين يخرج من عندهم ، وفي وقت لاحق ، تجرأ احدنا وسأله عن السبب في تجهمه أمامنا ، بينما يغرق في الضحك مع الاساتذة خارج الصف ، وأثار هذا السؤال ضحك الصف كله ، ورأينا الاستاذ يضحك أمامنا للمرة الاولى خلال ذلك العام ، وفيما بعد اصبح هذا الاستاذ صديقا لكل واحد من الطلاب ، الذين استشاره بعضهم في مشاكل دراسية أو أسرية ، وزرناه مرة أو مرتين في داره ، وكان قد تخلى بالطبع عن الطريقة العسكرية التي اعتاد عليها ، واصبح حضوره ودرسه من الاوقات المحببة عند طلابه .

وقبل ثلاث سنين وجدت احد ابنائي متخبطا في درس التربية الدينية ، كان حاصلا على درجة الامتياز في جميع المواد ، راسبا في التربية الدينية ، واجتهدت كثيرا في الحديث معه ، لكنه كان يلقي اللوم على معلمه ، بل كان يعتبر نفسه ناجحا لولا هذا المعلم ، فتحدثت مع المعلم ، وكان شابا حديث التخرج ، فوجدته يلقي اللوم كله على الولد ، واصفا اياه بالسفيه والمغرور ، ودلل على سفه الولد وغروره بالطريقة التي يحلق بها شعر رأسه ، وارتدائه البنطلون ، خلافا لما تقتضيه الاداب الاجتماعية ، وقد عجزت في الحقيقة عن حل المشكلة ، لكني وجدت ـ حين حضرت مجلس الاباء ـ ان معظم اولياء الامور كانوا يتحدثون عن مشكلة مماثلة ، وفي منتصف العام ، وجدت جميع طلاب الاستاذ المشار اليه راسبين ، عدا ثلاثة أو اربعة .

في نهاية المطاف جرى استبدال الاستاذ ، وتمكن الطلبة من عبور امتحانات ذلك العام بسلام ، وجدت بعد التأمل ان جوهر المشكلة كان صعوبة ـ بل استحالة ـ التفاهم بين الطرفين ، المعلم والطالب ، ولعل المعلم كان على حق ، لكن النتيجة لم تكن مشرفة على الاطلاق ، فرسوب ثلاثين طالب في صف واحد ، ليس مما يمنح المعلم فرصة للافتخار ، وظننت اذ ذاك انه كان ينبغي على المعلم الاجتهاد في ازالة الحواجز بينه وبين تلاميذه ، وان يشعرهم بحرصه على مصلحتهم ، بدل ان يضع نفسه في موضع الاتهام من جانبهم ، الاتهام بالقسوة والاتهام بالتفريط في المصلحة .

المعلم الناجح هو الذي يساعد طلابه جميعا على النجاح ، وهو الذي يزرع في انفسهم الشوق الى المدرسة ، لا الخوف منها ، الرغبة في التعلم ، لا التثاقل عنه .

من المهم ان يكون المعلم صديقا لطلابه ، من المهم ان يجتهد في اكتساب محبتهم وثقتهم ، وان يكون قريبا الى نفوسهم ، حتى يجتهدوا في اداء واجباتهم راغبين لا مرغمين .

الصداقة تبدأ بالتعارف البسيط ، والثقة تبدأ بابتسامة ولو مصطنعة ، والشعور بالرهبة يزول بعد قليل من الكلام المنطوي على مجاملة .

اتمنى ان يدعى كل معلم ، لتخصيص اليوم الاول من العام الدراسي ، لتعريف نفسه الى طلابه ، اسمه وموطنه وسنين دراسته ، وكيف قضى عطلة العام المنصرم ، ثم سؤال طلابه عن اسمائهم وأعمارهم ، وموقع كل منهم في عائلته ، والهوايات التي يمارسها ، وفريق الكرة الذي يلعب معه ، ثم يحدثهم عن اهمية المادة التي سيدرسها لهم ، والعلماء البارزين في مجالها العلمي ، وهذه كلها اشياء بسيطة ، لكنها عميقة الاثر في نفوس الطلاب ، وهي تهيء لعلاقة ناعمة سلسلة بين المعلم والطالب ، تستمر حتى نهاية العام .

قال لي صاحبي ان هذه الامور بديهية ، يعرفها كل معلم ، ويمارسها كثير من المعلمين ، لكني اعرف ان معلمين آخرين لا يحبون اضاعة الوقت في احاديث مثل هذه ، وهم من الجدية بحيث يريدون البدء بالدرس قبل انتهاء الدقيقة الاولى من الوقت المخصص ، وعلى  أي حال فاني اتمنى ان لا يكون السادة الاساتذة في حاجة الى هذا الحديث الطويل ، وكنت مهتما بالتذكير ، ولو على طريقة حامل العلم الى من هو اعلم منه .
عكاظ 3 سبتمبر 1998

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...