)سيكون اليوم الاول من
العام الدراسي الجديد مخصصا للترحيب بالاساتذة الذين انضموا حديثا الى المدرسة ،
وللتعارف بين الطلبة واساتـذتهم ، اضافة الى تعريف الطلبة الجدد بالمدرسة …(
تخيلت هذه الفقرة جزء من
تعميم اصدره وزير المعارف الى مدراء المدارس في انحاء البلاد ، ليقيم بذلك سنة
حسنة قوامها تحسين العـلاقة بين الطالب والمدرسة ، وبينه وبين اساتذته .
يقول لي جاري ، وهو مشرف
تربوي واستاذ متمرس ، ان معظم الكتب التي عالجت قضايا التربية المدرسية ، تلح على
ضرورة كسر الجاجز النفسي الذي يفصل الاستاذ عن تلاميذه ، وهو حاجز قائم بحكم فارق
السن وفارق المكانة ، اضافة الى طبيعة العلاقة التي تقوم بين الطالب والمعلم منذ
اليوم الاول ، وهي علاقة مضمونها الرئيسي الامر والنهي .
والمؤكد ان جميع الاساتذة ـ
القدامى منهم والجدد ـ قد عرفوا هذه الحقيقة ،
خلال دراستهم أو من قراءاتهم الخارجية ، أو اكتشفوا الحاجة اليها من خلال
التجربة العملية ، لكن الانسان قد ينسى أو يتناسى ، أو تشغله الأمور العاجلة
الكثيرة عما يبدو قابلا للتأجيل .
في ماضي الزمان كان المعلم
يدخل الى صفه ملوحا بعصا رفيعة ، يهذبها بعضهم ويتركها آخرون كما كانت في طبيعتها
المتوحشة ، ويراها الطلبة فيفهمون الرسالة ، واي رسالة اسرع بلوغا من عصا في يد
قادر على استعمالها ؟ لكن الامور تغيرت اليوم ، واصبح حمل العصا موجبا للعيب
والاتصاف بالرجعية والتخلف ، ذلك ان أهل التربية في بلادنا قد اقتنعوا بان التربية
بالعصا ، لا تخرج غير حامل عصا آخر ، فمنعوها ، واستراح ابناؤنا من منظرها المثير
للرهبة ، بعد ان اكلت علقتها أنا ومن في سني مرارا وتكرارا .
رغم قلة معلوماتي فاني اجرؤ
على الظن ، بأن كل طالب في أي بلد من بلاد
العالم ، يشعر بقدر من الرهبة ـ قليل أو كثير ـ سيما في الايام الاولى من العام
الدراسي ، سواء كان المعلم يحمل عصا أو يحمل وردة ، وترتفع حدة الشعور بالرهبة ،
لدى طلاب الابتدائية ، الذين اعتادوا على عطف الابوين ، ومحدودية العلاقات خارج
البيت ، أما في مجتمعنا فاني اتوقع ان تكون الرهبة مضاعفة ، بالنظر لما يجتمع في
المدرسة من صفات الاب والسلطة معا ، والشعور الغريزي لدى الطالب بانه ازاء سلطتين
متداخلتين ، أو سلطة مكثفة .
شعور الرهبة لدى الطالب ،
مريح لبعض الاساتذة ، فهو يوفر عليهم بعض العناء حين يحتاجون الى استجابة سريعة من
جانب تلاميذهم ، ولعل هذا هو السر وراء التجهم ، والجدية المبالغ فيها ، التي يتكلفها
بعض الاساتذة حين يقفون أمام طلابهم ، واذكر ان احد أساتذتي كان يدخل الى الصف كما
يدخل العساكر ، يطرق الارض بحذائه الغليظ ، ويلوح يديه الى الامام والى الوراء ،
بينما يهتز كرشه الممتليء كالحقيبة ، ثم يتجه الى السبورة فيواجهنا بظهره ، وبعد
ان يكتب تاريخ اليوم وعنوان الدرس ، يستدير بخشونة ليشير على طالب ما ، سائلا اياه
عن دفتر الواجبات ، أذكر انني وزملائي شعرنا بكثير من الخوف في البداية.
لكننا
اكتشفنا لاحقا ان الاستاذ كان في غاية اللطف مع زملائه ، وكان يجيد حبك النكتة
التي لا تخطر على بال الكثيرين ، فأصبح الطلاب يتضاحكون سرا حين يدخل اليهم ،
ويتبادلون النكات حول طريقته حين يخرج من عندهم ، وفي وقت لاحق ، تجرأ احدنا وسأله
عن السبب في تجهمه أمامنا ، بينما يغرق في الضحك مع الاساتذة خارج الصف ، وأثار
هذا السؤال ضحك الصف كله ، ورأينا الاستاذ يضحك أمامنا للمرة الاولى خلال ذلك
العام ، وفيما بعد اصبح هذا الاستاذ صديقا لكل واحد من الطلاب ، الذين استشاره
بعضهم في مشاكل دراسية أو أسرية ، وزرناه مرة أو مرتين في داره ، وكان قد تخلى
بالطبع عن الطريقة العسكرية التي اعتاد عليها ، واصبح حضوره ودرسه من الاوقات
المحببة عند طلابه
.
وقبل ثلاث سنين وجدت احد
ابنائي متخبطا في درس التربية الدينية ، كان حاصلا على درجة الامتياز في جميع
المواد ، راسبا في التربية الدينية ، واجتهدت كثيرا في الحديث معه ، لكنه كان يلقي
اللوم على معلمه ، بل كان يعتبر نفسه ناجحا لولا هذا المعلم ، فتحدثت مع المعلم ،
وكان شابا حديث التخرج ، فوجدته يلقي اللوم كله على الولد ، واصفا اياه بالسفيه
والمغرور ، ودلل على سفه الولد وغروره بالطريقة التي يحلق بها شعر رأسه ، وارتدائه
البنطلون ، خلافا لما تقتضيه الاداب الاجتماعية ، وقد عجزت في الحقيقة عن حل
المشكلة ، لكني وجدت ـ حين حضرت مجلس الاباء ـ ان معظم اولياء الامور كانوا
يتحدثون عن مشكلة مماثلة ، وفي منتصف العام ، وجدت جميع طلاب الاستاذ المشار اليه
راسبين ، عدا ثلاثة أو اربعة .
في نهاية المطاف جرى استبدال الاستاذ ، وتمكن
الطلبة من عبور امتحانات ذلك العام بسلام ، وجدت بعد التأمل ان جوهر المشكلة كان
صعوبة ـ بل استحالة ـ التفاهم بين الطرفين ، المعلم والطالب ، ولعل المعلم كان على
حق ، لكن النتيجة لم تكن مشرفة على الاطلاق ، فرسوب ثلاثين طالب في صف واحد ، ليس
مما يمنح المعلم فرصة للافتخار ، وظننت اذ ذاك انه كان ينبغي على المعلم الاجتهاد
في ازالة الحواجز بينه وبين تلاميذه ، وان يشعرهم بحرصه على مصلحتهم ، بدل ان يضع
نفسه في موضع الاتهام من جانبهم ، الاتهام بالقسوة والاتهام بالتفريط في المصلحة .
المعلم الناجح هو الذي يساعد
طلابه جميعا على النجاح ، وهو الذي يزرع في انفسهم الشوق الى المدرسة ، لا الخوف
منها ، الرغبة في التعلم ، لا التثاقل عنه .
من المهم ان يكون المعلم
صديقا لطلابه ، من المهم ان يجتهد في اكتساب محبتهم وثقتهم ، وان يكون قريبا الى
نفوسهم ، حتى يجتهدوا في اداء واجباتهم راغبين لا مرغمين .
الصداقة تبدأ بالتعارف
البسيط ، والثقة تبدأ بابتسامة ولو مصطنعة ، والشعور بالرهبة يزول بعد قليل من
الكلام المنطوي على مجاملة .
اتمنى ان يدعى كل معلم ،
لتخصيص اليوم الاول من العام الدراسي ، لتعريف نفسه الى طلابه ، اسمه وموطنه وسنين
دراسته ، وكيف قضى عطلة العام المنصرم ، ثم سؤال طلابه عن اسمائهم وأعمارهم ،
وموقع كل منهم في عائلته ، والهوايات التي يمارسها ، وفريق الكرة الذي يلعب معه ،
ثم يحدثهم عن اهمية المادة التي سيدرسها لهم ، والعلماء البارزين في مجالها العلمي
، وهذه كلها اشياء بسيطة ، لكنها عميقة الاثر في نفوس الطلاب ، وهي تهيء لعلاقة ناعمة
سلسلة بين المعلم والطالب ، تستمر حتى نهاية العام .
قال لي صاحبي ان هذه الامور
بديهية ، يعرفها كل معلم ، ويمارسها كثير من المعلمين ، لكني اعرف ان معلمين آخرين
لا يحبون اضاعة الوقت في احاديث مثل هذه ، وهم من الجدية بحيث يريدون البدء بالدرس
قبل انتهاء الدقيقة الاولى من الوقت المخصص ، وعلى أي حال فاني اتمنى ان لا يكون السادة الاساتذة
في حاجة الى هذا الحديث الطويل ، وكنت مهتما بالتذكير ، ولو على طريقة حامل العلم
الى من هو اعلم منه
.
عكاظ 3 سبتمبر 1998
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق