17/11/1996

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة


حتى اواخر السبعينات كان الكتاب الاسلاميون يشككون في مشروعية مشاركة الشعب في السياسة ، وكانوا يتساءلون عن امكانية تحكيم (العامة) الجاهلة او التي لا تعرف الشريعة ، في امر الدولة التي تسيرها الشريعة السماوية ، وكيف يستطيع (العامي) ان يختار الامام الصالح ، وكيف يمكن السماح لهذا العامي بالتصويت (مع او ضد ) سياسة او قانون يفترض انه مطابق لاحكام الله ؟ .

ويبدو لي ان اشكالية تدخل العامة في السياسة ، لم تنشأ كنتيجة لافتراض (سماوية) النظام السياسي وسياساته ، وان كان هذا الافتراض قد ساعد ـ لاحقا ـ على تبرير وجودها  ، ان منشأ الاشكالية يرجع في تقديري الى غياب أي تصور ايجابي عن دور (الجمهور) في التراث التاريخي الاسلامي ، التراث الذي هو بالدرجة الاولى نتيجة للتجربة السياسية ، اكثر مما هو تجسيد للنظرية في تجريدها الاولي ، ولان الامر كذلك ، ولان التراث الاسلامي يشكل الخلفية الثقافية لكل المسلمين المعاصرين ، فان الحركة الاسلامية لم تنفرد في تغييب فكرة المشاركة الشعبية ، انه غياب مشهود عند كل التيارات الاجتماعية العاملة في ميدان السياسة العربية .


لقد ركزت تعاليم الاسلام الاولى (كما تظهر في الكتاب والسنة ) على انصاف الضعفاء (وهم عامة الناس يومئذ)  وحق الجمهور ، ومسؤولية كل فرد منهم عن امته ، وقيام الدين على اكتافهم ، ورجوع الامر العام اليهم ، يقول علي بن ابي طالب في وصيته لاحد ولاته (انما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للاعداء العامة من الامة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم - نهج البلاغة 624)  الا ان الممارسة الفعلية للسياسة لا سيما منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة ، ادت الى احياء القيم الاجتماعية القديمة التي كانت تفصل بين عامة الناس وخاصتهم ، وتركز على التفاضل الطبيعي في المكانة والدور بين الخاصة والعامة ، بكلمة اخرى فان التراتب الاجتماعي القديم قد اعاد بعث نفسه في اطار السياسة الاسلامية ، بينما توارى الى حد بعيد منهج التفاضل الديني الذي يعتمد القيمة الذاتية للشخص ، المتاتية عن علمه اوكفاءته او سبق خدمته ، بغض النظر عن انتمائه القبلي او العرقي .

وقد جرى تنظير هذه الممارسة فاصبحت معلما من معالم التفكير الاسلامي ، يقول د. حسن الترابي في هذا الصدد (كان الائمة الاوائل يذكرون في كتبهم ان هذا الراي هو ما راينا عليه الجماعة ، فكان تعبيرا عن الراي العام ، ثم اصبح الراي للشيوخ وحدهم ، وهذا يعني ان اصل الفقه قد تبدل تماما) ولو نظرت في كتابات قدامى الفقهاء الذين تعرضوا للشأن السياسي ، لوجدتهم ينظرون الى الدولة باعتبارها ملخصة في الوالي ، وهم مع دعوتهم الولاة الى الانصاف والرحمة بعامة الناس ، اغفلوا الحديث عن موقع الجمهور في النظام السياسي ، بل ان كثيرا منهم انكر حق العامة في التعبير عن خياراتهم اذا خالفت الخيارات الرسمية ، خوفا من الفتنة ، او اختلال نظام الامة (انظر على سبيل المثال قاطعة اللجاج للكركي ، عوائد الايام للنراقي ، الاحكام السلطانية للماوردي ، السياسة الشرعية لابن تيمية) .

وقد بقي اشكال التفاضل الطبيعي سائدا حتى في وسط الحركات النهضوية المعاصرة ، وفي اوائل القرن العشرين ، كان الشيخ محمد عبده يرى ان الخطوة الاولى لاخراج الامة الاسلامية من مأزقها ، هي اقامة مدرسة لتخريج نخبة جديدة (اي خاصة بديلة) تقود المجتمعات الاسلامية ، ولا يزال كثير من المثقفين يتحدث عن المستبد العادل باعتباره خيارا مثاليا ،  كما نستطيع ملاحظة ان التاريخ المسجل عن المحاولات الاصلاحية ، ومحاولات النهوض التحرري في العالم الاسلامي ، لا تتحدث عن دور لعامة الناس خارج الدور الاساسي والمطلق للخاصة .

 ويظهر انعكاس هذا التفكير حتى اواسط القرن العشرين ، حينما تحدثت فصائل حركة التحرر العربية عن تحرير الاوطان واستنقاذ حقوق الشعب ، ودعت الى الاطاحة بالطبقات المتنفذة (الخاصة) فانها توجهت في وقت لاحق الى ممارسة لا تختلف كثيرا عن تلك التي ورثناها عن التجربة القديمة ، فالذي جرى بالفعل هو تاسيس نخبة (خاصة) جديدة بدلا عن النخبة القديمة ، بينما لم يحصل الجمهور (باعتباره عامة) على أي من الحقوق المقررة له ، او المزعوم السعي لاعادتها اليه .
العام ، تابعا للسياسة اليومية للدولة متاثرا بما يقوله اهل الخاصة  الجدد ، او سلبيا قانعا بحياة هي الى قتل الوقت اقرب منها الى استثماره ، ان التجربة الناصرية التي لعب الشعب خلالها دورا بارزا في الدفاع عن سياسات الدولة ، لم تؤد الى اعادة تنظيم الحياة السياسية بحيث يصبح المجتمع سيدا للدولة ، وقبلها تجربة الثورة الجزائرية ، ومثلهما جميع تجارب النهوض التي جرت في اكثر من قطر عربي او مسلم .

وتظهر هذه التجارب جميعا ان دور العامة في الحياة السياسية ، ليس من الافكار التي تتمتع بامتداد تاريخي في ثقافة المسلمين ، ان وجود هذه الفكرة وممارستها الراهنة ، انما هي احد وجوه التاثير الثقافي للغرب على العالم الاسلامي ، فنحن قد استوردناها كما استوردنا الكثير من عناصر التفكير ، وعناوين الممارسة السياسية والاجتماعية التي نتداولها اليوم او ندعو اليها ، ولانها كذلك فسوف تبقى مورد جدل بين اصحاب الفكر والسياسيين ، لفترة طويلة ، حتى تعثر على اطار نظري يعيد تشكيلها ضمن النسيج الثقافي الاسلامي ، ولانها كذلك ايضا ، فان رفعها كشعار في ميدان السياسة لا يعني ـ بالضرورة ـ انها ستوضع قيد التطبيق من جانب الدعاة اليها ، حينما يصبح بيدهم الامر والنهي والحول والطول ، انهم قد لا يرون الجمهور ـ بالنظر الى الخلفية الثقافية التي سبق ذكرها ـ الا تابعا او مؤيدا متأثرا ، لا سيدا للسياسة وصاحب قرار قادر على المحاسبة والنقد والترجيح ، كما هو مفترض اذا اخذنا بعين الاعتبار  جوهر فكرة المشاركة السياسية .

لكي تتحقق المشاركة الشعبية في السياسة فلا بد من مقدمات ، اهمها العلنية وحرية الوصول الى المعلومات ، وحرية التعبير ، واعتبار الحزب السياسي ، سواء كان في المعارضة او السلطة ،  مسؤولا امام جمهوره ، وتقرير ارجحية الشعب كمجموع على الدولة او الحزب ، وهذا ما يتعارض مع التقليد المتفق عليه في جميع المجتمعات المسلمة ، والقاضي باعتبار السياسة كنزا للاسرار ، واعتبار التعبير الحر عن الراي ذريعة للفتنة .

وبالنسبة للحركة الاسلامية الحديثة ، فقد كان يبدو ان الجميع متفق ـ تصريحا او تلويحا ـ على الافتراضات السابقة ونتائجها ، ما يتعلق منها خصوصا بعدم امكانية وضع الجمهور العام ، في موضع الحكم على الاشخاص المرشحين للولاية ، والمناهج المقترحة لقيادة الحياة السياسية ، لكن الامر لم يكن موضع جدل ، حتى منتصف السبعينات على الاقل ، بالنظر الى عدم وجود مصاديق للموضوع ، اما في السنوات اللاحقة ، ولا سيما منذ اوائل الثمانينات ، فقد اصبح الامر موضوعا لجدل حقيقي ، بعد ان ظهر لكثير من الاسلاميين ان بامكانهم الاعتماد على الجمهور (العامي) في رفع كلمة الاسلام ، واقامة دولته المنشودة ، وظهر ان تعبئة الجمهور هي الخيار الوحيد ـ في معظم الاحوال ـ المتاح لهؤلاء السياسيين الطامحين الى الفوز في ميدان السياسة ، ويبدو ان الجدل قد حسم عند الجميع لصالح فكرة الاعتماد على القوة الشعبية ، كبديل عن القوى الاخرى التي احتكرها المنافسون ، مثل قوة الاعلام والتنظيم فضلا عن القوى التي يتيحها امتلاك الدولة .

لكن الامر الذي لم يحسم هو المكانة الحقيقية لهذا الجمهور في المعادلة السياسية ، فهل سيقتصر دوره على تقديم التضحيات من اجل انتصار الحزب الذي يرفع الشعار الديني ، ام سيكون هذا الانتصار اشارة الانطلاق نحو المرحلة الاهم والاكثر جذرية ، في السباق من اجل تجديد الحياة السياسية ، المرحلة التي عنوانها استعادة المجتمع لمكانته الطبيعية كسيد للدولة ، بعد ان بقي طوال قرون تابعا لها في احسن الاحوال ، واسيرا في معظم الاحوال .

الشورى والديمقراطية

وفي ايامنا هذه ، تثار قضية المشاركة الشعبية في وسط الحركة الاسلامية ، تحت عنوان الشورى والديمقراطية ، لقد اصبح من المعتاد مشاهدة فريق من الاسلاميين المعاصرين ، من اصحاب الاتجاه التجديدي خصوصا ، يتحدثون عن الديمقراطية باعتبارها الصيغة العصرية لفكرة الشورى التي وردت تكرارا في المصادر الاسلامية ، والتي ينظر اليها كأساس للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين في النظام السياسي الاسلامي .

وعلى الطرف الاخر تجد اسلاميين يتحدثون عن الديمقراطية باعتبارها ضربا من الكفر ، بحجة انها فكرة مستوردة ، وان الدعوة اليها تنطوي على تهوين من قدرة الاسلام على ابداع ادوات عمله الخاصة ، اذ ان الاعتقاد ـ يقول بعض اصحاب هذا الراي ـ بان ما في غير الاسلام من الافكار ، هو افضل مما في الاسلام او ان في الاخذ به غنى عما في الاسلام ، هو جحود لعلو التشريع الاسلامي ومطلقية الحق فيه .

لقد وصلنا بالنقاش حول العنوان الى حد التكفير او التبديع ، وما سياتي بعد تجاوز العناوين الى الموضوع ذاته ، سيكون بلا شك ادهى وامر . واذا اردنا الاخذ بصيغة الشورى كما وردت في الادبيات الاسلامية القديمة ، فلا ريب ان الديمقراطية بصورتها الراهنة شيء آخر مختلف ،  لا علاقة له بالشورى التي عرفناها في تاريخنا ، انها بكلمة اخرى نظام قائم بذاته ، كما ان الشورى نظام او جزء من نظام قائم بذاته ، واذا كنا سنقول ان الديمقراطية هي الصيغة المعاصرة للشورى الاسلامية ، فلنقل من باب اولى ان  الصيغ الموروثة من الشورى القديمة ، ليست صالحة للتطبيق في هذا العصر ، وان الاخذ بالنظام الديمقراطي ، ياتي من باب حق المسلمين في الاخذ من اسباب الحياة بما يرونه صلاحا لحالهم ، وهذا حق ثابت لهم في الشريعة ، فلا صلاح للاسلام اذا لم يصلح حال ابنائه ، ولا صلاح لحال المسلمين مالم ينظروا في ادوائهم ويتفقوا على سبيل العلاج . اردنا القول بان المماهاة بين الشورى والديمقراطية لا يخلو من الافتعال والتكلف ، وانه اذا ثبت كون الديمقراطية صحيحة كنظام سياسي ، فليس لانها صورة عن نظام الشورى القديم ، بل لاسباب اخرى .

هذه ناحية اما الناحية الثانية فانه من الصعب البرهنة على ان الصيغة القديمة لنظام الشورى ، كما طبقت في عصور السلف المتقدمين ، هي النظام الذي اراده الاسلام لسياسة البلاد ، في كل الازمنة والامكنة ، وعند التطبيق قد لا تختلف هذه الصيغة النظرية ، عن الصورة التي يمارسها الحكام الجبريون ، لا سيما اهل الاستبداد منهم في سياسة الدولة ، لقد كانت صورة الشورى التي طبقت في تلك العصور ـ على ما يؤخذ عليها ـ الحد الممكن مع ظروف الانقطاع الجغرافي بين العاصمة والاطراف ، وعدم القدرة على تدوير المعلومات بالسرعة المناسبة بين المركز وخارجه ، بل بين عدد كبير من الناس في المركز نفسه ، ان المعلومات هي القاعدة الاساس في صناعة القرار والمشاركة فيه ، ضمن دائرة اوسع نطاقا من العدد المحدود من الخاصة القريبين او المقربين من دائرة القرار ، الذين يمكن تشبيههم اليوم بالنخبة السياسية ، ان ظرف الانقطاع هذا لم يعد له وجود في عالم اليوم ، مع تحول الكرة الارضية الى قرية صغيرة ، تنتشر فيها المعلومات بسرعة كافية لتمكين ابعد الناس عن المركز ، من المشاركة الفاعلة في صناعة الموقف من قضية معينة ، كما لو كان حاضرا في مكان اتخاذ القرار .

لقد اوردنا هذه الاشكالات لكشف حقيقة ان هناك حاجة الى تحديد الموقف الاسلامي من القضايا الراهنة ، لا سيما القضية الاكبر والاخطر وهي قضية السلطة ، ان العرض السابق يكشف ايضا عن الحاجة لتفكير جديد غير متقيد بالعناوين ، وغير خاضع لجبر التاريخ .

ان الاسماء كما هو متفق عليه جسور الى المعاني ، فلايصح اتخاذها بديلا عن مضامينها ، ان تقرير النموذج الاسلامي في السياسة ، هو اليوم اشد ضرورة من أي وقت سابق ، بالنظر الى ان العالم الاسلامي يتعرض مثل غيره من العوالم لتيارات التجديد في السياسة ، وهي في المجمل متجهة نحو اقرار النموذج الغربي الذي ينطوي تحت عنوان الديمقراطية ، واظن ان تحديد بديلنا ، اجدى من اثبات شوروية الديمقراطية او ضرورة الشورى ، او المحافظة على الاسم حتى ، قد نذهب بعيدا في الجدل حول مضامين التاريخ ، بما يجعلنا نغفل عن متطلبات الحاضر ، فلا نصحو الا وقد اصبحنا واسلامنا خارج التاريخ .
مقالات ذات علاقة


10/11/1996

الديمقراطية والاسلام السياسي


بالنسبة للعديد من الناس ولاسيما الفاعليات السياسية الوطنية في بلداننا ، فان السؤال الذي لا يزال مطروحا وبالحاح ، هو حقيقة ايمان الحركات الاسلامية بالتداول السلمي للسلطة مع القوى الاخرى المنافسة ،  في اطار  نظام ديمقراطي مبني على القبول بالتعددية السياسية والثقافية ، فهل يقبل الاسلاميون بالالتزام المستمر بنظام كهذا ، ام ان القبول بالديمقراطية وشعاراتها مجرد طريق يسلكونه لنيل الغلبة والسلطان ، ثم هل تحقق الشورى التي يدعو لها بعضهم ، الحد الادنى من متطلبات وفضائل الديمقراطية ، ونعني بها حرية الراي والتعبير والتعددية في اطار المجتمع الواحد ؟ بل هل ثمة ضمان لان يحفظ الاسلاميون اذا امسكوا بزمام الامور ، الحد الادنى من الفرص التي تحققت لعامة الناس في ظل النخب القائمة على قواعد فكرية اخرى غير اسلامية ، والتي سبق ان جاءت الى الحكم عن طريق الوراثة او الانقلاب العسكري ، بل حتى تلك التي تعتبر وريثة للعهد الاستعماري ؟ .
تتردد هذه الاسئلة ، كصيغة اتهام من جانب المخالفين للمشروع السياسي الاسلامي ، بهدف التشكيك في صدقية دعاوى الاسلاميين ، باستعدادهم للدخول في حلبة المنافسة السلمية على الحكم جنبا الى جنب مع الاخرين . لكن بعض الاسلاميين المستقلين قد انضموا في السنوات الاخيرة الى قائمة المتسائلين ، فتجربة الحكم الاسلامي في ايران والسودان ، وتجربة العمل السياسي للاسلاميين الذين شاركوا في السلطة في بلدان اخرى ـ اليمن مثلا ـ وتجربة الاسلاميين الذين حصلوا على قدر من القوة المادية ـ الجزائر وافغانستان مثلا ـ هذه التجارب كلها تثير القلق ، ليس في نفوس المعارضين للتيار الاسلامي ، بل في نفوس بعض الاسلاميين ، الذين يخشون ان يكون قبض زملائهم على ازمة الامور ، مدخلا لاستشراء القمع وانتهاك حريات الافراد تحت هذا العنوان او ذاك ، ومما يزيد القلق ان ممارسة القمع باسم الاسلام لاتنتهي نتائجها عند حدود الاضرار المادية ، بل تتواصل الى تصفية الشخصية المعنوية للضحايا ، باعتبارهم معاندين للاسلام او مرتدين ، وما سوى هذا من الاوصاف .

وكان هذا الجدل زادا للكثير من الكتاب والمحللين ، من مخالفي المشروع الاسلامي ، حتى حينما دخل الاسلاميون الجزائريون حلبة المنافسة الانتخابية ، وحينما اجهض العسكر الديمقراطية الوليدة ، فقد كان المبرر الوحيد الذي دافعوا به عن انقلابهم هو عدم صدقية دعاوى جبهة الانقاذ ، في استعدادها لاحترام اللعبة الديمقراطية ، وقد وجدوا في خطابات علي بلحاج ، الرجل الثاني في الجبهة الذي وعد بالغاء الدستور وتطهير الحياة السياسية ممن اسماهم ببقايا الاستعمار الفرنسي اذا فازت الجبهة ، خير مبرر لقرارهم بالغاء الديمقراطية الوليدة . وتجد مثل هذا المبرر يتكرر في كل دولة يتمتع فيها الاسلام السياسي بوجود حركي فاعل .

على ان الشك في جدية ايمان الاسلاميين بالديمقراطية ، لا ينبغي ان يعالج من منظور واحد فقط هو تشكيك المعادين ، الجوهري في تقديرنا هو الاجابة على السؤال ، ان التنظير الفكري ، كما الممارسة السياسية للاسلاميين لا تعطي دليلا مؤكدا عن توافقهم على ممارسة السلطة بالصورة التي يتطلبها النظام الديمقراطي ، وفي الوقت ذاته فان التنظير المضاد او بعض الممارسات ، لا تستطيع الوقوف دليلا على نفى ايمانهم بالديمقراطية سبيلا للحياة والعمل السياسي ، فما دمنا نتحدث عن جماعات اسلامية في بلدان متعددة ، فاننا نتحدث في الحقيقة عن ظروف مختلفة واجتهادات مختلفة ، وبصورة خاصة عن خلفيات اجتماعية مختلفة ، ان الممارسة السياسية اكثر تأثرا بمعطيات المجتمع وثقافته الخاصة منها بدلالة النظرية ، ان الاشتراك في تبني الاسلام كقاعدة للعمل السياسي من جانب عدد من الجماعات ، ليس دليلا على وحدة المشروع او تطابقه ، اننا في الحقيقة بصدد مشروعات مختلفة تقوم على قاعدة تتحمل التباين تبعا للاختلاف في الاجتهاد والاختلاف في المعطيات الموضوعية .

وعليه فان من الصعب جدا قبول الاحكام المطلقة والتعميمية حول الايمان بالديمقراطية او نفيها ، مما يطلقه مؤيدو الفكرة او معارضوها ، فليس من المقبول ـ منطقيا ـ وضع قاعدة نظرية عامة للحكم على ايديولوجيا ينتمي اليها الملايين من الناس ، اعتمادا على قراءة فكرة  او متابعة تجربة حزب محدد او عدد من الاحزاب ، لان هذا المنهج ـ لو قبلنا به ـ قابل لان ينسحب على جميع التيارات الاخرى ، ستجد ماركسيين يمارسون الديمقراطية ويتبنونها عقيدة سياسية ، كما فعلت الجبهة الساندينية التي وصلت الى الحكم في نيكاراغوا عن طريق الثورة الشعبية المسلحة ، ثم تخلت عن السلطة بعد ان فشلت في الانتخابات العامة ، فأقامت بايثارها مصلحة البلاد واحترامها للقانون نموذجا مشرفا ، يحسب لها اليوم وفي المستقبل ، بينما لا يزال اشقاؤها الماركسيون في كوبا المجاورة يحكمون شعبهم منذ اربعين عاما بالحديد والنار ، وتجد الى صف هذا وذاك موالين للغرب الليبرالي يطيحون بالديمقراطيات في عديد من دول العالم ، ويحصلون على دعم الدول الغربية التي تنصب نفسها اليوم مثالا للديمقراطية ومدافعا عنها ، كما هو الحال في الجزائر وتونس ، وتجد في نفس السياق اسلاميين على هذا الخط والخط المقابل ، ولكل نموذج اشباه في اكثر من بلد على امتداد المعمورة ، فهل يصح الاستدلال باي من هذا التجارب ، او المبررات النظرية التي تطرحها الجماعات السياسية في كل قطر ، لوضع احكام مطلقة عن ديمقراطية الماركسية او دكتاتورية الليبرالية ، او العكس .
الذي اردنا قوله هو ان الاسلام السياسي كتيار واسع في العالم الاسلامي ، هو مجرد تيار في الحياة الاجتماعية ، يتاثر تقويمه لنمط العمل السياسي الذي يراه مناسبا لكل بلد بظروف ذلك البلد ، وبالمؤثرات الخاصة التي تشكل التكوين الثقافي والاجتماعي لاصحابه ، ومثل هذه المؤثرات تكون في العادة مرتبطة بالتاريخ الاجتماعي او السياسي لبلد معين ، بكلمة اخرى فانه يمكن التأكد من ايمان  جماعة معينة بنمط معين في العمل السياسي ، انطلاقا من تصورنا لعنصرين اساسيين ، يمكن اعتبارهما ابرز اركان الحياة السياسية في كل بلد :

الاول : التجربة التاريخية لهذا البلد ، ما يتعلق منها بالسياسة خصوصا ، ثم موقع الجماعة التي تتعرض للتقييم من هذه التجربة ، فثمة بلدان لا يتصور قيام الحكم الدكتاتوري فيها حتى لو حصل فريق على القوة المادية التي تمكنه من التسلط ، كما رأينا في التجربة اللبنانية المعاصرة ، وثمة بلدان على الخط المعاكس ، لا يتصور قيام نظام ديمقراطي مفتوح فيها ، لان تجربتها محدودة في اطار نظام التغلب او الاستبداد الفردي ، او ان ثقافتها لا تحتمل قيام مؤسسات النظام الديمقراطي بدورها الكامل ، فحتى لو اعلنت الديمقراطية كنظام فان مؤسسات النظام التقليدي هي التي ستبقى فاعلة وذات تاثير ، ان نتاج التجربة التاريخية اكثر اهمية وتاثيرا من المتبنيات النظرية غير المؤسسة تاريخيا ، وهذا ينعكس على كل الجماعات السياسية التي تعمل في وسط البلد المعني ،  بدون اي فروق حقيقية بين الاسلامي واليساري والليبرالي .

الثاني : العلاقة السابقة بين المجتمع والدولة ، فكلما كان المجتمع مستغنيا عن الدولة ، قادرا على حل مشكلاته بنفسه ، كانت الديمقراطية اقرب منالا واقوى في الصمود امام المطامح الفردية لمن يملكون القوة والنفوذ ، اما اذا كان المجتمع معتمدا بكله على الدولة ، فان التوازن سيكون راجحا لمصلحة القابضين على ازمتها ، وسيكون في وسعهم الانقلاب على الشعب في اي وقت شاؤوا ، يقول علي بن ابي طالب (احسن الى من شئت تكن اميره ، واحتج الى من شئت تكن اسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره) وهنا ايضا لاتجد فروقا حقيقية بين تيار اجتماعي وآخر ، او بين اصحاب نظرية واخرى ، فالانسان ـ حين يملك القوة المطلقة ـ هو الانسان ، ومن ملك استأثر .
واذا نظرت الى اي بلد عربي فستجد خريطة القوى السياسية متشابهة الى حد كبير ، ففي جبهة الديمقراطيين ستجد تمثيلا لجميع التيارات الفكرية ، وستجد نظائرها ايضا في الجبهة المعادية للديمقراطية .

 لكن تجربة التاريخ القريب تعطي ادلة قوية على ان الاسلاميين الذين نادرا ما اتيحت لهم فرصة السلطة منفردين او مشاركين ، لم يكونوا اسوأ من غيرهم في ممارسة السلطة ، واذا اضفنا الى هذا الامر جانب الطهارة السياسية فان نظافة الكف والتعفف عن استغلال النفوذ في الاثراء وسرقة الأموال العامة ، كان اظهر في وسط الاسلاميين ، بينما توجد فضائح بلا حدود في الجماعات السياسية الاخرى ، واذا نظرنا في محاولات الاسلاميين الوصول الى السلطة فان تجاربهم لم تكن شذوذا عن الاعراف المتبعة في العالم الثالث ، فقد استخدموا الجيش مثل غيرهم ، واستخدموا صناديق الاقتراع كما فعل منافسوهم ، ولعلهم تميزوا عن اولئك المنافسين بصدقية تمثيلهم للطبقات الاجتماعية الجديدة ، لا سيما في المدن الرئيسية التي لا يتاثر سكانها بالعلاقات الطائفية او العائلية عند اختيار ممثليهم السياسيين ، ان هذه الطبقات هي الاشد رغبة في التغيير وهي الاكثر تضررا من بقاء النظام السياسي التقليدي ، ولذلك فان القوة السياسية التي تمثلها هي الاكثر التزاما بقضايا المستقبل  .

وخلاصة ما اردنا الوصول اليه هو ان الممارسة السياسية لا تعبر عن الايديولوجيا ، الا بقدر ضئيل يصعب الاستدلال به في الحكم على هذه الايديولوجيا ، وبالنسبة للاسلاميين فان الحكم عليهم بالعجز عن الانخراط في الحياة السياسية بصورة سلمية وديمقراطية ، قابل لان ينسحب على كل فريق آخر اذا كان الاستدلال قائما على تجربة هنا وخطاب هناك ، او شعار يرفعه زيد وبيان يوقعه عمرو ، ففي كل تيار سياسي وفي كل مدرسة فكرية ثمة انواع من الناس والتوجهات تنتمي لبيئتها وتتاثر في سلوكها السياسي بمعطياتها ، ويصعب في الحقيقة النظر الى الحركة الاسلامية كفريق واحد مع الاختلاف المشهود في الاجتهادات والمصادر الثقافية ومعطيات البيئة الاجتماعية لكل منها .

26/10/1996

(4) من الحلم الى السياسة



قد يكون التركيز في الدعاية السياسية على الشعار العام دون برامج العمل ، مدخلا الى تزييف او تحريف الوعي الشعبي ، ذلك ان الشعار يختصر اجمل ما يتمناه الناس ، فينصب تركيزهم العاطفي على اللغة متأثرين بجماليات الاسلوب ، بدلا من التأمل في الفجوة العريضة التي تفصل الشعار عن تجسيداته الواقعية .

تهدف الدعاية السياسية ـ كما هو متفق عليه ـ الى اقناع الجمهور بتسليم قياده الى شخص معين او جماعة سياسية معينة ، أي التخلي عن بعض ارادته وتكثيفها في اراداة الداعي ، باعتباره ممثلا للجمهور او نائبا عنه ، ومن المفترض ان يكون الداعي مخلصا في وعوده بتحقيق الاماني التي تعبر عنها شعاراته ، لكن الاخلاص وحده لايكفي ، ان الاخلاص لايزيد عن كونه نية ، يلزمه بعدها توفير الامكانات اللازمة لانزال الاماني من عالمها المثالي المجرد الى ارض الواقع ، فينبغي ان يكون الظرف ملائما ، وينبغي ان يتمتع الداعي بالامكانات المادية والعلمية ، هذا على افتـراض كونه مؤهلا ـ من الناحية الذاتية والاجتماعية ـ للقيام بهذه المهمة .

واذا نجحت الجماعة السياسية في عرض برنامج عمل تفصيلي ، بدلا من التركيز على الشعارات والامينات ، فانها ستحقق مكسبا عظيما لنفسها وللايديولوجيا التي تنطلق منها ، مكسب يتجلى في تحقيق الربط الضروري بين المباديء النظرية والمصالح الواقعية ، بين طموحات الناس وآمالهم وبين ممارستهم الحياتية العادية ، وعندها فان الذين ايدوها سيكونون اكثر من اتباع تحركهم العاطفة ويجرون وراء الامل ، سيصبحون شركاء يتحركون عن وعي بما يستهدفون ، ومتضامنين في ايمان ومعرفة بالطريق الذي يسلكون ، سوف تستفيد الجماعة من هذا الوعي الذي اوجدته ، في تثبيت نفسها كجزء من ثقافة المجتمع وتاريخه ، لا كنقطة ضوء عابرة في مرحلة من مراحل التاريخ.

ونلاحظ من خلال استقراء التجربة العربية المعاصرة ، ان بعض الجماعات السياسية قد تحولت من صورتها الاولية كتعبير عن تيار اجتماعي محدد ، الى زعامة تقليدية تمثل المجتمع كله او اكثريته ، كما هو الشأن بالنسبة لحركة فتح الفلسطينية ، التي نجحت رغم كثرة الانشقاقات التي اصابتها ، في تحويل نفسها من حزب اعتيادي الى قاطرة للحياة السياسية الفلسطينية ، ذلك لانها نجحت ـ مع كل ما يقال عنها من مؤاخذات ـ في الربط بين الامال التي تراود نفوس جمهورها ، بعض الامال على الاقل ، وبين سياساتها اليومية ، وبالتالي علاقاتها اليومية مع الجمهور .

تسييس الجمهور

ينبغي لكل جماعة سياسية ان تضع تعميم الوعي في اعلى سلم اولوياتها ، تعميم الوعي يعني بصورة محددة تسييس عامة الناس ، جمهورها الخاص على اقل التقادير ، وتحريرهم من الارتباط العاطفي بالحلم المجرد ، الى تفهم ودعم السياسات العملية التي تستهدف تحقيق ما يمكن تحقيقه من الاحلام ، ثم توسيع نطاق اهتمامهم من الحاجات الشخصية ، او المتعلقة بعدد محدد من الناس ، الى الحاجات العامة التي تتعلق بجميع المواطنين ، واخيرا مساعدتهم على اكتساب القدرة النظرية على تحديد ما يريدون وما لا يريدون ، ما هو حاجة حقيقية يكافحون لاجلها ، وما هو مجرد حلم ، يغرقون في بحوره الرومانسية اثقال همومهم .

بالنسبة للحركة الاسلامية فان هذا الموضوع يتمتع باهمية مضاعفة ، ذلك ان الانحدار الذي منيت به الثقافة الاسلامية في العصور السابقة ، قد اثمر انفصالا شبه كامل بين الصورة المثالية للحياة في هذه الثقافة ، وبين واقع الحياة الذي يعيشه المسلمون في جميع اقطارهم ، نحن نتحدث ـ مثلا ـ عن مجتمع القوة الذي يريده الاسلام ، وليس في اقطارنا مجتمع واحد يمكن وصفه بالقوة ، قياسا الى مجتمعات العالم المعروفة بهذا الوصف ، ونتحدث عن التسامح بينما نفتقر تماما اليه ، على المستوى النظري فضلا عن الممارسة العملية ، الا نادرا ، ونتحدث عن الحضارة التي يمكن ان يقيمها الايمان ، ونحن نعيش على استهلاك منتجات حضارة الاخرين .

وقد يظن احد ان في الامر اضطرارا ، لكن الحقيقة اننا غير مضطرين الى هذا ، الا بقدر ما نتهاون في البحث عن مخارج من حالنا البئيس ، بكلمة اخرى فان الاضطرار ـ على فرض وجوده ـ هو ثمرة لانعدام ارادة الخلاص في نفوسنا ، او عدم تحول ارتقاء الرغبة فيه ، من مستوى التمني الى مستوى التعقل والعمل .

ندعو الله مرات كثيرة في كل صباح ومساء ، ليهدينا الى الطريق المستقيم ، ولو كنا على هذا الطريق لتغير حالنا الى احسن حال ، نحن اذن نتمنى ان يهدينا الله سبيل الخلاص ، لكن ما نبذله من جهد للانتقال لايتناسب وحجم المهمة ، وهذا نموذج واضح للانفصال الحقيقي بين ما نرغب فيه وما نعمل لاجله .

وبسبب مرور الزمن على الانفصال بين المثل التي تدعو اليها الثقافة الاسلامية ، وبين انماط الحياة التي يعيشها المسلمون ، فقد ازدادت المسافة بين المثال وبين الواقع ، فتسامى المثال ، بقدر ما هبط الواقع ، ثم تجرد وتحول من ارادة وهدف الى مجرد حلم ، لهذا فان كثيرا من الناس لا يتحدثون عن اقامة الشريعة باعتباره هدفا موضوعيا ، يتمثل في اقامة علاقات جديدة بين الناس ، وبين الناس من جهة والاشياء من جهة اخرى ، وبالتالي فانهم لا ينظرون الى مشروع ذي عناصر مادية ، قابل للفشل والاعاقة ، بقدر ما هو قابل للنجاح ، بل يتحدثون ـ في الحقيقة ـ عن حلمهم برؤية نموذج مصغر للجنة على الارض ، حيث يصبح الناس والاشياء في اجمل صورة يمكن لهم ان يتخيلوها ، وحيث يتدخل الغيب في كل لحظة ، فيتحول الجهد البشري الى عامل ثانوي في تصريف اسباب الحياة .
الراي العام 26 اكتوبر 1996

25/10/1996

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج


لاسباب شتى انضم تطبيق الشريعة الى قائمة المواد التي يتصارع حولها السياسيون في العالم العربي ، شأنها في ذلك شأن قضايا كثيرة ، بعضها مصنف كضرورة يومية ، مثل توفير الخبز والكرامة ، وبعضها اقرب الى الاحلام منه الى  الاهداف العملية ، مثل الوحدة الشاملة والنهوض الحضاري .

ويبدو لي ان الاطراف التي تتصارع حول تطبيق الشريعة ، مستفيدة كلها بصورة او باخرى من اعلان مواقفها ، بغض النظر عن مقدار ما يبذله هذا الطرف في العمل لتطبيق الشريعة ، او ما يبذله ذاك لاعاقتها ، ولذلك فلا ينبغي لنا ان نتوقع انتهاء هذا الجدل بحوار بين الطرفين ، او بجولة مساع حميدة يبذلها اهل الخير من المصلحين ، كما لا ينبغي ان نتوقع هزيمة احد الطرفين بالضربة القاضية ، فلا انتصار الذين يسعون الى تطبيق الشريعة ، سيوقف الطرف الاخر عن المعارضة ، ولا معارضة هذا الطرف سيثني الاسلاميين عن هدفهم .


 في ايران مثلا التي اقامت نظامها السياسي على هذه القاعدة ، لا يزال الجدل محتدما حول معاني التطبيق المستهدف ، وثمة بين الايرانيين ـ ومنهم علماء بارزون ـ من يشكك في اسلامية بعض التطبيقات ، ومثل ذلك ماوجدناه في السودان التي تتبنى حكومتها رسميا تطبيق الشريعة  ، والتي نالت بعض سياساتها نقدا من جانب قادة حركات اسلامية وعلماء في الشريعة  .

 وعلى الجانب الثاني وجدنا  الاقطار التي شنت حكوماتها حربا على الاسلاميين ، قد ابتليت اكثر من غيرها بالفتن ، وتحول الجدل اللفظي الى حوار بالرصاص ، فلا انتصار الاسلاميين هناك اخرج منافسيهم من الحلبة ، ولا قمعهم هنا عاد على هؤلاء بالاستقرار  والسلامة ، واستحضر هنا اشارة الامام علي بن ابي طالب الى هذا المعنى ، حين اقترح بعض اصحابه تصفية الخوارج الذين تمردوا عليه في معركة صفين ، فوبخه الامام قائلا (انهم ـ الخوارج ـ  لا يفنون ، انهم لفي اصلاب الرجال وارحام الامهات الى يوم القيامة) (ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة 3/128) وقد اظهرت تجارب البشرية على امتداد تاريخها الطويل ، ان الصراع ـ ولاسيما صراع الافكار ـ لا يتوقف ، بل يستبدل العناوين بحسب اختلاف المراحل ، واختلاف توجهات الناس في ميدانه .

الهروب من التفصيل

يتضح من مجريات الجدل حول تطبيق الشريعة ان اطرافه يدورون ـ غالبا ـ حول العناوين العامة والكليات ، ومن المهم ـ لتصحيح مسار الجدل ـ  نقل الجدل حول الموضوع المطروح للنقاش الى تفاصيله ،  فالذين يدعون الى تطبيق الشريعة مطالبون ببيان مواقفهم التفصيلية ، كاطراف سياسية ، من كل قضية راهنة ، وعرض البدائل التي يقترحونها ، كما ينبغي للذين يعارضون هذا الطرح عرض الادلة على اضراره وفائدة الطروحات التي يقترحونها .

وتظهر اهمية الخروج من مقام الكليات الى مقام التفصيل ، في علاقة الجمهور بكل من طرفي الصراع ، فالاقتصار على العناوين العامة يستثير حماسة الشارع مع هذا الطرف او ذاك ، لكنه ـ الى جانب الحماسة ـ يغتال الوعي او يحجّمه على الاقل ، ويحول الاستقطاب من محور الافكار والبرامج الى محور الشخص والجماعة ، وفي احيان قليلة الى الشعار الغامض المعاني والانعكاسات ، وهو بهذه الممارسة يعزز اسلوبا من الاحتيال السياسي ، اشتهر في العالم العربي وادى الى سرقة طموحات الناس ، او تزييف اهتماماتهم ، بابعادها عن حقوقهم العاجلة الى امانيهم القابلة للتاجيل ، ولازلنا نتذكر ان شعارات مثل (كل شيء من اجل المعركة) و ( ... من المحيط الهادر الى الخليج الثائر) قد ساعدت في تطبيع ـ ومن ثم تشريع ـ سيطرة العساكر على الحياة السياسية في العالم العربي كله ، كما ان شعار (حماية البوابة الشرقية للوطن العربي ) كان تمهيدا لقرار تدمير العراق والكويت معا ، قرار التدمير الذي جرف في طريقه ايضا الكثير من الثوابت والمفاهيم والمشاعر ، التي طالما كانت رهانا للعرب ورأسمال يعتدون به ، وقد جرى في كل الاحوال الغاء الشعب وحقوقه ودوره ، تحت مبررات مماثلة ، او تحت شعار اولوية الامن والاستقرار  .

ولهذه الاسباب وغيرها فان يصعب بناء علاقة تفاعل ايجابي بين الجمهور والنخبة السياسية ، احزابا او شخصيات ، اذا كانت دعوة هذه النخبة ستقتصر على الشعارات العامة في عملها السياسي .
 اذا كان الحزب الفلاني يريد اقامة الديمقراطية من اجل الناس وليس من اجل نفسه ، واذا كان الحزب العلاني يريد تطبيق الشريعة من اجل الدين وليس التسلط ، فانه ينبغي لكل منهما ان يخبر الناس بالتفصيل عن السياسات التي يسعى لتحقيقها ، وعن الحلول التي يريد يريد تطبيقها ، واذا كان غيرهم  يعارض تطبيق الشريعة لسبب ما ، او يرى في الديمقراطية والشورى عبئا على اقتصاد البلاد او خطرا على استقرارها ، فليعرض بدائله ، وليعلن عن تفاصيل برنامجه ومعالجاته المقترحة للمشاكل التي يدعي القدرة على حلها ، وليبين تميزها عن تلك التي يعارضها  ، بدلا من فرض صورته الشخصية او اشغال الناس بالعناوين العامة والشعارات .
الراي العام 25 اكتوبر1996

22/10/1996

وافــدون وماء مالــح



تصدر موضوع (السعودة) قائمة اهتمامات الصحافة المحلية خلال الاشهر المنصرمة من هذا العام ، ويبدو انه قد استقطب ايضا اهتمامات القراء ، اضافة الى ما يحظى به الامر من اهتمام رسمي ، وفي بداية العام الحالي سألت (عكاظ) كتابها اقتراح الموضوعات المهمة للمعالجة الصحفية ، فاجمعوا على اختيار هذا الموضوع .
يستبطن هذا الاهتمام الاستثنائي شعور بالحاجة الى ضمان الوظيفة المناسبة لكل مواطن ، وقلق من نتائج الافراط في الاعتماد على العمالة الاجنبية ، خاصة وان المملكة تتجه الى وضع اقتصادي ذي حركية افقية تخلو من الطفرات التي اتسم بها عقد السبعينات والنصف الاول من الثمانينات .

ولا يختلف اثنان في مشروعية هذا القلق وصحة اسبابه ، لكن لا ينبغي ان نحمل الامر اكثر مما يحتمل ، وان لا نخرج بالمعالجة من سياقها الايجابي الصحيح الى سياق سلبي ، قد لا يكون متلائما مع اخلاقياتنا والتزاماتنا الادبية.
تتجلى المعالجة السلبية لموضوع العمالة الوافدة في الربط المتكلف بين الوافد والمشكلات ، فاذا جرى الحديث عن التسول اشير بصورة خاصة الى الوافدين ، واذا ذكرت حوادث السيارات نسبت اليهم ، واذا ورد موضوع النظافة القيت المسؤولية على اكتافهم ، فلا ترى الوافد في صحافتنا الا سببا للمشاكل او متورطا فيها ، بل ان احد الزملاء كتب تحقيقا في صحيفة محلية ، فذكر ان السبب الرئيسي لتلفيات الطرق السريعة ، هو عدم اتقان السائقين الاجانب للسياقة في مثل هذا النوع من الطرق ، ولا أدري ان كان الزميل جادا في كلامه ، فلم اعهده خبيرا في هندسة الطرق ، لكن ثمة من يعتقد ان المواطن جنس خاص منزه عن الاخطاء وان الوافد سبب لكل بلية ، ومن اعجب ما قرأت ، تحقيق نشرته (عكاظ) قبل نحو شهر عن الاربطة (دور رعاية العجائز ) فقد اظهرت الكاتبة المكرمة عدم رضاها عن تمتع بعض المقيمات في هذه الدور بالرعاية مع انهن من الوافدات ! ، ولعل احدهم يكتب في يوم من الايام ان حرارة الجو في البلد سببها كثرة الاجانب الذين يتنفسون فيه ، وان ملوحة الماء سببها كثرة الوافدين الذين يشربون منه .

لا نريد المبالغة بالقول ان هذه الاشارات السلبية دليل على وجود اتجاه عنصري ، فهي لا تزال مقتصرة على حالات محدودة ترد ضمن سياق اعتيادي ، لكن ما يهمنا هو دعوة الزملاء  الى توخي الحذر في معالجاتهم ، خشية ان يسيء الكاتب وهو يريد الاحسان ، فالاجنبي مثل المواطن بشر من هذا البشر المجبول على الاصابة حينا والخطأ حينا ، وبالنسبة للمسلم فان الانسان عزيز ومكرم لانه انسان ، لا لانه ينتمي الى جنسية محددة ، واذا كان المواطن يعتز بوطنه فـلانه يعتز بنفسه ، ومثل هذا الشعور عام بين البشر ، كل يرى نفسه عزيزا  وكل يجد اسبابا للفخر بوطنه واهله ، وشتان بين الفخر بالوطن والتهوين من قدر الاخرين .

ربما كانت مشكلات العامل الاجنبي اكثر من نظيره المواطن ، لكنها في المحصلة الاجمالية ، لاتزال اقل بكثير من المشكلات الشبيهة في الاقطار المجاورة ، ويرجع الفضل في هذا الى سياسات الاستقدام الرسمية التي تتسم اجمالا بالتحفظ والحذر ، ومع الاتجاه الجديد الى تشديد القيود على الاستقدام وتحديد الوظائف المتاحة للاجانب ، فان المعدل العام للوافدين مقابل الوظائف سوف ينخفض بالتدريج ، وسوف يتوفر للمواطنين مزيد من الفرص الوظيفية ، واذا واصلت الحكومة تبني سياسة التحديد هذه ، فلعل ما يقال عن وجود بطالة بين المواطنين يصبح جزء من التاريخ .

لكن الحاجة الى العامل الاجنبي ستبقى قائمة اليوم وغدا ، ما دام النشاط الاقتصادي متواصلا ، اذ لا يتوقع ان تستغني البلاد عن اليد العاملة الاجنبية في ظل معدلات النمو السكاني الحالية ، وما دام الامر كذلك فاننا بحاجة الى علاقة اكثر لينا بهؤلاء ، الذين هم ـ على أي حال ـ نظراء  لنا في الانسانية فضلا عن كون اغلبهم اخوة في الدين  ، على اقل التقادير فاننا غير مضطرين الى التعامل معهم كما لو انهم  كائنات اخرى اقل مرتبة وشأنا .

ان حاجتنا الى العامل الوافد تساوي حاجته الينا ، وعطاؤنا  له يساوي عطاءه لنا ، وما احسن ان يكون بعد عودته الى بلاده ، محملا بكل ما هو حسن من انطباعات وذكريات عنا وعن بلادنا ، بدل ان نحمله اثقالا من الكراهية والبغض .
عكاظ  22 اكتوبر 1996

18/03/1996

تلميذ يتعلم وزبون يشتري


يبدو لي انه قد حان الوقت للفراغ من الحديث الكثير عن مبدأ العلاقة مع الغرب ، والانتقال الى التفكير في كيفية هذه العلاقة ، ولعل بعض القراء قد شاهد -كما شاهدت - البرنامج الذي عرضه في الاسبوع المنصرم تلفزيون الشرق الاوسط ، عن تطور صناعة السيارات في اليابان ، فقد ادرك اليابانيون ان التقنيات التي يملكونها ، لن تمكنهم من انتاج سيارة تنافس ما ينتجه الامريكان والبريطانيون ، فارسلوا مهندسيهم الى هذين البلدين واستقدموا مهندسين منهما ، لكن عيونهم كانت مركزة على هدف محدد ، هو تطوير الامكانات الاولية التي يملكونها لتبلغ مستوى التقنيات الغربية .
 وفي الوقت الذي دعمت الحكومة فكرة استيراد بعض القطع الميكانيكية ، من فورد الامريكية واوستن البريطانية ، فقد حددت للصانعين المحليين مهلة خمس سنوات ، للانتقال من تجميع القطع الاجنبية الى تصنيعها محليا ، وتحدث احد مديري شركة تويوتا قائلا انه ذهب للعمل في ديترويت مع شركة فورد ، لكي يتعلم فنون الصناعة ، وحينما كان العمال يذهبون لتناول الغذاء او المرطبات ، كان يتجول في المصنع ، ليتعرف على عناصر الارتباط بين الاقسام المختلفة التي تمر بها السيارة ، منذ ان تبدأ عملية تصنيعها وحتى تخرج من بوابة المصنع سائرة على عجلاتها .
تلميذ يتعلم
تذكرت وانا اطالع هذا البرنامج مقولة لكاتب عربي (لقد بدأت مصر في النهوض قبل اليابان ، واعتمدنا مثلهم على النتائج التي توصل اليها الغرب ، لكنهم واصلوا التعامل مع الغرب كتلاميذ نشطين ، بينما تعاملنا كزبائن للسلع الجاهزة ، وفي النهاية فقد تعلم اليابانيون اسرار الصنعة واستقلوا عن معلمهم ، وبقينا نشتري السلع مرة بعد اخرى).
اظن الان ان العلاقة بين المسلمين ـ كمبدأ ـ ليست مورد نقاش ، اللهم الا عند هواة الجدل ، اما مورد النقاش الحقيقي والمفيد فهو الابعاد العملية لهذه العلاقة ، نوعيتها ومستواها واهدافها المحددة ، وحينما نبدأ في نقاش هذه الابعاد فسنصل الى بعض النتائج المفيدة ، لكننا بحاجة اولا الى تحديد الغرض من النقاش ، وتحديد اطاراته ومنهجه ، حتى لا نخلط بين ما هو ضروري وما هو ثانوي ، او بين ما هو استراتيجي لنا وما هو تكتيكي .
مسؤوليات جديدة
بديهي ان هذه العلاقة توجد مسؤوليات اضافية ، لابد لنا من حملها والوفاء بمتطلباتها ، لكي يكون سعينا مفيدا ، من ذلك مثلا تحديد السياق الذي نريد لهذه العلاقة ان تخدمه مباشرة وبالدرجة الاولى ، ثم تكريسه كمهمة تحظى بأهمية ضمن مجموع اعمالنا ، فاذا اردنا استثمار علاقاتنا مع الغرب في نقل التكنولوجيا على سبيل المثال ، فلا بد لنا من توفير الظروف اللازمة لاستقرارها ثم تطورها في بلادنا ، اي توفير القوى البشرية والامكانات المادية والخدمية وغيرها ، والا اصبحت عملية نقل التكنولوجيا مثل استيراد السلع الجاهزة ، التي ندفع ثمنها ثم ندفع ثمن غيرها عندما تستهلك ، دون ان نتدخل باي درجة في ادامتها او تطويرها ، ودون ان نستثمرها في السير نحو الاكتفاء والاستغناء .
ان تطوير التكنولوجيا يحتاج الى مدارس تخرج تقنيين ، ويحتاج الى سياسات دعم وحماية مناسبة ، تسندها حتى يشتد عودها وتصبح مؤهلة للوقوف على قدميها دون اسناد ، كما نحتاج الى دعم البحث العلمي الضروري لتطويرها ، واخيرا فاننا نحتاج الى مساعدتها في الحصول على حصة مناسبة من السوق ، وهذه وغيرها مسؤوليات مترتبة على تحديد هدف العلاقة وعلى اقامتها ، فاذا اجدنا اداءها فلربما استفدنا من علاقتنا في بلوغ مستوى العصر ، والا فقد تكون هذه العلاقة مجرد حبل جديد يزيد في توثيق تبعيتنا ، ويزيد في اعتمادنا على الغير .

عكاظ 18 – 3 – 1996

04/02/1996

افريقيا واحلامــها الضــائعة


اجتمع قادة الدول الافريقية في مقر منظمة الوحدة الافريقية ، التي ينطوي اسمها على حلم رومانسي ، اصبح تحققه اليوم ، اصعب كثيرا من اليوم الذي تاسست فيه هذه المنظمة .

فالقارة الافريقية التي عانت كثيرا من وطأة السيطرة الاجنبية ، اصبحت قبيل نهاية القرن العشرين ، وفي ظل النخب الوطنية ، ابعد ماتكون عن تحقيق اهداف قادة الاستقلال ، على صعيد السياسة كما على صعيد الاقتصاد.
في اوائل السبعينات الميلادية أثار أ . سيكوني جدلا واسعا بين المثقفين والسياسيين الافارقة ، حينما اصدر كتابه المسمى  افريقيا اساءت الانطلاق الى حد اعتبره بعضهم تدليلا على ان هذا المفكر المعروف بتعاطفه مع هموم العالم الثالث ، مايزال محملا بنزعة استعلائية مستمدة من انتمائه الى اوربا ، التي ينسب اليها اسباب التخلف المسيطر على الامم الافريقية .

سياسة التظاهر
والحق ان سيكوني لم يبد اي قدر من التعاطف ، وهو يوجه النقد الى المناهج والسياسات ، التي اتبعتها النخبة الافريقية ، في الفترة التي اعقبت زوال الاستعمار الاوربي المباشر ، بل انه اعتبر هذه النخبة مضللة او متواطئة ، في ابقاء اوضاع التخلف الاجتماعي والاقتصادي ، دون علاج جذري او طويل الامد

وقد نال التوجه التظاهري في السياسة والاقتصاد ، اكبر قدر من النقد في ابحاث سيكوني ، الذي لم يحظ بشهرة كبيرة رغم انه يعتبر احد الاوائل ، الذين اشاروا الى العلل الجوهرية في اقتصاديات العالم الثالث ، ولاسيما في جانب الارتباط الحرج ، بينها وبين التمويل الخارجي من جهة ، وبينها وبين السياسة من جهة اخرى .

ان قيمة ابحاثه تظهر الان بجلاء اكبر ، فقد اعتمد على تحليل اقتصاديات الدول النامية ، في الربع الثالث من القرن العشرين ، ليستنتج ان معظم الدول المعنية ، ستواجه قبل نهاية القرن اضطرابات اجتماعية وسياسية ، تطيح بمعظم ما اعتبره السياسيون في تلك المرحلة ، مكتسبات او انجازات تستحق الاشادة

تعليم يصنع التخلف
ومن ذلك على سبيل المثال السياسات التعليمية ، فبينما كانت الحكومات تعتبر التعليم الريفي ابرز مظاهر النهوض الحضاري ، فان سيكوني اعتبره مجرد قناة ، ترفد نهر البيروقراطية المدينية بالاعوان .

 ومن خلال البحث المستوعب للعلاقة بين سياسات التعليم في الريف ، وبين هجرة المتعلمين الى المدينة ، استنتج ان المدارس الريفية لاتفعل شيئا ، سوى امتصاص الطاقة البشرية من الجوهر الاقتصادي لتلك الدول ، اي الزراعة الريفية ، وراى ان  هذه الحركة  ستؤدي الى تدمير امكانات النمو الاقتصادي ، مما سيضطرها في مرحلة لاحقة الى العودة للاعتماد على المساعدات الخارجية ، على مستوى تمويل العجز ، او على مستوى العون المباشر ، الغذائي وغيره .

وخلاصة ما اراد سيكوني قوله هو ان معظم الدول الافريقية ، تستطيع النهوض اعتمادا على تطوير الاقتصاد الزراعي ،  لانها تملك الامكانات والفرص ، المادية البشرية ، التي تؤهلها للنهوض في هذا المجال .

جوهرية الريف
 وهذا يعني ان توجه الدولة جل اهتمامها الى الريف ، بل ان تعتمده كقاعدة لمشروعية عملها السياسي وشرعية بقائها ، خلافا للسياسات التي اتبعها الاستعماريون قبل ذك ، والتي تضمنت على المستوى الاقتصادي ، تعزيز اعتماد البلاد على تصدير المواد الخام ، وعلى المستوى السياسي مساعدة النخبة المدنية ، في السيطرة على خيوط السياسة والحياة العامة ، الامر الذي استتبع تهميش الريف واستثنائه ، ليس من المشاركة في صناعة السياسة الوطنية ، بل وحرمانه ايضا من نصيبه في الثروة الوطنية ، التي يشارك في توفيرها .

وفي الوقت الحاضر فان تنبؤات سيكوني وغيره من المفكرين ، الذي اهتموا منذ منتصف الستينات ، بدراسة واقع التنمية في العالم الثالث ، اصبحت اكثر قدرة على اثبات مصداقيتها ، فليس ثمة دولة افريقية ، بل ليس ثمة قطر من اقطار العالم الثالث ، الا وهو يعاني من الاضطراب الاجتماعي ، الذي لايصعب ملاحظة خلفياته الاقتصادية .

الفقر والانشقاق
ومع انه لايمكن نسبة كل تطور سلبي ، في العلاقة بين المجتمع والدولة الى خلل اقتصادي ، الا ان معظم اسباب عدم الرضى العام ، هي في حقيقتها شعور بالحرمان ، أو عجز عن تحقيق الرغبات ، ان الاكثرية الساحقة من الناس تلخص الرضا ، او تحقيق الذات ، في وجود وضع معيشي ملائم أو قابل للتطور ، وقدرة على تحقيق الامان الحياتي.
وثمة من ينكر هذه العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والاستقرار ، مدللا على رايه باوضاع البلدان التي تعاني من انشقاقات اجتماعية ، على رغم ما تتمتع به من اوضاع معيشية مريحة ، وهو اعتراض صحيح ، تدعمه ادلة كثيرة .
 لكن يبدو ان المعاناة الكبرى في افريقيا ، ترجع الى فشل الحكومات في تامين مستوى من المعيشة ، يليق بكرامة الاكثرية الساحقة من المواطنين .

ان الفشل على هذا الصعيد قد اثار الشك في مشروعية الدولة ، وعزز الانفصال بين النخبة والقاعدة العريضة من الشعب ، ذلك لان اكثر النخب السياسية في القارة السوداء ، لا تملك ايديولوجيا اخرى تبرر بها وجودها على راس السلطة ، سوى قيادة النهوض الاقتصادي ، او انها على الاقل لم تستطع اقناع الناس ، بان ثمة ايديولوجيا اخرى تستحق الرهان .
وفي بعض الحالات فان الانشقاق قد ارتدى ثوبا اخر ، لايوحي بان الفقر او عدم المساواة ، هو المحرك الرئيس ، لكن الذي لايشك فيه هو ان الجماعات الايديولوجية ، لم تستطع الحصول على الكثير من الأنصار المتحمسين ، خارج المناطق الفقيرة ، او التي تخضع للتمييز .

كما يمكن التاكد من ان الفقر هو السبب الرئيسي ، للانشقاق الاجتماعي الواسع النطاق ، من ملاحظة ان الدول التي تنعم بمستوى معقول من المعيشة ، تعتبر اقل عرضة للازمات الاجتماعية ، او على اقل التقادير فان الازمات التي تتعرض لها ، لاتكون خطيرة وشاملة ، بمثل ماهي عليه في البلدان التي تعاني عجزا على المستوى المعيشي ، او تمايزا شديدا بين قطاعات المجتمع .

  4 فبراير 1996  

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...