يقال إن سائحا أمريكيا زار
العراق في العهد السابق، فسأله أحد المواطنين عن أهم شيء في الولايات المتحدة
فأجابه: الحرية، وشرح الفكرة قائلا: إن القانون الأمريكي يسمح لي بنقد الرئيس
الأمريكي وجميع العاملين في حكومته، لكنه يمنعني من الكلام عن عامة الناس أو
عائلاتهم وحياتهم الخاصة. فأجابه العراقي: الحرية لدينا أوسع منكم، لأن القانون
يسمح لي بشتم الرئيس الأمريكي ومساعديه وشعبه وزوجاتهم وأبنائهم وكل من يلوذ بهم.
النقاشات الدائرة حول مفهوم الحرية أو ممارستها مشوبة باختلاط يجعلها في كثير من
الأحيان كلاما مكررا أو ربما فارغا، وقد يصرف المعنى إلى ضده. يمكن تقسيم هذه
النقاشات إلى خمسة مسارات:
1 ــ النقاش حول أصل فكرة الحرية وكونها
جزءا من فطرة الإنسان وشرطا لكمال إنسانيته، أو كونها ضرورة لنهضة المجتمع وإصلاح
الحياة. يهتم بهذا المسار دعاة حقوق الإنسان وطلاب الفلسفة. وهم يقدمون الحرية كحق
أصلي للإنسان سابق من حيث الرتبة على القوانين والأحكام والسياسات، أي قيمة عليا
معيارية، وأن تطبيقاتها ضرورية لتأمين المصالح العامة للفرد والمجتمع على السواء.
معظم هؤلاء يعرفون الحرية في معنى عدم التدخل في خيارات الفرد المتعلقة بطريقة
حياته أو متبنياته الثقافية والعقيدية. النتائج التي يتوصل إليها مسار النقاش هذا
غالبا ما تقارب المفاهيم الليبرالية في التنظيم الاجتماعي.
2 ــ النقاش حول المفهوم الفكري للحرية، أي
ما إذا كان التراث الفكري السابق قد أقر المفهوم المتداول اليوم أو قدم مفهوما
بديلا، ومدى التقارب أو التباعد بين المفهوم التراثي والمفهوم المعاصر. يهتم بهذا
المسار الحركيون ودعاة الإصلاح الذين يحاولون إقناع نظرائهم أو جمهورهم بضرورة
الحرية. لكنهم يواجهون ثقافة عامة وأعرافا تنكرها أو تعتبرها ذريعة للانفلات.
ولهذا فهم يستعينون ــ لإثبات دعواهم ــ بتفسيرات جديدة للنصوص أو الحوادث المثبتة
في التراث القديم. ينتهي هذا المسار غالبا إلى تقرير نوع من الفهم الحركي التجريبي
الذي يراوح بين الليبرالية والمحافظة.
3
ــ النقاش حول الحدود القانونية للحرية،
أي مدى التدخل الممكن من جانب المجتمع أو الدولة، تدخلا يفضي إلى تقييد حركة الفرد
وخياراته. ويهتم بهذا المسار بصورة متعاكسة فريقان: فريق يتمتع بنفوذ ويتضمن
سياسيين ورجال دين يحملون صفة رسمية أو نفوذا اجتماعيا، وفريق مضاد يشمل نشطاء
المجتمع المدني وخبراء القانون. يسعى الفريق الأول لتبرير محورية الجماعة والقانون
وتبعية الفرد لهما، بينما يبرر الطرف الثاني استقلال الفرد والعلاقة التفاعلية بين
عدالة القانون ومساحة الحرية التي يحميها أو يقيدها. ينتهي هذا النقاش غالبا إلى
الفصل بين المجال الشخصي والمجال العام لحركة الفرد وفعله، ويعطي القانون ورأي
الجماعة مرتبة أعلى.
4 ــ النقاش حول الآثار الأخلاقية أو
السلوكية لممارسة الحرية من جانب الأفراد، لاسيما في حال تعارض خيارات الفرد مع
الأعراف والتقاليد السائدة. لعل هذا المسار هو أكثر المسارات شعبية. وينعكس فيه
بشكل واضح صراع الأجيال والطبقات. كما أنه يجتذب شرائح اجتماعية عديدة ومتباينة.
نظرا لأنه ينطوي على جدل يومي بين الأعراف والتقاليد المستقرة وحراسها والمؤمنين
بها، وبين محاولات الأفراد ــ لاسيما من الأجيال والطبقات الجديدة ــ إرساء قيم
وأنظمة علاقات تتناسب مع تطلعاتهم وفهمهم المغاير للعصر الجديد وما يحويه من أنماط
عيش وطرق إنتاج ومعارف وسلوكيات. ينتهي هذا المسار عادة إلى تفكيك القيم القديمة
من دون إرساء قيم أو معايير سلوك بديلة..
5.النقاش حول حرية نقد الآراء والتقاليد
والأعراف التي لها أساس تراثي أو تعتبر عرفا. هذا يتناول تحديدا حرية التفكير
وحرية التعبير. ويهتم بهذا المسار المفكرون ودعاة الإصلاح في المجال الفكري، وكذلك
النخب التي تبلورت ثقافتها أو مصالحها في إطار الاقتصاد الحديث، وهي تهتم
بالمحافظة على الإطار الفكري لحياتها، لكنها أيضا تجد قدرا من التفارق بين القيم
والمفاهيم الموروثة وبين الإطارات والمبررات النظرية لأنماط الحياة الجديدة. ينتهي
هذا المسار إلى إقرار نمط محافظ/عقلاني، يعارض الرؤية التقليدية لكنه لا يتبنى
الليبرالية بشكل كامل.
الغرض من هذا التقسيم هو
تفصيح النقاش حول مفهوم الحرية وتوضيح الفوارق بين منطلقات وموضوعات ومسارات
النقاش ونهاياتها. قد لا يكون هذا التقسيم مفيدا جدا لمن يكتبون في الحرية، لكنه
بالتأكيد مفيد لمن يقرأون تلك الكتابات.
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20100614/Con20100614355951.htm
مقالات ذات علاقة