09/11/2023

لا تقتلوا أفكاركم الجديدة

 

يقال ان الأزمات الكبرى هي ام الافكار الكبرى. ويخبرنا تاريخ العالم ان كثيرا من الاختراقات المؤثرة في حياة الانسان ، ولدت في رحم الأزمة. خذ مثلا الطيران التجاري ، الذي أثمرت عنه ابحاث خصصت في الأصل لتعزيز القوات المسلحة ، في خضم الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة. ومثلها انظمة الاتصالات اللاسلكية ، وشبكة الانترنت التي غيرت حياة العالم كله. وثمة قائمة طويلة من الاغذية والادوية ومواد البناء والنظافة والالكترونيات والمصنوعات الهندسية ، تطورت كلها في ظروف التأزم. ولعلنا نذكر تجربة التعليم والعمل عن بعد ، اعتمادا على تقنيات الاتصال الحديثة ، في ظروف الحصار التي فرضها وباء كورونا على العالم كله. هذا التحول ليس بسيطا ، فقد انتج اقتصادا جديدا وانماط حياة جديدة. وسيبقى مؤثرا لزمن طويل في المستقبل.

حسنا ، ماذا عن الافكار التي لا تتعلق مباشرة بالتقنية وادوات العيش؟. اعني الافكار الجديدة في الفلسفة والسياسة والأدب وعلوم الدين والاجتماع.. الخ. هل تخضع لنفس القاعدة ، اعني: هل تشكل الأزمات بيئة خصبة لولادة الأفكار الجديدة في تلك المجالات؟.

أظن ان الازمة المقصودة باتت قريبة من ذهن القاريء ، اعني بها الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة وسكانه. خلال الاسابيع الاربعة الأخيرة ، حاولت التعرف على رأي عدد من البارعين في التحليل السياسي ، فوجدت آراء قيمة ، قد تعارضها او توافقها ، لكنها – بشكل عام – جديرة بالمناقشة والتفكير ، لأنها تحاول الاجابة على أسئلة هامة ، مثل سؤال: ما هي نقاط الضعف ونقاط القوة التي كشفت عنها هذه الحرب ، في الموقف السياسي والشعبي.

وجدت أيضا قراءات جادة في التأثير المتوقع للحرب على نظام الامن الاقليمي ، ومواقف الاطراف الاسرائيلية والفلسطينية من المشروع المسمى "حل الدولتين" ، وامكانية نيله الدعم الاقليمي والدولي في الاشهر القادمة.

ثمة مسائل حظيت باهتمام أقل رغم اهميتها ، مثل التحولات المتوقعة داخل حركة حماس ، واحتمالات الانشقاق في حركة فتح ، نتيجة التناقض الشديد بين القناعات المؤسسة والموقف الرسمي الحالي. ومنها ايضا انعكاس الحرب على ميول الاقليات المسلمة في الغرب ، للاندماج في المجتمعات المضيفة او البقاء على الهامش. وكذا تاثير الحرب على الاقتصاد المحلي في مصر ، وعلى مشروعات الطاقة المخططة شرق البحر المتوسط الخ. وجدت أيضا كتابات مفيدة عن اقتصاديات الحصار ، وطب الطواريء ، تحاول الاجابة عن سؤال: ماذا يمكن لشعب محاصر ان يفعل في ظل الحرب ، وما يترتب عليها من انقطاع للاتصالات واغلاق الحدود.

وذكرني هذا بالنقاشات الواسعة التي شهدناها سنة 2020-2021 حول سلاسل الامداد والتموين وما واجهته من تقطع بسبب القيود المرتبطة بوباء كورونا ، ومثلها النقاشات الخاصة بالعمل والتعليم عن بعد ، وانعكاساتهما الاجتماعية والاقتصادية ، وحتى تأثيرها على الهوية الفردية والوطنية.

لقد أتاحت الحرب فرصة ثمينة لطرح آراء غير تقليدية في قضايا عظيمة الأهمية. لكن معظم تلك الكتابات ضاعت فعلا او ستضيع ، وسط الركام الهائل من الردود والمجادلات السطحية ، التي تتنوع بين مدائح فارغة وشتائم قبيحة ، لشخص الكاتب وبلده والتيار الاجتماعي او السياسي الذي يعتقد المجادلون انه ينتمي اليه.

يغريني التشاؤم بالقول ان المجتمع العربي عاجز عن النقاش العقلاني. ثم يردني عقلي للقول ان التشاؤم طبيعي في ظل الأزمة ، وان التراجع المتوقع للازمة سيسمح بنقاش مستأنف. على اي حال يهمني ان أدعو القاري وكل من يتصل به ، الى تجنب الردود الخشنة على الآخرين حتى لو كانوا على الطرف النقيض. النقاش المنفتح قد يقود الى اختراق في جانب ما من حياتنا. أما الردح والشتيمة والسخرية ، فليس وراءها سوى ايذاء الذات واثارة الكراهية. دعونا نسمح بمختلف الآراء ، وخصوصا الآن ، فلطالما كانت الأزمات اما للأفكار العظيمة.

الشرق الاوسط الخميس - 25 ربيع الثاني 1445 هـ - 9 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4657046

مقالات ذات صلة

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

العولمة فرصة ام فخ ؟

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

استمعوا لصوت التغيير

 

02/11/2023

رأيك الذي لا يقبل النقض او الجدل


أردت في مقال الاسبوع الماضي دعوة القراء للتفكير في قيمة المعارف التي يحملونها بالقياس لما عند غيرهم. ولعلي بالغت قليلا إذ زعمت ان ما تراه العين وما تسمعه الاذن ، كلاهما من نوع الظنون ، ولا يرقى لمرتبة الحقيقة ، رغم ما شاع بين الناس من اعتبار رؤية العين دليلا لا يقبل الشك.

اعمق الردود على تلك الفكرة ، هي قول احد الزملاء ، بأن مضمون المقال يساوي انكار اي وجود للحقيقة في العالم. ، فكأن مراده ان الذي نراه أو نعرفه مجرد وهم ، او – على احسن التقادير – مرحلة انتقالية بين الظن والحقيقة.

ستيف جوبز (1955-2011)

لكني ما قصدت هذا بطبيعة الحال ، بل اردت تشجيع القاريء على مجادلة قناعاته ، لا سيما الراسخة والعميقة منها ، التي نظنها حقائق نهائية لا تقبل الشك ولا التعديل. وقد وجدت ان طرح المسألة في صورتها الاكثر تطرفا ، أدعى لتحقيق المراد ، وهو إثارة الأذهان. ان التفكير والتأمل هو الطريق الوحيد في اعتقادي لاكتشاف حدود المعرفة وقيمتها ، الأمر الذي يهدينا للتواضع والتسامح ، واحترام الرأي المضاد ، مهما بدا غريبا عما ألفناه أو ارتحنا اليه.

ما يثير الجدل في غالب الأحيان ، ليس الحقائق الصريحة ، بل الآراء الملتبسة بالحقيقة او  التي يدعي اصحابها انها تطابق الحقيقة. ان اطلاق شخص مثلي صفة الحقيقة على رأيه ، لا يزيل عنها صفة الرأي الشخصي ، الا اذا وافقه الناس جميعا ، او غالبية معتبرة منهم ، حيث تلبس حينئذ صفة الوجود الموضوعي ، مثل وصف "آيفون" الذي اخترعه ستيف جوبز ، فكان مجرد فكرة شخصية ، لكنه تحول لاحقا الى حقيقة موضوعية تشبه الحقيقة التي نسميها التراب والشجر والحديد. فهل ياترى يمكن اطلاق نفس الوصف على الآراء التي احملها انا وأنت أو سائر الناس ، الآراء التي تتعلق بمختلف قضايا حياتنا او حياة الآخرين؟.

كنت قد شرحت في كتابة سابقة رؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الذي قسم موضوعات المعرفة الى ثلاثة اطارات او عوالم ، أولها الكون المادي الذي نعيش فيه ، والذي يتكون من عناصر واقعية نستطيع لمسها بأيدينا. يتأمل البشر في هذه العناصر ويسعون لفهمها واستكشاف الصلات التي تربط بينها ، ثم يضعون استنتاجاتهم في صورة نظريات تتضمن وصفا وتفسيرا لما تعرفوا عليه.

اما العالم الثاني فهو تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم المحيط بنا ، والتي تتشكل على ضوئها مواقفنا من الاشخاص والحوادث. حركة الذهن في هذا الاطار هي ما يشكل عالمنا الذي نعرفه. بعبارة اخرى فان مجموع تأملات البشر في انفسهم وفي الاخرين ، هي المصدر الذي يشكل معنى العالم ومعنى الافعال التي يقوم بها البشر ، حين يتعاملون مع بعضهم. 

ثالث العوالم هو مجموع ما ينتجه العقل الانساني ، ويطرحه كموضوع مستقل عن صانعه وعن الاشخاص الآخرين ، نظير مثال الآيفون الذي يبقى ويتطور بعد رحيل صاحبه ، الذي – على الارجح – ليس معروفا عند غالبية مستعملي هذا الاختراع. ومثله ايضا الآلات والشبكات والبرامج والاعمال الفنية والكتب والادوية والاغذية ، وكل شيء مطروح امام البشر كمنتج نهائي ، لا يرتبط استمرار وجوده بارادة من صنعه.

هذه عوالم متفاعلة. فالعالم الاول يوفر موضوعات عمل الثاني ، حيث يتحول التأمل الى فكرة جديدة ، يتحول بعضها الى منتج معياري ، يحفظ في العالم الثالث. رغم انها مترابطة ومتفاعلة ، الا ان هذه العوالم الثلاثة لا تقبل التحديد أو الحصر ، كما لا تقبل السكون والثبات ، فهي في حال تغير دائم: في الوصف والفهم والاعتبار ، كما في حالة العالم الاول ، او في التفسير وطرق الانتاج ، كما في الثاني ، او في نوعية المنتج النهائي وانتقاله من الأدنى للأعلى ، الذي نسميه "الاحدث" كما في العالم الثالث.

عد الآن وفكر في رأيك: الى اي من هذه العوالم ينتمي ، كي تظنه حقيقة لا تقبل الشك او الجدل؟.

الشرق الاوسط الخميس - 17 ربيع الثاني 1445 هـ - 2 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4642841

 


مقالات ذات صلة

التجربة ليست برهانا

زمن ثقافي جديد

العقل المؤقت

الفكــرة وزمن الفكـرة

مأزق الأسئلة الضبابية

مغامرات العقل وتحرر الانسان 

كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي  

نافذة على فلسفة كارل بوبر

لماذا تركنا مقامات الحريري؟

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

هكذا خرج العقل من حياتنا

26/10/2023

التجربة ليست برهانا

لا زلت أذكر اليوم الذي وصلنا فيه الى درس نواصب الفعل في "شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك" ، وهو من الكتب التي ينبغي دراستها للمتقدم في علوم اللغة. وسبب استذكاري لهذا الدرس خصوصا هو بيت الشعر المشهور

"يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدثوك فما راء كمن سمعا"

 فقد انفق استاذنا رحمه الله وقت الدرس كله ، في بيان الفارق بين تحصيل العلم بالملاحظة المباشرة والتجربة الشخصية ، وتحصيله بالسماع والرواية. وكان المشهور يومها ان رؤية الشيء في الواقع ، طريق لتحصيل العلم القطعي ، بينما يصنف السماع عنه كمعرفة ظنية ، وليس من رأى كمن سمع. وكنا نأخذ هذا الرأي أخذ المسلمات. ولو جادلنا فيه أحد ، لأجبناه بأن التجربة الحسية اصدق الأدلة ، والعين اصدق وسائل الاحساس.

في سنوات لاحقة من مشوار الدراسة ، بدأت افهم ان رؤية الاشياء وتجربتها الحسية ، لا تعطيك دليلا قطعيا ، فهي تتأثر بزاوية النظر أو ما يسمى "افق التوقعات". وأذكر واحدا من الدروس الاولى التي اطلعت فيها على تأثير خلفية الفرد ومعارفه السابقة على ما يتعلمه لاحقا ، فقد عرض الاستاذ بعض الأمثلة عن أحكام شرعية اصدرها فقهاء من سكان الريف وآخرين من سكان العواصم ، في نفس الموضوع ، وكان الفرق بينهما شاسعا. وأذكر خصوصا الجدل الساخن الذي ثار ، حين اعترض زميل متقدم على قول الاستاذ بان كل فرد يميل لترجيح دينه على بقية الأديان ، لأنه ألفه منذ الصغر ، سواء وجد عليه دليلا ام لم يجد. وقد ذهب هذا الجدل الى مسافات أبعد مما تخيلنا.

مع الوقت ، يدرك الانسان ان ما يراه لا يختلف كثيرا عما يسمعه ، فكلاهما لا يفيد الا ظنا. او لعلنا نقول ان رؤية الشيء لا تكشف غير ظاهره ، وربما تكشف جانبا من حقيقته ، وربما لا تكشف له الا ما أراد سلفا أن يراه. لتبسيط الفكرة دعنا نسأل ثلاثة اشخاص عن القيمة الاخلاقية للمؤسسة المالية التي نسميها البنك: لو سألت فقيها تقليديا فسيخبرك بانها محل لغضب الله ، لأنها تدير المعاملات الربوية. ولو سألت خبيرا في المالية ، لقال انها محور المعيشة والنشاط الاقتصادي لأي بلد. ولو سألت مناضلا ماركسيا لأخبرك انها رمز من رموز الاستغلال. سبب هذا التفارق في الوصف والقيمة ، هو التصور السابق عن اجزاء التجربة والنتائج المتوقعة منها.

في ماضي الزمان كان الاعتقاد السائد انه لا يوجد وسيط بين العين والواقعة. ما تراه بعينك هو عين الحقيقة. ولذا فالرؤية دليل على الحقيقة. لكننا نعرف اليوم ان العين مجرد ناقل للصورة الخارجية ، اما تعريف الصورة ثم تحديد طبيعتها وقيمتها، فهو من أعمال العقل.

ونعرف ان العقل لا يعمل في فراغ ولا يبدأ من الصفر ، فهو يبدأ أولا بتصنيف الصورة التي تلقاها ضمن واحد من الاف الاطارات والقواعد التي يختزنها ، والتي تشكل ما يشبه المنظار الذي يرى من خلاله الاشياء الجديدة. من هنا فثمة اجماع في العلم الحديث ، على ان المفاهيم والتصورات المختزنة في الذهن ، تعمل كوسيط بين عينك وبين الواقع. اي انك ترى الاشياء الجديدة من خلال التصورات المختزنة في ذهنك.

يختلف الناس في تقييمهم لعناصر الواقع ، كما يختلفون في وصفها ، لانهم في الاساس لا ينظرون اليها كعنصر بسيط مستقل ، بل كجزء في مركب له صورة وقيمة خاصة في أذهانهم. هذه الصورة قد تكون مستمدة من علم سابق او تصور شخصي او تجربة مع المركب ككل او بعض اجزائه.

مثال البنك المشار اليه نموذج عن كل شيء آخر نراه في حياتنا ، حيث نتعامل معه استنادا الى فهم مسبق لذلك الشيء ، او على الاقل تصور مسبق او حتى تخيل لماهيته وموقعه. العين مجرد ناقل للمشهد ، اما الذي يرى فهو العقل.

الشرق الاوسط الخميس - 11 ربيع الثاني 1445 هـ - 26 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4628711

19/10/2023

الناس شركاء في صياغة الحياة الدينية


ذكرت في مقال سابق انني مؤمن بان كل جيل من أجيال المسلمين ، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه مناسبا للايمان والتدين في عصره. وان هذه القناعة تعني امكانية ان يكون لكل عصر نموذج في الحياة الدينية ، مختلف عن العصور السابقة.

وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي ، فأجابني بالقاعدة المعروفة في الفلسفة اليونانية "لكل سؤال صحيح ، جواب واحد صحيح ، ولا يمكن ان يكون اكثر من واحد". وتطبيق هذه الفكرة ان الشريعة مجموع اجوبة الدين على أسئلة الحياة ، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله او الرسول.

أظن ان معظم من يسمع هذا الكلام ، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولا ومطابقا لما تعلمناه منذ الصغر.

رغم ذلك ، فهو لا يمنع تساؤلات جدية ، أولها: من قال انه بديهي. واذا كانت الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي ، فلماذا اجتهد القضاة والائمة والفقهاء على امتداد القرون التالية حتى يومنا ، فابدعوا آلاف الاحكام والتفاسير التي لم يعرفها زمان النبي؟.

قد يظن القاريء العزيز ان دور الفقيه مقتصر على تطبيق الآيات والأحاديث على القضايا الجديدة. وهذا غير صحيح. لأن السؤال الجديد وليد ظرف جديد ، فيحتاج لاجتهاد في تحديد الموضوع ، واجتهاد في تحديد النص الذي يناسبه. وكلا الاجتهادين عمل بشري يعتمد قواعد العلم والمنطق. ونعلم ان عمل العقل محكوم بخلفية صاحبه ، الثقافية والاجتماعية ، فضلا عن المستوى العام للمعرفة في زمنه. واحيل القاريء الى ما نقله الدكتور حيدر اللواتي عن عدد من كبار المفسرين والمحدثين المسلمين ، الذين انكروا كروية الارض ، اعتمادا على آيات او أحاديث توحي بانها مسطحة (الرؤية 16 اكتوبر). فهؤلاء الأعلام افترضوا انه لا يمكن مخالفة النص ، حتى لو قام الدليل على مخالفة الواقع لمفاده. لا نتوقع طبعا ان يأتي مفسر او فقيه معاصر بمثل هذا ، لأن الزمن تغير. ان الافق التاريخي للناس (ومنهم صاحب الفكرة) يحدد طريقة فهم الموضوع وطريقة البحث عن جوابه. وبالتالي فان رأي الفقيه او المفسر الذي نظنه مطابقا لمفاد النص ، هو في الحقيقة فهمه الخاص او الفهم السائد في زمنه. ولهذا يتغير مع تغير الزمان وموضوعات الحياة واساليبها ، فضلا عن تطور المعرفة واتساع ادراك الانسان لحقائق الطبيعة. اي ان الجواب الذي ظن انه الوحيد الصحيح ، ليس سوى الاحتمال الراجح في زمنه والمتناسب مع مستوى معارفه. وحين يتغير الزمان وتتسع المعرفة ، فسوف يكتشف الناس احتمالات بديلة.

ان استقلال العلوم عن بعضها ، واتجاهها للتخصص الدقيق هو اهم التحولات التي حصلت في القرنين الاخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادرا على الاحاطة بعلم الطب او الهندسة او الفلك او الرياضيات ، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم اللصيقة بدراسة الشريعة ، تحولت الى تخصصات متوسعة ودقيقة ، لا يمكن للفقيه ان يتفوق على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والادب والمنطق والفلسفة والتاريخ ، وكذلك العلوم الخاصة بالاثبات وفهم النزاعات ، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما يحتاجه القضاة.

ان اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي ، وارتقاء فهم الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيدا عن مدارس العلم الشرعي ، هي ما نسميه مشاركة عامة الناس ، مسلمين وغير مسلمين ، في فهم موضوعات الشريعة ، ثم في صياغة احكام الشريعة.

ما ندعو اليه اذن هو اقرار المشتغلين بالفقه ، بأنهم يعتمدون في كثير من عملهم على العلماء في الحقول الاخرى. فاذا كان لعمل الفقيه قيمة ، فان جانبا منها يرجع الى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة اجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية وتجربتهم الدينية. انه واقع قائم ، لكنه يحتاج الى اقرار وتنظيم.

الشرق الاوسط الخميس - 04 ربيع الثاني 1445 هـ - 19 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4614221


مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في رثاء د. طه جابر العلواني

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

نسبية المعرفة الدينية

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

12/10/2023

بدايات الانقسام الاجتماعي


النتيجة التي انتهى اليها مقال الاسبوع الماضي ، لم تلق هوى عند كثير من القراء الاعزاء ، بل اثارت بعض الجدل ، ولاسيما حول الربط بين ازمة الهوية وتراثنا الثقافي. فقد ذكر هناك ان هذا التراث "يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته". رأى الناقدون ان هذا ينطوي على تعريض بموقف الانسان من دينه. وتساءل أحد الاصدقاء: لماذا نجد الدين في كل جدل حول تحولات المجتمع.. الا يمكن ان نغض الطرف أحيانا؟.

يهمني هنا ايضاح فكرة ، اظنها غائبة عن أذهان بعض القراء الاعزاء. وخلاصتها ان التحولات الجارية في حياة المجتمع ، على مستوى العلاقات الداخلية والثقافة والاقتصاد والسياسة ، تتأثر من حيث السعة والعمق ، بعوامل عديدة ، سوف اركز على ابرزها في اعتقادي ، وهو الحدود الخاصة بالبنية الاجتماعية.

دعنا نتخيل النظام الاجتماعي شبيها بجسد الانسان ، الذي يتلقى تأثيرات الطقس والمشكلات الحياتية الاخرى ، فيقاوم بعضها ، ويتكيف مع البعض الاخر ، فيتعايش معه ، او يتفاعل فيؤثر فيه ويتأثر ، يزداد قوة او يضعف. ومثل هذه الحالات تحصل للمجتمع حين يتعرض للمؤثرات الخارجية ، مثل التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى او الحروب او الكوارث.

لا تأتي تلك المؤثرات على نسق واحد. كما ان المجتمع لا يتعامل معها بنفس الطريقة في جميع الأوقات. وقد ذكرت في الأسبوع الماضي ان التحولات العميقة في المجتمع السعودي ، ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، نظرا لنضج التنمية الاقتصادية وتغلغل انعكاساتها في مختلف الأوساط. وللاطلاع على بحث تفصيلي عن تأثير هذا العامل ، اقترح العودة الى كتاب د. سعيد الغامدي "البناء القبلي والتحضر" الذي قدم صورة مفصلة عن الحراك الاجتماعي ، لحظة استقبال أولى انعكاسات الاقتصاد الجديد ، في قرية زراعية جنوب المملكة. ان التأمل في هذه الحادثة تعين على فهم العديد من الظواهر التي عرفناها خلال السنوات التالية ، فيما يخص التكوين الاجتماعي وتوزيع مراكز القوة ، المعنى الاجتماعي للمال والثروة ، موقع المرأة في المجتمع والاقتصاد ، والموقف من الاخر الديني او المذهبي.

الذي حصل في سنوات التحول الاقتصادي تلك ، عبارة عن عاصفة هائلة القوة ، تمثلت في برامج التنمية الاقتصادية ، هبت على مجتمع ساكن ومستقر. ازدهار الاقتصاد يؤدي – بطبعه – الى تعزيز الفردانية على حساب الروابط الاجتماعية ، كما يحرك الطبقات ومواقع الافراد في سلم التراتب الاجتماعي ، فيرفع بعض من كان في المراتب الدنيا ويهبط بمن في الاعلى ، ويأتي بأفكار جديدة متعارضة – بالضرورة – مع الموروث والسائد. وتجري هذه كلها في وقت قصير ، فلا يتسع المجال للنظام الاجتماعي كي يعيد ترتيب أوراقه او ينظر في القادم الجديد. لهذا يعود المجتمع الى موقفه المفترض في الاصل ، اي الرفض والمقاومة. هذه المقاومة تمهد – شئنا ام ابينا – لانقسام اجتماعي ، بين المستفيدين من الوافد الجديد والمستفيدين من الوضع السابق.

المثال البسيط هو الاب الذي استمد جانبا من سلطته من انفاقه على ابنائه وبناته ، وسوف يخسر هذه السلطة اذا التحق الابناء بالوظائف ، وباتوا اغنى من والديهم. هؤلاء الابناء لن يحتاجوا أيضا الى الواعظ ، فقد صار بوسعهم مراجعة الكتب التي توفر معرفة تشبه ما يقوله الواعظ. ولن يحتاجوا شيخ القبيلة او كبير القرية للواسطة او الحماية ، فلديهم الشهادة المدرسية التي تمكنهم من الالتحاق بسوق العمل دون واسطة.

اظن ان هذا الشرح الموجز قد اوضح لماذا كان الدين في قلب جدالات التحول الاجتماعي. اما ما يخص مشاركة الناس في صياغة حياتهم الدينية ، فيحتاج معالجة اوسع ، ربما اعود اليها في مقال قادم.  

الخميس - 27 ربيع الأول 1445 هـ - 12 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4600181/

مقالات ذات صلة

استمعوا لصوت التغيير

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

صناعة الشخصية الملتبسة

طريق التقاليد

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

غلو .. ام بحث عن هوية

 ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب

من جيل الى جيل

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

 

05/10/2023

أزمة هوية؟


كرس د. محمدالرميحي مقالته المنشورة بهذه الصحيفة ، يوم السبت الماضي ، للتعليق على جدل عنيف ، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لالغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتسم هذا الجدل بعنف لفظي واضح من جانب الذين يدعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف ، بل يتعداه الى شتم صاحب الرأي ، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين ، وما اشبه.

وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي ، ان تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال اثار نقطة جوهرية ، تستحق المزيد من المعالجة ، وهي إشارته الى ان هذا الجدل وأمثاله يعبر عن "أزمة هوية" ، تتجلى كلما برزت على سطح الحياة اليومية ، تحديات الانتقال من عصر التقاليد الى عصر الحداثة.


وفقا لتعريف أريك اريكسون ، عالم النفس الأمريكي ، فان ازمة الهوية تعبير عن اخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية ، خصوصا في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة ، ثقافية واقتصادية ، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم ، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.

وقد لاحظت ان أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا ، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وانماط حياة جديدة ، تعارض ما ورثناه عن الاسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق يرجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم ، إضافة للتوسع في الحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. اما ذروة التحول فقد حدثت – وفق تقديري – في السنوات الخمس الماضية ، نتيجة لوصول الانترنت السريع الى كل قرية وبلدة في انحاء المملكة.

وفر الانترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله ، الا القليل من التأثير على ذهنية الفرد ، اما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه ، الذي يختار بوعي ومن دون وعي ، من موائد لا أول لها ولا آخر ، موائد بعيدة تماما عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.

كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحد جديد ، يدعمه نمط حياتي اكثر تقدما واكثر يسرا وجاذبية ، الامر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم او الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.

وفقا لرؤية اريكسون ، فان التحول المشار اليه ، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم ، ليس لأنهما يرفضان التفاهم ، بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلا من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة ، بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. ان حاجة الاب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة ، يؤدي بالضرورة الى قدر من التكلف والعناء ، الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية ، هي ما نسميه أزمة الهوية.

رؤية اريكسون تنطبق على الشباب. لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضا. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر ، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم ، تمثل مظهرا آخر لازمة الهوية.

اظن ان مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء ، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي ، الديني وغير الديني ، وبين متغيرات العصر الثقافية ، ولا سيما منظومات القيم الجديدة ، وما يترتب عليها من علائق بين الناس وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.

اعتقد ان شريحة واسعة من ابناء مجتمعنا ، من الآباء خصوصا ، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا ، لرأيناه في حقيقة ان تراثنا الثقافي يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلا ومتأثرا ، ان أراد التمتع بفضائل النظام القديم.

الشرق الاوسط الخميس - 20 ربيع الأول 1445 هـ - 5 أكتوبر 2023 م https://aawsat.com/node/4585886/

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

جدل الهوية الفردية وتأزماتها

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق

سجناء التاريخ

عن الهوية والمجتمع

فيديو : نادر كاظم وتوفيق السيف حول اشكالات الهوية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

28/09/2023

زمن ثقافي جديد


قد لا أبالغ لو قلت ان هذه الايام هي افضل ما مرت به الثقافة السعودية منذ زمن طويل. احتمل ان بعض الناس من الجيل السابق لي سيبتسم قائلا: ان النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي هي الحقبة الذهبية للثقافة ، فهي التي شهدت ابرز المعارك الثقافية ، وأرست حجر الزاوية الأبرز في تاريخنا الثقافي ، بين التقاليد والحداثة. انها الفترة التي انكسر فيها طوق التقاليد ، ليس في المدن الكبرى والمجتمعات المعروفة بالانفتاح ، بل في المجتمع السعودي كله ، أقصاه وأدناه.

حسنا. اعرف أن هذا صحيح. لكن دعنا نستعرض باختصار معنى الثقافة ، كي يتضح لماذا ارجح المرحلة الحالية على غيرها.

ينصرف لفظ الثقافة الى ثلاثة معان كبرى ، هي:

1-المعارف المكتوبة والمسموعة التي وضعت على نحو منظم ، واختزنت في وسائل حفظ معيارية ، كالكتب والاشرطة والخوادم الرقمية. وتشمل العلوم بمختلف حقولها ، والبرامج والمعادلات الرياضية ، والآداب بأنواعها والفنون المرئية كالأفلام واللوحات والخرائط وامثالها.

2-ما تخزنه الذاكرة الفردية والاجتماعية من قيم واعراف وقواعد عمل ، هي – في الغالب – نتاج للمعارف الموروثة والتجربة التاريخية للمجتمع. وهي تتفاعل كثيرا او قليلا ، مع النوع الاول فتعطيه وتأخذ منه. تتشكل هذه الذاكرة على صورة انطباعات وقيم وقناعات مستقرة ، وتسهم بقدر كبير في تشكيل موقف الفرد والجماعة من البشر والاشياء ضمن نطاقهم الحيوي. هذه الذاكرة ، التي نسميها ايضا "الذهنية" او "الخلفية الذهنية" او "العقل الجمعي" مسؤولة عن معظم السلوك العفوي للانسان ، وهي ايضا مسؤولة عن الاعم الاغلب من مواقف المجتمع تجاه ما يجري من حوله.

3-الطريقة التي يعبر بها الناس عن ذواتهم وعن آرائهم ومواقفهم وتجليات حياتهم ، في الفرح والحزن ، وفي العلاقة مع الغير ومع البيئة الطبيعية في نطاقهم الحيوي. ويدخل ضمنها اللغة (واللهجات) والفولكلور والازياء وطرق الاحتفال والعزاء ، كما تدخل فيها نظم البناء والعلاج ومفاهيم الجمال والتجميل ، وكل عرف او تقليد يمثل مظهرا من مظاهر الحياة التي يختص بها المجتمع ويتمايز بكيفيتها عن غيره.

المعاني السابقة تكشف ان الثقافة ليست مجرد افكار يتداولها الناس ، وليست مجرد تعبيرات عن قضايا حياتية بعينها ، بل هي الوسيط الذي يربط الانسان بكل شيء آخر. إنها اقرب الى ما يعرف في عالم الالكترونيات بالبرامج التي تربط جهازا بجهاز آخر ، فتمكن الجميع من التفاعل والعمل بشكل متوائم.  الثقافة اذن هي السوفتوير software او الوسيط الذي يمتد من عقل الانسان الى كل شيء آخر ، فيجعلها قابلة للتفاعل.

لأن الحياة متنوعة ، فان كل مجتمع يتفاعل مع بيئته الطبيعية ومحيطه الانساني على نحو معين ، فيؤلف تجربة حياتية مختلفة كثيرا او قليلا عن تجارب المجتمعات الاخرى. ان مجموع التجارب المختلفة ينتج تاريخا مختلفا. ومن هنا يأتي التنوع الاجتماعي في التعبير عن الذات ، اي محتويات المعنى الثاني.

في الازمنة الماضية ، كان الاحتفاء بالثقافة يعني بصورة محددة جانبين ، هما الأدب ولاسيما الشعر ، والمعارف الدينية. وهما جزء من محتويات النوع الأول. وكان النوع الثالث ، ولاسيما الفولكلور والفنون يقام في نطاقات ضيقة جدا. بل استطيع الادعاء ان بعض الاطراف كانا مهتما بحجب التنوع الذي تتميز به المملكة ، واظهار وجهها الثقافي احادي اللون ، لا يعبر عن اي بيئة من البيئات الاجتماعية العديدة فيها.

في هذه الأيام تعود الثقافة الى دورها الطبيعي كتعبير عن حركة الحياة ذاتها ، بما فيها من تنوعات وتموجات وألوان. نشهد الفولكلور المحلي يعود للواجهة بعد غياب طويل ، كما نشهد عودة المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل. الازياء والطبخ وانظمة البناء التقليدية ، تستعيد مكانتها كتعبير عن ثقافة المجتمع.

ثمة عنصر في غاية الأهمية ، أشعر انه لازال بعيدا عن الاهتمام وهو البحث العلمي والنشر العلمي. لا تنمو الثقافة ولا يتقدم المجتمع دون حياة علمية نشطة. الحياة العلمية تعني انتاج العلم وترجمة العلوم ونشرها وجعلها متاحة لعامة الناس صغارا وكبارا.  

الشرق الاوسط الخميس - 13 ربيع الأول 1445 هـ - 28 سبتمبر 2023 م https://aawsat.com/node/4572446

 مقالات ذات صلة

اخلاق المدينة وحدودها

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

فكرة التقدم باختصار

الفكــرة وزمن الفكـرة

القيم الثابتة وتصنيع القيم

من ثقافة النخبة الى ثقافة الشارع

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...