20/04/2022

أصنام الحياة

"صنم المسرح" هو العنوان الذي أطلقه الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) على الآراء والتقاليد والعناصر الثقافية الأخرى ، التي نرثها عن أسلافنا ، وتسهم في تشكيل الجانب الأبرز من ذهنيتنا ، اي خلفية سلوكنا وتفكيرنا في الحياة والأشياء.  

كلنا نتأثر بتراث الأسلاف ، فهو الوسط الطبيعي لحياتنا المبكرة. وهو الذي يربطنا بالأشخاص الآخرين في محيطنا العائلي ، منذ لحظة ولادتنا. وحين نشب عن الطوق ، ونبدأ في التعرف على العالم خارج إطار العائلة ، عندها نتعرض لمصادر تأثير أخرى ، أطلق عليها بيكون اسم "صنم السوق".

فرانسيس بيكون

"صنم السوق" هو ما نسميه اليوم الرأي العام  أو الثقافة العامة ، اي الانطباعات الاجمالية التي يحملها غالبية الناس ، وطريقة تعبيرهم عن مواقفهم تجاه ما يحبون وما يكرهون ، ومنها أيضا نظرتهم للآخرين: الزعماء والشخصيات المشهورة ومصادر التأثير الثقافي ، وكذا نظرتهم للحوادث والنزاعات والقضايا المثيرة للاهتمام.

"صنم المسرح" و "صنم السوق" اثنان من أربعة أصنام ، اتخذها الفيلسوف نموذجا تحليليا لفهم حركة العقل البشري ، والطريقة التي يتبعها في تفكيك الاشياء وانتاج المعاني التي تعيد ربطها بحركة الحياة. كان بيكون يسعى للاجابة على سؤال في غاية الجدية ، نلخصه على الوجه التالي:

-         حين نفكر في موضوع ، هل تعمل عقولنا بصورة مستقلة ، فتنظر للاشياء نظرة محايدة. ام أنها – على العكس - تعمل كمرآة تكثف ما يوجد في البيئة الاجتماعية ، وتقرأ الخط الجامع فيما بينها ، ثم تعيد انتاجه على شكل قاعدة أو فكرة؟.

حاول بيكون والعديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين جاؤوا من بعده ، وضع خط يميز ما هو نتاج حقيقي للعقل ، اي ما نسميه التفكر ، عما هو مجرد تكرار لما يعرفه الناس وما اعتادوا عليه. حاول هؤلاء المفكرون ايضاح ان العقل لا يعمل في فراغ ، بل هو عرضة للتأثر بعوامل مختلفة ، بعضها نابع من داخل الانسان (مثل حاجاته الشخصية وهمومه وميوله ونتائج التجارب التي خاضها بنفسه) وبعضها الآخر هو انعكاس للمعارف والمواقف والهموم الدائرة في المجتمع ، والتي توجب على اعضائه ان يتبنوا منها موقفا منسجما مع التيار الاجتماعي الاوسع.

بعبارة اخرى فان عقل الانسان – من حيث المبدأ – ابن بيئته. لكن هذا الاساس لا يبقى على الدوام. بقدر ما ينفتح الانسان على أجواء مختلفة ويلتقي مع اشخاص جدد ، ويقرأ أفكارا غير مألوفة ، فان عقله سيبدأ باكتشاف ذاته المستقلة عن تأثيرات المحيط وتراث الاسلاف. في هذه المرحلة يتخذ العقل دور المحقق الذي يسائل ما استقر في تلافيف الذاكرة ، ويجادل ما يتوجه اليه من الخارج ، قبل ان يقبله أو يرفضه.

هذه هي مرحلة الانعتاق والتحرر الداخلي ، التي ينبغي لكل انسان ان يجاهد كي يبلغها. وهي مرحلة لا تخلو من عسر ، بل كفاح مرير للتحرر من هيمنة القناعات التي ترسخت في ذهن الانسان وتحولت الى بديهيات لا يفكر فيها الانسان ولا يسائلها ، واشياء ارتبطت بها مصالحه وعلاقاته ونظام معيشته ، فليس من السهل ان يتنكر لها او يخاتلها. هذه هي الاصنام التي اسماها بيكون "اصنام المسرح" و "اصنام السوق".  

من المهم ان نفهم جيدا هذا السياق ، لأننا سوف نواجه – اليوم او غدا – تلك الاسئلة العسيرة. نحن بحاجة لتوجيه الأسئلة الصحيحة الى انفسنا قبل الغير ، الاسئلة الضرورية لتنوير انفسنا وعقولنا ، سواء اقتنع الآخرون بها ام لا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 شهر رمضان 1443 هـ - 20 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15849]

https://aawsat.com/node/3601166


مقالات ذات علاقة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الـدين والمعـرفة الدينـية

الصنم الخامس

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

نسبية المعرفة الدينية

الهوية المتأزمة

 


13/04/2022

من عقلية القطيع الى تصلب الشخصية

 

تخبرنا أبحاث "الثقافة السياسية" عن مجتمعات تمتاز بقابلية عالية للمساومة والتوصل الى مطالبها ‏من خلال التفاوض. وثمة في المقابل ، مجتمعات ترفض - من حيث المبدأ - المساومة والحلول الوسط. بل ربما تعتبر الداعين للمساومة مفرطين أو حتى خونة.‏

لتوضيح الفكرة ، افترض اني طرحت السؤال التالي على 10 أشخاص في بلد عربي: لدينا خلاف على حقوق ندعيها ، ‏ويمكننا تحصيل نصفها من خلال التفاوض ومن دون خسائر كبيرة. فهل نقبل بالنصف ام نتمسك بمطالبنا كلها ‏مهما طال الزمن؟. ‏

اعتقد ان سبعة من هؤلاء الاشخاص سيقبلون النصف ، لانه مضمون وغير مكلف. ‏سيقول بعضهم: دعنا نستثمر ما حصلنا عليه ونعيد بناء النصف الآخر من جديد. لكن الثلاثة الباقين سيرون ‏التخلي عن حقوقنا جبنا وانهزامية. وسيقولون مثلا: ليس مهما ان تكسب الماديات ، المهم ان تكسب نفسك وتقاتل دون حقك مهما طال الزمن. ‏

لعل بعض القراء الأعزاء يوافقني في ان عصفورا في اليد خير من عشرة على الشجرة. ولعل غالبية الناس سيذهبون نفس المذهب.‏

لكن الذي لاحظناه ان طريقة المجتمع العربي في اتخاذ المواقف السياسية ، تتناقض تماما مع هذا ‏المنهج. في القضايا القومية (فلسطين مثلا) وكذا القضايا القطرية ، يطالب الناس بالعصافير العشرة جميعا ، ويرفضون اي ‏مساومة عليها. وأرى ان هذا من الأسباب التي عطلت حل المشكلات الكبرى التي تواجه البلدان ‏العربية.

وقد اخبرني الصديق الدكتور منقذ داغر ، انه يجري بحثا على المجتمع العراقي ، يتناول مفهوم "تصلب ‏الشخصية" الذي يعني بشكل محدد  عدم القدرة على المساومة والتفاوض ، حيث تشير ‏البحوث الميدانية الى ان ما نتحدث عنه بشكل انطباعي ، يعكس صورة حقيقية قابلة للاثبات العلمي: ‏ان المجتمع العراقي يتصف فعلا بتصلب الشخصية.‏

من المفهوم طبعا ان البحوث ‏العلمية تعتمد القياس النسبي ، الذي يعطي فكرة اجمالية عن سمة غالبة او ميل عام لمجتمع بعينه ، لا أن كل شخص يحمل هذه الصفة. ‏

لم اوفق لأجراء دراسة من النوع الذي يجريه الدكتور داغر. لكن تأملاتي في كلام الناس وتعاملاتهم  ‏العادية ، اوصلتني الى كشف ازدواجية في الموقف ، شائعة جدا في المجتمع العربي.

بيان ذلك: لو عدنا الى السؤال السابق ، فوجهناه الى عشرة اشخاص ، كلا بمفرده ، فسوف يوافق 7 منهم على المساومة والحل الوسط. لكن لو وجهنا نفس السؤال الى جمع غفير ، فسينهض الثلاثة الآخرون ، ويلقون خطابا مجلجلا حول الإهانة العظمى التي تلحق بالأمة التي ترضى بالحلول الوسط. وعندئذ سوف ترى الكفة مائلة بشدة الى جانب هذا الموقف.

وتسأل نفسك: هل تخلى السبعة السابقون عن رأيهم لمجرد استماعهم الى خطاب الثلاثة؟.

الواقع انهم لم يتخلوا ، لكنهم بدأوا ينظرون الى زاوية أخرى ، هي زاوية القيم والمباديء (التي - لسوء الحظ - تم فصلها عن قواعد المنطق ومتطلبات الواقع). ربما بدأ بعضهم يقول لنفسه: هل يمكن ان يكون سبعة اشخاص على صواب بينما كافة الناس الاخرين على خطأ؟. او ربما قال: هل يصح ان اتخلى عن القيم والمباديء من أجل حطام الدنيا الفانية؟.

لقد كانت هذه الأسئلة مطروحة فعليا على اليابانيين في يوليو 1945 ، والثقافة اليابانية شبيهة بنظيرتها العربية في التصلب. لكنهم – مع ذلك – اختاروا القبول بما دون النصف. اما مسلمي الهند ، فقد واجهوا نفس السؤال في نفس الوقت تقريبا ، فاتخذوا الاتجاه المعاكس الذي انتهى الى إقامة دولة الباكستان. ولهذا وذاك قصة أخرى ربما نعود اليها قريبا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر رمضان 1443 هـ - 13 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15842]

https://aawsat.com/node/3588631

06/04/2022

الذات الجمعية وعقلية القطيع

 

ذكرت في الاسبوع الماضي ان اول مقدسات التغيير هو تعزيز الايمان بالذات الجمعية ، وخلاصتها اننا – كمجموع – قادرون على النهوض وصناعة مستقبل مختلف. وقد أشكل الصديق سامي الخزاعي على هذه الفكرة ، بأنها قد تنتهي الى تسويد عقلية القطيع ، وقتل الروح الفردانية الضرورية للنهضة.

وقد وجدت الخزاعي محقا في قلقه. لدينا تجارب عديدة تشير لانقلاب الحراك النهضوي الى حالة شعبوية ، تخدم مصالح خاصة لطبقة او فئة حزبية ، او ربما تخضع لقناعات شخصية ، يصعب القطع بكونها مطابقة لمصالح المجتمع العليا.

مصنع مدرعات في المانيا النازية

أمامي أمثلة عديدة ، أبرزها تجربة الحزب النازي الذي نجح خلال فترة وجيزة في انهاء الفوضى العارمة التي أغرقت ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى ، وحولها الى دولة صناعية في غاية القوة والانضباط. لقد انضم غالبية الألمان الى مشروع النهضة هذا ، إيمانا بشعاره المحوري "ألمانيا فوق الجميع" ، الذي شكل صلة الوصل بين مشروع النهضة والمجتمع الألماني. لكننا نعلم ان هذا المشروع العظيم ، انقلب الى مبرر للقضاء على كل راي مخالف ، وقمع كل مختلف أو معارض للأيديولوجيا الرسمية.

وجدنا حالة قريبة من هذه في مصر الناصرية ، التي سعت لحشد المجتمع وراء فكرة التحرير والنصر على اسرائيل. ونعرف ان مصر قد تأخرت بمسافة شاسعة عن أقرب منافسيها ، بسبب هيمنة العسكر والمصفقين ، وانكفاء اصحاب الرأي والخبرة او اقصائهم. واسمع عن حالة قريبة من هذه في المناطق الخاضعة لنفوذ حزب الله في لبنان ، حيث لا يسمح بأي صوت يتعارض مع شعارات الحزب ومتبنياته الايديولوجية والسياسية ، وكل ذلك تحت عباءة المقاومة والتصدي لما يسمونه المؤامرة الدولية.

ورأيت بعيني تطبيقا لنفس الفكرة في ليبيا في عهد العقيد القذافي ، الذي نجح في جعل أساتذة الجامعات واهل الرأي ، يرتجفون رعبا أمام موظف حصل بالكاد على الشهادة الثانوية ، لا لشيء الا لأنه حفظ مقولات "الكتاب الأخضر" واقاصيص الزعيم الملهم.

هذه اذن مشروعات ، بدأت – ربما - بحسن نية ، وساندها جمهور الناس عن قناعة بأن الحركة – ولو كانت خاطئة – خير من الجمود. لكنها انقلبت الى حركات شعبوية ، تحول الناس من فاعلين في الحياة او صانعين للحياة ، الى كومبارس في فرقة موسيقية ، دورهم الوحيد هو ترديد ما يقوله الرئيس/المايسترو.

لا ينبغي الظن بأن هذا مصير كل حركة نهضوية. فلدينا تاريخ البشرية كله ، شاهد على أن غالبية التجارب النهضوية ، انتجت حضارات او شاركت في انتاج مسارات حضارية. ولولا ان معظمها نجح وأفلح ، لما كنا نستمتع اليوم بعالم متطور تكنولوجيا ومتطور قانونيا وانسانيا. في تجربة الهند واليابان والولايات المتحدة وغيرها ، أمثلة ناصعة على قابلية المجتمع لتوليف حراك جمعي ، رغم كثرة الاختلاف بين اطيافه ، وفيها أيضا دليل على قابلية المجتمع الناهض ، للحفاظ على التوازن الضروري بين بروز الذات الجمعية من جهة ، واحترام استقلال الأفراد من جهة ثانية.

زبدة القول انه ليس مستبعدا ، ان يتحول النهوض الاجتماعي الى محرقة للحريات العامة وحقوق الانسان. لكن تجربة الانسانية التي كشفت لنا عن هذه الامكانية ، أكدت لنا ايضا ان معظم التجارب انتهت الى نتائج سعيدة للانسان وعالمه.

أبرز ما نستخلصه من تلك التجارب ، هو الترتيب الموضوعي بين المقصد الاساس ، اي النهضة ، وبين النواتج الجانبية المحتملة ، مثل الاستبداد وقمع الحريات العامة. لا ينبغي بطبيعة الحال التهوين من خطورة هذا الناتج. لكن علينا ان لا نغفل ايضا حقيقة انه يأتي في المرتبة الثانية ، فلا يصح التردد في المشروع النهضوي خوفا من الاحتمالات السلبية المصاحبة له.

الشرق الأوسط الأربعاء - 5 شهر رمضان 1443 هـ - 06 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15835]

https://aawsat.com/node/3574801

 

مقالات ذات علاقة

احتواء التحدي وتحييده

اخلاق المدينة وحدودها

استنهاض روح الجماعة

اعادة بناء الاجماع الوطني

انهيار الاجماع القديم

حول الاجماع الوطني

مقدسات التغيير

مقدسات التغيير: مراجعة أولى

من الكويت الى نيوزيلندا: "هذولا عيالي..."

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

30/03/2022

مقدسات التغيير: مراجعة أولى


ولدت هذه الفكرة بعدما قرأت عتابا للصديق عبد العزيز بن حمد ، على "تويتر" ، منصة التدوين القصير المشهورة. وفحوى ذلك العتاب ان كاتب هذه السطور وعد تكرارا بالعودة لاستكمال فكرة ناقصة ، في مقال آخر ، لكنه لم يفعل. ومن أبرز ما حضرني اثناء قراءة هذا العتاب ، مقالة نشرتها في صحيفة الاقتصادية قبل 8 سنين ، وهي مستوحاة من رؤية المؤرخ المعروف أرنولد توينبي ، حول قابلية المجتمع لمواجهة التحديات الكبرى. وقلت يومها اننا بحاجة لتبني ثلاثة مبادئ ، بل رفعها الى مرتبة القداسة ، كي تكون دليلا لحركتنا نحو المستقبل. ووعدت في نهاية المقالة المختصرة بالعودة الى شرح الأفكار ، لكني – للانصاف – لم أرجع لها الا لماما أو عابرا.

سوف اخصص هذه المساحة للتذكير بالمبدأ الأول من مقدسات التغيير ، وهو  تعزيز الايمان بالذات الجمعية. وخلاصته اننا – كمجموع – قادرون على حل مشكلاتنا بأنفسنا ، قادرون على تجاوز خلافاتنا والانصهار في بوتقة فكرة قائدة ، هي فكرة التقدم. بل نحن قادرون أيضا على منافسة الآخرين الذين تقدموا علينا ، في بعض الجوانب على الأقل ، بما يقيم نوعا من التوازن النفسي ويعزز الثقة في الذات.

لا أظن أحدا يخالف هذه الفكرة. فنحن نسمعها من عشرات المتحدثين ، بين حين وآخر. لكننا مع ذلك لا نشعر اننا نسير حثيثا في طريق التقدم. هذا على الأقل ما تلمسه من مقالات الصحافة المحلية ، ومن تعليقات الناس في منصات التواصل الاجتماعي.

والذي أظن ان الفكرة السابقة ككل ، غير واضحة في أذهان غالبية الناس. فهناك أولا اختلاط هدف التقدم ، باعتباره الغاية الأسمى للنظام الاجتماعي ، مع الأهداف الصغيرة او الآنية ، مثل عدم توفر وظائف للجميع ، غلاء المعيشة ، ضعف مستوى الخدمات البلدية.. الخ. ان انشغال الناس بأمثال هذه المشكلات يحملهم على الاعتقاد بان التقدم الذي يذكرونه ، ليس له معنى غير علاج تلك المشكلات. واضافة الى هذا ، فهناك من يلخص فكرة التقدم في الرفاهية ، التي تعني مزيدا من المال والاستهلاك وتجميل مرافق العيش.

لعل اقرب نموذج عملي لفكرة التقدم (في التجربة السعودية على الأقل) هي "رؤية 2030" والبرامج العملية المساندة لها.  وهي مخطط ضخم جدا ، اعتقد أنه سيغير وجه الحياة في المملكة ، حتى لو انجز نصف المشروعات المخططة في إطاره فقط.

وضعت "رؤية 2030" على ضوء نظرية التنمية الكلاسيكية ، التي تربط النمو الاجتماعي المتعدد الجوانب بالمحرك الاقتصادي. ومن هنا فان غالب مشروعاتها تندرج ضمن نسق تحديث الاقتصاد ، وهو ايضا المبرر الرئيس للدور المحدود - نسبيا – للمجتمع الأهلي في سياسات "الرؤية" ومشروعاتها.

خلال الاعوام الثلاثة الأخيرة ، لاحظت اهتماما أكبر بدور المجتمع الأهلي ، ولا سيما في مساندة التحولات الثقافية المرافقة لتطور مشروعات "الرؤية". لكن المسافة لازالت شاسعة بين الواقع الراهن والدور الذي ينبغي للمجتمع ان يؤديه في دعم الرؤية وحمايتها.

في اعتقادي ان انفعال المجتمع بهدف "التقدم" ، وتبنيه لعناصره ومفاهيمه ، هو السبيل الوحيد كي يتحول المجتمع من متفرج على برامج الانماء ، الى شريك فاعل في انشائها وحمايتها وتطويرها. المجتمع الذي نتحدث عنه هو الجماعة الوطنية ، اي كافة المواطنين باعتبارهم أمة واحدة ، هذا يفهم وفقا للقول المشهور "التعدد في اطار الوحدة الوطنية" اي هوية جامعة تحتضن بين جناحيها هويات قومية ومذهبية ودينية وثقافية متباينة ، تتفاعل ولا تتزاحم.

الشرق الأوسط الأربعاء - 27 شعبان 1443 هـ - 30 مارس 2022 مـ رقم العدد [15828]

https://aawsat.com/node/3561826/

 

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

استنهاض روح الجماعة

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

الطريق الى 2030

عجلة التنمية المتعثرة

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

23/03/2022

هل تعرف المفكرة؟


أغلى نصيحة تلقيتها ، هي التدوين. فقد حولتني من قاريء الى عاشق للبحث والكتابة. وهذه قصتها:

كنت في الصف الثاني ثانوي حين اخبرت أستاذا لي بكثرة ما يراودني من أسئلة وأفكار ، أريد طرحها للنقاش ، لكني لا أتذكرها في الوقت الملائم. قد أكون ماشيا في طريق المدرسة ، او منشغلا بقراءة كتاب ، او جالسا في الصف ، وأحيانا أكون في المزرعة او المقبرة ، فتنبثق في ذهني فكرة لا علاقة لها بالمكان او الزمان او الموضوع الذي أنا منشغل به. فأقول لنفسي: سأعود لاحقا للتفكير في هذا الأمر. لكن هذا "اللاحق" لا يأتي أبدا ، لأن تلك الفكرة تتلاشى من ذهني بعد دقائق فحسب ، ولا أعود قادرا على استذكارها.


قال الأستاذ مفسرا: ان هذا هو الذي يسمى "شوارد الأفكار". وهي نظير ما أشار اليه المتنبي في شعره المشهور: "أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم". قلت مستدركا: ما الذي تنصح به إذن؟. فاعتدل الأستاذ في مجلسه وأشار الى جيب صغير في باطن معطفه ، ثم قال فيما يشبه السؤال: هل تعرف هذا الذي يسمونه مفكرة؟. قلت: نعم اعرف هذا الذي يسمونه مفكرة ، واعرف ان قيمتها 100 فلس. فقال لي اشتر واحدة وضعها مع قلم حبر في جيبك ، وكلما راودك سؤال او  فكرة ، بادر بتسجيل ثلاث كلمات او أربع ، تذكرك به ، ولا تؤجله أبدا.

منذ ذلك اليوم التزمت بتسجيل ما يراودني من أفكار ومن أسئلة. ربما أكتب عنها سطرا أو دونه ، وحين يأتي المساء اسجل الفكرة بقدر من التفصيل ، في دفتر خاص. وقد لاحظت ان الكتابة الثانية تأتي أوسع كثيرا من الفكرة الأولى ، بل ربما أثارت أسئلة جديدة.

ثم بدأت أسجل ملخصات للمقالات والكتب التي أقرأها  ، والمحاضرات التي استمع إليها ، وأسجل أحيانا المعلومات التي أشعر انها ذات قيمة ، وأضيف الى هذه وتلك ما يعن لي من ملاحظات على الأفكار وأصحابها. ومع مرور الأيام تحولت هذه الى عادة ثابتة ، فامتلأ الدفتر بعد الدفتر ، وصرت اعود اليها لاستذكار الأسئلة والقراءات السابقة. وحين بدأت في استعمال الكمبيوتر ، شرعت في الكتابة عليه بدل الدفاتر.

يسألني بعض الأصدقاء أحيانا عن الآراء التي استشهد بها والكتاب الذين اذكرهم ، وهم يتخيلون ان ذاكرتي حديدية ، أو انني اقضي اليوم كله في القراءة. الواقع ان سلاحي الوحيد هو تلك الملخصات والمدونات ، التي ترجع الى سنين طويلة. والتي كتبت عشرات المقالات والأبحاث اعتمادا عليها.

لو سألتني عن أفضل شيء فعلته لنفسي ، لأخبرتك انه التدريب على الكتابة وممارسة الكتابة. لأنها شجعتني على اقتحام عوالم لم أتخيل وجودها قبلئذ ، وساعدتني على تنظيم أفكاري. كما كشفت لي عن ضعف معرفتي في كثير من الحقول ، حتى تلك التي أدعي أنني ركزت عليها وتخصصت فيها. الكتابة التي تشعرني بجمال الحياة وبالسعادة ،  ثمرة من ثمرات التدوين. ولهذا اعد نصيحة الأستاذ تلك ، أغلى ما تلقيت في حياتي العملية.

واذا كان لي من نصيحة أقدمها لأصدقائي القراء ولعامة الشباب في بلدنا وغيره ، فهي التدوين: تدوين الأفكار التي تراودك والأسئلة التي تولدها تأملاتك في العالم والأشياء ، وملاحظاتك على ما تراه وما تقرأه وما تسمعه. إذا بدأتم في التدوين فسوف يقودكم هذا بشكل طبيعي الى نشر أفكاركم ، والانضمام الى قبيلة صناع العلم ونقاده ، وأحسب ان كثيرا منكم يرغب في هذا.

الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شعبان 1443 هـ - 23 مارس 2022 مـ رقم العدد [15821]

https://aawsat.com/home/article/3547491/

 مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

صناعة الشخصية الملتبسة

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

هل "تغوغلون" من المهد الى اللحد؟

  

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...