18/03/2020

من دروس "كورونا"


||ادعو لبحث معمق لتحديد مايتوجب توفيره – في ظروف الازمة - من مصادر محلية، سيما ما يؤثر مباشرة في حياة الناس بقطع النظر عن الحسابات التجارية البسيطة||.
في كل حادثة دروس وعبر ، تستحق ان يتوقف الناس عندها كي يعمقوا خبراتهم الحياتية. ان جانبا عظيما من تقدم البشرية ، يرجع الى المشكلات التي واجهتها المجتمعات ، فطورت حلولا لها وأساليب للتخفيف من آثارها ، وقواعد للوقاية من تكرارها. لو لم نواجه الأمراض ، لما تطور علم الطب ، ولا تطورت المختبرات التي انتجت الأدوية والأمصال.  

وباء الكورونا المستجد الذي يجتاح العالم اليوم ، مثال على تلك الحوادث التي كشفت عن نقاط قوة جديرة بالتقدير ، الى جانب نقاط ضعف جديرة  بالمعالجة. ثمة الكثير مما يستحق الذكر في هذا المجال. لكني أود التركيز على نقطة محددة ، لفتت انتباهي بصورة خاصة ، لانها تكررت في اكثر من دولة خلال تجربة الكورونا الاليمة .
 لقد اظهر الوباء  ان فكرة كون "العالم قرية" لم تعد تعبيرا مجازيا عن سهولة التواصل وسرعته. تحول العالم في القرن الجديد الى شبكة هائلة من الوحدات المتفاعلة ، التي نسميها مجتمعات او دول. هذه الوحدات ، مستقلة عن بعضها من الناحية القانونية ، لكنها متصلة على المستوى الاقتصادي والمعرفي ، اتصالا يجعل الحياة في كل منها ، مشروطة – الى حد ما – بانفتاحها وتواصلها مع الوحدات الاخرى.
لاحظنا ان تفاقم وباء الكورونا في الصين ، ادى الى اضعاف التبادل التجاري والسياحة والنقل على امتداد الكرة الارضية. وتبعا لذلك انخفض الطلب على البترول واسعاره ، وتهاوى العديد من البورصات في شرق الأرض وغربها. وقد حدث هذا حتى قبل ان ينتقل الوباء الى دول أخرى ، فينشغل العالم بمكافحته ، من اجل البقاء على قيد الحياة.
هذا الامر طيب بطبيعة الحال ، لولا ان الوباء كشف عن عنصر نقيض ، اعني به شعور جميع الدول بالحاجة الى العزلة ، وقيامها فعليا باغلاق حدودها الخارجية ، ثم قيام بعضها باغلاق المدن المصابة. نعلم ان اغلاق الحدود الدولية وكذلك اغلاق المدن ، يتسبب في اضعاف سلاسل الامداد والتموين ، ويقلص الاستفادة المتبادلة من فائض الامكانات المتوفرة على امتداد العالم. ولعل ابرز الامثلة على هذا هو اعلان  العديد من دول العالم حظر تصدير المواد الطبية اللازمة للتعامل مع الوباء ، خشية التأثير على المخزون الوطني.
ندعو الله ان لا يبتلي العالم بجائحة مثل كورونا في المستقبل. لكن الوباء القائم اثبت بالتجربة ان الاعتماد المتبادل مفيد وضروري ، شرط ان لا نغفل الاستثناءات. كل دولة – ونحن بالتاكيد من بينها – بحاجة الى منظومة امداد محلية مستقلة مئة بالمئة ، خاصة بالمواد الضرورية للحفاظ على حياة السكان.  يرد في ذهني الان أمثلة محددة على هذا النوع من المواد ، من بينها ادوات التعقيم ولوازم النظافة والوقاية الاولية. لكني ادعو لبحث تخصصي ، يستهدف تحديد الحاجات الحرجة والضرورية ، التي لا يصح الاعتماد في توفيرها على مصادر ، لا يمكن التنبؤ بحساباتها في الظروف الحرجة ، كالتي يمر بها العالم هذه الايام. اظن ان من واجب كل دولة ان تسعى لتوفير هذه المصادر المحلية ، آخذة بعين الاعتبار حياة الناس ، بغض النظر عن الحسابات التجارية البسيطة.
لا يصح السماح بان تكون حياة ملايين المواطنين ، عرضة لتقلبات السوق او لسياسات وحاجات دول اخرى. وهذا يتطلب بالتحديد ان يعمل كل بلد على تحديد الحاجات الحرجة ، والعمل على توفيرها من مصادر محلية مئة بالمئة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 24 رجب 1441 هـ - 18 مارس 2020 مـ رقم العدد [15086]



11/03/2020

المساواة بين الخلق ... المساواة في ماذا ؟


هذا المقال موجه لأولئك الذين يعارضون المساواة بين المواطنين ، والمساواة بين الرجال والنساء. وهو يستهدف توضيح موضوع النقاش وتفصيح اسئلته. وأحسب ان بعضهم قد تساءل يوما: ماهو موضوع المساوة التي نعارضها؟.
"المساواة في ماذا؟" كان عنوان محاضرة القاها الاستاذ امارتيا سن ، امام ندوة بجامعة ستانفورد الامريكية ، في مايو 1979. أمارتيا سن اقتصادي وفيلسوف من الهند ، ساهم في تحويل فكرة العدالة من امثولة نظرية متعالية ، الى بناء اقتصادي وتوزيعي يندرج بسهولة ضمن السياسات الحكومية.
يصنف امارتيا سن ضمن تيار المساواتية الذي ينسب لجون رولز ، لكنه عارضه في تشخيص موضوع المساواة ، اي في الاجابة على سؤال: كيف يتطور  المجتمع السياسي نحو العدالة. كان رولز قد ركز على "التوزيع المتساوي للموارد الاجتماعية الأولية" وهي:
1-     الحريات والحقوق الاساسية ، التي تندرج تحت عنوان حقوق الانسان.
2-     حرية الحركة والاختيار بين المهن والوظائف. وبينها الولايات العامة.
3-     الدخل وتكوين الثروة.
4-     التزام المؤسسات الاجتماعية باحترام الافراد ، على نحو يجعلهم اعزة واثقين من انفسهم ، وراغبين في صناعة حياتهم.
قال رولز ان تطور النظام الاجتماعي نحو العدالة ، رهن بالتزامه توفير الاطار المؤسسي ، الذي يمكن كافة المواطنين من التمتع بالموارد الاولية المذكورة بصورة متساوية. لكن امارتيا سن يقول:
أ‌)                  ان توفير الموارد المذكورة بمستويات معقولة ، عبء ثقيل ماديا وقانونيا وسياسيا. ولا يمكن للدولة حمله الا بمساعدة كاملة ومخلصة من جانب المجتمع. هذا يتطلب ان يكون المجتمع قادرا – سلفا -على تقديم العون.
ب‌)            لدينا تجارب فعلية ، تظهر ان الاساس القانوني للتوزيع المتساوي للموارد الاولية المذكورة ، كان متوفرا بالفعل. لكن لم يستفد منه سوى اقلية صغيرة من المواطنين. لان البقية كانت تفتقر للمعلومات ، او كانت غير متصلة بالدورة الاقتصادية العامة ، او غير ممثلة بشكل فعال في الادارة الرسمية ، او كانت تعاني من حواجز ثقافية او سياسية ، تحجبها عن الفرص المتاحة في المجال العام ، او غير ذلك من الاسباب.
ان رؤية رولز قد تكون مفيدة في المجتمعات الصناعية ، حيث تتوفر منظومة قانونية واقتصادية متفاعلة. اما في المجتمعات النامية ، فانه ينبغي الاهتمام بتمكين الافراد ، والمجتمع المحلي ككل ، من المشاركة في اصلاح النظام القائم عبر مساهماتهم العملية اليومية ، حتى لو كانوا يعملون ضمن مؤسسات متخلفة او حتى فاسدة.
تحقيق المساواة عند امارتيا سن ، يتطلب معالجة طويلة الأمد ، يشارك فيها – بالدرجة الاولى – الاشخاص الأكثر حاجة الى اقرار المساواة ، كمضمون جوهري للنظام الاجتماعي /السياسي. ولكي يكون هؤلاء قادرين على المشاركة الفاعلة ، فان المطلب الاولى هو جعل منظومة العلاقات الاجتماعية منفتحة على محاولات التغيير ، ولا سيما تلك التي تأتي من جانب عامة الناس.
من هنا دعا لتركيز الجهود على توفير الخدمات الاساسية التي تمكن عامة الناس من تحسين حياتهم ووصلها بدورة الاقتصاد الوطني. ومن ابرز هذه الخدمات التعليم والصحة ومصادر المعلومات وقنوات التمويل ومنظمات المجتمع المدني.
بعد هذه التوضيحات ، اعود الى ما بدأت به ، فأوجه السؤال الى معارضي المساواة بين المواطنين ، أو المساواة بين الرجال والنساء: ما الذي ترونه بين ما ذكر أعلاه ، متعارضا مع الشعور الوطني او حق الله او شريعته؟. انها دعوة لهم كي يتفكروا في ما ألفوه وما اعتادوا عليه ، فلعل امورا تظهر لهم بعدما كانت مغيبة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 16 رجب 1441 هـ - 11 مارس 2020 مـ رقم العدد [15079]
مقالات ذات علاقة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

04/03/2020

عودة لمبدأ المساواة

نشرت في الشهور الماضية اربعة أبحاث عن مبدأ "المساواة" ، أدهشني الاقبال على قراءتها، خلافا لانطباع سابق فحواه أن هذا النوع من البحوث النظرية، يكتبه قلة ليقرأه قلة أيضا. هذه مقالات طويلة جدا، واستيعابها يحتاح لتركيز شديد. وكلا الامرين يخالف الذوق السائد هذه الأيام. لكن عدد القراءات المسجل في مجموعها تجاوز الثمانية آلاف. وهو رقم يدعوني للتفاؤل بأن المواد الثقيلة – مثل نظيرتها الخفيفة – لها قراء يستحقون من يجتهد لأجلهم.
يبدو لي ان موضوع (المساواة) ذاته ، هو العامل الأكثر جاذبية ، وهو السر وراء العدد الكبير نسبيا من القراءات. المساواة من القضايا التي تثير في انفسنا مشاعر متناقضة ، وربما تضطرنا لاتخاذ موقف مزدوج أو متناقض ، بين ما نراه ضروريا وعقلانيا ، وبين ما نريد الالتزام بمقتضياته.
بيان ذلك: اننا جميعا نميل للاعتقاد بأن تساوي الخلق أمر بديهي. لذا يندر أن نتوقف كي نقارن صورة المساواة التي نتخيلها مع تطبيقاتها الجارية في العالم الواقعي.  لكن يحصل أحيانا – بل ربما في كثير من الأحيان – ان نواجه خيارات حرجة: إما موقف مضاد للصورة المتخيلة عن المساواة ، أو انكار لما نراه بأعيننا ، أو ارتياب في صدقية معتقدات مشهورة. 
لتقريب الفكرة دعنا نضرب مثلا بالاحكام التي ورثناها من الفقه الاسلامي القديم ، مثل عدم المساواة بين الرجل والمرأة ، او بين المسلم وغير المسلم ، في الارث والدية والتزكية والشهادة ، وفي تولي الوظائف التي تسمى وظائف الولايات ، وكذا في الممارسة المستقلة لما يفترض انه حقوق طبيعية ، مثل حق العمل والتعاقد والانتقال والتملك. ونسمي هذه الحقوق "طبيعية" ، لانها جزء من قانون الطبيعة او فطرة الله في الخلق ، فهي اذن سابقة على الشرع والقانون ، ولا يمكن تقييدها بشكل دائم او عام ، على نحو يؤدي لالغائها فعليا حتى مع بقائها اسميا.
الذي يحصل عادة ان الناس يعلنون من حيث المبدأ ، ايمانهم بالمساواة كقيمة عليا مستقلة. لكن فور مواجهتهم للتطبيقات التي ذكرناها ، فسوف يتراجع معظمهم للبحث عن تسوية من نوع ما ، وقد يصل الى حد انكار المساواة كقيمة ، او انكار عموميتها.
وقد لاحظت في تجارب كثيرة ، ان الناس ينقسمون في فهمهم لمبدأ المساواة ، الى ثلاثة اصناف: صنف يشكك في اولويتها او استقلالها (هؤلاء يقولون عادة انها تأتي بعد العدالة او الشريعة). ثمة قسم يشكك في عمومية المبدأ. فهو يرى ان له أولوية وقيمة عليا ، لكن تطبيقه مشروط بشرط منطقي (هؤلاء يذهبون في العادة مذهب ارسطو الذي يدعو للمساواة بين المتساوين ، كالمساواة بين الرجال والمساواة بين الجنود الخ). اما القسم الاخير – وأظنه الأقل عددا – فهو يدعو لأخذ المساواة الى اخر إمكاناتها ، رغم انه يؤمن بان المبدأ لا يتحرك في فراغ قيمي ، بل يطبق متجاورا ومتفاعلا مع العديد من القيم والغايات والمعايير الموازية والمزاحمة (هؤلاء يميلون للتفسير الذي اختاره المفكر المعروف ايزايا برلين في تزاحم القيم).
المساواة إذن ليست مسالة بديهية او بسيطة ، كما تبدو في النظرة الأولى. سوف اعود في مقال قادم لفكرة "تساوي الفرص" والفارق بين المساواة الاجتماعية والتوزيعية. لكني اود الاختتام بالاشارة الى ان اهتمامنا بالمساواة لايقتصر على كونها مبدأ اخلاقيا وفضيلة رفيعة ، فهي قبل ذلك ضرورة للنمو الاقتصادي ، وكابح فعال للعنف  والجريمة والنزاعات الاجتماعية. ولهذا فهي تهم كافة الناس.  
الشرق الاوسط الأربعاء - 9 رجب 1441 هـ - 04 مارس 2020 مـ رقم العدد [15072]

مقالات ذات علاقة


26/02/2020

من المناكفة الى النهضة


تلفت نظري أحيانا ردود الفعل على  الطروحات والأفكار الجديدة . وجدت مثلا من  ينسب التوجه الاصلاحي عند محمد شحرور الى عقد نفسية. وثمة من قال ان تركيز محمد عابد الجابري على نقد التراث ، راجع الى حرمانه من وظيفة كان يتطلع اليها في الديوان. وقيل مثل ذلك عن علماء آخرين في الماضي والحاضر. وبشكل عام فان غالبية الناس يودون ان يروا علة في القائل (حسنة او سيئة) قبل النظر في قوله او تحليل مراميه.
نتيجة بحث الصور عن خارج القطيع
من نافل القول ان كل نهضة في تاريخ البشرية بدأت بمناكفة من نوع ما ، مناكفة بين أشخاص أو قوى حديثة الظهور في الساحة الاجتماعية ، وأخرى مستقرة ذات نفوذ. في أول الأمر تبدو أشبه بنزاع محدود حول افكار او مصالح ، تعود لأشخاص بعينهم. في واقع الامر فانه يصعب - في المراحل المبكرة خصوصا - فصل الافكار عن أشخاص الداعين اليها. وليس من الممكن ايضا حمايتها من التصنيف القسري ، اي تحديد من يستفيد من نجاحها ومن يتضرر.
مع مرور الوقت يتبين للجميع ، ان الاشخاص القليلين الذين تمردوا وناكفوا ، لم يكونوا نبتا في صحراء ، بل تعبيرا عن بواكير تحول يجري تحت السطح الخارجي للمجتمع. ومع مرور الزمن ، تتحول تلك القلة الى أمثولة ومصدر إلهام ، فكانها تقول لكافة الناس: انظروا .. لقد فعلنا ما ظنه الجميع مستحيلا ، وتبين لكم ولنا انه ممكن وان كلفته محتملة.
تتحول المناكفة الى نهضة ، حين تدخل فكرته العامة دائرة الجدل العلني ويجاهر عدد متزايد من الناس ، من شرائح اجتماعية مختلفة بتبنيهم للافكار الجديدة ، ويتحدثون عنها كنمط حياة ضروري ، يريدون الانتقال اليه. ونعلم  ان وصول المجتمع الى هذه المرحلة يعني – بالضرورة - قيام نوع من توازن القوى في المجتمع ، بين القوى الداعية للتغيير وتلك المتمسكة بالمحافظة على الاجماع القديم ، اي من يسمون في عالم السياسة بالاصلاحيين ، ومن يسمون بالمحافظين.
مسار تقدم الانسان في مجمله ، يشبه هذا المسار. تجاذب وتدافع بين عوامل الاستمرار وعوامل التغيير ، تقود عادة الى غلبة الثانية واستقرارها ، ولو بعد حين. ان التغيير لا يتوقف أبدا ، انما تختلف المجتمعات عن بعضها في سرعة الاستجابة والتكيف مع الجديد او العكس.
قد يبدأ التغيير في مكان محدد ، مثل الشمس التي تشرق في مكان ، فيراها الناس في أبعد النقاط ، فتولد فيهم الأمل وتبعث الحماس ، ويتحول الناس بالتدريج الى شركاء في النهضة ومساهمين في تيارها. قد تبدأ المناكفة بين التجار ثم تنتقل الى المثقفين والساسة وغيرهم ، أو تبدأ بين رجال الدين ثم تنتقل الى غيرهم ، وقد تبدأ وسط شريحة محددة كالنساء او الشباب ثم تظهر ارتداداتها في شرائح أخرى ، وهكذا.
الانتشار جزء من طبيعة الحراك الانساني. ولذا لايستطيع أحد أن يدعي اختصاصه بالنهضة أو يحجب ثمارها عن الآخرين. بواكير النهضة الاوروبية ، تمثلت في نزعات جديدة في الأدب والفنون ، وظهر تأثيرها في تصميم المدن ، سيما المباني والجسور والقصور ، وفي الفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى. ثم انعكست على العالم الديني ، فتمثلت في حركة الاصلاح الديني وما تلاها من تبلور البروتستنتية ، كضد تاريخي للكاثوليكية وحليف للتغيير ، حتى جاء عهد الاختراعات ، وهيمنت التكنولوجيا على حياة العالم ، فتحولت التقنيات الرقمية الى محور لهذه الحركة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 رجب 1441 هـ - 26 فبراير 2020 مـ رقم العدد [15065]
مقالات ذات علاقة

19/02/2020

اخلاق المدينة وحدودها


في منتصف 1971 طالب الرئيس المصري أنور السادات ، بالرجوع  لما اسماه "اخلاق القرية". وفهمنا لاحقا ان محور اهتمام الرئيس ، هو منظومة العلاقات المجتمعية التي يشكل "كبير العيلة" قطبها ومجمع الخيوط التي تربط بين أطرافها.
فلاح في قرية مصرية
ولم تحمل دعوة السادات على محمل الجد ، فلا هو يعيش في قريته ولا هو ارتضى ان يدير علاقاته مع الناس ، ولا سيما النخبة المصرية ، على النحو المتعارف في الأرياف.
لكن الفكرة بذاتها - فكرة "اخلاق القرية" - تبدو راسخة الجذور في حياة العرب ، بمن فيهم أولئك الذين لم يستوطنوا الريف أبدا ، فضلا عن نظرائهم الذين هجروا قراهم منذ بواكير الشباب ، واستقروا في المدينة. انها اقرب الى نزوع متخيل او تطلع مليء بالشوق لما يعتبرونه مثلا اعلى في العلاقات الاجتماعية.
دعني أولا اذكر القاريء العزيز بأن كلمة الاخلاق الواردة هنا ، تعني اي نوع من السلوك المعرف ، اي الذي يصنفه الناس حسنا أو قبيحا. فهي لاتنطوي على مدح او ذم. لكن السياق هو الذي يضعها ضمن دائرة دلالية تنطوي على مدح أو ذم ، كحال دعوة الرئيس السادات التي تضع الاخلاق المذكورة في سياق ايجابي بحت.
تتسم القرى بصغر كتلتها السكانية والجغرافية. ولذا نفترض ان جميع سكانها يعرفون بعضهم البعض ، بالاسم او بالانتماء العائلي  ، وان كثيرا منهم يرجع الى نسب واحد. أما نمط الانتاج والمعيشة ، فهو في العموم محدود وبطييء الحركة. من المفهوم طبعا ان الثقافة والسلوكيات (الاخلاق) والقيم والتوافقات التي تحدد نظم العلاقة بين الناس ، تتأثر كلها بالحاجات المعيشية ومصادر الانتاج وأدواته. لكن بالنسبة لكتلة بشرية صغيرة متعارفة على المستوى الشخصي ، فان المكان يتحول الى اطار لثقافة موحدة ، تدعم نظاما اخلاقيا وسلوكيا واحدا.
في القرية "يكتشف" الانسان عالما جرى تصميمه من قبل ، وليس أمامه فرصة غير الاندماج فيه. ومن هنا فان انتقال الانسان من مرحلة الطفولة الى الشباب ، تتضمن – بالضرورة – عملية ادلجة وبرمجة وتوظيب للشاب كي يندمج في الحياة الاجتماعية.
يختلف الأمر في المدينة. فالناس يأتون من خلفيات اجتماعية متباينة ، ويعملون في مواقع ومهن ومستويات مختلفة ، كما يلتقون يوميا بعشرات الناس الذي ينتمون الى مختلف الدوائر الاجتماعية والثقافات وانماط المعيشة. وهذا يجعل كلا منهم في حالة تفاعل (فعل/انفعال/جذب/ انجذاب) مع دوائر اجتماعية عديدة.  بعبارة اخرى فان الهوية الشخصية لابن المدينة ، لا تحمل لون عائلته او  لون المجتمع الصغير الذي يشبه مجتمع القرية ، هويته في حال تفاعل مع العشرات من الاشخاص الذي يراهم كل يوم ، والذين يحملون هويات وهموما متباينة. ان هوية ابن المدينة في حالة شبه سائلة ، تتغير كل يوم ، قليلا او كثيرا . وتتغير معها علاقاته مع الدوائر القريبة منه ، بمن فيهم اقاربه والمنتمين الى محيطه المباشر.
يصح القول اذن ان المدينة ليس فيها عرف عام يصنعه الناس ، كما هو الحال في الريف. عرف المدينة  مجموعة كبيرة من الاعراف المختلفة (والمتباينة او حتى المتعارضة ايضا) ، الامر الذي يجعل القانون العام بديلا ضروريا لنظيم الحياة والعلاقات بين الناس. ولهذا السبب أيضا نحتاج لقانون  لا يقتصر على تحديد الواجبات والعقوبات المفروضة على التقصير فيها. تحتاج المدينة الى قانون يرسي الاساس الاخلاقي لأعراف وتقاليد تناسب الحياة المدينية ، وتساعد في توليد نوع من الوحدة الاجتماعية او ما نسميه "روح الجماعة" في مجتمع يفتقر تماما الى ارضية تاريخية للوحدة.
الشرق الاوسط. الأربعاء - 24 جمادى الآخرة 1441 هـ - 19 فبراير 2020 مـ رقم العدد [15058]

12/02/2020

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

وفقا لرأي د. ابراهيم البعيز فان التوجيه الاخلاقي – رغم ضرورته – ليس علاجا كافيا للانحرافات السلوكية والمشكلات التي تلازم الحياة المدينية. وكان البعيز ، وهو استاذ جامعي مهتم بقضايا التربية والاعلام ، يتحدث امام منتدى التنمية  المنعقد في الكويت (7 فبراير 2020) ، حول الدور المحوري للقانون كضابط للحياة المدينية التي تزداد عمقا وتعقيدا.
اننا نسمع من الارشادت والمواعظ الشيء الكثير ، وبشكل شبه يومي. واذا كنت سعوديا تجاوز الثلاثين من العمر ، فالمؤكد انك حصلت على نحو 2000 ساعة من التعليم الديني. وهذا قدر يكفي لجعلك متخصصا في علم الدين. لكني أجد – ولعلكم مثلي - ان التخصص العلمي شيء والتعامل الاخلاقي شيء آخر. يود الناس بطبيعة الحال المطابقة بين المعرفة الدينية والاخلاق الرفيعة. لكن هذا مجرد افتراض. 
إن معايير السلوك (في جانبها التطبيقي خصوصا) مستمدة من العرف. وغرضها تسويغ التعاملات الاجتماعية. ولذا فهي تصعد او تهبط ، تبعا لتحولات الحياة الاجتماعية: ما يستنكر  بالامس ربما يقبل اليوم ، وما يرحب به اليوم قد يستنكر غدا ، وهكذا. ارتباط الاخلاقيات بالعرف قد يصل الى حد التعارض مع تعاليم الدين ، التي يجري التاكيد عليها كل يوم. من ذلك مثلا إحسان التعامل مع الاجير والفقير والضعيف. ومنه افشاء السلام وايثار الاخر  والاحسان ، ومنه الرحمة والعطف ، ومنه المبادرة باقرار الحقوق المالية والمعنوية لاصحابها ، وعدم السكوت عنها ، فضلا عن انكارها او الحط من قدرها. 
فهذه أمثلة عن اخلاقيات معروفة تحث عليها جميع الاديان ، ويتفق على حسنها كافة الناس ، لكنها مع ذلك ضعيفة التأثير في الحياة الاجتماعية. ولذا نرى ان المشكلات الناتجة عن اساءة التعامل ، لا يختلف عددها وحجمها بين بلد مسلم متدين وبلد غير مسلم او غير متدين. ونعلم على سبيل المثال ان السجناء في نزاعات مالية يعدون بالالاف ، وان قضايا العضل واساءة المعاملة للنساء والعمال والشرائح الضعيفة في المجتمع ،  تعد بعشرات الآلاف وليس المئات او الآلاف في كل عام.
هذا أمثلة نراها كل يوم ، وهي تخبرنا عن ضعف الصلة بين الارشاد والوعظ من جهة ، والتعاملات الواقعية بين الناس في حياتهم اليومية ، من جهة اخرى.
تتسم الحياة في المدينة بالسرعة والتعقيد وكثرة المستجدات. ان التغير هو السمة الرئيسية للحياة المدينية. ولهذا فهي تزداد تعقيدا وعسرا ، بقدر ما تدخل عليها من عناصر جديدة ، وأبعاد غير مألوفة في كل يوم. وهذا بدوره يؤكد الحاجة الى القانون الذي يشكل حدا نهائيا لحركة البشر والمال والاشياء ، كي لا يسقط الضعفاء في الزحام فتسحقهم الاقدام.
كان ارسطو  يعتقد ان الناس يطيعون القانون خوفا من العقاب ، لا حبا في الفضيلة. هذا تصور مبني على رؤية متشائمة للطبيعة البشرية ، كانت سائدة في الأزمنة القديمة. اني أعارض هذه الرؤية ، لأسباب قد اعرضها في وقت آخر. لكني اعترف بان بدائل القانون ، ومنها الوعظ ، ليست فعالة في هذه الاوقات. ولو كانت فعالة ومفيدة لكان اهل الأديان احسن حالا ، على الاقل في مجال التعاطي مع بعضهم البعض.  
ومن هنا ، فاني سوف اقبل – ولو على مضض - الرؤية الداعية لتحكيم القانون في كافة اجزاء الحياة المشتركة بين الناس ، بحيث يتوفر لدينا ضابط فعال لكل ما امكن من التبادلات داخل المجتمع. وسوف يكون علينا ابقاء الامر على هذا الحال ، حتى نعتاد على الاقرار بالحقوق الضرورية المتبادلة فيما بيننا ، عندئذ سيكون للوعظ محل.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 جمادى الآخرة 1441 هـ - 12 فبراير 2020 مـ رقم العدد [15051]
مقالات ذات علاقة 


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...