25/01/2024

عقل العرب ، عقل العجم

"تكوين العقل العربي" هو الكتاب الاول في مشروع د. محمد عابد الجابري الخاص بنقد العقل العربي. وقد حظي بشهرة قل نظيرها ، فطبع 16 مرة ، أولها في 1984.

في تقديمه للكتاب ، تساءل الجابري: هل ثمة فرق جوهري بين العقل العربي ونظيره الاوروبي والافريقي وغيره.

سؤال الجابري هذا يعيدنا لسؤال اسبق ، حول ماهية العقل وجوهره. الجواب على سؤال: ما هو العقل ، مقدمة لازمة لفهم سبب الاختلاف بين ما زعمنا انه عقل عربي وغير عربي ، على فرض ان هذا الاختلاف حقيقي وقابل للملاحظة.

د. محمد عابد الجابري

حسنا.. هل فكرت في حقيقة عقلك ، ما هو ولماذا يختلف بين شخص وآخر ، وبماذا يتمايز بين جماعة/امة واخرى؟.

الواضح ان اختلاف العقول منشؤه اختلاف محتواها ، اختلاف الذاكرة ، وطريقة التفكير والفهم. العقل الذي نتحدث عنه هو مجموعة الأدوات الذهنية التي نستعملها في معرفة الأشياء وتحديد قيمتها. فهل لهذا أهمية في تعريف العقل؟.

في ماضي الزمان اعتقد بعضهم بوجود صلة بين العقل والجغرافيا او العرق. فقالوا ان عقول الساميين تنبذ التعقيد ، بينما يعمل العقل الآري بطريقة مركبة او رياضية ، ولهذا فهو اعمق استيعابا لعناصر الطبيعة وما يربط بينها من خيوط.

نعلم الآن ان تلك الأوصاف لا تتصل بالتكوين البيولوجي للانسان.  كما نعلم أن العقل ليس شيئا ماديا ، بل وصف لعمليات لا مادية معقدة ، تجري في مختلف اعضاء الجسد الانساني بصورة متزامنة ، ولذا لا يمكن القبض على جزء منها وايقاف العمليات العقلية برمتها ، الا اذا توفي الانسان تماما وتوقفت جميع اعضائه عن الحياة.

وقد ذكرت في كتابات سابقة بعض من زعم وجود صلة بيولوجية لعمل العقل ، مثل البروفسور ادوارد ويلسون ، الذي عرض نظريته في كتاب "البيولوجيا الاجتماعية ، التوليفة الجديدة"  وأثار جدلا واسعا جدا ، مع انه قصر مدعياته على جانب ضيق من السلوك الحيواني ، وهو وجود امكانية لوراثة عوامل جينية ، وظيفتها مقاومة فناء الجنس. وهذا من الامور التي سبق طرحها ونقاشها ، لكن التيار العام في علم الاحياء لم يتقبلها.

اقول ان الفوارق بين العقول المختلفة ، ناتج عن اختلاف محتواها ، اي المواد التي يختزنها عقلك وعقلي وعقول الآخرين ، وليس الفارق في حجمه او شبكته الدموية والعصبية وجيناته ، كما زعم مدعو الصلة البيولوجية. ومن هنا فان الفارق بين ما نسميه عقلا عربيا وبين غيره ، هو فارق في محتواه ومخزونه.

اذا صدق هذا الوصف ، فسنذهب للخطوة التالية ، اي: من أين جاء هذا المخزون ، وكيف تكون على هذا النحو الخاص الذي اعطاني هذه الصفات الثقافية والسلوكية ، اي ما نسميه "الشخصية" ، بينما اعطى الآخر القادم من اليابان او أوربا مثلا  "شخصية" مختلفة ، أي صفات ثقافية وسلوكية مغايرة.

يعمل العقل كمرسل ومستقبل بصورة متوازية. يستقبل المعلومات والمؤثرات والمشاعر ويختزنها ثم يعيد انتاجها في صورة افكار ومواقف وسلوكيات. ومن هنا فانه لا يوجد عقل مستقل عن محيطه. ان الجانب الاعظم من تكوين العقل يأتي على شكل انفعال بالاشياء ، اي شعور بالرغبة او الخوف او السعادة او الالم او الحب او البغض او الدهشة او الاستغراب ، وكل من هذه الانفعالات يحمل معلومة عن العالم المحيط ، قد لا تكون منظمة ، لكنها تتحول حين يستقبلها عقل الانسان الى مخزون منظم ، يستعمله حين يتأمل في عالمه. كل شيء تلقيته بالامس يخدم تفكيري في الشيء الذي اتلقاه اليوم ، وهذا يخدم تفكيري غدا وهكذا.

من هنا فان البيئة المحيطة وما فيها من بشر واشياء وجغرافيا وتجارب ، تتدخل بصورة عميقة في صناعة عقل الانسان ، الذي يعيش فيها ويتفاعل معها. قد يشعر بهذا او لا يشعر ، لكنه على اي حال جزء من هذه الثقافة العامة التي نسميها "العقل الجمعي".

الشرق الاوسط الخميس - 14 رَجب 1445 هـ - 25 يناير 2024م  https://aawsat.com/node/4811716

مقالات ذات صلة

18/01/2024

وراء التشاؤم والتفاؤل: هل نرى الواقع كما هو؟

 يبدو ان مسألة التشاؤم التي عالجها مقال الاسبوع الماضي ، تشكل موضوعا جديا عند الاشقاء العراقيين. وصلتني خلال الاسبوع ردود فعل كثيرة جدا ، بعضها يبرر المزاج التشاؤمي ، لكن الكثير منها يقول صراحة او ضمنيا "حجم المشكلات التي نعانيها فوق ما تعرف ، فلا تعلمنا ما يصح وما لا يصح". الزميل حمزة مصطفى ختم مقاله التعقيبي في صحيفة "الصباح" البغدادية بتفسير ظريف فحواه ان التشاؤم سمة للاحاديث الموجهة للجمهور ، وليس نقاشات النخب ، لأن الجمهور يعتبر الكتابات المتفائلة تملقا لذوي السلطان. اما الزميل علي حسين فقد رأى أن الواقع السياسي لا يترك فرصة للتفاؤل: "ماذا نفعل ياسيدي ونحن نعيش مع ساسة ومسؤولين حولوا مؤسسات الدولة إلى سيرك كبير يستعرضون فيه مهاراتهم في الضحك على عقول الناس".

هواية المتشائم هي البحث عن نقاط سوداء على خريطة العالم

الواضح ان معظم الذين ناقشوا ذلك المقال متفقون على ان المنحى التشاؤمي ليس مفيدا. لكنه مبرر بما يعانيه البلد من مشكلات او بالمزاج الشعبي او بالتجربة التاريخية التي تغذي ذهنية تميل للأسى وليس الفرح.

الجدل في الموضوع أثار في ذهني أسئلة تتعلق بدور الكاتب ، مع استذكار موقف قديم أتبناه ، رغم أنه لم يرض أحدا ، وفحواه ان مسؤولية الكاتب او العالم مثل مسؤولية الفلاح والبقال وسائق التكسي والطبيب والمهندس وغيرهم ، تتلخص في إتقان عمله. اي انه لايحمل رسالة ولايتوجب عليه ان يتبنى موقفا غير ما يجب على كل شخص آخر. واعتقد جازما ان تبني كافة الناس لهذا الموقف ، اي الاجتهاد في اتقان العمل ، محرك قوي للنهضة ، لو كانت هدفا.

الداعي لاثارة السؤال هو ما يبدو من تناقض بين هذا الموقف ، اي عدم التزام الكاتب بموقف محدد من قضايا المجتمع ، وبين مطالبتي للنخبة العراقية وغيرها من النخب بترك التشاؤم الذي قلت انه يهدد بتفتيت "رأس المال الاجتماعي". فكيف انكر المسؤولية تجاه المجتمع ، ثم اطالب الاخرين بالتزامها؟.

الواقع ان تلك المناقشات أشارت لاحتمال ثالث ، غير المسؤولية تجاه المجتمع او انكارها ، فبعضها يقول – ضمنيا – ان دور الكاتب هو وصف وتوثيق الواقع الاجتماعي ، اي تحويله من سلسلة مشاهد مفككة في ساحة المجتمع ، الى مشهد واحد مترابط. في هذه الحالة لا يتعلق الامر بتشاؤم او تفاؤل ، بل هو أقرب الى ما يسمى "تلفزيون الواقع" ، من دون تمثيل طبعا.

يعرف طلاب العلوم الاجتماعية ان وسائل التواصل الجمعي كالصحافة ، التلفزيون ، الخطابة العامة ، ومنصات التواصل الاجتماعي ، هي الوسيلة الاقوى لتوصيل ، ومن ثم تعميم المشاعر والافكار والمواقف. وهذه هي الطريقة المعتادة لصناعة القضايا العامة ، اي تلك القضايا التي يهتم بها جمهور كبير من الناس. ومن هنا اكتسبت الصحافة اهميتها عند قادة المجتمع ورجال السياسة والاقتصاد وكل الفاعلين في المجال العام.

حسنا ، اذا رأى الكاتب مشهدا سيئا مثيرا للتشاؤم ، فهل يغض الطرف عنه ام يعيد تلوينه ، او يقتضي الصدق ان ينقله للجمهور كما رآه.

كان هذا واحدا من الاسئلة الهامة التي عالجها توماس كون في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية" وقد رأى ان نظرة الكاتب ، بل اي ناظر الى الواقع لا يمكن ان تكون محايدة او خالية من التوجيه المسبق: انت ترى ما يتوقعه عقلك ، وتفهمه وفقا للاطارات التي صنفها عقلك. ومن هنا فان مراقبتك للشيء ، ثم شرحه ، هو تفسير مستند الى خلفيتك الذهنية ، اي انه حكم على ذلك الشيء وليس مجرد وصف محايد.

هذه الرؤية جلبت على توماس كون نقدا كثيرا جدا ، لكن لو تأملتها جيدا فسوف تراها قريبة من منطق الامور: هل يمكن ان نفهم شيئا دون الاستناد الى قواعد مسبقة ، اليست هذه القواعد قيودا على الفهم الجديد؟ ، اي هل ننقل صورة الواقع كما هو ، ام ننقل تصورنا الخاص لذلك الواقع؟.

الخميس - 06 رَجب 1445 هـ - 18 يناير 2024 م 

https://aawsat.com/node/4796756/

مقالات ذات صلة

"اخبرني من اثق به..."

صناعة الكآبة

الفكــرة وزمن الفكـرة

التجديد المستحيل

 

 

11/01/2024

صناعة الكآبة

 

خصص الصديق الدكتور اياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي ، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة ، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية ،  فوق انه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعا ان دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكني أسأل نفسي دائما: متى كان وضع العرب مثاليا أو خاليا من دواعي التشاؤم؟. فهل نحول صحافتنا الى مجالس عزاء ، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم او بكينا موتاهم ، ما هي  القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي الى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟.

د. اياد العنبر

لكن ثمة جانب لا يتعلق بالعاطفة او الموقف الشخصي من الحوادث ، اعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الامر اكثر وضوحا في حال المجتمع العراقي ، الذي يخاطبه الدكتور اياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه اكثر ، على جمهوره العام والعديد من اهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع ، فقد وجدت التشاؤم قاسما مشتركا فيما بينهم ، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

اعرف مبررات كثيرة ، تاريخية وسياسية ، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي اليها هذا التوجه؟.

في سبتمبر الماضي كتبت عن "راس المال الاجتماعي" واعيد التذكير بانه يشير الى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين ، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم ، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائما ، هل يتعزز "راس المال الاجتماعي" ام يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة ، ام يحصل العكس ، أي انصراف كل فرد الى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته ، بل وحتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟.

انظروا الى واقع العراق ، اليس هذا ما ترونه.. كل الناس يشكون من كل شي ، كلهم يتهمون قادتهم ونخبهم واهل الرأي فيهم ، يتهمونهم بالتسبب في كل ما حل بالعراق ، والنخب تتهم السياسيين ، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون او الصبر او المشاركة في الحلول الخ.

أزعم ان صناع الثقافة في العراق ، في الماضي والحاضر ، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت "راس المال الاجتماعي" أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس ، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئا مفيدا لهم كأمة واحدة ، لا كأفراد او طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة ، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص ، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصبا ، او يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعا أي تفكير جاد في التغيير او محاولة للتغيير ، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي او يرهق نفسه وحياته ، اذا كان جزاؤه – أيا كان الحال – هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بانه فاشل وعاجز ، او مجرد حرامي او متسلق او متسلط او ذيل للأجنبي؟. وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

ان جوا كئيبا كهذا ، سيفضي – دون شك - الى افساد السياسة ، ثم القضاء على حرية التعبير ، وأخيرا تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين ، الذين كفاءتهم الوحيدة هي اثارة العواطف والانفعالات ، أو اثارة الخوف من الآخر المختلف ، أي باختصار ، الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟.

ان كانوا يرغبون في غير هذا ، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماما ، المثل الصيني: بدل ان تلعن الظلام اضيء شمعة.

الشرق الاوسط الخميس - 28 جمادي الآخر 1445 هـ - 11 يناير 2024 م

https://aawsat.com/node/4782126/

مقالات ذات صلة

رأس المال الاجتماعي

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

السيف لـ عكاظ: أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان

متشائمون في غمرة الوباء ، لكنني متفائل

لا تقتلوا أفكاركم الجديدة 

21/12/2023

هل ترسمون الخرائط؟

روى هذه القصة زميل لديه ابنة في مدرسة ابتدائية بمدينة "أكتون" ، غرب العاصمة البريطانية لندن.  وخلاصتها ان المعلمة سألت الطالبات عما فعلن في نهاية الاسبوع ، فأخبرتها الطفلة بانها ذهبت مع امها الى مكتب البريد ومحل الخضار والمكتبة المحلية. فطلبت منها ان تعمل خلال الاسبوع الجاري على رسم خريطة الطريق الذي تسلكه من منزلها الى تلك المواقع. وهذا سيكون واجبها المنزلي الوحيد. في الاسبوع التالي اتصلت المعلمة بالمنزل وسألت الاب: هل ساعدت ابنتك في رسم الخريطة؟. فقال انه شعر بالحاجة لمساعدتها ، لأنها ما كانت قادرة على رسم الخريطة وحدها. فعاتبته المعلمة قائلة "انك للتو دربت الطفلة على الاستهانة بعقلها ، وهذا امر سيء". المراد – على اي حال – ليس الخريطة المتقنة او  المعيبة ، بل تدريب الاطفال على استعادة التفاصيل التي يمرون بها ، التوقف عندها والتفكير في علاقتها ببعضها ، ثم تخيل الخطوط التي تربط بينها. جوهر المراد هو شحذ التفكير والتذكر ، وليس رسم الخريطة. وهذا لا يتحقق اذا ساعدها احد على ذلك. واردفت ان واجبهم في المدرسة هو تعليم الاطفال فن التفكير.

يقول زميلي ان هذه القصة شغلت ذهنه لفترة طويلة. ولطالما حدث نفسه متسائلا: هل يمثل موضوعها جوهر الفارق بين ثقافة المجتمعات الصناعية ونظيرتها النامية؟. هل نستطيع القول انها نقطة البداية في بناء جيل يستوعب تحديات المستقبل؟.

بيان ذلك: جرت العادة على القول ان الدور التعليمي للمدرسة يتركز على زيادة حجم المعارف التي يستعملها التلميذ.

اذا قبلنا بهذا التوصيف ، فسيأتينا سؤال ضروري:

ماهي المعارف التي نريد تعليمها لأبنائنا؟.

هذا سؤال عريض. لهذا سيذهب الجواب – بالضرورة – الى التعريف النسبي ، الذي يعالج جانبا واحدا فحسب. ومن هنا اقترح التركيز على نسبة التعليم الى زمنه. ربط الفكرة بالزمن يعني ان جواب اليوم قد يخالف جواب الامس ، مع ان كليهما صحيح في وقته. ما يميز بين زمن وآخر هو نوعية الثقافة التي تبنى على اساسها منظومات القيم والمعايير والعلاقات الداخلية ، ولاسيما العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة/الآباء والأبناء. وتتفرع منها مناهج التعليم وطرق التربية وتقاليد العمل.

تمتاز العائلات العربية بالشفقة على الابناء. ولهذا يلتزم الابوان بمساعدة اطفالهم في حل الواجبات المدرسية ومذاكرة الدروس. ولان هذه الثقافة سائدة أيضا في نظام التعليم ، فقد اعتاد المعلمون تكليف الاطفال بكم كبير من الواجبات المنزلية ، مع علمهم بأن المجتهد الحقيقي هو أم الطفل وليس الطفل. ولأن المطلوب هو انتاج الأشياء البديعة وليس البشر الأذكياء ، فقد ابتكرنا حلولا سهلة للعائلات المشغولة ، فأقيمت دكاكين تبيع حلول الواجبات ورسوم الوسائل التعليمية ، وغير ذلك مما يطلب من التلاميذ.

الذي يحدث في هذه الحالة هو تعليم التلميذ كيف يتهرب من تحمل المسؤولية ، بتحويلها الى امه ، او تعليمه فنون الاستهلاك بشراء المطلوب من السوق ، وليس الاجتهاد في انجازها بنفسه.

اما الذي يحدث في المكان الاخر ، الذي يعيش في زمن ثقافي مختلف ، فهو التركيز على قيام التلميذ بانجاز الواجب حتى لو اخطأ فيه. لأنه - في الاساس - وسيلة لغاية اخرى ، هي تعويده على التفكير والتذكر والتأمل في العاديات والأمور البسيطة التي يمر عليها كل يوم. والذين يفكرون يخطئون كثيرا قبل ان يصيبوا أول غاياتهم.

أما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فلعلنا نستذكر ان واحدا من التعريفات الهامة للحداثة هو انها: تقديس اللحظة الراهنة ثم الانطلاق منها للتفكير في بقية الأزمنة. في الرؤية الحداثية للعالم ، يتحدثون اذن عن الزمن الحاضر وعن المكان الحاضر ، لأننا ننتمي اليه وننطلق منه. اذا فكرنا بعمق في الذي حولنا ، فسوف نصل الى ما وراءه ، اي الى الغيب الذي تخفيه جدران المكان او الزمان او قلة المعرفة.

حسنا ، ما الذي ستفعلون الان ، هل سترسمون الخريطة ، ام تدعون ابناءكم يتأملون في عالمهم؟.

الشرق الاوسط الخميس - 07 جمادي الآخر 1445 هـ - 21 ديسمبر 2023

https://aawsat.com/node/4741381

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟



14/12/2023

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟


قدمت في الاسبوع الماضي لمحة عن رؤية البروفسور غونار ميردال ، المتعلقة باقتصاديات البلدان النامية. والتي يدعو فيها للنظر الى العدالة الاجتماعية كمحفز للاقتصاد ، لا كغاية اخلاقية او ايديولوجية فحسب.

أهمية هذه الرؤية تكمن في عنصرين ، أولهما ان الرأي الغالب بين السياسيين يعتبر برامج العدالة الاجتماعية ، كلفة كبيرة على الخزينة العامة. ويدعو للتخفف منها بقدر ما نستطيع. من هذا المنطلق فان معظم الحكومات التي تتبنى هذا النوع من السياسات المكلفة ، تقيمها على اعتبارات ايديولوجية أو أخلاقية. كما ان بعضها يسعى لتضييق قنوات الانفاق ، وتحميل جانب منها على المواطنين بشكل مباشر ، مثل فرض رسوم على التعليم الجامعي او الادوية او المستشفيات  العالية التخصص .. الخ.

النظام التعليمي الفاشل يفرغ الريف ليزيد البطالة في المدن 

اما العنصر الثاني الذي يبرز أهمية تلك الرؤية ، فهو يكمن في حقيقة انها تصدر عن خبير اقتصادي معروف في الاوساط العلمية شرقا وغربا. من المعروف اجمالا ان خبراء الاقتصاد العاملين في الادارات الحكومية ، يصنفون ضمن طبقة التكنوقراط ، ويلحق بهم – تجاوزا – زملاؤهم اعضاء الاكاديميات. ونعلم ان البروفسور ميردال عمل استاذا في الجامعة ، وباحثا في مراكز ابحاث ، وناشطا حزبيا ونائبا ووزيرا ، اي انه جميع المجد من طرفيه كما يقال. لكنه مع ذلك حافظ على رؤيته القائلة بان سياسات العدالة الاجتماعية ليست مسألة ايديولوجية او اخلاقية ، بل هي في المقام الأول ضرورة لتنشيط الاقتصاد وحفز الطاقات الكامنة والمعطلة فيه ، أي انه لم ينظر الى جانب الكلف المباشرة ، كما فعل نظراؤه التكنوقراط ، بل نظر اليها على ضوء تقديره الخاص لمكانة الانسان في العملية الاقتصادية.

يعاتب ميردال خبراء الاقتصاد لكثرة كلامهم عن تحسين نظم التعليم كي تتحسن الكفاءة الانتاجية للخريجين. كما يلاحظ ان قادة النظام التعليمي ربما انزلقوا أحيانا الى نفس هذا التقدير ، فبات الامر المهم عندهم هو ان يكون الشباب الذين تخرجوا من المدارس والجامعات ، موظفين جيدين ، الامر الذي يساعد على زيادة الانتاج وكفاءة المشروع الاقتصادي بشكل عام.

هذا التفكير يشبه ذلك الوزير الذي سئل يوما عن برنامجه لمعالجة البطالة في الأرياف ، فاقترح على الباحثين عن وظائف ، الانتقال الى المدن الكبرى ، التي تعج بالفرص الوظيفية من مختلف الانواع والمستويات. هذا النوع من التفكير ، سواء تم التعبير عنه صراحة او القيت الحبل على الغارب ، حتى يتوصل اليه الناس بأنفسهم ، هو الذي أدى الى تفريغ الارياف من قوة العمل ، ونشوء المناطق العشوائية حول المدن الكبرى.

كان ميردال قد لاحظ ان العائلات التي ارسلت اطفالها الى المدارس في الريف الهندي ، وضعت في اعتبارها ان المدرسة ستكون طريقهم للخلاص من العمل اليدوي في المزرعة ، والالتحاق بوظيفة مكتبية في المدينة. ومن هنا فان التعليم لم يخدم المجتمعات الريفية ، بل ساعد في تفريغها من قوة العمل وابقاها فقيرة ، أو ربما جعلها أكثر فقرا. اي ان التعليم قد عمل ضد اغراض التنمية الاقتصادية.

نعلم ان هذا المثال تكرر في العديد من المجتمعات ، وكان سببه دائما هو ان تلاميذ المدارس يوجهون كي يكونوا موظفين في دائرة ما او شركة ما ، ولا يدربون كي يصبحوا رواد اعمال ، ينشئون اعمالهم الخاصة ، التي تفتح الباب لتوظيف آخرين وزيادة حجم المال الذي يدور في السوق المحلي.

يعتقد ميردال ان دور التعليم هو خلق القابلية للابداع الفكري والعملي ، والاستعداد للمغامرة الفردية ، وان يكون هدف التلميذ هو صناعة عمله الخاص ، وليس تأجير يديه ووقته.

بديهي ان غالبية خريجي المدارس ستفضل الوظيفة المريحة. لكن الفارق كبير بين ان نحصل على 10 رواد اعمال ومبدعين في كل 100 خريج ، او نحصل على 100 باحث عن وظيفة بين كل 100 خريج.

الشرق الاوسط الخميس - 30 جمادي الأول 1445 هـ - 14 ديسمبر 2023 م

https://aawsat.news/2vmq7

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

  

07/12/2023

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

منذ بداية القرن العشرين ، حصل 1000 من الشخصيات البارزة على "جائزة نوبل" ، من بينها 4 حالات فقط ، منحت الجائزة لزوج وزوجته بصورة مشتركة. لكنها منحت مرتين اخريين لكل من الزوج والزوجة على انفراد. وكان هذا في 1974 حين منح البروفسور غونار ميردال "جائزة نوبل التذكارية" في الاقتصاد ، ثم منحت زوجته ألفا "جائزة نوبل" للسلام عام 1982.

البروفسور غونار ميردال (1987-1898)

غونار ميردال واحد من أعلام الدراسات الاقتصادية المعاصرة. لكنه كتب وتحدث ايضا في علم الاجتماع ، وطرق احيانا ابواب الفلسفة والتاريخ. وأظن ان اهتمامه بعلم الاقتصاد على مستوى الدولة ، قد كشف له عن نقاط التعارض بين ما يصنف كنفقات عامة ، وما يعتبر استثمارا في الجيل القادم ، من اجل ضمان مستقبل البلاد.

كانت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) قد شهدت جدالات واسعة بين تيارين في السياسة الاوربية ، يدعو احدهما الى "دولة الرفاه welfare-state "  التي تضمن للمواطن كافة الخدمات الاولية الضرورية ، بينما يدعو الثاني الى "دولة الحارس الليلي night-watchman state" التي يقتصر دورها على حفظ الامن الاجتماعي وتمثيل البلاد في الخارج. واختار ميردال النموذج الأول ، لأنه – أولا - يؤمن بان العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال التوزيع العادل للثروة ، وان هذا يعني تحديدا قيام الدولة بتوفير الحاجات الاساسية ، التي لا يستطيع الناس توفيرها بمفردهم ، مثل التعليم الاساسي والصحة وأمثالها. لكن مجادلته الأساسية تكمن في المبرر الثاني ، وهو اقتصادي بحت ، خلاصته ان توفير الحاجات الاساسية للمواطنين ، ولو من خلال زيادة الضرائب ، اشبه بالمال الذي يستثمره التاجر او الصانع ، كي يربح لاحقا. حين توفر الدولة الخدمات العامة الاساسية ، فان الكفاءة الانتاجية للمجتمع سترتفع ، ويرتفع تبعا لها الدخل القومي والفردي ، لا سيما عند الاجيال الآتية.

يرجع اهتمامي بالاستاذ ميردال الى دراساته القيمة عن اقتصاديات النمو ، ولا سيما الارضية الاجتماعية للاقتصاد وملاحظاته على العلاقة بين الثقافة والاقتصاد ، في كتابه الشهير "الدراما الاسيوية: تحقيق في اسباب فقر الامم". وأريد الاشارة بالخصوص الى رؤيته حول دور التعليم في صناعة السوق ، وهي تخالف - من حيث المبدأ - الرأي القائل بان على التعليم ان يعمل بحسب حاجات السوق. والتي يبررها اصحابها بان الشباب يتعلم كي يضمن وظيفة ، فلا بد له ان يكيف دراسته ، على النحو الذي يريده أرباب الأعمال. هذه الرؤية جزء من منصور أوسع يركز على الانتاج وكسب المال كغاية. لكن ماذا عن الغاية الاعلى ، اي الانسان نفسه؟.

يبدو لي ان الجدل في الفكرة سيقودنا الى نوع من الدوران في حلقة مفرغة. فسواء اخذنا بهذا الرأي أو ذاك فسوف نصل الى الثاني ، اما كوسيلة او كغاية. ومن هنا فان المسألة مجرد جدل لفظي. لكن الجانب الذي يستحق الاهتمام هو حقيقة ان التعليم استثمار في العقول. وان العقول الناضجة بذاتها مصانع للثروات ، وليس مجرد خبرات تؤجر لرب عمل ما. تؤكد هذا المعنى تجربة بنغالور ، المدينة الشهيرة بانها وادي السليكون الهندي ، فقد تجاوزت صادراتها من الخدمات التقنية في العام الماضي 38 مليار دولار. هذه الاموال جاءت بشكل رئيسي من عمل العقول. وهي مثال واقعي واحد على دور التعليم كصانع للسوق ، وليس خادما للسوق. سياسات التعليم التي اختارتها الهند ، وفرت فرصة كي يتحول شبابها الى قنوات تستقطب الأموال من أسواق العالم.

لمعرفة القيمة المقارنة لهذه الصادرات ، أذكر ان مجموع العاملين في قطاع الخدمات التقنية بمدينة بنغالور يبلغ مليونين تقريبا. بالمقارنة فان مجموع صادرات الهند الزراعية بلغت 52.5 مليار دولار في 2023 ، ويعمل فيها 152 مليون شخص. اي ان كل عامل زراعي يوفر 324 دولار من الصادرات ، بينما نظيره العامل في مجال التقنية نحو 19,000 دولار.

اظن ان هذه مجادلة مقنعة بأن توجيه التعليم كي يخلق السوق وبالتالي الاقتصاد ، خير من الاتجاه المعاكس ذي الطبيعة الانكماشية.

الشرق الاوسط الخميس - 23 جمادي الأول 1445 هـ - 7 ديسمبر 2023 م https://aawsat.com/node/4713026

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

30/11/2023

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

 مضى نحو 40 عاما على نشر  كتاب "تربية اليسر وتخلف التنمية" للدكتور عبد العزيز الجلال. وهو واحد من الدراسات المبكرة التي عالجت بشكل صريح اشكاليات التنمية الاقتصادية في مجتمع الخليج.

صدر الكتاب في اطار النقاشات التي ادارها "منتدى التنمية" ، وهو تجمع سنوي للمفكرين المهتمين بالشأن العام في المنطقة ، تأسس في ديسمبر 1979 ، وتركز نقاشاته على الاسئلة التي تثيرها سياسات التنمية ، وما يتحقق في إطارها.  لقد مضىى على نشر الكتاب اربعة عقود. وبهذا فان البيانات التي اعتمدها في دراسته لواقع القطاع التعليمي ، باتت قديمة. ولا شك ان الحال قد تغير كثيرا  منذ ذلك الوقت. لكن العديد من المستخلصات التي توصل اليها ، وتبناها المنتدى أيضا ، ما تزال صحيحة وهي تستحق المزيد من الاهتمام.

د. علي خليفة الكواري مؤسس منتدى التنمية

لقد قرأت الكتاب منذ وقت طويل ، لكني اشعر بالأنس حين أعود اليه بين حين وآخر. وللمناسبة فهناك عدد قليل من الكتاب الذين يرتاح الانسان إذ يعود اليهم حينا بعد حين ، ولا يمل من تكرار قراءتهم. وأقول – من باب الاستطراد – ان العلامة د. محمد شحرور واستاذنا ابراهيم البليهي من هذا النوع ، بغض النظر عن مقدار ما تتفق معه او تختلف. المهم - في حقيقة الأمر - هو تلك الومضات التي تنقدح في الذهن ، حين تقرأ هذين الرجلين أو حين تقرأ كتاب د. عبد العزيز الجلال.

اني اعود الى هذا الكتاب في اطار دراسة ، قادتني ايضا الى عمل شبيه له من نواح كثيرة ، لكنه يفوقه من حيث سعة الموضوع وعدد الكتاب ومستوى المقاربة ، اعني به كتاب "التحدي امام الجنوب: تقرير لجنة الجنوب" الذي صدرت ترجمته العربية في 1990. وكما يتضح من اسمه ، فالكتاب الذي شارك فيه 25 كاتبا يمثل الرؤية العامة لفكرة الجنوب ، وهو عنوان أريد له ان يصف الاقتصاد السياسي لمجموعة البلدان النامية ، في مقابل "الشمال" الذي يضم الدول الصناعية.

تأسست لجنة الجنوب بجهود مشتركة ، قاد مرحلتها الاخيرة مهاتير محمد ، رئيس حكومة ماليزيا السابق ، واستهدفت وضع رؤية تنموية مشتركة للاولويات التنموية لبلدان الجنوب ، اضافة الى وضع ارضية للتعاون فيما بينها. ونعلم ان هذه اللجنة كانت رد فعل على "لجنة برانت" التي اقيمت في 1980 من اجل وضع منظور مشترك لاقتصاديات الدول الصناعية ، وترأسها مستشار المانيا الغربية يومذاك "ويلي برانت".

قدم تقرير "لجنة الجنوب" تصورا موسعا حول مفهوم التنمية الشاملة ، الواجب تبنيه من قبل دول العالم الثالث ، وأولوياته وطرق تنفيذه ومتابعته وتجديده. والذي يهمنا في هذا الخصوص هو المساحة الواسعة نسبيا ، التي خصصها لشرح مشكلات التعليم وتطوير المعرفة والتقنية. وأذكر في هذا الصدد نقطة مركزية مشتركة بين مقاربة د. الجلال وتقرير لجنة الجنوب ، اعني تركيزهما على مجتمع المعرفة ، اي البيئة الاجتماعية الحاضنة للتعليم والاقتصاد. ويؤكد الاثنان على الحاجة لنشر المعرفة والعلم في الوسط الاجتماعي العام ، حتى يتحدث الناس جميعا بلغة العلم ، ويستذكرون قواعد العلم واسماء العلماء. اذا حصل هذا فان عامة الناس سيفكرون في امورهم الحياتية العادية ، بطريقة منطقية او علمية.

ليس المقصود ان يتحدث الناس باللغة الفصحى ، ولا المقصود ان يناقشوا نظريات الفيزياء على العشاء او في المقهى ، بل ان يتفكروا فيما يسمعون او يقرأون ، فان وصلهم خبر عن مسألة علمية ، فهموه وتفاعلوا معه ، وان وصلهم خبر او فكرة غير معقولة رفضوه وانكروه.

في هذه الحالة سيكون المحيط الاجتماعي مساعدا ودافعا للباحث والمبدع ، كما يكون البحر الصافي بالنسبة للسمك. بديهي انه لا يمكن التحول الى مجتمع صناعي ، مادامت الخرافة هي الحاكمة على الثقافة العامة وكان منطق العلم هو الغريب. هذا – ببساطة – الغرض الجوهري للتعليم العام الذي دعا اليه الدكتور الجلال ولجنة الجنوب ، قبل ثلاثة عقود من الزمن ، واظننا لانزال بحاجة الى استذكاره.

الشرق الأوسط الخميس - 16 جمادي الأول 1445 هـ - 30 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4698826

 مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...