07/04/2021

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

 ثمة خبر نقلته الصحف في الأسبوع المنصرم ، لكنه لم يثر سوى القليل من اهتمام المراقبين. وفحواه ان الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان- فرع الشمال ، توصلا الى وثيقة مباديء ، تمهد الطريق أمام اتفاق نهائي للسلام. والمعتقد ان قبول الحكومة بتعديلات دستورية ، من بينها ضمان حرية الاعتقاد والعبادة للجميع ، وفصل الدين عن الدولة ، هو الذي سهل الاتفاق على التسالم ، بعد نزاع مسلح استمر نصف قرن.

محمد محمد طه

لا اظن ان هذا سينهي التوترات الاثنية في السودان ، مع انه خطوة واسعة جدا ، نظرا لاقرار الحكومة بان جوهر المشكل يكمن في النظام والثقافة السياسية  المهيمنة ، وليس في تدخلات الأجانب كما كان يقال دائما.

اعتقد ان تازمات الهوية ليست من نوع الازمات التي تملك وقودا ذاتيا. فهي ليست قابلة للتفجر حيثما وجدت. ثمة مثل شعبي مشهور ، يبدو ان رجال الدين عملوا على تكريسه ، يقول "الذي ليس على دينك لا يعينك" وفحواه ان العقيدة الدينية هي العامل الحاسم في توجيه سلوك الأشخاص. لكن هذا غير صحيح ، الا اذا تمت ادلجة الافراد ، أي اقناعهم بان الفريق الذي ينتمون اليه ، هو الوحيد المستقيم ، وان غيرهم مشكوك.

تحولات السياسة (ومعها توازنات القوى) والاقتصاد وربما الثقافة ، هي العامل الذي يوجد الفرصة لتحويل خطوط التنوع الى خطوط اختلاف ومن ثم تنازع. 

قد تختلف عوامل التأزيم بين وقت وآخر. لكني اود الإشارة الى عامل مشترك يعرفه جميع الناس ، لكنه لم يدرس على نطاق واسع. اعني به ما اسماه د. برهان غليون "الاستئثار بالراسمال الرمزي المشترك وادعاء الانفراد بملكيته".

هذا العامل مهم لانه يعطي القوى السياسية أداة قوية لقهر المختلفين في المقام الأول ، ثم المشابهين في مرحلة تالية. في السودان مثلا ، استعملت القوى السياسية  التنوع الديني والاثني كوسيلة استقواء. وقد شارك في هذا حركيون إسلاميون ، وجماعات صوفية ، وقوميون عرب ، ومجموعات قبلية ، وأخرى مسيحية تناضل للاعتراف بحقوقها المتساوية ، وربما أصناف أخرى لا اعرفها.

دعنا نأخذ السلوك السياسي للإسلاميين كمثال (وهم عدة اتجاهات كما نعرف) فقد ادعوا أولا انهم الحراس الوحيدون للاسلام. والإسلام راسمال ثقافي يشترك فيه جميع السودانيين ، بمن فيهم غير المسلمين. في الحقيقة فان الخطاب الذي حظي بالغلبة ، قد نجح في تحويل مفهوم الانتماء للاسلام بالمعنى الاجتماعي-الثقافي ، الى انتماء بالمعنى الفقهي والايديولوجي ، الذي يؤدي بالضرورة الى اقصاء غير الملتزم بالمذهب الفقهي الخاص بالقوة الغالبة.

في اول الامر كان المتضرر هو المسيحي والوثني والملحد. لكنه مع الوقت بدأ يطال المسلم الذي يتبنى مذهبا مختلفا ، او يأخذ باجتهاد مختلف. (نتذكر هنا المرحوم محمود محمد طه الذي اعدم في يناير 1985 بعدما اتهم بالردة). بعبارة أخرى ، فان نجاح أصحاب القوة في اقصاء المختلفين (الذين صادف انهم اقلية في معادلات القوى) أدى تاليا الى اقصاء المشابهين ، الذين يشكلون أكثرية عددية لكنهم يفتقرون الى القوة المادية او السياسية.

قد يبدو ان المشكلة تكمن في اقحام الإسلام في الحياة السياسية ، وهذا هو الذي يبرر دائما الدعوة لفصل الدين عن الدولة. لكني اميل الى الظن بان المشكلة تكمن في ميل بعض الأطراف الى استعمال الهوية في السياسة. وهو ميل يدعمه انزعاج قوى اجتماعية معتبرة ، من التنوع والتعدد الديني والثقافي ، والإصرار على الوحدة التي تفسر عندهم بإلغاء الألوان المختلفة ، وتحويل الناس جميعا الى نسخ متشابهة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 24 شعبان 1442 هـ - 07 أبريل 2021 مـ رقم العدد [15471]

https://aawsat.com/node/2903931/

مقالات ذات صلة

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

31/03/2021

قصة السفينة كموضوع للتعليم

 


لفتت نظري هذا الأسبوع قصة صغيرة ، احتمل ان كثيرا من القراء قد مروا بها أيضا. فحوى هذه القصة ان (سي. ان. ان). قناة الاخبار الأمريكية الشهيرة ، استغلت اهتمام العالم بالسفينة ايفرغيفن Evergiven التي جنحت وأغلقت قناة السويس في الأسبوع الماضي ، فاجرت تحقيقا على شكل أسئلة وجهتها للأطفال ، حول كيفية انقاذ السفينة. احتمل ان غرض القناة كان ترفيهيا في المقام الأول. لكنه اثار في ذهني سؤالا جديا ، فحواه: هل يمكن لتحد كهذا ان يساعد في توجيه الأطفال الى نوعية الاهتمامات التي نريد ان يهتموا بها في مستقبل أيامهم؟.

دعني أوضح نقطة ضرورية هنا: اني لست من أنصار الرؤية القائلة ، بأن علينا تلقين الأطفال ما هو صحيح وما هو خطأ. لكني أيضا لا أؤيد ترك الطفل من دون توجيه. الصحيح في رأيي هو الخط الواقع بين الرؤيتين: دورنا ليس تحويل أبنائنا الى نسخ مكررة من اشخاصنا او عقولنا ، بل نكتفي بمساعدتهم على تكوين نقطة انطلاق لحياتهم. ان الغفلة عن توجيههم الى نقطة بداية سليمة ، قد تؤدي  الى ضياعهم ، او ضياع سنوات من عمرهم ، قبل العثور على الجادة الأفضل.

بعد هذا الاستطراد اعود لموضوع السفينة. فهو يشكل مثالا على هذا النوع من المواضيع ، الذي تتداخل فيه حقول معرفية عديدة interdisciplinary فوق انه ينطوي على نقاط اثارة وامتاع. ومن هنا فمن الممكن استثماره كموضوع تعليمي ، مع التركيز على المساءلة والبحث. نحن نعلم بانه أثار اهتمام مئات الالاف من الناس ، من واقع عدد قراءات الاخبار ومشاهدات الفيديوهات الخاصة بالحدث على شبكة الانترنت. اما كونه موضوعا تعليميا ذا حقول متداخلة ، فلأنه يستدعي الحديث (ومعه التفكير) في التجارة العالمية ، وتكريسها لمفهوم الاعتماد المتبادل بين المصدر (الصين) والمستورد (اوربا) والطريق (مصر) وكذلك بين أنواع الصناعة والخدمات. كما يستدعي الحديث عن صناعة السفن ، والعلاقة بين قوانين الفيزياء  والميكانيكا ، وعن الشحن البحري وتاثير الطقس. ولا بد أيضا من المرور على تاريخ قناة السويس ، التي عبرتها ملايين السفن منذ افتتاحها في 1869 ، ومنها الى تاريخ مصر وتحولاتها ، وحصة القناة في الاقتصاد المصري.. الخ.

الغرض من هذا العرض ، هو تقديم مثال على نوع التعليم ذي الحقول المتداخلة ، الذي اعتقد انه يمثل مادة خصبة للتفكير واثارة الاذهان. ومن هنا فهو يوفر دائرة واسعة نسبيا ، من القضايا والموضوعات التي تساعد الجيل الجديد ، على استشراف مستقبلهم ، وتكوين اهتمامات علمية تنمو معهم وتتعمق مع تقدمهم في العمر. ان تكوين اهتمامات علمية في وقت مبكر ، سوف يجعل الميل الى احد العلوم نوعا من الهواية ، واذا اجتمعت الهواية مع الدراسة العلمية في المستقبل ، فسوف يتعاضدان في دعم القابلية للابداع عند الشاب. وقد رأينا ان الشباب الذين اجتذبهم الكمبيوتر في مقتبل العمر (حتى على مستوى الألعاب) تحولوا لاحقا الى مطورين لامعين وخبراء متقدمين في حقل المعلوماتية. واحتمل ان معظمنا قد سمع عن شخص او اكثر من هذا النوع.

نفس التجربة قابلة للتكرار في علوم أخرى. وقد حاولت في هذه المقالة اصطياد مثال عن "نقطة بداية" ممكنة. وأعلم اننا نمر بين حين وآخر بالعديد من نقاط البداية المماثلة ، التي يمكن استثمارها في توجيه الجيل الجديد نحو مستقبل مليء بالفرص والتحديات التي تمد حبلا قويا بين الاذهان والواقع ، بين الهواية والاحتراف.

الشرق الاوسط الأربعاء - 17 شعبان 1442 هـ - 31 مارس 2021 مـ رقم العدد [15464]

https://aawsat.com/node/2890951

مقالات ذات صلة

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

حول البيئة المحفزة للابتكار

التمكين من خلال التعليم

صناعة الشخصية الملتبسة

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

 ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني

24/03/2021

ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني


بلدنا واحد من بلدان قليلة في العالم تشهد حديثا متكررا عن عدم مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل. وخلاصة هذا الحديث ، ان الالاف من طلبة الثانويات والجامعات الذين ينهون دراساتهم كل عام ، لا يحصلون على وظائف ، لأنهم غير أكفاء للقيام بالمهن والاعمال المطلوبة.

قد تكون هذه الدعوى صحيحة وقد تكون خاطئة. ما يثير الغبطة هو دلالتها على اهتمام الناس بنظام التعليم ورغبتهم في تطويره. وهو اهتمام يضع المسؤولين عن هذا النظام أمام تحد يومي. إنه لأمر طيب ان يواصل الناس مطالبتهم بتحسين الخدمات العامة ، سيما من هذا النوع الذي له دور حاسم في تحديد مستقبل البلد. ومن هنا فاني استطيع القول من دون تردد ، ان نظامنا التعليمي الآن افضل بمراحل مما كان عليه قبل عشرين عاما او ثلاثين عاما.

الربط بين التعليم وسوق العمل ، هو العامل المحرك لقيام التعليم  الرسمي واستمراره. ولولا ان المدارس توفر قوة عمل مناسبة (وهذه بدورها توفر المداخيل للحكومات) لما انفقت الدول الأموال على بناء المدارس ، وتوظيف المعلمين وتوفير التعليم المجاني. لولا حاجة سوق العمل لقوة عمل مدربة ، لبقي التعليم – كما كان في القرون الغابرة – امتيازا لشريحة صغيرة من الناس فحسب.

يهمني أيضا الإشارة الى نقطة وجدتها جديرة بان تقال ، وخلاصتها ان دعوى المواءمة بين مخرجات التعليم وحاجات سوق العمل ، لا تقتصر على بلد بعينه. خلال السنوات الثلاث الماضية قرأت تقارير عن سبع دول صناعية على الأقل (بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وكوريا الجنوبية) تتحدث عن "قلق" بين كبار المسؤولين والمخططين ، من عجز النظام التعليمي عن الاستجابة للتحولات السريعة التي تشهدها أسواق العالم. واذكر على سبيل المثال ان مسؤولا رفيعا في بريطانيا استشهد بتقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2015) يكشف عن تفوق طلبة سنغافورة وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية في الرياضيات على كافة نظرائهم الأوروبيين. وقال المسؤول (ولعله وزير الدولة المكلف بالجامعات) ان هذا لا يمثل خطرا فوريا ، لكنه يشير الى المخاطر المحتملة في العشرين عاما القادمة ، حين يتحول قطار الاختراع والابداع الى البلدان الأكثر تقدما في الرياضيات والعلوم والحوسبة.

ارجو ان يلتفت القاريء العزيز الى فحوى كلام الوزير البريطاني ، والفارق بينه وبين الحديث المكرر عندنا. فنحن نتحدث عن وظائف لابنائنا اليوم ، بينما يتحدث هو عن الابداع والاختراع غدا. دعني اعبر عن هذه الفكرة في تطبيق مختلف:

ان معظم الآباء يريدون إعداد أبنائهم كي يحصلوا على وظائف ذات أجور مجزية ، بحسب المعطيات والمعايير التي يرونها امامهم اليوم. وهم ينظرون للمسالة من زاوية شخصية ، فحواها ان ضمان المستقبل يكمن في وظيفة مريحة باجر جيد (أي ان هناك شخصا آخر سيتحمل مسؤولية توفير الراتب لابنائهم).

اما الوزير فيتحدث عن سياق مختلف ، هو ما اسميناه في مقال الأسبوع الماضي "صناعة السوق". بعبارة أخرى فاننا امام خيارين: أولهما ان نعد ابناءنا لشغل الوظائف التي تعتبر جيدة في هذا اليوم. الثاني ان نعد ابناءنا كي يكونوا صناعا ومبدعين ورجال اعمال يقررون اتجاه السوق وحاجاتها. في الخيار الأول السوق القائم هو الذي يحدد اتجاهات التعليم. في الخيار الثاني نظام التعليم هو الذي يحدد اتجاهات السوق وحاجاته بعد عشر سنين او عشرين سنة.

اظن ان ما ينبغي ان نسعى اليه على المستوى الوطني قد بات واضحا الآن. المهم ان نختار ونقرر بانفسنا لأنفسنا ، بدل ان ننساق في خيارات يقررها آخرون.

الشرق الاوسط الأربعاء - 10 شعبان 1442 هـ - 24 مارس 2021 مـ رقم العدد [15457]

https://aawsat.com/node/2877751

مقالات ذات صلة

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

حول البيئة المحفزة للابتكار

التمكين من خلال التعليم

صناعة الشخصية الملتبسة

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

   

17/03/2021

هل تختار مدرسة اجنبية؟

دعنا نفترض ان لديك ثلاث مدارس ، احداها تقدم دروسها باللغة العربية فقط ، والثانية باللغة الانكليزية فقط ، والثالثة تقدم العلوم بالانكليزية والاداب بالعربية. ثم سألت 100 من الآباء كي يختاروا لابنائهم المدرسة التي يرونها مناسبة. فما الذي تتوقع؟

اعلم ان الجواب حاضر لديك. وهو على الشكل التالي: 45 بالمائة سيختارون المدرسة التي تستخدم اللغة الانكليزية فقط ، و 35 بالمائة سيختارون المدرسة التي تستخدم اللغتين ، أما المدرسة التي تقتصر على اللغة العربية ، فالمرجح ان يختارها 10 في المائة او أقل.

اصحاب الخيار الاول (الانكليزية فقط) يرون ان التعليم باللغة الانكليزية سيضمن لابنائهم وظائف ممتازة. لكن بعضهم سيقول ايضا ان الانكليزية هي لغة العلم الحديث. آخرون سيقولون انها لغة التواصل مع العالم. فمن اراد العلم أو اراد التواصل مع العالم ، فلا بد ان يتقن الانكليزية.

اما اصحاب الخيار الثاني (المختلط) فهم في الغالب من المحافظين ، الذين يخشون انقطاع ابنائهم عن التراث الاسلامي ومصادره الثقافية. لكنهم في الوقت نفسه يعتقدون ان الانكليزية ضرورية لضمان الارتقاء الوظيفي او النجاح في الحقل العلمي.

اصحاب الخيار الثالث ، هم في الغالب ممن يخشى تبعات دينية او سلوكية للانفتاح على العالم.  سوف اضيف الى اصحاب الخيار الثاني شريحة صغيرة نسبيا لكنها مؤثرة ، اعني بها هؤلاء الذين يركزون على حاجة البلد ككل للارتقاء في مجالات العلوم والتقنية ، التي تتطلب – حسب اعتقادهم – ان يكون كافة الشباب قادرين على متابعة ما يشهده العالم من تطورات علمية او تقنية.

دعنا الآن نطرق الموضوع من زاوية ثانية: لو قسمت طلاب الثانوية او الجامعة الى قسمين ، الأول يدرس مادة علمية في الطب او الهندسة او الفيزياء باللغة الإنكليزية فقط ، والثاني يدرس نفس المادة باللغة العربية فقط. فاي القسمين سيكون افضل استيعابا للمادة العلمية؟

اعلم أيضا ان الجواب حاضر لديك. وهو ان القسم الثاني ، أي الدارسين بالعربية هم الأكثر استيعابا. الحقيقة ان هذا القول تدعمه أيضا دراسات عديدة ، اذكر منها دراسة البروفسورة ريما الجرف ، ودراسة البروفسور يعقوب نامق ، وكلاهما استند الى بحوث ميدانية حديثة.

لكن بعض القراء قد يعتبر هذا مخادعة. لأن المشكلة ليست في القاء الدرس (أي مدرس جيد سيقدم المادة بصورة جيدة ، سواء تحدث بالعربية او الإنكليزية). المشكلة كما يقول هذا الزميل ان الطالب محتاج للمراجع العلمية والأبحاث الجديدة ، وهذه كلها تتوفر بالانكليزية فقط. ولهذا فمن الأفضل ان يبدأ بها ، كي لا يواجه صعوبة في الطريق.

وهناك مشكلة أخرى: دعنا نفترض ان الطلبة درسوا الهندسة باللغة العربية ، واتقنوها كل الاتقان. لكنهم بعد ذلك انضموا لشركة اجنبية. فكيف سيتفاهمون مع المهندسين والموظفين الأجانب ، كيف سيفهمون مصطلحاتهم واساليبهم؟.

هذه اذن مشكلة تتعلق بالوظيفة ، وليس بالتعليم نفسه. لانه يمكن للطالب ان يتعلم الإنكليزية كلغة ثانية ، هذا لا يتطلب ان يدرس بها.

الحقيقة انه لا ينبغي ان نبدأ هذا النقاش بسؤال: أي من اللغتين افضل في مجال التعليم. السؤال الصحيح هو: ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني؟. مثلا: ما هي طبيعة سوق العمل الذي نريد اعداد الشباب له ، بل كيف نجعل التعليم صانعا لسوق العمل ، بدل ان يكون منفعلا به. ومنها أيضا: هل نريد توطين العلم وانتاجه وتشبيكه في نسيجنا الثقافي؟. ومنها: هل نريد استخدام التعليم في توحيد الثقافة الوطنية والهوية الوطنية التي تنبثق منها؟. مناقشة هذه الأسئلة ستساعدنا في تحديد الخيار الأنسب للبلد ولمستقبلها ككل. ولو بدأنا بها فلعل النقاش ياخذنا لمسار آخر.

الشرق الأوسط الأربعاء - 3 شعبان 1442 هـ - 17 مارس 2021 مـ رقم العدد [15450]

https://aawsat.com/home/article/2864626/

مقالات ذات صلة

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

حول البيئة المحفزة للابتكار

التمكين من خلال التعليم

صناعة الشخصية الملتبسة

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

 ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني

قصة السفينة كموضوع للتعليم

 

 

10/03/2021

تجربة تستحق التكرار

انا واحد من ملايين الناس الذين لم يسمعوا بمفهوم "الذكاء الصناعي" الا متأخرا ، ربما قبل عشرين عاما او أقل قليلا أو اكثر قليلا. وللحق فاني لم استوعب مفهومه على نحو معقول ، الا في السنوات الأخيرة.

حسنا هذا ليس إقرارا بالذنب ، بل هو من نوع المواساة لغالبية سكان الأرض: أناس مثلي لم يتعرفوا على الذكاء الصناعي الا حديثا (احتمل ان نسبة كبيرة من القراء سيقبلون هذا الرأي ، استنادا الى تجربتهم الشخصية على الأقل).

جون كارثي مع واحد من النماذج الاولى للكمبيوتر

هذا على أي حال ليس شيئا عظيم الأهمية. المهم حقا هو ما سمعته وصعب علي تصديقه ، وخلاصته ان الصين تعرفت على أبحاث الذكاء الصناعي بعد اطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي لعام 1980. ومع ذلك فهي اليوم توشك ان تنتزع ريادة هذا الحقل من الولايات المتحدة الامريكية.

يقال ان عالم الرياضيات الأمريكي جون مكارثي (1927-2011) هو الذي صاغ اسم ومفهوم "الذكاء الصناعي" سنة 1955. لكن الانطلاق الفعلي للبحث الاكاديمي في هذا الحقل يرجع الى "مؤتمر دارتموث" في العام التالي. فقد اكتشف الحاضرون الإمكانات الهائلة التي ينطوي عليها الموضوع. وفي وقت لاحق اصبح المشاركون في هذا المؤتمر ، رواد بحوث الذكاء الصناعي حتى نهاية القرن العشرين. ونذكر منهم الين نويل ، مارفن مينسكاي ، وهربرت سيمون ، إضافة بالطبع الى جون مكارثي.

تعرف العلماء الروس على هذا الحقل في وقت مقارب. لكنهم اخفقوا في المنافسة. لانهم - كما قيل - احتفظوا بنتائج الأبحاث ضمن نطاق ضيق جدا من الأشخاص. كما ان قلة الانفاق الحكومي حفزت الباحثين للتركيز على حقول أخرى.

سنعود الى الصين ، ففي تجربتها عبرة لنا ولغيرنا. قلنا ان اهتمام الصينيين بابحاث الذكاء الصناعي ، يعود الى ثمانينات القرن العشرين. لكنها الان تنافس الولايات المتحدة. لقد عبر عن هذا التحول تقرير قدم للكونغرس الأمريكي ، وساهمت فيه مجموعة باهرة من صناع "اقتصاد المعرفة" ، أي رؤساء شركات التقنية الكبرى ، شخصيات أكاديمية ، إضافة الى باحثين في وزارة الدفاع. ودعا التقرير لتفهم اعمق بين النخبة السياسية للتحولات الحياتية والاقتصادية التي ستنجم عن نضج أدوات الذكاء الصناعي ، وأهمية ان تحافظ الولايات المتحدة على مقعد القيادة في هذا المجال. ان سبق الصين يهدد بنهاية العصر الذي شهد انفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم.

ان تقدم الصين في هذا المجال امر عجيب. عدا عن بدايتها المتأخرة ، فهي تنفق على ابحاث الذكاء الصناعي أقل من ربع الأموال التي تنفقها الولايات المتحدة.

دعني أغامر بالقول ان العامل الذي عوض الفارق الزمني والمالي بين الصين وغيرها ، هو الاتساع النسبي لتداول العلم في المجتمع الصيني. ان انتاج العلم وتسخيره في الاقتصاد ، يمثل سمة رئيسية في نهضة الصين الحاضرة. "العمالة الرخيصة" لم تعد الميزة النسبية للاقتصاد الصيني ، كما كان الامر في الماضي ، بل العمالة السريعة الاستيعاب للتقنيات الجديدة والمعقدة.

هل تعلم من اين جاءت هذه الميزة؟

انها ثمرة لاستراتيجية نشر العلم في المجتمع ، من خلال تبسيطه وتوطينه. توطين العلم يعني اغناء اللغة الوطنية بالمحتوى العلمي ، ترجمة الاف الكتب العلمية الصادرة في شتى بلاد العالم ، تشجيع الأساتذة والباحثين على كتابة المقالات التي تخاطب القراء من مختلف المستويات ، تشجيع الشباب على انشاء مجموعات البحث العلمي وتداول العلم ونوادي التقنية ، فضلا عن التأكيد على الصلات بين الاكاديميا والسوق.

هذا ببساطة هو الدرس الذي يستحق ان نتأمل فيه ، لأننا – مثل كل الآخرين – نستطيع تكرار التجربة ، ولازال الوقت في صالحنا ان بدانا سريعا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 26 رجب 1442 هـ - 10 مارس 2021 مـ رقم العدد [15443]

https://aawsat.com/node/2850761

مقالات ذات صلة

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

حول البيئة المحفزة للابتكار

التمكين من خلال التعليم

صناعة الشخصية الملتبسة

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

 

24/02/2021

حرية الاختيار وجودة الحياة

 "برنامج جودة الحياة 2020" واحد من 12 مسارا استراتيجيا لتنفيذ رؤية المملكة 2030. وهو يستهدف – كما في وثيقته الرئيسية - جعل المملكة "مكانا افضل للعيش" من خلال تطوير الخدمات العامة الاساسية ، والمرافق الترفيهية والثقافية ، على نحو يزيد من رضا السكان عن حياتهم وصولا الى تحقيق السعادة.

اقترح على القراء الاعزاء مراجعة وثيقة البرنامج المتاحة على الموقع الالكتروني لرؤية المملكة ، فهي تحوي الكثير مما يجدر معرفته ومناقشته. وقد خصصت هذه المقالة لجانب اظنه يشكل خلفية مهمة للتفكير في البرنامج وتطبيقاته.

غرض البرنامج هو تحقيق "رضا العامة" من خلال تمكين الأفراد من اختيار نمط العيش الذي يلائمهم. هذا يعني بالضرورة توفر خيارات معيشية متعددة ، والضمان القانوني لحرية الفرد في اختيار ما يراه طريقا لتحقيق سعادته.

يذكرنا هذا بجدل قديم جدا ، لكنه يتجدد باستمرار ، جدل يتناول مفهوم السعادة والرضا. وأبدأ هنا بقول مشهور ينسب للامام الشافعي: "رضا الناس غاية لاتدرك". ومضمونه راسخ في ثقافتنا العامة ، بل هو أقرب الى المسلمات التي لا يجادل في صحتها أحد (مع انه في اعتقادي رأي ضعيف). وقد وجدت ان التسليم بهذا القول قاد الى  التباس شديد بين مفهومين للرضا ، أحدهما مطلب نسبي وهو رضا الجمهور عن الحاكم او عن شخص بعينه ، والثاني مطلب معياري هو رضا الناس عن حياتهم. وبسبب هذا الالتباس ، وبالنظر لرسوخ تلك المقولة ، فقد تحولت الى مبرر عند اهل الحكم في الكثير من بلدان العرب ، لعدم الاكتراث برأي الناس (لان رضاهم مستحيل).

إن اتفاق كافة الناس على الحكومة غير مطلوب ، وهذا معروف في كل المجتمعات. ولهذا توصلوا الى التصويت والانتخاب ، واعتمدوا موقف الأكثرية معيارا لحسم الخلاف والاختلاف.

لكن – وكما اسلفت – فان الرضا المقصود في "برنامج جودة الحياة" مختلف عن هذا. فالمقصود هنا هو رضا الناس عن حياتهم ، وهذا ناتج عن الأمان المادي والاطمئنان للمستقبل.

ويهمني إضافة عنصر "الأمان النفسي" الذي أراه ضروريا لربط الأمان المادي بمفهوم السعادة ، الذي يصنف عند الفلاسفة كهدف أسمى لكل نظام اجتماعي.

يتولد الأمان النفسي (ومن ثم الشعور بالسعادة) كنتيجة لقناعة الفرد بتوفر إمكانية فعلية لتحقيق ذاته. أي اعتقاده بأن البنية الاجتماعية والنظام القانوني يساعدانه ، او على الأقل يسمحان له بالسعي الى نموذج السعادة الذي يلائمه ، او نموذج العيش الذي يعتبره قرينا للسعادة ، وهذا ما نسميه بحرية الاختيار.

كان المفكر الإيطالي المعروف نيكولو مكيافيلي ، قد اقترح مفهوما فريدا للحرية ، خلاصته ان "الناس يريدون الحرية لانها تمنحهم الأمان". الحرية هنا تعني ببساطة ان يكون القانون في صفك ،  حين يتدخل الناس في حياتك او يستخدمون قوتهم المالية او نفوذهم الاجتماعي او مناصبهم ، في منعك من العيش حسب اختيارك. أنت إذن آمن من مزاحمة الآخرين ، لأن القانون يحمي حريتك في الاختيار.

في اعتقادي ان مجتمعنا (والمجتمع العربي ككل) مطالب بترسيخ قيمة الحرية في هذا المعنى على وجه الخصوص ، أعني حرية كل فرد في اختيار هدف حياته ونمط العيش الذي يحقق سعادته ، وان يعتبر هذا حقا للفرد يحميه القانون.

لا يتوجب على الحكومة ان تضمن السعادة للناس. لكن يجب عليها توفير الظرف القانوني والمؤسسي الذي يسمح للناس بالسعي نحو سعادتهم الخاصة ، التي قد تكون مختلفة عن تلك التي يسعى اليها الشيخ او القاضي او الوزير.

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 رجب 1442 هـ - 24 فبراير 2021 مـ رقم العدد [15429]

https://aawsat.com/node/2824361/


مقالات ذات علاقة

ام عبد العزيز

سيادة القانون ورضا العامة

صيانة الوطن في سيادة القانون

الطريق الى 2030

القانون للصالحين من عباد الله

نبدأ حيث نحتاج

نقاط الاحتكاك بين المجتمع والدولة

واتس اب (1/2) أغراض القانون

واتس اب (2/2) عتبة البيت

 التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

 عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

 

17/02/2021

حكم العلماء

 

الجدل الذي اعقب مقال الأسبوع الماضي ، المعنون "حكم التكنوقراط" ، نبهني الى مشكلة شائعة ، وهي اختلاف المفاهيم بين الناس ، بما فيها تلك المفاهيم التي نظنها مسلمات او موارد إجماع. هذه المشكلة تجعل النقاش بلا فائدة ، لأنك تفترض وجود توافق أولي على غرض النقاش ، ثم تكتشف متأخرا ، ان اطراف النقاش يتحدثون في مسارات مختلفة او سياقات متغايرة.

ومن ذلك مثلا ان بعض الزملاء اعترضوا على ما قالوا انه تسخيف لحاكمية العلم وفوقيته على غيره ، واعترض آخرون على ما اعتبروه ربطا متكلفا بين "حكم الآلات للبشر" وهو احتمال غير مقبول ، فوق انه مجرد خيال ،  وبين حكم العلماء والخبراء ، وهو امر يحتاجه كل مجتمع.

على أي حال ، وجدت في هذا النقاش فرصة لتحدي قناعة شائعة ، ترجح حاكمية العلم وفوقيته على ما عداه. وكنت قد جادلتها بالتفصيل في دراسة سابقة حول "ولاية الفقيه" النظرية المعروفة في الفقه الشيعي المعاصر.

وأصل الفكرة من المسلمات المعروفة بين الناس. فكل انسان مدعو – عقلا – للرجوع الى الخبير في الموضوع ، حين يحتاج. ولهذا يرجع الفقيه الى الطبيب  لعلاج مرضه ، ويرجع الأمير الى المهندس كي يبنى سكنه ، ويرجع التاجر الى الخياط كي يخيط ثوبه .. الخ.

وهذا الأصل المنطقي هو القاعدة التي اقام عليها الفيلسوف اليوناني افلاطون ثم أرسطو ، فكرة "الملك الفيلسوف". لكنهما صرفا الفكرة عن اصلها الى سياق فرعي نوعا ما ، كي يخدم نظريتهما الخاصة عن القانون الطبيعي وتطبيقاته في الحياة العامة. وظهر لي في أبحاث سابقة ان استدلال أرسطو  ، قد تبناه الاتجاه العام بين علماء المسلمين وفلاسفتهم ، منذ القدم وحتى اليوم. ولهذا تراهم يتحدثون عن ولاية الفقيه ، واجتهاد الحاكم والقاضي ، كما يصرفون "ولاية الامر" الواردة في القرآن الى علماء الشريعة ، ويضفون عليهم قيمة عالية تتجاوز المعتاد بين أهل العلم.

 وهذا يوضح سبب شياع الفكرة ، وجريانها مجرى المسلمات. فمصادر الثقافة الدينية تشكل جانبا مؤثرا من ثقافتنا العامة ، ونحن نتعامل معها كحقائق لا تقبل الجدال.

اما معارضتي للفكرة ، فترجع الى عاملين بسيطين: أولهما ان ممارسة الحكم والإدارة العامة ولاسيما في مرحلة اتخاذ القرار ، ليست من قضايا العلم وليست موضوعا للبحث العلمي. الثاني ان العلم لم يعد في العصر الحديث مصدرا واساسا لحق المدير في الامر والنهي والتصرف.

اذا كانت التجارب دليلا عند العقلاء ، فان تجربة الحكم في العالم المعاصر ، في مختلف المجتمعات ، تخبرنا ان الحكومات في كل بلد توكل للخبراء في كل مجال ، مهمة صناعة الأساس الذي يتخذ القرار على ضوئه ، اما اتخاذ القرار فعليا فلا يرجع الى العلماء بل الى الحكام ، وهو يتخذ سيرورة قانونية مختلفة عن مسار البحث العلمي.

وفيما يخص العامل الثاني ، فان وظيفة الحاكم هي إدارة مصالح مواطنيه ، بحسب رغباتهم وتشخيصهم لمصالحهم ، سواء كانت مطابقة للدليل العلمي او مخالفة. ان شرعية القرار لا تستمد من مطابقته لنتائج العلم او رجوعه الى أدلة علمية ، بل من انسجامه مع القانون الوطني ، وكونه محققا لمصالح المواطنين. والمقصود بشرعية القرار في علم السياسة ، هو المبرر الذي يسمح للحاكم بالامر والنهي والتصرف في الموارد العامة ، كما يبرر للمواطنين طاعة الأمر والالتزام بمقتضياته ، ولو كان مخالفا لقناعاتهم.

الأربعاء - 6 رجب 1442 هـ - 17 فبراير 2021 مـ رقم العدد [15422]

https://aawsat.com/node/2810066/

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...