الجدل الذي اعقب مقال الأسبوع الماضي ، المعنون "حكم التكنوقراط" ، نبهني الى مشكلة شائعة ، وهي اختلاف المفاهيم بين الناس ، بما فيها تلك المفاهيم التي نظنها مسلمات او موارد إجماع. هذه المشكلة تجعل النقاش بلا فائدة ، لأنك تفترض وجود توافق أولي على غرض النقاش ، ثم تكتشف متأخرا ، ان اطراف النقاش يتحدثون في مسارات مختلفة او سياقات متغايرة.
ومن ذلك مثلا ان بعض الزملاء اعترضوا على ما قالوا انه
تسخيف لحاكمية العلم وفوقيته على غيره ، واعترض آخرون على ما اعتبروه ربطا متكلفا
بين "حكم الآلات للبشر" وهو احتمال غير مقبول ، فوق انه مجرد خيال
، وبين حكم العلماء والخبراء ، وهو امر
يحتاجه كل مجتمع.
على أي حال ، وجدت في هذا النقاش فرصة لتحدي قناعة شائعة
، ترجح حاكمية العلم وفوقيته على ما عداه. وكنت قد جادلتها بالتفصيل في دراسة سابقة حول "ولاية
الفقيه" النظرية المعروفة في الفقه الشيعي المعاصر.
وأصل الفكرة من المسلمات المعروفة بين الناس. فكل انسان
مدعو – عقلا – للرجوع الى الخبير في الموضوع ، حين يحتاج. ولهذا يرجع الفقيه الى
الطبيب لعلاج مرضه ، ويرجع الأمير الى
المهندس كي يبنى سكنه ، ويرجع التاجر الى الخياط كي يخيط ثوبه .. الخ.
وهذا الأصل
المنطقي هو القاعدة التي اقام عليها الفيلسوف اليوناني افلاطون ثم أرسطو ، فكرة
"الملك الفيلسوف". لكنهما صرفا الفكرة عن اصلها الى سياق فرعي نوعا ما ،
كي يخدم نظريتهما الخاصة عن القانون
الطبيعي وتطبيقاته في الحياة العامة. وظهر لي في أبحاث سابقة ان استدلال
أرسطو ، قد تبناه الاتجاه العام بين علماء
المسلمين وفلاسفتهم ، منذ القدم وحتى اليوم. ولهذا تراهم يتحدثون عن ولاية الفقيه
، واجتهاد الحاكم والقاضي ، كما يصرفون "ولاية الامر" الواردة في القرآن
الى علماء
الشريعة ، ويضفون عليهم قيمة عالية تتجاوز المعتاد بين أهل العلم.
وهذا يوضح سبب
شياع الفكرة ، وجريانها مجرى المسلمات. فمصادر الثقافة الدينية تشكل جانبا مؤثرا
من ثقافتنا العامة ، ونحن نتعامل معها كحقائق لا تقبل الجدال.
اما معارضتي للفكرة ، فترجع الى عاملين بسيطين: أولهما
ان ممارسة الحكم والإدارة العامة ولاسيما في مرحلة اتخاذ القرار ، ليست من قضايا
العلم وليست موضوعا للبحث العلمي. الثاني ان العلم لم يعد في العصر الحديث مصدرا
واساسا لحق المدير في الامر والنهي والتصرف.
اذا كانت التجارب دليلا عند العقلاء ، فان تجربة الحكم
في العالم المعاصر ، في مختلف المجتمعات ، تخبرنا ان الحكومات في كل بلد توكل للخبراء
في كل مجال ، مهمة صناعة الأساس الذي يتخذ القرار على ضوئه ، اما اتخاذ القرار
فعليا فلا يرجع الى العلماء بل الى الحكام ، وهو يتخذ سيرورة قانونية مختلفة عن
مسار البحث العلمي.
وفيما يخص العامل الثاني ، فان وظيفة الحاكم هي إدارة
مصالح مواطنيه ، بحسب رغباتهم وتشخيصهم لمصالحهم ، سواء كانت مطابقة للدليل العلمي
او مخالفة. ان شرعية القرار لا تستمد من مطابقته لنتائج العلم او رجوعه الى أدلة
علمية ، بل من انسجامه مع القانون الوطني ، وكونه محققا لمصالح المواطنين. والمقصود
بشرعية القرار في علم السياسة ، هو المبرر الذي يسمح للحاكم بالامر والنهي والتصرف
في الموارد العامة ، كما يبرر للمواطنين طاعة الأمر والالتزام بمقتضياته ، ولو كان
مخالفا لقناعاتهم.
الأربعاء -
6 رجب 1442 هـ - 17 فبراير 2021 مـ رقم العدد [15422]
https://aawsat.com/node/2810066/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق