(1)
اعلان
"الدولة الاسلامية" في الموصل وتنصيب زعيم تنظيم "داعش" خليفة
للمسلمين كان صدمة للتيارات الدينية ، بصورة مختلفة عما اصاب التيارات الاخرى. في
1994 نشر سيد ولي نصر دراسة حول الجماعة الاسلامية في باكستان ، محاولا استقصاء
العوامل التي مكنت التنظيمات الدينية الجديدة من اختراق التيار العام التقليدي.
وتوصل يومئذ الى ان العامل الرئيس هو نجاح تلك التنظيمات في اعادة تفسير الثقافة
الدينية التي يروجها التيار التقليدي ، على نحو يماهي بين العناصر الاكثر شيوعا في
هذه الثقافة وبين احلام وتطلعات المسلم المعاصر. لعل ابرز عوامل فشل التيار التقليدي يكمن في
نزعته التجريدية والميتافيزيقية ، في الوقت الذي يتساءل مسلم اليوم: اذا كان ديننا
بهذه العظمة واذا كان اسلافنا قد حققوا كل تلك النجاحات التي نتحدث عنها ، فلماذا
نفشل اليوم في تكرار التجربة؟ بل لماذا نفشل في معالجة ابسط قضايانا؟.
(2)
خلال ستينات
وسبعينات القرن العشرين كان الطابع العام لاحاديث الاسلاميين وكتاباتهم هو التاكيد
على فكرة ان "الاسلام هو الحل" و "عندما يحكم الاسلام .....".
حاولت هذه المقاربة الاجابة على سؤال "لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"
الذي طرحه شكيب ارسلان قبل قرن من الزمن. وأظن ان معظم المسلمين ، سيما الناشطين
والشباب قد اقتنعوا بالجواب ، اعني الجواب القائل بان تأخر المسلمين سببه ابتعادهم
عن الاسلام او قلة ايمانهم ، او عدم اتحادهم حول راية واحدة. هذه قناعة ضرورية رغم
انها خاطئة. هي قناعة ضرورية لان البديل عنها هو نقيضها ، اي القول بان غير
المسلمين تقدموا لانهم غير مسلمين ، فطريق التقدم مشروط اذن بالتخلي عن الاسلام.
ولم يكن عامة المسلمين مستعدين ، لا بالامس ولا اليوم لقبول فرضية كهذه. لكنه جواب
خطأ ايضا لان مجرد التمسك بالدين لا يقود بالضرورة الى التقدم كما ان مجرد التخلي
عنه لا يقود بالضرورة الى التخلف. والدليل هو ان كثيرا من الحضارات قامت وتغلبت
ولم تكن مسلمة ، مثلما قامت حضارات وتغلبت وهي مسلمة ، وقد سقطت هذه مثلما سقطت
تلك ، مما ينفي التلازم المفترض - والذي
اراه متكلفا – بين الدين والحضارة.
لكن هذا النقاش
المفصل ليس مطروحا اليوم كما لم يكن مطروحا بالامس. يهتم عامة الناس بالاسئلة
العامة وينتظرون جوابا عاما ، لا يصادم في الغالب توقعاتهم او مرادتهم. ولهذا
قبلوا بالجواب المقترح ، اي ان سبب ضعف المسلمين وتخلفهم يكمن في ابتعادهم عن
الاسلام.
(3)
ولم يحفل
الاسلاميون كثيرا بالتدليل المادي الواقعي على جوابهم. الحركيون مثل التقليديين
ركزوا على استثمار التاريخ على نحو يؤكد صدق الجواب. والتاريخ دليل جبار لانه
تجربة مادية انسانية واقعية ، لا يمكن تكذيبها. عيب هذا الدليل يكمن في انتقائيته
، فنحن لا نقرأ التاريخ كاملا بل نلتقط وقائع محددة ونشحنها باضافات بلاغية وتصويرية
كي تطابق التصور الذي نريد اقناع الناس به.
الخلافة
الراشدة هي ابرز الصور التي قدمت للمسلمين كدليل على عظمة الاسلام ورفعته وكفاءته
وعدالته وقوته. استمرت الخلافة الراشدة 30 عاما ، كانت مليئة بالحوادث والتحولات ،
غير ان ما يعرفه عامة المسلمين منها ، لا يتجاوز صفحات قليلة ، تتلخص في بضعة
فتوحات وصور عن السلوك الشخصي للخلفاء والولاة ، وقليل من صور الحياة العامة. هذه
الحقبة القصيرة لخصت في راي المؤرخين والفقهاء والمفسرين والرواة ، فضلا عن الكتاب
والخطباء المعاصرين ، اسمى ما يعد به الاسلام. ولهذا اكتسبت مسحة قدسية. فهي تذكر
دائما باعتبارها الفترة النموذجية. ويذكر رجالها باعتبارهم المثال الاسمى لما
ينبغي ان يكون عليه الاسلام. انها – حسب
الوصف الدارج والذي يقال انه مدعوم بحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام – خلافة
على منهاج نبوة.
(4)
لماذا لم ينجح
المسلمون في اعادة احياء الخلافة الراشدة ، او اقامة نموذج قريب منها طيلة ثلاثة
عشر قرنا ونصف بعد سقوطها ؟.
يجيبون على
ذلك احيانا باتهام المسلمين انفسهم بقلة الايمان ، او قلة معرفة الدين. ويتهمون
احيانا الاستعمار او القوى المعادية للدين بالحيلولة دون احيائها. لكن الخلافة تبقى
- رغم ذلك - املا ومثلا اعلى يتطلع اليه المسلمون ، رغم قناعتهم بعجزهم عن تحقيقه
في ارض الواقع.
|
عبد الله العروي |
لم يحصل ابدا
ان قام مجتمع مسلم بمحاسبة علماء الدين او زعماء الحركات الاسلامية او رؤساء الدول
على تقصيرهم في السعي لاقامة الخلافة الاسلامية ، او على فشلهم في اقامتها. لان
الفكرة في الاساس ليست مطروحة كحل ممكن ، بل كنموذج مثالي نريده ولا نستطيع الوصول
اليه. انه كما قال عبد الله العروي "طوبى" تنزع مشروعية الدولة القائمة ،
دون ان تقدم بديلا واقعيا ممكنا عنها. هذه النقطة للمناسبة مشتركة بين جميع
المسلمين ، فما يسميه السنة خلافة ، يسميه الشيعة امامة وليس ثمة فرق في المبررات المعيارية ولا
الغايات.
(5)
قوة الطرح
الذي قدمه تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" تكمن في هذه
النقطة بالذات: انه استطاع تحقيق ما عجز عنه المسلمون طيلة 1350 سنة ، اي كسر
ارادة المستعمر المفترضة وكسر اسباب العجز الداخلي ، واقامة الخلافة على ارض محددة
استنادا الى قوة ذاتية منبعثة من مجتمع مسلم ، رغم معارضة كافة الحكومات والدول
التي يفترض انها معادية للاسلام. نجاح "داعش" ايا كانت قيمته ينطوي على
ادانة للحكومات والتنظيمات الدينية ، ولكل من قال بان المسلمين غير قادرين على
تحقيق اراداتهم. هذه الادانة تقود بالضرورة الى انقسام جديد يضيف مسارا رابعا الى
المسارات القائمة ، اي الحكومات المختلطة (علماني/تقليدي) ، التنظيمات الدينية
التي تشكلت خلال القرن العشرين ، الجمهور العام ، والقوة الناهضة التي حققت ما فشل
فيه كل اولئك ، اي تنظيم الدولة الاسلامية
"داعش".
المسار الجديد
ليس مجرد خيار اضافي كما هو الحال في المقارنة بين الاخوان المسلمين وحزب الحرية
والعدالة مثلا ، ولا هو قوة اضافية كما هو الحال في المقارنة بين الاخوان والتيار
السلفي ، بل هو – ببساطة - قوة بديلة عن الجميع ، لانها تنفي شرعيتهم وحقهم في
العمل باسم الدين. الدليل الحاسم الذي يملكه هذا التيار هو قدرته على استنباط
القوة حيث عجز الاخرون ، وتحقيق الهدف حيث قصر الاخرون او فشلوا. في مطلع القرن الماضي كتب ماكس فيبر ، احد
الاباء المؤسسين لعلم الاجتماع الحديث ، ان الفكرة تصبح مؤثرة حين تشير الى قوة او
تعبر عن قوة. طبيعة البشر انهم ينجذبون الى القوة ويعتبرونها رمزا للنجاح ودليلا
عليه. لا يتوقف الناس كثيرا عند التفاصيل ، فالذي يؤثر فيهم هو الذي يشغل عيونهم
وآذانهم ، اي القوة المتجسدة في بنيات مادية. ولهذا تهتم الحكومات بالاحتفال
واستعراض سلاحها وعسكرها ومظاهر قوتها الاخرى ، لانها تضفي عليه مشروعية او تعزز
مشروعيتها ، اي تحول "القوة العارية" الى مصدر "حق" لصاحبها.
(6)
يستطيع
الحركيون الاسلاميون وتستطيع الحكومات حشد مئات الادلة على ان "الخلافة"
الجديدة بغي وضلال. لكن شريحة كبيرة من المسلمين ، سيما الشباب الذي امتلأ
بالاحباط بسبب الصعوبات الحياتية او بسبب عجز اسلافه عن تحقيق انجازات مثيرة
للاهتمام ، او بسبب الخطاب الديني القديم الذي يؤجل النجاحات الى الاخرة ، هذا
الشباب سيتوقف مليا عند نجاح داعش في السيطرة على الارض واعلان دولة ، وسيتعامل مع
هذا النجاح كمعيار لتقييم كفاءة الاخرين ، وتبعا كمعيار على صدق دعاواهم وربما
شرعية وجودهم وتمثيلهم للدين الحق.
رأينا هذا بعد
انتصار الثورة الاسلامية في ايران في 1979، ورأينا مثله في باكستان خصوصا ، بعد
اجتياح حركة طالبان للعاصمة الافغانية كابل في 1996.
هذا هو التحدي
الاكبر الذي يواجه حكومات الشرق الاوسط وبدرجة اكثر حدة التيارات الاسلامية بمختلف
اشكالها. وهو تحد ستظهر اثاره اذا نجحت داعش في ابقاء سيطرتها على الارض خلال
الاشهر الثلاثة القادمة. علينا ان ننتظر الى الربع الاخير من العام الجاري كي نرى
هذه الاحتمالات.
(7)
يمكن للحكومات والتنظيمات الاسلامية مواجهة هذا
التحدي اذا استطاعت تغيير ذاتها. وهي مهمة في غاية العسر. لكنها ممكنة على اي حال.
واعني بتغيير الذات بشكل محدد ، تغيير الباراديم او النسق الثقافي والسياسي الذي
يمثل قاعدة ومبررا لعملها ومحددا لاستهدافاتها. يمكن الاشارة الى تبني الحداثة بكل
تجلياتها السياسية والقانونية والثقافية كاحد معاني تغيير البارادايم ، والدخول في
معارضة مفتوحة وعلنية للنسق التراثي والثقافي القديم الذي تستطيع "داعش"
واخواتها استثماره بشكل افضل ، كما ثبت حتى اليوم. تغيير البارادايم سيؤدي قطعا
الى انكسارات كثيرة ، لكنه سوف يستنهض ايضا قوى لازالت خارج ساحة الفعل حتى الان.
بعبارة اخرى فاننا امام معادلة فيها خسائر وارباح كما في اي عملية اعادة هيكلة.
هذا التحول
ضروري ، ليس فقط من اجل ان تحافظ الحركة الاسلامية على وجودها ، بل ايضا من اجل:
أ) ان لا يتحول الربيع العربي الى ميراث لتيارات عمياء مثل "داعش"
واخواتها. ب) ان لا نعود الى علاقة العنف الاعمى بين الحكومات والمجتمعات المسلمة
التي كانت سائدة حتى وقت قريب.
دعوة
"الخلافة على منهاج نبوة" تبدو بسيطة وقابلة للتفنيد لو كان الظرف ظرف
نقاش علمي. لكننا في ظرف سجال يغلب عليه الطابع الانفعالي وتستقطب عناصره القوة
العارية. وفي ظرف كهذا فان من يعرض صور المذبوحين سيكون برهانه اقوى من الذي يعارض
بالكلام. هذا برهان يفكك شرعية أي مدع للنجاح وأي وعد للمستقبل.
http://altagreer.com/ الملف-النشط/د-توفيق-السيف-خلافة-على-منهاج-نبوة