17/12/2008

سجناء التاريخ

 بعض الناس مسكون بتاريخه الماضي الى حد العجز عن رؤية اي شيء في حاضره الا اذا كان مشابها – ولو في المظهر – للماضي او محاكيا له . وبعض الناس مسكون بتاريخ غيره ، ولا سيما اولئك الذين صنفهم كاعداء ، حتى ليتخيل ايديهم وراء كل حادث او مبادرة او فعل . التاريخ بالنسبة لهؤلاء واولئك ليس حلقة في حركة الحياة او وعاء لتجربة البشر ، بل هو مرجع نهائي او ربما وحيد للتفكير والتحليل والمقارنة ، انه – بكلمة اخرى – وعاء القيم والمعايير ، ومقياس الحق والباطل والصلاح والفساد .
صورة ذات صلة
اذا تحدثت مع واحد من هؤلاء الناس عن الصراع العربي الاسرائيلي فسيقصفك بالعشرات من الحوادث التاريخية التي يعتبرها مماثلة او مؤشرا على خط ما في ذلك الصراع . واذا تحدثت معه عن سوق الاسهم فلن يعدم قصة من هنا او هناك للتدليل على خطة ما تحاك من وراء الستار . واذا ذكرت الصحافة فلديه من اقوال رجالات الغرب والشرق ما يملأ ساعات من الحوار . بعبارة اخرى فالمسكون بالتاريخ لا يرى في الحاضر غير تكرار لما حدث في الماضي . فكل شيء عنده معروف في بواعثه ومساراته ونتائجه . اما تغير الرجال والزمان والمكان والاسباب المباشرة فكلها تفاصيل لا تغير من حقيقة الامر شيئا . التاريخ كما يقول هؤلاء يعيد نفسه.
لا يمكن لانسان ان ينقلع كليا ونهائيا من تاثير تجربته التاريخية ، تجربته كفرد او كعضو في تكوين اجتماعي . تجربة الانسان التاريخية ، ولا سيما الجمعية منها تسهم بالحصة الاكبر في تشكيل هويته التي يتمايز بها عن غيره . لكن شتان بين الانتماء الى التجربة او التاثر بها  وبين الدخول الاختياري في سجن التاريخ . التاريخ لا يعيد نفسه ، وحوادث التاريخ لا تتكرر ، انها ليست دائرة مغلقة كما  تصور ابن خلدون ، بل هي مسار تصاعدي قد يتباطأ احيانا وقد يتوقف احيانا اخرى وقد ينتكس ثالثة ، لكنه في المحصلة العامة يواصل الارتقاء يوما بعد يوم . هذه ليست نظرية تحتاج الى ادلة ، بل هي من الحقائق البديهية التي يستطيع الطفل ادراكها وكشف امثلتها وتطبيقاتها فضلا عن العارف والمثقف .
المسكونون بالتاريخ منقطعون بالضرورة عن حاضرهم .  جماليات العالم الراهن التي تتجسد في البشر والاشياء والتكنولوجيا والثقافة .. الخ هي مجرد اوهام او صور مصطنعة . الجمال الحقيقي وصل الى غايته في حقبة ما من حقب التاريخ ، ولم يات الزمان بعدها بجديد يثير الاهتمام . البشر الطيبون وجدوا في حقبة ثم ماتوا ولم يات من بعدهم سوى غثاء السيل ، والتكنولوجيا التي يفخر بها انسان اليوم ليست اكثر من لعبة في يد طفل يظن نفسه انسانا كاملا.
المجتمعات الناهضة مثل نظيرتها المتخلفة تتاثر بتاريخها وهي ترجع اليه وتنظر فيه بل وتعجب به. انما تختلف هذه عن تلك في وعيها بمعنى الحقيقة التاريخية ومدى تاثير التجربة التاريخية على تفكيرها في اسئلة اليوم وقضاياه. من يعي تاثير التاريخ على ثقافته وتفكيره ، يستطيع التخلص من قيوده او الموازنة  بين ضرورات الثقافة وضرورات العصر. ومن يجهل ذلك يعيش بجسده في الحاضر وعقله سجين في تاريخ مضى ومات اهله.

المجتمعات الناهضة قليلة الاهتمام بالماضي واحداثه ، لانها منشغلة باستثمار الحاضر وامكاناته ، وهي اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، لان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين .فهي اذن تقدر ذاتها كما تقدر الاخرين ، لانها تقدر قيمة انجازات الانسان كما تقدر قيمة الزمن . اول النهضة تقدير قيمة الحاضر والنظر الى العالم وما فيه من بشر واشياء من خلال واقعهم القائم لا باعتبارهم كائنات تاريخية او امتدادا قسريا لما جرى في غابر الزمان.

عكاظ 17 نوفمبر 2008

15/12/2008

حقوق الانسان في المدرسة


كان اعضاء الجمعية الوطنية لحقوق الانسان اكثر المتفائلين يوم عين رئيس الجمعية د. عبد الله العبيد وزيرا للتربية في فبراير 2005 . منذ بدايات هذه الجمعية اكتشف الاعضاء انهم يواجهون مشكلة حقيقية في عملهم تتلخص في غياب مفاهيم حقوق الانسان عن الثقافة المحلية ، الامر الذي جعل خطابهم غريبا او مستغربا. فكروا في معالجة هذا النقص عبر النشاط الاعلامي والتثقيفي المباشر . لكنهم ادركوا منذ البداية ان تنسيج هذه المفاهيم في الثقافة العامة ينبغي ان يبدأ في المراحل العمرية المبكرة ، اي مرحلة التعليم قبل الجامعي التي تتشكل خلالها شخصية المواطن وذهنيته . ولهذا تفاءلوا بتعيين رئيسهم وزيرا للتربية.
د. عبد الله العبيد
اليوم وبعد مضي اربع سنوات ، يتساءل المهتمون بحقوق الانسان عن ما تحقق في هذا السبيل . في نهاية العام الماضي اصدرت الوزارة وثيقة حقوق المعلم ، وتبعها في بداية العام "وثيقة حقوق الطالب ومسؤولياته" . ونفترض ان وثيقة الحقوق هذه موجهة للطلاب والمعلمين وادارات المدارس معا . لكني اظن ان هذه الوثيقة لا تزال تدور في مكاتب البيروقراطيين او انها قد نامت فعلا في ادارجهم . كولي امر لاربعة طلاب يدرسون في مراحل مختلفة لم اتلق اي اشعار من مدارسهم يفيد بتلقيها لهذه الوثيقة وما اذا كانت قد وضعت بالفعل برنامج عمل لتطبيقها . كما انها لم تبلغ الطلاب بوجود مثل هذه الوثيقة او حقوقهم المقررة فيها. بعض المدارس الخاصة بادرت بوضع وثيقتها الخاصة بحقوق الطالب قبل ذلك التاريخ ، ويجدر القول ان الذي اطلعت عليه منها لا يصل – من حيث المفاهيم ومن حيث الاجراءات العملية - الى المستوى اللائق بهذا العصر والتحديات والحاجات القائمة فيه. لكنها على الاقل مبادرة تستحق التقدير. اما المدارس العامة وكثير من المدارس الخاصة فالواضح انها لا تزال غائبة عن هذا الامر تماما.

يجدر بالوزارة ان تبادر الى تحديد برنامج عمل لتحويل تلك الوثيقة من ورقة يتداولها البيروقراطيون الى واقع حي يعرفه ويطبقه المعنيون به ، اي الطلاب . نحن بحاجة الى تكريس وقت مناسب للحديث عن هذه الوثيقة لكافة الطلاب ، ولا سيما للحديث عن حقوقهم على مدرسيهم وابائهم ومدارسهم ووطنهم . لقد اعتدنا الحديث عن "واجبات" الطالب وابدعنا في اختراع الكلام والبلاغة في بيانها ، لكن الحديث عن "الحقوق" يحتاج الى طريقة مختلفة وروحية مختلفة.

تلك مهمة تعالج اشكالا محددا هو العلاقة بين الطالب والمدرسة . لكن تنسيج مفاهيم حقوق الانسان في الثقافة العامة يحتاج الى طريقة اخرى ومنهج  مختلف. هذه العملية لا تبدأ بالكلام عن اهمية حقوق الانسان بل بتمهيد الارضية الفلسفية والاخلاقية التي تقوم عليها . مثلما ندرس في الابتدائية جدول الضرب باعتباره ارضية لفهم الرياضيات ، فاننا بحاجة للبحث عن شيء مماثل في ثقافة حقوق الانسان ، شيء يسهل فهمه واستيعابه ويمثل في الوقت نفسه اساسا مكينا لبناء هذه الثقافة فوقه.

اقترح التركيز على "قيمة التسامح" كموضوع محوري يجري التركيز عليه في المرحلة الحالية . يمثل "التسامح" ارضية اخلاقية وفلسفية لشريحة واسعة من مباديء حقوق الانسان ، وهو قيمة كونية ، تتفق عليها جميع الاديان بما فيها الدين الاسلامي ، فضلا عن وثائق حقوق الانسان الدولية والاقليمية. وبالنسبة لبلادنا فانها تمثل حلا لمشكلة يشعر بها الجميع ، الا وهي المشكلة التي يطلق عليها احيانا التشدد او الغلو او التطرف الخ.

 تنسيج قيمة التسامح في الثقافة العامة لا يبدأ بالحديث عن اهميته بل بمعالجة السبب الذي غيبه عن الثقافة ، واعني به التجاهل او الاغفال . ونذكر جميعا المثل العربي "المرء عدو ما جهل" . يبدأ التسامح بالتعرف على الاخرين المختلفين ، وكلما تعرف الانسان على احد اصبح اكثر قدرة على تفهم خصوصياته وتقبلها او اللين في التعامل معها . وبالعكس من ذلك فان الجهل بالغير يولد خوفا منه او ريبة فيه .

يمكن لقيمة التسامح ان تكون مضمونا منتشرا في الكثير من المناهج الدراسية من التاريخ الى الجغرافيا الى التربية الوطنية الى الثقافة الاسلامية . ولهذا حديث اخر نعود اليه في الاسبوع الاتي.
عكاظ 15 ديسمبر 2008

09/12/2008

في التسامح الحر والتسامح المشروط


ثلاث لافتات ضخمة على ناصية شارع رئيسي تتحدث عن التسامح. محاضرة لرئيس الادارة التي انفقت على هذه اللافتات تحدث في ندوة عامة عن التسامح وعرض العديد من الاحاديث النبوية والحوادث التاريخية التي تدعم تصوره عن مبدأ التسامح . وضرب في الاثناء امثلة عن حروب وحوادث تكذب ادعاء الغربيين للتسامح ، ولم ينس الاشارة الى ان دعوى حقوق الانسان والحوار بين المختلفين التي يروج لها الاوربيون والامريكان هي دعوى كاذبة وغرضها الدعاية لانفسهم ومنتجاتهم وتسويغ تدخلهم في شؤون المجتمعات الاخرى.


 في النقاش الذي تلى المحاضرة سأله احدهم عن رأيه في جدل يدور في دولة اوربية واظنها سويسرا حول السماح للمسلمين ببناء مآذنة في احد مساجدهم ، فتهلل وجه المحاضر وقال ان هذا يثبت ما قاله سلفا عن سياسة الكيل بمكيالين ، ثم اكد هذه المقولة بذكر قصة الحجاب في فرنسا ومنعه في المدارس الرسمية. سأله شخص آخر حول امكانية السماح للفرنسيات المقيمات في البلدان الاسلامية بدخول المدارس الحكومية بملابسهن المعتادة في فرنسا ، وحول امكانية السماح للسويسريين باقامة كنيسة من دون برج للصليب ، وكان الجواب معروفا للجميع ، لهذا لم ينتظر السائل ، بل عقب على اسئلته بان سلوك الغربيين الذي نذمه لا يختلف عن سلوكنا الذي نبرره . لدينا مبررات نطرحها ولديهم مبررات اخرى ، هذه المبررات مثل تلك مستمدة من الثقافة الخاصة لاصحابها وليست معيارية او ملزمة لكل الاطراف.

لم يشأ المحاضر ترك الكلام دون تعقيب ، لكنه بدلا من مناقشة السائل دخل في موضوع قتل محاضرته كلها فقد بدأ بالسخرية من "تلك الاكذوبة الكبرى التي يسمونها الحرية وهي في واقع الامر عبودية للاهواء والشهوات وضلال ما بعده ضلال" وذهب في حديث طويل نسبيا حول ما وصفه بالانهيار الاخلاقي في الغرب من كثرة الجرائم والمخدرات والشذوذ.. الخ . ولم نفهم علاقة هذا كله بمبدا التسامح ، الا حين عاد في نهاية الحديث الى التاكيد بان التسامح الذي يعنيه هو "التسامح المضبوط باحكام الشرع ونظر العلماء وتقاليد المجتمع والمصلحة العامة" وليس التسامح الذي "يدندن به رويبضات الصحافة والمبتدعة واهل الاهواء". قال الشخص الجالس ورائي ساخرا "ريحتنا يا اخي ، ظننتك ستقول شيئا جديدا علينا". وكان هذا ختام الندوة ، فحتى الذين سجلوا اسماءهم للمداخلة تخلوا عنها وسكتوا عدا شخص واحد قال كلاما حول الاختلاط والعفة والقنوات الفضائية والغزو الثقافي وتطاول النساء على الرجال ، وأطال حتى اضطر مدير الندوة الى مطالبته بانهاء المداخلة لاتاحة الفرصة للكثير من الذين سجلوا اسماءهم . وحين سكت المتحدث لم يتقدم احد للحديث . نادى المدير على ثلاثة اسماء فاعتذروا بان المحاضر قال كل شيء .

سألت زميلي ونحن نحث الخطى خارجين : هل خرجنا من هذه الندوة بفكرة جديدة ؟ اجابني ضاحكا : تعلمنا التسامح ، لقد جلسنا ساعة ونصف نستمع الى متحدث يقدم مفهوما زائفا عن قيمة اخلاقية عالية ولم نقاطعه او نجادله .. اليس هذا مثال على التسامح؟. قلت للزميل : لعله مثال على الهروب من المواجهة ، قال لي : مواجهة من ؟.. الذي امامك ليس الا طاحونة هواء تدور وتدور وتدور ، هذا عملها وهذا عالمها وغرض وجودها ، فهي لا تعرف شيئا سوى ان تدور وتدور . صاحبك المحاضر مثل الطاحونة ، عمله الكلام والهجوم اللفظي على الاعداء الحقيقيين والمفترضين ، الواقعيين والمتخيلين ، هذه هو علمه وهذا هو عالمه. هل تريد مواجهة الطاحونة؟. 

قلت للزميل : الا ترى ان المحاضر كان واضحا في الربط بين التسامح والحرية؟ . معنى كلام الرجل ان التسامح نوعان : تسامح مقترن بالحرية : انا متسامح معك بمعنى انني اعترف بحقك في انتخاب خياراتك الخاصة ، وهو المعنى الذي يتحدث عنه العالم اليوم ، وتسامح مشروط بالتقاليد واراء العلماء والمصلحة العامة ، ولولا الخجل لربما اضاف اليه شرط رضا الاب والزوج والاخ الاكبر وشيخ القبيلة وامام مسجد الحي وعمدة القرية وربما اشخاص اخرين ، فالتسامح هنا يعني ان تبحث عما يوافق عليه كل هؤلاء ثم تفعله ، وتستمتع بتسامحهم معك . الا ترى اننا تعلمنا شيئا جديدا؟.

مقالات ذات علاقة


01/12/2008

جدل حول مسار الطائفة الشيعية



البيان المعنون "نحوتصحيح مسار الطائفة الشيعية" حظي باهتمام استثنائي ، فاشاد به كثير من كتاب الصحف ورفضه مثلهم وتبرأ منه بعض من شارك فيه ودعمه بعض من لم يوقع عليه. وهكذا فقد نجح في الانفلات من قبضة الاغفال والنسيان واصبح قضية عامة . وهذا بذاته درجة من النجاح تسجل لكاتبيه سواء وافقناهم او اختلفنا معهم.
يلخص البيان جانبا من النقاشات الواسعة التي يتداولها الجيل الجديد من الشيعة السعوديين وغيرهم ، وهي نقاشات اثمرت حتى الان عن تجاوز للكثير من المسلمات الموروثة حول الدين والسياسة والنظام الاجتماعي.


حمل البيان وكذلك المقالات المؤيدة والناقدة له الكثير من الاحكام الانطباعية حول "امكانية" التصحيح في الفكر الشيعي ، وحول "مسار" التصحيح الفعلي ايضا. دعنا في البداية نستبدل تعبير التصحيح بتعبير التجديد . فالمصطلح الاول يحمل رؤية ايديولوجية او افتراضا ايديولوجيا ، بينما يحمل الثاني مضمونا وصفيا وتحليليا . دعا البيان ومن ايده الى نبذ مسلمات فقهية وعقيدية وسلوكية وسياسية باعتبارها غير منسجمة مع احكام العقل او متطلبات العصر او مصلحة الجماعة. الدعوة موجهة بطبيعة الحال الى حملة هذه الافكار كي يقوموا بنقد ذاتي يؤدي – كما هو المفترض – الى انتخاب بدائل افضل .

 نحن اذن نتحدث عن تحول اختياري اي تطوير للمعرفة ، وهذا يقع تحت عنوان التجديد او التغيير وليس التصحيح. التجديد او التغيير هو انتقال من حالة معرفية او روحية مقبولة الى حالة اخرى مقبولة ايضا دون شعور بحرج الانفلات من دائرة القيم الخاصة بالجماعة . هذا يعني بطبيعة الحال ان ياتي التجديد او التغيير تدريجيا ومن داخل النظام الاجتماعي حتى لو استعمل ادوات نقدية مختلفة . نتطلع الى تغيير من الداخل كي يحصل على الشرعية الاجتماعية الضرورية لتنسيج الافكار الجديدة في نظام القيم وشبكة العلاقات الداخلية الخاصة بالجماعة.

خلافا للانطباع الاولي الذي يشي به البيان وكذلك المقالات الناقدة والمؤيدة له ، فان معظم الافكار التي دعا البيان الى نبذها هي موضع نقاش جدي ومعمق في الوسط الديني الشيعي . وللمفارقة فان نظرية ولاية الفقيه مثلا تتعرض لنقد واسع وهناك عدد كبير نسبيا من المقالات العلمية والكتب التي نشرت في ايران نفسها حول هذا الموضوع . وقد عرض كاتب هذه السطور في ثلاثة كتب صدرت خلال السنوات القليلة الماضية جانبا من تلك الاراء ، لكن يؤسفني القول ان قيود الرقابة لا تسمح بوصول مثل هذه الكتب الى القراء في بلادنا .

"ولاية الفقيه" هي نظرية فقهية يقبل بها بعض الفقهاء ويعارضها اخرون . وقد شخص الدكتور محسن كديور تسع نظريات اخرى تبناها فقهاء شيعة حول شرعية السلطة . لكن التيار الاصلاحي الايراني الذي يقوده الرئيس السابق محمد خاتمي يدعو الى نظرية تجمع بين القيم الدينية العليا ونظام العمل المتعارف في الديمقراطية الليبرالية . بعض الناس يجد هذا الجمع مستحيلا ، لكن التيار المذكور قدم دراسات نظرية وتجربة ميدانية تكشف عن امكانات كبيرة للجمع بين القيم الاسلامية واليات العمل الديمقراطية.

من بين القضايا الهامة التي حملها البيان ، نشير الى مسألة العلاقة بين الشيعة واخوتهم من المذاهب الاسلامية الاخرى . ولاحظت ان البيان قد وقع في خلط غير مقبول بين مسألتين مختلفتين تماما ، احدها هي العلاقة بين "الجماعة" الشيعية وسائر "الجماعات" التي تشكل المجتمع الوطني ، وهذه مسألة سياسية . والثانية المعتقدات والمسلمات التي تساعد على الانسجام او الفرقة ، وهي مسألة نظرية تبحث في الاطار العقيدي او الفقهي.

 نحن ندعو بطبيعة الحال الى نبذ جميع الافكار التي تؤدي الى الفرقة ، سواء كان مصدرها معارف دينية او اعرافا اجتماعية . لكن من المهم التاكيد على ان العلاقة بين الجماعات المختلفة الدينية او الاثنية ، هي موضوع تحكمه الاعراف السياسية والقوانين الوطنية. العلاقة الحسنة لا يمكن ان تقوم الا على قاعدة المواطنة ، والمساواة الكاملة في الفرص والحقوق والواجبات. ولهذا السبب فان تنظيم العلاقة بين الاطياف الوطنية ، هو مسؤولية الدولة ، فهي الجهة الوحيدة القادرة على وضع القانون وتطبيقه ، وهي المسؤولة بالتالي عن طبيعة العلاقة القائمة بين هذه الجماعة وتلك.

1 ديسمبر 2008

المؤتمر الاهلي الموازي لقمة الكويت الخليجية


يسعى عدد من الناشطين في المنطقة لعقد مؤتمر شعبي مواز للقمة الخليجية التي ستلتئم في الكويت منتصف الشهر الجاري. تستهدف الفكرة توجيه رسالة لحكومات المنطقة تتضمن المطالب الرئيسية للاهالي ، وهي مطالب لا تبتعد عن الوعود التي اطلقتها مؤتمرات سابقة لزعماء الخليج. وتدور بشكل رئيسي حول محورين :

تعزيز مشاركة المواطنين في الحياة السياسية وتسريع الخطوات الوحدوية بين الدول. جربت فكرة المؤتمر الاهلي الموازي لمؤتمرات القمة الرسمية في اوربا ، كوسيلة لاظهار قوة المجتمع المدني وحضوره على المستوى القاري . لا يزال المجتمع المدني في الخليج ضعيف التاثير على المستوى السياسي لكونه تجربة جديدة ولان الميدان السياسي ضيق ومحتكر من جانب النخب العليا. الانفتاح السياسي وضمان الحريات العامة هي شروط ضرورية لتحول المجتمع الاهلي الى قوة مؤثرة في الحياة العامة ، وهو ما نفتقر اليه في الخليج ، رغم التفاوت بين البلدان في مستوى الانفتاح ومؤدياته.

ليس سرا ان مجلس التعاون الخليجي قد خسر الكثير من بريقه وشعبيته في السنوات الاخيرة. بعيد تاسيسه في 1981 اعتقد اهالي الخليج ان المجلس قد ارسى اساسا قويا لتجربة وحدوية جديدة في العالم العربي . ورغم معرفة الجميع بالطبيعة المحافظة لحكومات المنطقة ، ورغم شكوك المتشائمين ، الا ان مجموع ما قيل في البيانات الرسمية وعلى هامش اجتماعات المجلس قد اوقد امالا بان وحدة الخليج اصبحت على الطريق. معظم هذه الامال تبخر الان ، ولم يعد الخليجيون يحتفلون بالقمم السنوية للمجلس كما كان الامر في البداية .

 ليس فقط لان الامر اصبح مكررا ومعتادا كما يقول بعض المراقبين ، بل لان السنوات العشر الماضية كشفت عن ميول معاكسة. نعرف على سبيل المثال ان موعد اطلاق العملة الخليجية قد تأجل فعلا ولم يبق سوى الاعلان الرسمي عن تاجيله ، بعدما كان مقررا ان يبدأ العمل الفعلي بها في اول الشهر القادم. ونعرف ايضا ان انتقال الرساميل بين دول الخليج ما زال مقيدا . كان المفترض ان يستطيع اي مواطن خليجي او شركة مسجلة في دولة خليجية العمل في الدول الاخرى كما لو كانت شركة محلية. لكن هذا الامر لا زال بعيد المنال ، اي ان فكرة السوق الخليجية الموحدة لم تتحقق رغم الاعلان الرسمي عن قيامها في يناير 2008.

اذا مررت باي منفذ حدودي بين دول الخليج فستواجهك المئات من الشاحنات التي تنتظر اياما قبل انهاء المعاملات الجمركية المعقدة بين بلدين يفترض – نظريا – ان لا حواجز جمركية بينهما. على مستوى تنقل الاشخاص لم تحدث تطورات مهمة فتنقل المواطنين بالبطاقة الشخصية لم يطبق بالكامل ، ولازال المواطن مضطرا للانتظار في كل منفذ ، خلافا للنموذج الاوربي الذي كان مأخوذا بعين الاعتبار ، حيث يتنقل المواطن والاجنبي المقيم من دون تفتيش او توقف بين الدول الاعضاء في الاتحاد الاوربي.

على مستوى الاصلاح السياسي ثمة تفاوت ملحوظ ، يشبه تماما ما كان عليه الحال قبل قيام المجلس . في قمم سابقة تحدث كل من الملك عبد الله وامير الكويت السابق الشيخ جابر الاحمد وامير قطر  الشيخ حمد بن خليفة عن ضرورة توسيع المشاركة الشعبية في العمل السياسي ، وكان ثمة اتجاه الى تشكيل ما يشبه البرلمان الاهلي في اطار المجلس ، لكن هذه الدعوات لم تقترن بوضع التزامات محددة او برنامج زمني . من المفهوم ان مثل هذا الموضوع يدخل في الاطار المحلي الذي لا يناقش في مؤتمرات القمة ، لكن كان الامل ان تسهم تلك الدعوات ، ولا سيما بسبب صدورها في اجتماعات القمة في اطلاق روحية جديدة  تؤدي الى نوع من الالتزام الادبي تجاه شعوب المنطقة.

هذه التراجعات احبطت الامال القديمة ، فهل يستطيع المؤتمر الموازي اعادة تدوير العجلة ؟.

اشرت الى ان المجتمع الاهلي ليس قويا بما يكفي لتوليد ضغط يتناسب مع حجم المهمة المطروحة ، لكن المبادرة بذاتها تستحق التقدير . انه في اقل الاحوال تحرك يستهدف اثبات وجود المجتمع الاهلي واعلان تطلعاته . واذا لم يستطع المبادرون تحقيق اهدافهم المعلنة اليوم ، فان لكل شيء بداية ، وقد تكون هذه المحاولة هي البداية المنتظرة لشيء اكبر ياتي في قادم الايام . من المهم على اي حال ان يقوم الاهالي بما يستطيعون ولو اقتصر على اعلان موقف او توجيه رسالة .
ديسمبر 2008

12/11/2008

حول قدرة المجتمعات على التحكم في حياتها


 انتخاب باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة الامريكية هو دليل آخرعلى قابلية الليبرالية السياسية لتجديد نفسها وتصحيح عيوبها. تتدخل في عملية الانتخاب عوامل كثيرة سياسية وثقافية ، تشكل بمجموعها ما نسميه بالظرف التاريخي. النجاح او الفشل في كسب اصوات الناخبين هو في اغلب الاحوال نتاج ذلك الظرف الذي قد يكون مساعدا او العكس.

يتكون الظرف التاريخي نتيجة لنوعين من العوامل ، اولها العوامل االثقافية او البنيوية ، وهي في العادة طويلة الامد من حيث التكوين ومن حيث التاثير . وقد نستطيع تسميتها بالعوامل الثابتة . اما النوع الثاني فهو العوامل السياسية التي تظهر في حالات محددة وتختفي بزوالها. يمكن التمثيل على النوع الاول بموقف الاكثرية من الاقلية . العرف الجاري في جميع الانظمة السياسية يقضي بان ينتمي رئيس الدولة الى الاكثرية. اما مثال النوع الثاني فهو تاثير التطورات الاقتصادية او السياسية في تغيير موقف الجمهور من بعض المرشحين .

 ما يهمنا في هذا المجال هو سلوك المجتمعات المختلفة من حيث نسبة انفعالها بالعوامل الثابتة قياسا الى مجموع العوامل ومن حيث قابليتها لاعادة النظر في هذه العوامل بتاثير العوامل المتغيرة. ثمة مجتمعات تلعب عواملها الثابتة الدور الحاسم في معظم مواقفها من القضايا المطروحة .

مثال ذلك موقف الولايات المتحدة وايران من التفاوض المباشر بينهما ، فمنذ قيام الثورة قبل ثلاثين عاما لم تستطع الدولتان تجاوز العوامل المانعة للتفاوض المباشر ، الامر الذي حول النزاع بينهما من خلاف سياسي الى معضلة ايديولوجية وتقليد ثابت يعجز كلاهما عن تجاوزه. ما نراه اليوم من كلام كثير حول البرنامج النووي هو مجرد وعاء للعلة الجوهرية اي العجز عن اختراق العائق التاريخي . قبل المسالة النووية تمحور الكلام حول دعم الارهاب وقبله عن اعاقة السلام في الشرق الاوسط وقبله عن تهديد امن الخليج وقبله عن تصدير الثورة. وهكذا فاننا نشهد في كل حقبة مبررا جديدا لكن المحصلة النهائية هي التاكيد على العائق التاريخي اي العجز عن التفاوض المباشر.

معظم من ناقش احتمالات فوز باراك اوباما مالوا الى التشكيك في قدرته على تجاوز العائق التاريخي او مجموع عوامل التاثير الثابتة مثل رفض الاكثرية البيضاء تولية رئيس اسود ، او رفض قطاع الاعمال المؤثر على الاعلام والراي العام تولية مرشح مصنف على يسار الحزب الديمقراطي او رفض اللوبي اليهودي دعم مرشح ذي جذور اسلامية الخ..

لا نستطيع الان لومهم على التسرع في اصدار ذلك الحكم ، لانهم قراوا التناسب بين تاثير العوامل الثابتة والمتغيرة . ولم يكن بين المتغيرات ما هو قوي الى درجة زحزحة العوامل الثابتة. لكن الذين ايدوا اختيار باراك اوباما كواحد من المرشحين الاوائل للحزب الديمقراطي ، ثم اختاروه واحدا من اثنين في التصفيات قبل النهائية ، ثم دعموه كمرشح وحيد في مقابل هيلاري كلينتون ، كل هؤلاء كانوا واثقين من قابلية المجتمع الامريكي لتجاوز العوامل الثابتة التي اصبحت عرفا عاما او تقليدا راسخا . لقد حدث هذا قبل تفاقم ازمة سوق المال في اغسطس الماضي ، اي قبل ان تبدأ العوامل المتغيرة في الاشتغال. اولئك الناس لم يكونوا قلة ، ولم يكن غالبيتهم من السود الذين ربما يشك في انحيازهم . كل ما في الامر انهم كانوا واثقين في قدرة النظام الاجتماعي الليبرالي على تجاوز تقاليده واعرافه مهما كانت عميقة الجذور.

المجتمعات المسكونة بالتاريخ ، وتلك الخاضعة لتاثير الايدولوجيا ، وكذلك المبتلاة بعلة الارتياب ، هي اقل المجتمعات قدرة على تجديد نفسها ، لانها اقل جرأة على تحدي اعرافها وتقاليدها ، واقل رغبة في الانتصار على نفسها وثوابتها ، اي في نهاية المطاف مملوكة لتجربتها الماضية وعاجزة عن التحكم في حياتها . وعلى العكس من ذلك تبدو المجتمعات الاميل الى الليبرالية اقدر على التحكم في مسارات حياتها وتغيير هذه المسارات حيثما وجدت حاجة . حينما يعجز المجتمع عن التحكم في تقاليده وذاكرته التاريخية ، فسوف يبقى سجينا لها ، يكرر صورة الماضي في الحاضر ويعيش زمنه منفصلا عن حقيقة هذا الزمن . وحينما يتحرر المجتمع من قيود اعرافه وقيود تجربته التاريخية ، يصبح الحاضر والماضي ملكا له فيعيد صياغة حاضره كما يعيد صياغة ذاته فيولد من جديد .

15-11-2008

10/11/2008

اوباما : عودة امريكا الى حلم الانسان الاول



وصول باراك اوباما الى البيت الابيض هو دليل آخر على فضائل الليبرالية السياسية . يميز الليبرالية عن غيرها من المذاهب الفلسفية خيط دقيق هو ايمانها بان الانسان الفرد هو صانع مصيره . لدى كل فرد نوعان من الصفات ، موروث عن ابويه ومكتسب بجهده . لا يختار الانسان صفاته الموروثة مثل لونه وعرقه وجنسه ودينه وانتمائه الاجتماعي ، وقد لا يستطيع التحكم فيها . لكنه يستطيع اختيار صفاته المكتسبة مثل الارادة والمستوى العلمي والكفاءة التنظيمية والعملية والمقبولية الاجتماعية. في نظام اجتماعي ليبرالي يمكن للصفات الموروثة ان تلعب دورا مساعدا او معيقا في سعي الفرد الى الرقي والصعود في مدارج الحياة . لكنها جميعا ليست عوامل حاسمة. الصفات المكتسبة هي العامل الحاسم .

قبل اربعين عاما دعا زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر مواطنيه الامريكيين الى جهاد انفسهم الميالة للاستئثار واحتكار الحقوق والفضائل ، وطالبهم بالمشاركة في تحقيق الحلم الانساني الاجمل " المساواة بين الناس في الفرص والحقوق والمسؤوليات". كان همه يومذاك هو التمييز العنصري الذي يصنف السود والملونين كمواطنين من الدرجة الثانية .

 بعد مارتن لوثر كافح الافارقة الامريكيون من اجل فرص متساوية في السياسة والاقتصاد . المتفائلون والحالمون منهم راهنوا على الكفاح السلمي في ظل القانون ، انطلاقا من الايمان بان الليبرالية قادرة على تجديد نفسها واصلاح اخطائها. المتشائمون منهم قالوا ان الليبرالية  عاجزة عن تغيير ما في داخل الانسان من نزعات الاستئثار . لكن الذي ثبت اليوم هو حلم مارتن لوثر ، الذي فكر في كفاح سلمي وراهن على فضائل الليبرالية.

في اواخر القرن العشرين بدأت معالم التغيير تتجلى ، وكان ابرز مظاهرها تعيين كولن باول كاول امريكي اسود قائدا للقوات المسلحة الامريكية. رغم الصفحات الكثيرة السوداء في سجله ، سوف يذكر جورج بوش بانه الرئيس الذي قطع الميل الاخير في تحقيق المساواة العرقية ، فقد عين اثنين من السود في اعلى مناصب الادارة للمرة الاولى في التاريخ الامريكي: اختار كولن باول وزيرا للخارجية  وكوندوليزا رايس مستشارة لمجلس الامن القومي .

يمثل اوباما املا جديدا للشعب الامريكي في تلافي الاخطاء الكثيرة التي ارتكبتها ادارته السابقة وقادت الى المزيد من الحروب والمزيد من القلق ، والمزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كما زادت ايضا من كراهية امريكا على امتداد العالم .

في ظل نظام سياسي ليبرالي يستطيع المجتمع تعديل توازنات القوة واتجاهاتها بصورة سلمية ، بل والى حد ما بصورة احتفالية. انتخاب اوباما ليس مجرد تغيير للرئيس بل هو اعلان عن تحقق الحلم الامريكي في اقرار تكافؤ الفرص وتجسيد التعدد والتنوع على المستوى السياسي كما هو على المستوى الثقافي والمادي ، الحلم بمجتمع يسمح بالتنافس الحر ، مجتمع تستطيع اكثريته ان تجعل ممثل الاقلية قائدا لها من دون ان تسيطر عليها هواجس الارتياب .

حتى يوم امس كان رمز امريكا رجلا ابيض هاجر اليها في القرن السابع عشر ، اما اليوم فان الذي يراس هؤلاء  شاب اسود من اب مسلم هاجر اليها في منتصف القرن العشرين . وبدأ حياته بين اقل الناس حظا ، ثم تغلب على صعوبات حياته الاولى حين اختار ان يصعد عبر الطريق الطبيعي الذي يسلكه ابناء الاقلية ، اي التفوق الدراسي . ثم اصبح ناشطا في السياسة عبر الحزب الديمقراطي ومنظمات المجتمع المدني حتى انتخب نائبا في الكونغرس ومن هناك مهد طريقه الى البيت الابيض.

في مجتمع ليبرالي يستطيع ولد فقير ان يصبح رئيسا للجمهورية ، لان الليبرالية لا تتوقف عند انتماء موروث ولا ثروة . الليبرالية هي الاطار الوحيد الذي يسمح لاي كان بالصعود من خلال الكفاح السلمي المدني وخدمة الاخرين والتنافس معهم .

امريكا التي اوجعت العالم واوجعت نفسها بالحروب والتهديدات والازمات والقلق ، جاهدت نفسها وجاهدت تقاليدها العتيقة فانتصرت على ذاتها وانتصرت على تقاليدها وجددت حياتها . كانت حياتها وهويتها احادية اللون وهي اليوم ملونة ومشرقة . امريكا لم تصبح الدولة الاعظم لانها الاغنى والاكثر تقدما في العلوم ، بل اصبحت اغنى واكثر تقدما لانها آمنت بالمساواة وحرية المبادرة وتكافؤ الفرص . هذا درس لكل المتشائمين من الكفاح السلمي ولكل المتحفظين على الليبرالية ولكل المتشككين فيها او الخائفين منها.

28/10/2008

حدود الديمقراطية الدينية : عرض كتاب


حدود الديمقراطية الدينية : عرض بقلم عمر كوش 
تأليف: توفيق السيف
الناشر: دار الساقي، بيروت، 2008

أضحت العلاقة بين الدين والديمقراطية موضوع دراسات ونقاشات عدَّة في البلدان العربية، نظراً لأن الديمقراطية باتت تشكل استحقاقاً لا يحتمل التأجيل، وتفرض نفسها على مختلف البلدان الإسلامية والعربية، إضافة إلى تأثير تيارات وحركات الإسلام السياسي في مجرى الأحداث الراهنة في العالم. وفي هذا السياق ينطلق مؤلف الكتاب من النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، وإمكانية إيجاد نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية. ويحدد هدف كتابه في اختبار إمكان تطوير خطاب سياسي من هذا النوع، من خلال اتخاذ مدخل سوسيولوجي يركِّز على مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. ويتخذ من تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية كموضوع اختبار لفرضياته، مع التركيز على التجربة السياسية للتيار الإصلاحي بين عامي 1997 و2004، بغية تحديد المبررات الموضوعية لفشل النموذج الديني التقليدي في الحكم، وظهور التيار الإصلاحي الداعي إلى الديمقراطية في السياسة، ونظام السوق الحرة في الاقتصاد.

ويقدم الكتاب كذلك صورة مقارنة عن الأيديولوجيا السياسية للتيار الديني المحافظ، ونظيرتها الإصلاحية التي تجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية- الليبرالية. كما يقدم تحليلاً مفصلاً للأسباب التي أدت إلى فشل النموذج الديني التقليدي ومهَّدت لظهور منافسه الإصلاحي، ومحاولة معرفة المواضع التي يمكن للإسلاميين أن ينجحوا في ممارسة السلطة فيها، والمواضع التي يفشلون فيها أيضاً، وذلك من خلال دراسة حالة محددة، تتجسد في كيفية تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية على المستوى الاقتصادي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.

ويعرض الكتاب موجزاً للعوامل التاريخية التي أثرت في تكوين الفكر السياسي الشيعي، ثم يناقش دور الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر. كما يقدم صورة عن التحولات في بنية النظام والمجتمع الإيراني وانعكاسها على الثقافة والفكر الديني في السنوات اللاحقة للثورة الإسلامية. ثم يناقش التباينات الأيديولوجية الحادة بين التيارين المتنافسين على السلطة، الإصلاحي والمحافظ، وخلفيتها الاجتماعية والثقافية، وانعكاسها على مفهوم الدولة وممارسة السلطة عند كل منهما. ويعرض كذلك بعض المفاهيم الأساسية التي يدور حولها الجدل بين الفريقين، مثل مفاهيم الجمهورية، ومصادر الشرعية السياسية، ودور الشعب، سيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة. إلى جانب مناقشة التفسيرات التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية، والأرضية المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين في أطروحاته، مع تقديم صورة عن الأحزاب الرئيسة الفاعلة في السياسة الإيرانية، بغية الإحاطة بالوضع الإيراني وتقديم قراءة دقيقة للقوة الشعبية التي تدعم الخطابين الإصلاحي والمحافظ، ومدى فاعليتها في المحافظة على زخمه.

ويهتم المدخل السوسيولوجي بالتمظهرات الاجتماعية للأفكار، ويسعى إلى اكتشاف العوامل البنيوية وراء تغيرها وتطورها، انطلاقاً من فرضية مسبقة، تعتبر أن فهم الإطار الاجتماعي الذي ظهرت فيه الفكرة وتطورت ضروري لفهم الفكرة نفسها وتقدير أهميتها ومدى تأثيرها، ذلك أن الأفكار، مثل جميع عناصر الحياة الاجتماعية الأخرى، هي كائنات متفاعلة مع محيطها، تتطور وتتغير بتأثير من مختلف العوامل التي تسهم في تشكيل منظومة الحياة، كما أنها تؤثر في تلك العوامل. ثم يجري الانتقال إلى تطور الفكر السياسي الشيعي، لاسيَّما نظرية السلطة الدينية في إيران خلال ربع القرن الماضي، أي منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979 حتى العام 2005، والظروف الاجتماعية والسياسية التي جرى في ظلها ذلك التطور، بهدف اختبار العوامل الكامنة وراءه، وما إذا كان ممكناً في ضوئها تطوير خطاب سياسي ديمقراطي على أرضية دينية.

ويرى المؤلف أنه خلافاً للفرضية السائدة التي تقول إن الدين بذاته معوق للديمقراطية، تدلّ الملاحظة الميدانية لتجربة إيران خلال القرن العشرين على أن الدين يمكن أن يلعب هذا الدور أو يلعب نقيضه، حيث يتحدد دور الدين كمساعد للديمقراطية أو معوق لها، بتأثير عوامل خارج إطار الدين نفسه.
وهنالك معادلة خاطئة تجعل من الديمقراطية نداً منافساً للدين وهذا غير صحيح، إنه يشبه أن نسأل: هل نختار الدين أم مكارم الأخلاق؟ لقد بذل كثير من الكتاب المسلمين جهودا كبيرة ليقنعوا الناس أن الديمقراطية ليست من الدين بل هي كفر.. وهذا في الحقيقة ظلم للديمقراطية وتجنٍّ عليها، إن الديمقراطية هي الحل الأمثل للمجتمعات متعددة الأديان والمذاهب والاتجاهات، وهي حال معظم الدول في عصرنا هذا، وهي تشابه حال الدولة التي نشأت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها، فقد أصبح في المدينة أكثرية مسلمة وأقلية يهودية، وكان الحل هو إبرام عقد اجتماعي واقعي عادل ولكي تتم المصالحة بين الدين والديمقراطية، يجب أن يجرى تعديل في الرؤية الدينية وتعديل مواز في مبادئ الديمقراطية. وهذا التعديل المتوازي ضروري للتوصل إلى نموذج حكم يلبي في وقت واحد المعايير الأساسية للديمقراطية والقيم الدينية التي يؤمن بها المجتمع. وليست هذه العملية سهلة أو سريعة بطبيعة الحال، إذ ثمة تعقيدات نظرية وتعقيدات اجتماعية لابد من التعامل معها بأعلى قدر من الحساسية والالتزام كي نصل بالعملية إلى نهايتها السعيدة.

 وبالنسبة إلى التجربة الإيرانية، ورغم ما تنطوي عليه الجدالات الراهنة من وعود وما حققته فعلياً من تقدم على أكثر من صعيد، فإنه من الواضح أنه ما زال على الإيرانيين التوصل إلى حل للعديد من القضايا الإشكالية العسيرة قبل بلوغ الغاية المنشودة، أي صوغ معادلة تحقق التناغم والانسجام الكلي بين الديمقراطية والدين. وتبقى مسائل مثل مصدر السيادة، ووظيفة الدولة فيما يتعلق بالدين، والحقوق الدستورية، وما إلى ذلك، هي جميعاً مسائل جديدة في الفكر الديني.

ويعتبر المؤلف هيمنة الروحانيين على الحياة السياسية والاجتماعية معوقاً رئيساً للتحول الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية، لأن الروحانيين يعتبرون أنفسهم أصحاب النظام وأولى الناس باحتلال المناصب الرئيسة في الدولة. وهم لا يكتفون بممارسة الأعمال التي تدخل ضمن نطاق اختصاصهم كطلاب شريعة، بل يتدخلون في كل أمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي بعض الأوقات، يشير بعضهم إلى ضرورة بقاء رئاسة الجمهورية في يد الروحانيين لنصف قرن على الأقل.

وتنطوي هذه المسألة على نوع من التمييز ضد عامة المواطنين، كما تؤسس لمبدأ خاطئ يتمثل في تقديم المكانة على الكفاية. لكن أخطر ما فيها هو إلقاء نوع من العصمة على الحاكمين باعتبارهم متحدثين باسم الله وممثلين رمزيين للإمام المعصوم. وأصبح من الصعب، من الناحية الواقعية، إخضاع الروحانيين للمراقبة والمحاسبة أو تحدي سلطتهم بالوسائل الديمقراطية. أما الديمقراطية فتتجسد أولاً وأخيراً في تحديد سلطات الحاكمين وتمكين الشعب أو ممثليه من مراقبة أعمالهم ومحاسبتهم عليها.
وقد عرفت إيران صعود حركة إصلاحية، تُوِّجت بوصول محمد خاتمي إلى كرسي الرئاسة، ثم ما لبث التيار المحافظ أن عاد إلى تسلم السلطة من جديد.

وهناك أسباب عدَّة أفضت إلى عودة المحافظين بخلفياتهم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. ومن الصعب الحديث عن الديمقراطية في إيران في ظل نظام لا يسمح بالتعددية وحرية التعبير والرأي، مع أن الديمقراطية بالإضافة إلى أنها تقتضي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فإنها تقوم أيضا على مجموعة من المبادئ السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية التي تصلح لأن تجتمع عليها أصوات ثلثي الأمة أو أكثر، وهو المقدار الذي يلزم لإجراء تعديل دستوري في أغلب الأنظمة الديمقراطية.
ويحاول بعض المفكرين الإيرانيين البحث عن إمكانية تركيب مفهومي بين الدين والديمقراطية، وفي المجال نفسه يجادل مؤلف الكتاب مفترضاً أن الديمقراطية، بوصفها حكم الشعب، هي نظام ممكن من الناحية الدينية، بل هي نظام أفضل من الناحية الدينية، فيجري توافقاً وتطابقاً بين القبول التوافقي وإجماع الأمة، معتبراً أن القبول التوافقي بالقيم الديمقراطية والحكومة التي تجسدها سوف يوفر ظرفاً أفضل للاعتقاد الحر والممارسة الحرة لمقتضيات الإيمان، وعليه فإن النظام الديمقراطي أكثر إنسانية، كما أنه أكثر دينية من أي نظام استبدادي.

جريدة العرب القطرية 2008-10-26

مقالات ذات صلة:

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...