حدود
الديمقراطية الدينية : عرض بقلم عمر كوش
تأليف:
توفيق السيف
الناشر: دار
الساقي، بيروت، 2008
أضحت
العلاقة بين الدين والديمقراطية موضوع دراسات ونقاشات عدَّة في البلدان العربية،
نظراً لأن الديمقراطية باتت تشكل استحقاقاً لا يحتمل التأجيل، وتفرض نفسها على
مختلف البلدان الإسلامية والعربية، إضافة إلى تأثير تيارات وحركات الإسلام السياسي
في مجرى الأحداث الراهنة في العالم. وفي هذا السياق ينطلق مؤلف الكتاب من النقاش
المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، وإمكانية
إيجاد نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية.
ويحدد هدف كتابه في اختبار إمكان تطوير خطاب سياسي من هذا النوع، من خلال اتخاذ
مدخل سوسيولوجي يركِّز على مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط
الدين في السياسة. ويتخذ من تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية كموضوع اختبار
لفرضياته، مع التركيز على التجربة السياسية للتيار الإصلاحي بين عامي 1997 و2004،
بغية تحديد المبررات الموضوعية لفشل النموذج الديني التقليدي في الحكم، وظهور
التيار الإصلاحي الداعي إلى الديمقراطية في السياسة، ونظام السوق الحرة في
الاقتصاد.
ويقدم
الكتاب كذلك صورة مقارنة عن الأيديولوجيا السياسية للتيار الديني المحافظ،
ونظيرتها الإصلاحية التي تجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية-
الليبرالية. كما يقدم تحليلاً مفصلاً للأسباب التي أدت إلى فشل النموذج الديني
التقليدي ومهَّدت لظهور منافسه الإصلاحي، ومحاولة معرفة المواضع التي يمكن
للإسلاميين أن ينجحوا في ممارسة السلطة فيها، والمواضع التي يفشلون فيها أيضاً،
وذلك من خلال دراسة حالة محددة، تتجسد في كيفية تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية
على المستوى الاقتصادي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.
ويعرض
الكتاب موجزاً للعوامل التاريخية التي أثرت في تكوين الفكر السياسي الشيعي، ثم
يناقش دور الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر.
كما يقدم صورة عن التحولات في بنية النظام والمجتمع الإيراني وانعكاسها على
الثقافة والفكر الديني في السنوات اللاحقة للثورة الإسلامية. ثم يناقش التباينات
الأيديولوجية الحادة بين التيارين المتنافسين على السلطة، الإصلاحي والمحافظ،
وخلفيتها الاجتماعية والثقافية، وانعكاسها على مفهوم الدولة وممارسة السلطة عند كل
منهما. ويعرض كذلك بعض المفاهيم الأساسية التي يدور حولها الجدل بين الفريقين، مثل
مفاهيم الجمهورية، ومصادر الشرعية السياسية، ودور الشعب، سيادة القانون، وعلاقة
الدين بالدولة. إلى جانب مناقشة التفسيرات التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية،
والأرضية المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين في أطروحاته، مع تقديم صورة عن
الأحزاب الرئيسة الفاعلة في السياسة الإيرانية، بغية الإحاطة بالوضع الإيراني
وتقديم قراءة دقيقة للقوة الشعبية التي تدعم الخطابين الإصلاحي والمحافظ، ومدى
فاعليتها في المحافظة على زخمه.
ويهتم
المدخل السوسيولوجي بالتمظهرات الاجتماعية للأفكار، ويسعى إلى اكتشاف العوامل
البنيوية وراء تغيرها وتطورها، انطلاقاً من فرضية مسبقة، تعتبر أن فهم الإطار
الاجتماعي الذي ظهرت فيه الفكرة وتطورت ضروري لفهم الفكرة نفسها وتقدير أهميتها
ومدى تأثيرها، ذلك أن الأفكار، مثل جميع عناصر الحياة الاجتماعية الأخرى، هي
كائنات متفاعلة مع محيطها، تتطور وتتغير بتأثير من مختلف العوامل التي تسهم في
تشكيل منظومة الحياة، كما أنها تؤثر في تلك العوامل. ثم يجري الانتقال إلى تطور
الفكر السياسي الشيعي، لاسيَّما نظرية السلطة الدينية في إيران خلال ربع القرن
الماضي، أي منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979 حتى العام 2005، والظروف
الاجتماعية والسياسية التي جرى في ظلها ذلك التطور، بهدف اختبار العوامل الكامنة
وراءه، وما إذا كان ممكناً في ضوئها تطوير خطاب سياسي ديمقراطي على أرضية دينية.
ويرى
المؤلف أنه خلافاً للفرضية السائدة التي تقول إن الدين بذاته معوق للديمقراطية،
تدلّ الملاحظة الميدانية لتجربة إيران خلال القرن العشرين على أن الدين يمكن أن
يلعب هذا الدور أو يلعب نقيضه، حيث يتحدد دور الدين كمساعد للديمقراطية أو معوق
لها، بتأثير عوامل خارج إطار الدين نفسه.
وهنالك
معادلة خاطئة تجعل من الديمقراطية نداً منافساً للدين وهذا غير صحيح، إنه يشبه أن
نسأل: هل نختار الدين أم مكارم الأخلاق؟ لقد بذل كثير من الكتاب المسلمين جهودا
كبيرة ليقنعوا الناس أن الديمقراطية ليست من الدين بل هي كفر.. وهذا في الحقيقة
ظلم للديمقراطية وتجنٍّ عليها، إن الديمقراطية هي الحل الأمثل للمجتمعات متعددة
الأديان والمذاهب والاتجاهات، وهي حال معظم الدول في عصرنا هذا، وهي تشابه حال
الدولة التي نشأت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها،
فقد أصبح في المدينة أكثرية مسلمة وأقلية يهودية، وكان الحل هو إبرام عقد اجتماعي
واقعي عادل ولكي تتم المصالحة بين الدين والديمقراطية، يجب أن يجرى تعديل في
الرؤية الدينية وتعديل مواز في مبادئ الديمقراطية. وهذا التعديل المتوازي ضروري
للتوصل إلى نموذج حكم يلبي في وقت واحد المعايير الأساسية للديمقراطية والقيم
الدينية التي يؤمن بها المجتمع. وليست هذه العملية سهلة أو سريعة بطبيعة الحال، إذ
ثمة تعقيدات نظرية وتعقيدات اجتماعية لابد من التعامل معها بأعلى قدر من الحساسية
والالتزام كي نصل بالعملية إلى نهايتها السعيدة.
وبالنسبة إلى التجربة الإيرانية،
ورغم ما تنطوي عليه الجدالات الراهنة من وعود وما حققته فعلياً من تقدم على أكثر
من صعيد، فإنه من الواضح أنه ما زال على الإيرانيين التوصل إلى حل للعديد من القضايا
الإشكالية العسيرة قبل بلوغ الغاية المنشودة، أي صوغ معادلة تحقق التناغم
والانسجام الكلي بين الديمقراطية والدين. وتبقى مسائل مثل مصدر السيادة، ووظيفة
الدولة فيما يتعلق بالدين، والحقوق الدستورية، وما إلى ذلك، هي جميعاً مسائل جديدة
في الفكر الديني.
ويعتبر
المؤلف هيمنة الروحانيين على الحياة السياسية والاجتماعية معوقاً رئيساً للتحول
الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية، لأن الروحانيين يعتبرون أنفسهم أصحاب النظام
وأولى الناس باحتلال المناصب الرئيسة في الدولة. وهم لا يكتفون بممارسة الأعمال
التي تدخل ضمن نطاق اختصاصهم كطلاب شريعة، بل يتدخلون في كل أمر بصورة مباشرة أو
غير مباشرة. وفي بعض الأوقات، يشير بعضهم إلى ضرورة بقاء رئاسة الجمهورية في يد
الروحانيين لنصف قرن على الأقل.
وتنطوي
هذه المسألة على نوع من التمييز ضد عامة المواطنين، كما تؤسس لمبدأ خاطئ يتمثل في
تقديم المكانة على الكفاية. لكن أخطر ما فيها هو إلقاء نوع من العصمة على الحاكمين
باعتبارهم متحدثين باسم الله وممثلين رمزيين للإمام المعصوم. وأصبح من الصعب، من
الناحية الواقعية، إخضاع الروحانيين للمراقبة والمحاسبة أو تحدي سلطتهم بالوسائل
الديمقراطية. أما الديمقراطية فتتجسد أولاً وأخيراً في تحديد سلطات الحاكمين
وتمكين الشعب أو ممثليه من مراقبة أعمالهم ومحاسبتهم عليها.
وقد
عرفت إيران صعود حركة إصلاحية، تُوِّجت بوصول محمد خاتمي إلى كرسي الرئاسة، ثم ما
لبث التيار المحافظ أن عاد إلى تسلم السلطة من جديد.
وهناك أسباب عدَّة أفضت إلى
عودة المحافظين بخلفياتهم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. ومن الصعب الحديث
عن الديمقراطية في إيران في ظل نظام لا يسمح بالتعددية وحرية التعبير والرأي، مع
أن الديمقراطية بالإضافة إلى أنها تقتضي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فإنها تقوم
أيضا على مجموعة من المبادئ السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية التي
تصلح لأن تجتمع عليها أصوات ثلثي الأمة أو أكثر، وهو المقدار الذي يلزم لإجراء
تعديل دستوري في أغلب الأنظمة الديمقراطية.
ويحاول
بعض المفكرين الإيرانيين البحث عن إمكانية تركيب مفهومي بين الدين والديمقراطية،
وفي المجال نفسه يجادل مؤلف الكتاب مفترضاً أن الديمقراطية، بوصفها حكم الشعب، هي
نظام ممكن من الناحية الدينية، بل هي نظام أفضل من الناحية الدينية، فيجري توافقاً
وتطابقاً بين القبول التوافقي وإجماع الأمة، معتبراً أن القبول التوافقي بالقيم
الديمقراطية والحكومة التي تجسدها سوف يوفر ظرفاً أفضل للاعتقاد الحر والممارسة
الحرة لمقتضيات الإيمان، وعليه فإن النظام الديمقراطي أكثر إنسانية، كما أنه أكثر
دينية من أي نظام استبدادي.
جريدة
العرب القطرية 2008-10-26
مقالات
ذات صلة: