10/11/2008

اوباما : عودة امريكا الى حلم الانسان الاول



وصول باراك اوباما الى البيت الابيض هو دليل آخر على فضائل الليبرالية السياسية . يميز الليبرالية عن غيرها من المذاهب الفلسفية خيط دقيق هو ايمانها بان الانسان الفرد هو صانع مصيره . لدى كل فرد نوعان من الصفات ، موروث عن ابويه ومكتسب بجهده . لا يختار الانسان صفاته الموروثة مثل لونه وعرقه وجنسه ودينه وانتمائه الاجتماعي ، وقد لا يستطيع التحكم فيها . لكنه يستطيع اختيار صفاته المكتسبة مثل الارادة والمستوى العلمي والكفاءة التنظيمية والعملية والمقبولية الاجتماعية. في نظام اجتماعي ليبرالي يمكن للصفات الموروثة ان تلعب دورا مساعدا او معيقا في سعي الفرد الى الرقي والصعود في مدارج الحياة . لكنها جميعا ليست عوامل حاسمة. الصفات المكتسبة هي العامل الحاسم .

قبل اربعين عاما دعا زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر مواطنيه الامريكيين الى جهاد انفسهم الميالة للاستئثار واحتكار الحقوق والفضائل ، وطالبهم بالمشاركة في تحقيق الحلم الانساني الاجمل " المساواة بين الناس في الفرص والحقوق والمسؤوليات". كان همه يومذاك هو التمييز العنصري الذي يصنف السود والملونين كمواطنين من الدرجة الثانية .

 بعد مارتن لوثر كافح الافارقة الامريكيون من اجل فرص متساوية في السياسة والاقتصاد . المتفائلون والحالمون منهم راهنوا على الكفاح السلمي في ظل القانون ، انطلاقا من الايمان بان الليبرالية قادرة على تجديد نفسها واصلاح اخطائها. المتشائمون منهم قالوا ان الليبرالية  عاجزة عن تغيير ما في داخل الانسان من نزعات الاستئثار . لكن الذي ثبت اليوم هو حلم مارتن لوثر ، الذي فكر في كفاح سلمي وراهن على فضائل الليبرالية.

في اواخر القرن العشرين بدأت معالم التغيير تتجلى ، وكان ابرز مظاهرها تعيين كولن باول كاول امريكي اسود قائدا للقوات المسلحة الامريكية. رغم الصفحات الكثيرة السوداء في سجله ، سوف يذكر جورج بوش بانه الرئيس الذي قطع الميل الاخير في تحقيق المساواة العرقية ، فقد عين اثنين من السود في اعلى مناصب الادارة للمرة الاولى في التاريخ الامريكي: اختار كولن باول وزيرا للخارجية  وكوندوليزا رايس مستشارة لمجلس الامن القومي .

يمثل اوباما املا جديدا للشعب الامريكي في تلافي الاخطاء الكثيرة التي ارتكبتها ادارته السابقة وقادت الى المزيد من الحروب والمزيد من القلق ، والمزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كما زادت ايضا من كراهية امريكا على امتداد العالم .

في ظل نظام سياسي ليبرالي يستطيع المجتمع تعديل توازنات القوة واتجاهاتها بصورة سلمية ، بل والى حد ما بصورة احتفالية. انتخاب اوباما ليس مجرد تغيير للرئيس بل هو اعلان عن تحقق الحلم الامريكي في اقرار تكافؤ الفرص وتجسيد التعدد والتنوع على المستوى السياسي كما هو على المستوى الثقافي والمادي ، الحلم بمجتمع يسمح بالتنافس الحر ، مجتمع تستطيع اكثريته ان تجعل ممثل الاقلية قائدا لها من دون ان تسيطر عليها هواجس الارتياب .

حتى يوم امس كان رمز امريكا رجلا ابيض هاجر اليها في القرن السابع عشر ، اما اليوم فان الذي يراس هؤلاء  شاب اسود من اب مسلم هاجر اليها في منتصف القرن العشرين . وبدأ حياته بين اقل الناس حظا ، ثم تغلب على صعوبات حياته الاولى حين اختار ان يصعد عبر الطريق الطبيعي الذي يسلكه ابناء الاقلية ، اي التفوق الدراسي . ثم اصبح ناشطا في السياسة عبر الحزب الديمقراطي ومنظمات المجتمع المدني حتى انتخب نائبا في الكونغرس ومن هناك مهد طريقه الى البيت الابيض.

في مجتمع ليبرالي يستطيع ولد فقير ان يصبح رئيسا للجمهورية ، لان الليبرالية لا تتوقف عند انتماء موروث ولا ثروة . الليبرالية هي الاطار الوحيد الذي يسمح لاي كان بالصعود من خلال الكفاح السلمي المدني وخدمة الاخرين والتنافس معهم .

امريكا التي اوجعت العالم واوجعت نفسها بالحروب والتهديدات والازمات والقلق ، جاهدت نفسها وجاهدت تقاليدها العتيقة فانتصرت على ذاتها وانتصرت على تقاليدها وجددت حياتها . كانت حياتها وهويتها احادية اللون وهي اليوم ملونة ومشرقة . امريكا لم تصبح الدولة الاعظم لانها الاغنى والاكثر تقدما في العلوم ، بل اصبحت اغنى واكثر تقدما لانها آمنت بالمساواة وحرية المبادرة وتكافؤ الفرص . هذا درس لكل المتشائمين من الكفاح السلمي ولكل المتحفظين على الليبرالية ولكل المتشككين فيها او الخائفين منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...