26/09/2006

الحرية والنظام العام

|| الحرية حق للمواطن لانه شريك في ملكية ارض وطنه. من الناحية الاخلاقية والدستورية لا تملك الدولة اي حق في "منح" الحرية او حجبها. الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها ||

يطالب دعاة الاصلاح بالحرية ، لانها حق لهم ولكل مواطن. ومن دون الحريات الفردية والعامة فان المواطنة تصبح كلمة فارغة من اي مضمون. في ماضي الزمن كان اعضاء القبيلة او سكان القرية اتباعا لرئيسهم. وامتد هذا المفهوم بعد قيام الامبراطوريات الكبرى ، فاصبح عامة افراد المجتمع اتباعا للامبراطور او الحاكم.
 وبقي هذا المفهوم سائدا في دول العالم حتى 1789 ، حين اصدر برلمان الثورة الفرنسية وثيقة حقوق الانسان والمواطن التي مثلت اول تقرير رسمي لشريحتين من الحريات ، تقرر الاولى ما هو حق للانسان باعتباره انسانا ، بينما تعالج الثانية الحقوق التي يتمتع بها المواطن بسبب انتمائه للمجتمع وشراكته فيه. 
التمييز بين الحقوق الطبيعية ، اي تلك المرتبطة بانسانية الانسان ، والمدنية او الدستورية المرتبطة بشراكته في المجتمع السياسي ، هو ثمرة للنقاشات الفلسفية والفكرية التي شهدتها اوربا منذ منتصف القرن 17 ، والتي انتهت الى تاسيس ما نعرفه اليوم من فلسفة سياسية حديثة تهتدي بها جميع الدول المتقدمة. في حقيقة الامر فان تطور هذا المفهوم كان حجر الزاوية ، في النهضة العلمية التي قامت على ارضيتها وفي اطارها الحضارة المعاصرة.
ثمة فارق جوهري بين مفهوم الحرية الذي تطور في هذا السياق ، وذلك المفهوم الذي يتبناه التقليديون. هذا الفارق يكمن في فكرة الشراكة في الوطن. ففي الازمان الغابرة لم يكن الانتماء الوطني او الاجتماعي اساسا لحقوق معينة يتمتع بها الافراد. في بعض الحالات كان ثمة امراء صالحون "يتفضلون" على رعاياهم بحقوق او حريات معينة ويفضلون لين المعاملة على التشدد ، وربما استشاروا بعض اهل الراي او نخبة القوم قبل اتخاذ القرارات الرئيسية.
والواضح ان مفهوم الحرية الذي يتبناه التقليديون لا يختلف كثيرا عن هذا السياق ، فهم يفضلون الملاينة على التخاشن والمشورة على الانفراد بالراي. كما يفضلون حل التعارضات بالمعروف بدل استعمال القوة. 
ولا شك ان هذه الميول تستحق التقدير. لكن هذا المفهوم لا يقود – في نهاية المطاف – الى الحريات الفردية والمدنية التي يطالب بها عامة سكان الارض في هذا الزمان. بل هو اقرب الى فكرة التسامح التي تتماثل مع الحرية في بعض الجوانب ، لكنها تختلف عنها في الارضية الفلسفية التي تنبعث منها ، كما تختلف عنها في الاطار القانوني الذي تعالج ضمنه قضاياها ومترتباتها. انها اقرب الى قرار "من فوق" مثل ميل الاب الى استعمال اللين مع ابنائه ، او قرار رئيس شركة بمداراة موظفيه. وهذا يختلف اختلافا بينا عن مفهوم الحرية الذي اطلق النهضة العلمية والصناعية التي يعرفها عالم اليوم .
المفهوم الجديد يعتبر الحرية "حقا للمواطن" يتمتع به لانه شريك في ملكية الارض التي نطلق عليها اسم الوطن. وسواء كان الرئيس كريما او بخيلا ، لينا او خشنا ، متفضلا او ممسكا ، فانه لا يملك من الناحية الاخلاقية او من الناحية الدستورية "منح" الحرية او حجبها. بعبارة اخرى فان الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها. بل ان وجوده على مقعد الرئاسة وتمتعه بالصلاحيات والامتيازات التي يتفوق بها على غيره ، مشروط بحمايته لحقوق مواطنيه وحرياتهم وتكريس جهده للدفاع عنها ومنع الاضرار بها او تعطيلها من جانب اي هيئة اخرى حكومية او غير حكومية.
لهذا السبب فان دساتير الدول المتقدمة ، تنص صراحة على بطلان اي قانون او قرار او اجراء حكومي يؤدي بصورة من الصور الى تعطيل حريات المواطنين. ولحسن الحظ فان واضعي الدستور العراقي الجديد قد توصلوا الى صيغة مبتكرة ، تمثل حلا لاشكالية العلاقة بين الدين والحرية. اذ تنص معظم دساتير الدول العربية كما هو معروف على ان الاسلام مصدر اساسي للتشريع والقانون. لكن كان ثمة خشية من ان يستثمر بعض المتشددين واصحاب العقول العسيرة هذه المادة في اصدار قوانين او سياسات تعطل الحريات الفردية ، كما هو مشهود في عدد من الدول العربية التي تصدر فيها بين الحين والاخر قرارات حكومية او احكام قضائية تعطل حريات التعبير او العقيدة او العمل تحت مبررات تلبس ثوب الدين او التقاليد.
 الحل الذي توصل اليه المشرعون العراقيون ، هو اضافة مادة تنص صراحة على الغاء اي قانون يعارض المتفق عليه من الدين الحنيف او يضيق حرية المواطن (المادة 2). وهكذا ربطت بين الالتزام باحكام الدين وحماية الحريات الفردية. ومن المأمول ان يسهم هذا التاسيس الدستوري في اطلاق حركة فكرية واجتماعية نشطة بعد ان تستقر الاوضاع في العراق في قادم الايام.
من المفهوم بطبيعة الحال ان مفاد الحرية لا يتحقق على ارض الواقع ما لم يكن الامن والنظام العام مستقرا. ولذا قيل بان الحرية لا توجد الا في مجتمع يحكمه القانون. لكن شتان بين قانون يسعى لحماية الحرية وقانون يسعى لتعطيلها بحجة الامن والاستقرار. ومن المؤسف ان هذا هو الميل الغالب عند الكثير من الحكومات العربية. واذا كان للعلم من فائدة ، فان العديد من الدراسات الجديدة المدعومة باستنتاجات عن تجارب فعلية ، قد توصلت الى ان تعطيل الحريات لم يؤد ابدا الى سيادة الاستقرار ، بل ادت في كثير من الاحيان الى نقل التوتر الاجتماعي من السطح الى تحت الارض وانتجت حالات التمرد والانشقاق التي نعرفها في العالم العربي اليوم. 




مقالات ذات علاقة

19/09/2006

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي

|| المجتمع التقليدي يفرض على الافراد طريقة لبسهم ، فضلا عن معتقداتهم. بدعوى ان هذا عرف عام او مصلحة عامة.. الفرد هنا مكلف ، عليه واجبات والتزامات تجاه المجتمع ، وليس صاحب حق اصلي في اختيار طريقة عيشه||

حين تكون في مجتمع تقليدي يتجادل حول الحرية ، او حين تقرأ مقالة لكاتب تقليدي يتحدث عن الحرية ، فسوف تصادفك بالتاكيد عبارة "لا توجد حرية مطلقة ، لا بد من قيود على الحرية والا انقلبت فوضى وعبثا". او ربما تصادفك الفكرة ذاتها في عبارات اخرى ، مثل تلك التي تطالب بالضرب "بيد من حديد" على هذه الفرد او تلك الجماعة.
جمال عبد الناصر

تؤثر هذه الفكرة وامثالها في نفوس عامة الناس لانها تخيرهم بين نظام اجتماعي هاديء ، وبين فوضى واضطراب. والمتوقع بطبيعة الحال ان يميل اكثرية الناس ، لا سيما بالنظر الى خلفيتهم المحافظة ، الى الخيار الاول ، اي المجتمع المنضبط.

هناك بالتأكيد خيارات بديلة عن خيار الفوضى او خيار الانضباط ، وهناك ايضا معان وحدود للفوضى والانضباط ، غير تلك التي يعرضها علينا دعاة القيود والايدي الحديدية. لكن معظم الناس يغفلون هذه البدائل في اللحظة التي يعرض عليهم الاختيار ، كما يغفلون الارضية والاساس الاخلاقي الذي يبرر القبول بهذا او ذاك.

الضرب بيد من حديد ليس من الخيارات الاخلاقية على اي حال ، كما ان الفوضى ليست قدرا حين تغيب الايدي الحديدية. ومن المهم في ظني ان يبذل السياسيون المصلحون ودعاة الديمقراطية جهدا كبيرا في تأصيل مفهوم الحرية وتنسيجه ضمن ثقافتنا العامة.

نحن بحاجة الى جهد كبير لتاصيل مفهوم الحرية ، لان تقاليد الاستبداد والعبودية تستند الى جذور راسخة في ثقافتنا السائدة. كما تستند الى مصادر فلسفية ، كانت مجتمعاتنا عرضة لتاثيرها لزمن طويل ، ومن بينها نظريات دينية وماركسية واخرى متأثرة بالفلسفة اليونانية القديمة. فكرة الحرية في هذا المفهوم هي جزء من رؤية اشمل للحياة والانسان والدولة. وهي تنظر الى هوية الفرد كامتداد لهوية المجتمع اي كجزء من ماكنة كبيرة هي المجتمع وليس كيانا قائما بذاته .

 ومن هنا فان على الفرد ان يقبل بالتعريف الاجتماعي للقيم والمصالح والحق والباطل ، ويدير حياته على ضوء قوانين واعراف الجماعة.

اتخذ هذا المبدأ اساسا لما يعرف اليوم بالنظام الابوي والشمولي الذي يسمح للمجتمع والحكومة بالتدخل في جميع شؤون الفرد الخاصة والعامة ، وقسره على الالتزام بمرادات المجتمع بغض النظر عن رأيه الخاص.

وتظهر المشكلة بشكل اعمق حين تكون الحكومة متجبرة او ايديولوجية ، تستعمل القانون والموارد العامة في تطبيق وتعميم ايديولوجيتها كحال الحكومات الشيوعية السابقة ، التي حرمت الفرد من التملك ، لان الثروة شأن اجتماعي وليست حقا للافراد ، وفي الحكومات الدينية المعاصرة التي تفرض على الناس نوع لباسهم فضلا عن معتقداتهم ، وكذلك الحال في جميع الحكومات الديكتاتورية ، التي تلزم الناس بخطاب سياسي محدد وتعاقب من يتبنى غيره.

هذه الممارسات تتم تحت مبرر ان خيارات المجتمع هي وحدها الصحيحة ، وان مخالفتها كفر او تمرد او خيانة للجماعة. ينظر هؤلاء الى المجتمع كنظام عضوي جوهره هو الرابطة الاجتماعية ، وليس توافق الافراد او تعاقدهم. بعبارة اخرى فان هذا المفهوم ينظر للفرد كمكلف عليه واجبات والتزامات تجاه المجتمع ، وهو يحصل على حقوقه تبعا لوفائه بتلك الالتزامات ، وليس باعتبارها حقا اصليا ثابتا له لكونه انسانا او مواطنا.

لا يعلن هذا الاتجاه رفضه للحريات الفردية صراحة ، لكنه يقول من دون تحفظ ان الحرية ليست القيمة الاولى او العليا ، وان على الفرد ان يقبل بالتنازل عن حريته كي يعيش في سلام وانسجام. وكان المرحوم جمال عبد الناصر يقترح تأجيل الحريات الفردية والعامة الى ما بعد الانتصار على اسرائيل ، اي انه كان يرى قبول شعبه بالعبودية شرطا للانتصار على اسرائيل.

وليس بعيدا عنه ما اقترحه الرئيس السوري السابق حافظ الاسد ، بتاجيل الكلام عن الحريات العامة حتى وصول الدخل الفردي الى مستوى مواز لدخل المواطن الامريكي والاوربي ، لان الفقراء لا يستطيعون الاستفادة من الحرية ، او لان الحرية سوف تقيد قدرة الحكومة على التخطيط المناسب لتوزيع الثروة. بكلمة اخرى فهم ينصحوننا بالبقاء عبيدا لان هذا سيزيد من دخلنا ، ويتيح لنا الحصول على بيوت افضل ومعيشة اكثر رفاهية.

اظن ان مقاومة هذا المفهوم الاعوج للعلاقة بين الحرية والنظام ، هو جوهر فكرة الاصلاح السياسي التي ينبغي لنا جميعا ان نكافح في سبيلها. وبالنظر للتحول الذي تمر به مجتمعاتنا وهي تسعى للاقلاع من المرحلة التقليدية والانضمام الى تيار الحداثة ، فان معظم الصراعات الثقافية والسياسية تنبعث في حقيقة الامر من هذا الجدل ، فالافراد والقوى الحديثة بشكل عام ، يكافحون للحصول على اقرار قانوني واجتماعي بحقهم في الاختلاف ، بينما تسعى القوى المحافظة لفرض وحدة قسرية في الافكار والتطلعات والتعبيرات ، تظنها اكثر انسجاما مع التقاليد والاعراف السائدة.

يمكن بطبيعة الحال استنباط نظام اجتماعي ، يكفل قدرا مناسبا من الانضباط ، من دون ان يضحي بالحريات الفردية والعامة ، ونقول انه ممكن لانه قائم بالفعل في مجتمعات عديدة. وهو ما سنعود الى بيانه في مقال آخر.

 

   مقالات ذات علاقة

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها الق...

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تق...

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

الطريق الليبرالي 

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية ليست خيارا

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا

 

12/09/2006

قرشنا الابيض ليومنا الاسود

في ظرف الوفرة المالية الذي تعيشه دول الخليج اليوم ، يجب ان لا ننسى الظروف العسيرة التي مررنا بها في النصف الثاني من الثمانينات ومعظم عقد التسعينات. لا نسمع اليوم الشكاوى الكثيرة من البطالة التي كانت موضوعا يوميا للصحافة ومجالس المواطنين في تلك الفترة ، كما اختفت اصوات التذمر من السياسات الحكومية والمحسوبيات وسوء الادارة التي راجت يومئذ. ثبات المستويات العالية نسبيا لاسعار البترول وفر فرصة نادرة لاختفاء الكثير من المشكلات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي شهدناها قبل بضع سنوات. يؤدي ارتفاع الدخل الوطني الى زيادة الاستثمار المحلي وتوفير فرص عمل جديدة وتحسن مستوى المعيشة لعامة السكان .

 ولعل كثيرا منا يتذكر ما حصل في منتصف السبعينات حين شهدت المنطقة انقلابا اقتصاديا لم يسبق له مثيل في تاريخها كله. وكان ذلك بفضل ارتفاع اسعار البترول بعد حرب رمضان 1973. في منتصف التسعينات اقترح احد المحللين نموذجا دائريا لفهم الحراك الاقتصادي في المنطقة . ويربط هذا النموذج بين الطلب على البترول والنشاط الاقتصادي في العالم ، لا سيما في الدول الصناعية ، فانخفاض اسعار البترول يحفز النمو في هذه الدول ويؤدي الى رفع الطلب والاسعار ، الامر الذي ينعكس ايجابيا على اقتصاديات الدول الخليجية المصدرة او المستفيدة .
 لكن اذا تجاوزت الاسعار مستوى معينا فسوف يتراجع الطلب ومعه الدخل القومي للاقطار المصدرة . اذا صح هذا النموذج ، فان على دول الخليج ان تستعد لهبوط في عائداتها بعدما تتجاوز اسعار البترول حاجز الثمانين دولارا. اي ان تستعد في حقيقة الامر لحقبة من العسر شبيهة بتلك التي عرفتها في السنوات الماضية. من المحتمل طبعا ان لا يكون هذا التحليل صحيحا ، او لعل عوامل اضافية تدخل في السوق لم تكن متوقعة من قبل ، مثل النهوض الاقتصادي في الصين والهند الذي يرجع اليه جانب كبير من الانتعاش الحالي في الاسواق. 

لكن ايا كان الامر ، فان تجربة العسر والانتعاش التي تكررت للمرة الثانية خلال اقل من ثلاثة عقود توفر مبررا قويا لكل عاقل كي يتأمل ويخطط ويستعد لمختلف الاحتمالات. من المحتمل ان تتكرر مرة اخرى نفس المشكلات التي عرفناها في السنوات الماضية ، ومن المحتمل ان نواجه – بالاضافة اليها - مشكلات جديدة.

في سنوات العسر شهدنا بوادر اولية لما يمكن وصفه بالاحباط ولا سيما بين الاجيال الجديدة ، وتجسدت هذه البوادر في تأزم العلاقات الاسرية والاجتماعية وشيوع التطرف السياسي والديني ، وكان اخطر تمظهراتها هو ارتفاع مؤشرات العنف. وعلى المستوى السياسي والاداري شهدنا شيوع الفساد واستغلال النفوذ والمحسوبيات وظهور انواع من التحزبات والتحالفات التي تسعى للاستئثار بالموارد العامة . وهذه كلها ظواهر يمكن ان توجد في ظرف الرخاء كما توجد في ظرف العسر ، لكن اثرها اشد وقعا في ظروف العسر وندرة الموارد ، ولهذا فمن الممكن ان تؤدي الى خلق احباطات ترتد على شكل تمرد فردي او جمعي .

ثمة طرق كثيرة لاستثمار ظرف الوفرة في وضع اساس متين للوقاية من الانعكاسات السلبية لظروف العسر. ويكفينا مراجعة الدراسات القيمة التي وضعها باحثون عرب واجانب خلال العقود الثلاثة الماضية لمعرفة نقاط البداية ونقاط الاستهداف. ثمة اقتراحات اجمعت عليها تلك الدراسات ، من بينها مثلا تنويع مصادر الدخل الوطني لتخفيف الاعتماد المفرط على عائدات البترول الخام في تسيير معيشة الناس والدولة ، ومن بينها التعجيل في التكامل الاقتصادي بين الدول العربية المتجاورة كي نضمن استفادة قصوى من الاموال التي تنفق في كل بلد على حدة.

 واريد الاشارة ايضا الى ضرورة التعريف الدقيق للمرحلة الزمنية التي تمر بها المنطقة من الناحية التنموية ، واظن ان هذا التعريف يجب ان يلحظ كون المنطقة في مرحلة انتقال بين التقاليد والحداثة ، اي بين بداية النمو وبلوغ التنمية غاياتها. المقصود من تعريف كهذا هو تحديد قيمة السياسات والبرامج التي تتبناها الحكومات ، وتحديد القيمة السياسية او الثقافية للتفاعل الاجتماعي مع هذه السياسات . بديهي ان اعتبار الوضع انتقاليا يعني ان ما يجرى فيه هو مجرد مرحلة وليس نهائيا ، وبالتالي فاننا ننظر الى قيمته من زاوية عملية بحتة. وعندئذ فسوف ننظر الى المطالبات والنقد الموجه لهذه السياسات باعتباره تطلعا مشروعا الى الافضل وليس مؤشرا على رفض قطعي لما هو قائم ، كما ننظر الى الاعتراضات او حتى التمرد السياسي باعتباره ناتجا جانبيا للتغيير وليس موقفا نهائيا .

خلاصة القول ان ظرف الرخاء هو فرصة للتوقي من الانعكاسات السلبية لظرف الشدة ، واظن ان اي عاقل يستوعب حقيقة ان كلا الظرفين هو احتمال قائم لفترة قد تطول او تقصر وان الاعداد لكل منهما ضرورة في جميع الاوقات.

الايام 12-9-2006

22/08/2006

سياسة ما بعد الحرب


فشلُ الاسرائيليين في تحقيق انتصار مدو على الجبهة اللبنانية ستكون له نتائج سياسية كبيرة الاهمية في الجانب العربي، ابرزها هو دخول القوى الشعبية كعامل فعال في الصراع مع اسرائيل وفي اي صراع قادم مع قوى اجنبية. صحيح ان المقاومة الخلاقة التي جسدها اللبنانيون لم تكن الاولى في تاريخ العرب الحديث، لكنها تميزت على ما سبقها بعوامل استثنائية، من بينها مثلا: ان حزبا سياسيا اهليا تحمل الجزء الاعظم من المسؤولية في هذا الصراع واداره بكفاءة يحسده عليها جنرالات الجيوش العربية.
في الثمانينات وقبلها حذر باحثون عرب مما وصفوه بالانكشاف الاستراتيجي تجاه الخارج. وتتلخص فكرة الانكشاف في ان دولة أو امة ما يجب ان تتمتع بقابلية لصد التدخلات الخارجية من خلال توفير مجموعة من العوامل الضرورية للامن القومي، ويدخل ضمنها كفاءة القوات المسلحة والاجماع الوطني وكفاءة توفير مصادر العيش الضرورية في الاوقات العادية واوقات الازمة. وأشار معظم تلك البحوث الى ضرورة ردم الهوة التي تفصل المجتمع عن الدولة كعامل حاسم في التعبئة للحرب أو لمنع الحرب، لكن ايا من اولئك الباحثين لم يتخيل ان المجتمع يمكن ان يقوم بالمهمة كاملة من دون الدولة. من هذه الزاوية فان التجربة اللبنانية هي سابقة في تاريخ العرب وثقافتهم السياسية، واظن ان آثارها ستنعكس ايضا على مجمل علاقات العرب الدولية.
من المرجح ان الولايات المتحدة الامريكية او غيرها سوف تتردد الان قبل اتخاذ قرار بفرض غاياتها على العالم العربي، لا سيما حين يتعلق الامر بفرض الرؤية الاسرائيلية للسلام، خلافا لما كان عليه الامر منذ منتصف العقد السابق، حين جرت عادة السياسيين الامريكيين على لعب دور المراسل الدبلوماسي لحكومة اسرائيل بدل دور الوسيط الذي يملك اوراق الحل كما كان يقول الرئيس السابق انور السادات.
من الناحية النظرية البحتة فانه لا توجد دولة عربية مكشوفة بقدر لبنان، عدا عن التركيبة الطائفية للنظام التي تحول بذاتها دون تحقيق اجماع وطني على الخيارات الاستراتيجية، فان صراعات القوى المشاركة في المشهد السياسي الداخلي هي بصورة أو باخرى انعكاسات لصراعات في الخارج، الجيش اللبناني هو اقرب ما يكون الى قوات احتياط للشرطة منه الى شبيه لما عند الدول المحاذية، لكن مع ذلك فان لبنان هزم اسرائيل مرتين، وجاءت الهزيمة الثانية استثنائية بمقاييس عديدة.
لا شك ان الموقف العربي اصبح اليوم اكثر قوة، فالمساهمة الشعبية في اي صراع مع الخارج تعطي للمفاوضين والدبلوماسيين اوراقا اضافية مهمة. نتذكر مثلا ما نقله الاستاذ هيكل عن لقاء رئيس الوزراء فؤاد السنيورة مع وزيرة الخارجية الامريكية، فقد قال لها: ببساطة انه سيستقيل اذا فرضت واشنطن تصورها للحل على لبنان. ومعنى استقالة الحكومة، هو تحول حزب الله الى شبه حكومة ومفاوض وحيد، وهذا أسوأ كابوس يمكن ان تتخيله رايس واصدقاؤها، الخوف من مواجهة هذا الخيار هو الذي حمل واشنطن وباريس وبالطبع تل ابيب على تليين موقفها واتخاذ قرار في مجلس الامن يختلف جوهريا عن المشروع الاصلي الذي دعمته فرنسا والولايات المتحدة، وحتى بعد وقف اطلاق النار، فمن الواضح لاسرائيل وغيرها ان لبنان ليس بالارض الرخوة التي يمكن لهم ان يفرضوا فيها ما شاؤوا، وقد بدا هذا جليا في تراجع فرنسا عن القيام بدور محوري في القوات الدولية المنتظر نشرها في الجنوب، اضافة الى تراجع الدعوات المتشددة التي كانت تصر على تجريد سلاح المقاومة قبل انسحاب اسرائيل.
ما فعله حزب الله اذن كان بالنسبة للدول العربية رمية من غير رام، فقد اعطاها ما لم تحلم به طوال العقدين الماضيين. وجدير بالدول العربية جميعا ان تعزز اليوم هذا المكسب باطلاق حملة واسعة رسمية وشعبية لاعادة بناء البيوت والمرافق العامة التي دمرت، وعلاج الجرحى، والتعويض عن مصادر الرزق التي خسرها اصحابها، هذه بلاشك مهمة مكلفة، لكنها ممكنة بتظافر الجهد الاهلي والرسمي.
اعلن حزب الله انه سيقوم من جانبه بهذه المهمة، واذا بدأ فيها بنفس الدرجة من التجرد والاخلاص والجدية التي رأيناها خلال الحرب، فسيكون هذا اضافة عظيمة الى دوره كلاعب محوري في الساحة اللبنانية، وربما يتحول الى انموذج للعمل الاهلي في بقية الدول العربية، نعلم ان هذا ليس من الاحتمالات المريحة للكثير من الحكومات العربية. ومن الافضل لها اذن ان تبادر للمساهمة في هذا الجهد كي تعوض ما فات وكي تعزز موقفها السياسي امام شعوبها وامام العالم.
اغلى الامنيات ان نرى قادة الدولة وممثلي المجتمع الاهلي يدا واحدة في الحرب والسلم، فاذا فات الاول فلا ينبغي ان يفوت الثاني، خاصة وانه خال من بواعث القلق الذي عبرت عنه الحكومات العربية اثناء الحرب، ويجب ان يشعر القادة العرب بقلق جدي فيما لو واصلوا موقف المتفرج بينما يعيد اللبنانيون بناء ما دمره اعداء العرب جميعا، فمثل هذا الموقف سيوجد ارضية ذهنية وربما اجتماعية لتبلور نماذج مثل نموذج حزب الله، اي قوة اهلية تأخذ المبادرة ولا تنتظر رأي الحاكم.
   - 22 / 8 / 2006م - 

01/08/2006

ضرورة التنمية السياسية


قطعت البحرين والكويت خطوات طيبة في طريق التنمية السياسية. وتحتاج دول الخليج الاخرى لتسريع الخطى في نفس السبيل. صحيح ان البلدين لم يصلا بعد الى مستوى الديمقراطية الكاملة ، لكن الامور نسبية. ما اريد الاشارة اليه هنا يتعلق تحديدا بتحديث النظام الاجتماعي ولا سيما الثقافة والقيم المؤسسة لمجتمع سياسي ديمقراطي. وهي غاية يمكن ان تمثل نقطة التقاء لقادة المجتمع والسياسة ، سواء اولئك الذين يرون في الديمقراطية نظاما امثل لادارة الحياة العامة ، او نظراؤهم الذين لا زالوا مؤمنين بالنظام الابوي ومحورية الدولة. 
ارتبطت فكرة التنمية منذ تبلورها بفكرة التحديث. فعلى الرغم من تمايز الفكرتين على المستوى المفهومي ، الا ان الميل الغالب بين منظري التنمية ينحو صوب الربط العضوي بينهما على المستوى الوظيفي ، بحيث يمكن القول ان معظم التعريفات المتداولة توحي بان التنمية في شتى صورها هي طريق للتحديث. لهذا السبب ايضا اصبح ممكنا تمييز مسارات فرعية عديدة ضمن اطار المفهوم العام للتنمية . جربت مجتمعات الخليج جميعا مسار التنمية الاقتصادية واكتشفت فوائده. واظن انها تتفق اليوم على ان نظام الاقتصاد الحديث – رغم نواقصه – اقرب الى روح الانسان وتطلعاته واقدر على ضمان مستوى العيش الذي يليق به. 

الذين جربوا التنمية السياسية اكتشفوا ايضا ، او سيكتشفون ، ان نظاما سياسيا حديثا سيكون اقدر على تحقيق انسانية الانسان وتمكينه من التعبير عن جوهر وجوده. لكن من الواضح ان التنمية السياسية لا تزال موضع ارتياب من جانب السياسيين لان تحقيقها يتطلب تخليهم عن مكاسب او امتيازات او طريقة في العمل اعتادوا عليها لزمن طويل.

اذا اخذنا بعين الاعتبار الكلفة التي يدفعها اصحاب القرار (ونعرف انهم مترددون في قبولها حتى الان) ، فان المسار الثالث للتنمية ، اي تحديث النظام الاجتماعي ، لا ينطوي على عبء كبير ، رغم ان ثمراته لا تقل عن ثمرات التحديث الاقتصادي. ولهذا السبب اشرت سلفا الى انه يمكن ان يشكل نقطة التقاء للمطالبين بالاصلاح في المجتمع واصحاب القرار المترددين ازاء التحديث السياسي ولا سيما الجزء الجوهري منه ، اي الديمقراطية.

مضمون التنمية الاجتماعية هو اعادة تنظيم شبكة العلاقات الداخلية للمجتمع وعلاقته مع الدولة وادائه الثقافي والاقتصادي وتطلعاته السياسية. اما غرضها فهو تمكين المجتمع من التفاعل مع مسارات التحديث الاخرى ، سواء في قطاع الاقتصاد ، او الادارة الرسمية او القانون او غيرهم ، وبطبيعة الحال الاستفادة من الفرص الجديدة التي توفرها هذه التغييرات. من الناحية الفعلية فقد ثبت ان التحديث الجزئي ، اي تحديث الاقتصاد بمفرده او تحديث القانون او الادارة الرسمية بمفردهما هي امور ممكنة ، خلافا للاعتقاد الذي ساد في بعض الاوقات بان اجتزاء التنمية سيؤدي الى فشلها. لكن من الانصاف ايضا القول بان التنمية الجزئية تخلف تشققات في النظام الاجتماعي غالبا ما ترتد على شكل تفكك وانهيار لمنظومات القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية ، وبالتالي تأزم النظام الاجتماعي وتدهور العلاقة بين المجتمع والدولة.

 ما نراه في الحياة السياسية الخليجية من ميل مفرط للمنظومات الاجتماعية القديمة مثل العشيرة والقبيلة والطائفة وما نراه احيانا من ظهور غير مبرر للثقافة الخرافية والانعزالية ، يرجع في ظني الى تلك التشققات التي تركت من دون علاج. قد نذهب الى مدى ابعد على المستوى النظري فنقول ان هذه المشكلات هي تعبير عما يسميه الباحثون بالاغتراب الاجتماعي ، اي انقطاع الصلة الروحية او الثقافية بين الافراد (او الكتل الاجتماعية) وبين منظومات العمل التي خلقتها الحداثة في مجال معين مثل الاقتصاد. لكن التنمية الاجتماعية تتطلب ما هو اكثر من علاج هذا الاغتراب. نحن بحاجة في حقيقة الامر الى صياغة اجماع جديد بين اعضاء المجتمع من جهة ، وبينهم وبين النخبة السياسية من جهة اخرى ، على نظام الحياة الذي يحقق آمالهم.

 في هذا السياق فان اعادة تشخيص مكانة الفرد كفاعل مستقل في النظام الاجتماعي تحتل في تقديري المرتبة الاولى من الاهمية. يقوم مفهوم الحداثة على الربط بين قيمة الفرد وكفاءته ، وبين مكانته والدور الذي يؤديه فعليا. خلافا للنظام القديم الذي يربط بين قيمة الفرد وانتمائه ، او بين مكانته وصفته. ويأتي بعد ذلك الفصل بين شريحتين من الحقوق الضرورية للفرد ، اي الحقوق الطبيعية التي يجب ان يتمتع بها باعتباره انسانا ، والحقوق المدنية التي يتمتع بها باعتباره مواطنا.

في مثل مجتمعاتنا التقليدية ، فان حقوق الافراد وحرياتهم تعتبر غالبا "منحة" يقدمها المجتمع او الدولة كمكافأة للفرد على ادائه للواجبات الاجتماعية. وهذا المفهوم قد يكون مقبولا – رغم انه غير مبرر تماما – حين يتعلق الامر بالحريات المدنية ، اي تلك التي يتمتع بها في ظل القانون . لكن من الخطأ الرجوع الى نفس المفهوم حين يتعلق الامر بالحقوق الطبيعية التي ينبغي ان تكون سابقة للقانون والمواطنة بل وحاكمة على اي قانون .

 اعتقد انه ينبغي على المجتمع والدولة التوافق على ان المساواة وحرية التفكير والتعبير والاعتقاد والتملك هي حقوق للفرد بما هو انسان وبغض النظر عن اي قانون او سياسة او علاقة . يمكن لتوافق من هذا القبيل ان يرسي اساسا متينا لاجماع وطني جديد . وثمة خطوات ضرورية لجعل الاجماع الجديد فعالا ومحسوسا ، ربما نعود اليها في مقالات قادمة . لكن خلاصة ما اردنا التاكيد عليه هنا هو ان التنمية الاجتماعية ، بمعنى اعادة تنظيم شبكة العلاقات الاجتماعية تمثل حاجة ماسة لتعزيز مسارات التحديث الاخرى ومعالجة المشكلات التي يمكن ان تنتج عنها ، وهي علاوة على فوائدها ، قليلة الكلفة ، كما ان انجازها ممكن حتى لو تاخرت التنمية السياسية .
مقالات ذات علاقة 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...