07/01/1998

أحــــلام النــاس

كنت مهتما خلال الايام القليلة التي انقضت من رمضان المبارك ، في بحث حول تصور الناس لذاتهم ومعتقداتهم وتطلعاتهم ، وقد ركزت اهتمامي بصورة خاصة على التعبيرات البسيطة ، والاجابات الفورية ، التي اجد انها تعبر تماما عما يعتمل في الصدور ، بالدرجة التي يمكن اعتبارها حقيقة ما في النفس ، ولفت نظري ان معظم الذين سألتهم ، كان يعبر بصورة أو باخرى ، عن شك في تطابق نسق حياته مع مرادات الدين ، على الرغم من كونه متدينا بالمعنى المتعارف ، سألت احدهم مثلا عن السبب في عدم التطابق هذا ، فأجابني ان الدين أوسع من ان يحيط به أحد ، وقال لي أحدهم ان الله غاضب على المسلمين لعدم التزامهم بدينه ، ولهذا فانه لا يهديهم سواء السبيل ، وقال ثالث ان تطبيق الاسلام بكماله غير ممكن أصلا في هذا الزمان ، وما يطبق منه ـ ولو كان جزئيا أو ناقصا ـ فهو يعتبر كافيا ومعقولا ، لانه هو المقدور ولا يكلف الله نفسا الا وسعها .
وفيما مضى من الزمن كنت أظن الناس راضين عن مستوى تدينهم ، ومستوى فهمهم لمعاني هذا التدين ، لكن تلك المناقشات التي دارت غالبا مع اشخاص عاديين ، أظهرت انني كنت مخطئا في هذا التصور .

وأظن ان المشكلة لا تتعلق بتقصير مقصود في الالتزام بتعليمات الدين الحنيف ، بل بتباين بين الصورة المتخيلة في الذهن عن الحياة في ظل الدين ، وصورة الحياة كما يراها المسلم المعاصر ، وقد لا تكون الصورة الاولى دقيقة ـ بالضرورة ـ بل قد لا تكون صحيحة على الاطلاق ، لكننا على أي حال بصدد مسألة تكشف عن وجود جدل داخلي يعتمل في الانفس ، بين واقع يعيشه الناس باختيارهم أو بالرغم منهم ، وبين أمل في صورة جديدة لواقع مختلف .

حاولت ان اتعرف على الصورة التي يتخيلها الناس للواقع الجديد المأمول ، فوجدت العجب العجاب ، لفت انتباهي على سبيل المثال ، ان كثيرا من الناس يرسمون صورة للواقع الاسلامي المأمول ، على نسق الصورة التي تعرضها المسلسلات التاريخية التي يبثها التلفزيون ، وتدعي انها تجسيد لفترة ما في التاريخ الاسلامي ، وكنت أظن منذ فترة طويلة ان معظم ما يعرضه التلفزيون عن تاريخ الاسلام ، ليس أكثر من تركيبات ساذجة ، تفتقر الى الحس التاريخي ، كما تفـتقر الى الموضوعية .

وعلى أي حال فان المسؤولية عن هذا التقصير ، لا تلقى على كاهل منتجي البرامج التلفزيونية ، فهم ـ مثل غيرهم ـ يأكلون مما يجدونه على المائدة ، ولا يعتبرون انفسهم مكلفين بالتدقيق في علاقة كل طبق بباقي الاطباق ، ولا في صحة انتمائه الى المائدة .

وعلى كل حال فان هذا الصنف من الذين سألتهم ، كانوا يتمنون نمط حياة يشابه ذلك الذي يتخيلونه عن عصور الاسلام السابقة ، لكني سألت بعضهم عن حياته الحاضرة .. هل هو مستعد للتخلي عنها فيما لو أتيح لعقارب الزمن ان تعود الى تلك المرحلة .. فوجدتهم في الغالب قلقين من ان يتحملوا الاعباء الكثيرة التي تحملها الاسلاف في حياتهم ، ولهذا فانهم على الارجح ، سيختارون البقاء في زمنهم ـ مع انه مخدوش الاعتبار ـ على العودة الى الازمان السابقة ، ولو كانت ـ في تصورهم ـ كاملة .

 ما هو جوهر المسالة اذن ؟ .
لو رجعنا الى وجوه النقص التي يرى الناس انها تعيب زمانهم ، لوجدناها تتعلق غالبا بموضوعين : الاجماع على طريقة واحدة من التدين ونمط واحد من الحياة ، والعلاقة غير المتكافئة بين المسلمين وغيرهم من سكان الكوكب .

في الجانب الاول يتصور الناس ، ان المسلمين كانوا في عصورهم القديمة مجمعين على فهم واحد محدد للدين ، وعلى درجة واحدة من الالتزام باحكام الشريعة المقدسة ، ولهذا السبب فلم تكن ثمة اختلافات بين الناس ، ولم يكن ثمة تباين في مستويات الحياة والمراتب الاجتماعية ، وهذا تصور غير دقيق اطلاقا ، لكنه اقرب الى المثالية التي يتمناها كل شخص ، مع ادراكه لاستحالة نقلها من عالم المثال المجرد الى عالم الواقع الارضي .

وقد بذل بعض قدامى الفلاسفة جهودا كبيرة ، لصنع صورة ـ على الورق فحسب ـ لمدينة فاضلة تخلو من الطبقات وتخلو من الاختلافات ، كما ان فلاسفة معاصرين وضعوا افتراضات مفصلة ، حول امكانية التوصل الى مجتمع يخلو من الطبقات ، وتنعدم فيه ـ تبعا لهذا ـ فرص الاستغلال ، حيث يتقوم اعتبار الانسان بعمله ، لا بما يملك ، لكن أحدا لا يأخذ هذه الافتراضات مأخذ الجد ، اذ التباين في المعايش والمراتب ، أساس التدافع الاجتماعي والقومي ، الذي به تقوم حياة الامم وبه تتطور المجتمعات .

وخلافا لما يظن بعض الناس ، فان الحياة في عصور الاسلام الاولى ، لم تخل في أي مرحلة من مراحلها ، من الخلافات بين الناس ، كما لم تخل من التباينات الحياتية والاجتماعية ، فقد كان ثمة موالون وكان معارضون ، وكان ثمة مؤمنون ملتزمون بكل ما يستطاع من التكاليف ، وكان ثمة مخفون ، ومع تطور الدولة الاسلامية وانتشار العلم ، ازدادت التباينات وتعددت الافهام حتى قامت الفرق والمذاهب ، وتبلورت مدارس فكرية ينسجم بعضها مع التيار العام ، ويختلف اكثرها في الخطوط العريضة أو في التفاصيل . كما ان اتساع الدولة وتبلور الحياة المدنية ، قد ساعد على اتساع التمايز بين الطبقات الاجتماعية ، وظهور فوارق في أساليب ومستويات المعيشة ، اجلى مما كانت في بدايات الدولة الاسلامية ، والخلاصة ان تصور الحياة في عصور الاسلام  الاولى ، خالية من الالوان والتعبيرات المختلفة ، مجانب للحقيقة ، بل هو مستحيل في أي حال .

ومع ان الناس جميعا يشتركون في تبني آمال أو أحلام معينة ، تتجاوز مستوى ما هو معاش ، وهذه طبيعة انسانية لا علاقة لها بقطر معين أو ملة معينة ، الا ان المسلمين يتميزون عن غيرهم ، بحنين خاص الى مثال يعتقدون انه كان واقعا في يوم من الايام ، وانه يمكن ان يبعث من جديد بصورة أو بأخرى في يوم من الايام ، وهم يعتقدون ان هذا المثال ، ايا كان ، هو خير من واقعهم المعاش ايا كان ، ويشير هذا الامل المحدد الى نوع من الاحتجاج العفوي الصامت ، على واقع يشعر الجميع انه لم يكن مخيرا في ايجاده ، ولعله كان اختار غيره لو اتيحت له الفرصة يوم تشكل ، ويتعزز هذا الشعور مع تراكم الاحباطات وأسباب الفشل ، سواء تلك التي تعزى للشخص ذاته ، او للنظام الاجتماعي ككل.

وحسب ما راى بعض الباحثين فان الشعور بالاحباط او العجز ، يتنامى مع اختلال التوازن بين قدرة الانسان على الفعل ، ووجود فرص للتعبير عن هذه القدرة ، ويبدو لي ان كل الناس في كل المستويات ، يحلمون بشيء ، او يتمنون القدرة على تحقيق شيء ، لكن شعور الانسان بقدرته على تحقيق حلمه ، هو الذي يجعله متوترا ، اما في المرحلة السابقة لوجود القدرة ، فان الانسان يحلم كي يستريح من ضغط الشعور بالعجز .

واذا صح هذا التحليل ، فانه يمكن القول بان عدم الرضى عن مستوى التدين ، قد لا يكون مبنيا على تحليل او تامل في واقع الحال ، بل ربما نتج عن رغبة في المطابقة بين الواقع والحلم ، يتوازى مع قناعة فحواها ان الحلم ، يبقى مجرد حلم حتى اشعار آخر .
عكاظ 7 يناير 1998

06/04/1997

سلع سريعة الفساد: حروب الكلام

معظم الذين يعارضون الحركات الاسلامية ، يتهمونها باستغلال الخطاب الديني لتحقيق اغراض سياسية او حزبية. وهذا الوصف قابل للتطبيق على كل شخص او جماعة. فكل من اراد النيل من منافس له ، وصفه بالانتهازية ، او ارتداء عباءة الايديولوجيا لتحقيق اغراض سياسية او غير سياسية. واذا اراد التوسع في الوصف او تأكيد (التهمة) تبرع بتبرئة الدين من السياسة او المصالح. وتنشر الصحافة العربية كل يوم تقريبا ، مقالات او تصريحات لمعارضين سودانيين ، تتهم النظام القائم بانه مخادع ، وزعيم الجبهة القومية الاسلامية التي تدعمه بانه انتهازي ، يستغل الشعار الديني لتبرير استيلاء الجبهة على مفاصل الحياة السياسية .

 وقد قيل مثل هذا في النظام الايراني ، ويقال عادة في كل الصراعات الصغيرة والكبيرة التي تجري بين الفئات السياسية. وأمامي تصريح للسيد رفعت السعيد ، وهو من زعماء اليسار في مصر يحذر من ان جماعة الاخوان المسلمين تستغل الديمقراطية لكي تقتلها حينما تصل الى الحكم ، لانها لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها (الحياة 3/7/1996) وهو كلام يمكن تطبيقه على الحزب الذي ينتمي اليه السيد السعيد ، فقد شهدت مصر بعض احلك ايامها حينما كان اليسار في السلطة ، وأمامي ايضا خبر عن احتجاج قدمه الامين العام لجناح حزب البعث اليمني المؤيد للعراق ، الى لجنة الاحزاب في الحكومة اليمنية ، يتهم الجناح المؤيد لسورية في الحزب نفسه باستغلال الاسم لاغراض سياسية ، بخلاف ما ترمي اليه المنطلقات والبرامج الخاصة بالحزب ، ويتهم اللجنة بالتآمر مع هذا الفريق ، خلافا للسلوك الديمقراطي والدستور والفانون الجاري (الحياة 4/7/1996) .

 خلاصة ما نريد قوله ان اتهام الجماعات الاسلامية بالانتهازية او استثمار الدين ، هو مجرد سلعة في سوق الصراع بين القوى السياسية ، ومثلما يوجه للاسلاميين ، فهو قابل للتوجيه ضد اي طرف سياسي اخر ، فيمكن اتهام اليسار باستثمار شعار العدالة الاجتماعية لتقويض الحريات الفردية ، كما يمكن اتهام الليبراليين باستثمار شعار الديمقراطية والحريات ، لافساد المجتمع او اقامة حكم يعتمد على استثمار الاقوياء للضعفاء .

 والحقيقة ان ايا من  السياسيين الذين حاولوا التقدم في ميدان السياسة ، لم يعجز عن ابتكار قائمة اتهامات من هذا النوع يوزعها على منافسيه ، لكن ايا منها لايصلح دليلا لتقويم تجربة الطرف المتهم او مصداقية طروحاته. انها اشبه بالسلع السريعة الفساد ، ليس لها اي قيمة خارج الظرف الذي شهد اطلاقها ، الظرف المحدود زمنيا ومكانيا  .

ولايقتصر هذا النوع من التراشق على الجماعات المختلفة ايديولوجيا ، ففي داخل التيار الاسلامي نفسه ، نرى التقليديين يتهمون الحركيين الجدد باستثمار الشعار الاسلامي لتحقيق مآرب سياسية آنية ، ويتهم هؤلاء اولئك باستغلال الدين لتجميد المجتمع الديني ، ويشكك كل من هؤلاء في الاخر ، في اخلاصه وفي تقواه وفي تطابق منهجه وتكتيكاته مع مرادات الشريعة. وكل هذه الاتهامات والمراسلات الخطابية ، نفخ في الالفاظ لا يغير شيئا من الحقيقة ، لكنها تعكس الارتباك السائد في تحديد خطوط الاتصال وخطوط الانفصال ، بين ما ندعوه مبدأ وما ندعوه مصلحة .

ويظهر ان الذين يوصفون بالمصلحية - عادة - هم النشطون في المجال الاجتماعي او السياسي ، الذين يهددون غيرهم بابتلاع مجاله الاجتماعي او فرصته السياسية ، اما المنعزل الذي لا يهدد احدا ولاينافس احدا ، ولايسعى لتحويل رصيده الشخصي الى قوة سياسية تنافس القوى القائمة ، والتي تخطط للقيام على الساحة ، فانه ينام قرير العين ، لا يرشق بحجر ولا ينال منه لسان. وكان استاذنا اية الله السيد محمد الشيرازي اطال الله عمره يقول ان راشقي السهام في الحروب القديمة ، يوجهون سهامهم الى اصحاب القامات العالية والرايات الواضحة ، قبل بقية الجيش. وقرأت في حياة الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول قوله ، انه حاول الفرار من اسر القوات الالمانية مرارا ، لكن قامته الطويلة فضحته دائما ، فلم يكن بين الجند من هو في مثل طوله ، ولهذا كان جميع جنود المعتقل الالماني يعرفونه حتى لو اخفى وجهه ، والحاصل ان الاتهام بالانتهازية او المصلحية ، هو في حقيقته لون من الوان الصراع الاعتيادي يواجهه كل نشط على الساحة ، وكلما امتدت قامته وظهر صيته ، ازداد حجم الاتهامات الموجهة اليه لا سيما من هذا النوع .

قلنا سابقا ان التزام الانسان ، سياسيا كان او رجل شارع ، بمصلحته او مصلحة جماعته ليس تهمة ، وليس عيبا ، وبناء المواقف على اساس المصالح ليس خطأ بل قد يكون عين العقل ، كما ان تأثر الاراء والافكار بالمصالح ليس اختيارا ، فعقل الانسان لا يتحرك بمعزل عن تعاطيه مع شئون حياته ، ولذلك فانه لا يوجد انسان الا وهو ينظر ، حين يتكلم وحين يعمل ، الى مصلحة ، مصلحة لنفسه او لجماعته او لعقيدته ، وهي في كل الاحوال مصلحة للذات .

لكن مع ذلك ، وبسبب تخلف الثقافة وانفصالها عن الحياة ، واحتلال الخيال مكان المنطق في عقل الانسان المسلم ، فقد اصبح السعي الى المصلحة عيبا يسوء المرء ، كما  اصبح التباطؤ عنها او القعود عنها حتى تضيع ، مكرمة يستحق صاحبها الثناء وجميل الذكر ، وما نريد قوله كخلاصة انه لا يمكن للانسان ان يكون فاعلا الا اذا وثق اتصاله مع الواقع الذي يعيش ، الواقع بما فيه من مادة وعناصر حياة وجمهور وقوى وسلطة. ولان العلاقة بهذا الواقع مستحيلة ، اذا لم يظهر الانسان استعدادا للتشابك مرة والتلاحم أخرى والقتال ثالثة ، فان على الانسان ان يهيء نفسه لردود الفعل ، السلبية والايجابية ، وعليه ان يتحمل الاساءة بمثل ماهو مستعد لتقبل الثناء.

23/03/1997

مباديء اهل السياسة ومصالحهم


لم يبخل احد من الحركيين الاسلاميين في عرض الادلة ، على ان موقفه خلال الاجتياح العراقي للكويت في اغسطس 1990 ، كان تعبيرا عن مصلحة مؤكدة للاسلام كدين وللمسلمين كأمة ، لكن ولسوء الحظ ، فإن هذه المواقف تباينت الى حد التناقض ، وترتب عليها اتهامات متبادلة من جانب المتعارضين ، في الادلة والاسباب التي حملتهم على اتخاذ مواقفهم ، واعتبر كل من الطرفين ان الآخر لم يَرْعَ متطلبات معينة في الشريعة ، يعتقد أنها أولى بأن تقدم في الاعتبار  .

ستجد ان هذا الاختلاف في الموقف ، كان هو السائد ايضا وسط التيارات الاخرى غير الاسلامية ، بل يمكن القول ان الجماعات السياسية في كل بلد قد تبنت الموقف الذي ساد في بلدها ، بغض النظر عن متبنياتها الفكرية الخاصة ، وفي هذا اشارة الى ان الاساس الذي بني عليه الموقف لم يكن تنظيرا ايديولوجيا مجردا ، بل ادلجة للتوجهات الاجتماعية التي هي نتاج خالص لشروط البيئة الاجتماعية وانعكاساتها ، والفرق كبير بين العودة الى مجردات الايديولوجيا ، وبين وضع التوجهات المجتمعية في اطار ايديولوجي ، ففي هذه الحالة ستكون الايديولوجيا مجرد مصدر لتبرير الارادات الخاصة او العامة ، وليست اساسا للحكم ، فهي محكومة بالمجتمع وليست دليلا له  .

تناقض المواقف

رأى الاسلاميون في الخليج ان الغزو بما هو عدوان ، وتضييع للحقوق وانتهاك للحرمات ، هو اولى بان يكون الأساس في التقدير ، وان ما تبعه من تطورات ، ولاسيما الإستعانة بغير المسلمين في رد المسلم المعتدي ، انما هو تسلسل للضرورة الاولى المتمثلة في الاعتداء ، وليس حدثا منفصلا يتطلب موقفا منفصلا عن الأول ، خاصة مع عدم التمكن من رد العدوان بأي وسيلة أخرى .

 اما الاسلاميون من الدول الاخرى فاختلفوا أولاً في تقييم الحدث الاول وهو الغزو ، فرأى معظمهم انه غير مقبول ، بالنظر الى ما يرتبه من آثار عامة ، حتى مع التحفظ في التفاصيل ، لكن معظمهم عاد ـ من ثم  ـ الى اعتبار موضوع الغزو ثانويا ، بعد ان تدخلت القوات الاجنبية في المعركة ، بناء على ان الحرب بين الكافر والمسلم ، توجب نصرة المسلم مهما كانت طبيعة القضية .

وقد حدث تلاوم كثير بين اصحاب هذا الاتجاه واصحاب الاتجاه الآخر ، أدى من الناحية الفعلية الى انشقاق في التيار الاسلامي ، شبيه للانشقاق الذي احدثته الازمة على مستوى الحكومات العربية ، ووصف الخليجيون الاخرين بأنهم مكيافيليون ، تنبع مواقفهم من الرغبة في الاستثمار السياسي السريع المردود ، بينما وصف هؤلاء اولئك بالسطحية في تقدير الامور ، والنظر اليها من زاوية المصالح الشخصية ، والخوف على نعيم الحياة الذي يمثل مجتمع الخليج البترولي رمزه الابرز .

ومع ان هذه الاوصاف هي نتاج للانفعال الفوري بانعكاسات الازمة ، ويصعب التدليل على صحتها او سقمها ، الا انها من ناحية اخرى ، تكشف عن قبول الطرفين باعتماد (المصلحة) اساسا في تقييم الموضوعات واتخاذ المواقف .

وربما بدا هذا الاستنتاج بديهيا لكثير من القراء ، فليس ثمة عاقل الا وهو يلاحظ مصالحه حين يقدم على اي عمل ، لكن الامر ليس بنفس العفوية في الحياة السياسية ، فعلى الرغم من ان الاكثرية الساحقة من السياسيين والنشطين في المجال الاجتماعي ـ اذا لم نقل جميعهم ـ يؤسسون مواقفهم المكتومة  والمعلنة على (المصلحة) التي يرونها لانفسهم او للوسط الاجتماعي الذي يعتمدون على دعمه ، المصلحة الفورية عادة ، والبعيدة الامد في بعض الاحيان ، الا ان الجميع يتنصل من هذه الحقيقة ، وربما اعتبر مثل هذا القول ( تهمة ) تستوجب النفي والتكذيب ، وهو يجاهد بكل ما استطاع للتدليل على ان مواقفه وأراءه ، هي التجسيد الكامل والدقيق لمرادات الايديولوجيا التي يتبناها (الشريعة او غيرها) .

وبالنظر الى غموض العلاقة بين فكرتي المصلحة والمبدأ ، فقد اصبح من الاعتيادي ان ينظر الى فريق من السياسيين ، باعتبارهم مبدئيين ، والى غيرهم باعتبارهم مصلحيين (او براغماتيين حسب التعبير المتداول حاليا) ويشار الى الفريق الاول باعتباره اكثر تمسكا بالعقيدة ، والى الثاني باعتباره متحررا ، والحقيقة ـ كما هي في الحياة السياسية على اقل التقادير ـ ان الفريق الاول لا يختلف عن الثاني ، في اعتبار المصلحة العاجلة او البعيدة الامد منطلقا واساسا لمواقفه العملية ، وغاية ما يميزه عن منافسه هو قدرته اللغوية او المعلوماتية ، التي تتيح له عرض موقفه في اطار يبدو لصيقا بالايديولوجيا ، بينما يفتقر الثاني الى البراعة اللفظية والاعلامية التي يتمتع بها الاول .

من الواضح ان فكرة ( المصلحة ) والتاسيس عليها والدفاع العلني عنها ، غير موجودة ، او لنقل ـ على سبيل التحفظ ـ انها غائبة في الثقافة الاسلامية المتداولة ، ولا سيما الشعبية ، ولذلك نجد ان الخطاب الرسمي كالخطاب الشعبي تماما ، يتحدث عن علاقة الدولة بالمجتمع ، وعلاقة الدولة بالدول الاخرى ، وعلاقة الاطراف الاجتماعية ببعضها باعتبارها تجسيدا لقيم او متبنيات ذات ظلال معنوية بحتة ، بينما هي في الواقع ، وينبغي ان تكون ، تعبيرا عن مصالح تتقارب او تتباعد ، ان اقرب الاصدقاء في السياسة قد تبعده مصالحه عنك ، كما قد تقربك مصالحك الى البعيد القصي ، وبالنسبة للزعيم او الجماعة السياسية ، فان صدقيتها في تبني مصالح المجتمع الذي تدعي تمثيله ، ستكون رهينة  بمدى حرصها على تحقيق مصالحه المباشرة والمحددة ، وليس في انسجامها مع متبنياتها الايديولوجية التي تخصها وحدها ، حينئذ فان المبدئية الحقة ستكون في حجم الانجازات المحققة للجمهور ، أي في قدرتها على تحقيق المصلحة العامة .

16/03/1997

اقامة الشريعة بالاختيار


في كل الاحوال فانه ليس لاحد من الاطراف السياسية ، حزبا طليعيا كان ، او فقيها مجتهدا ، او زعيما تاريخيا ، تعيين نفسه بديلا عن الجمهور في اختيار مستقبله ، أو وكيلا مطلق الصلاحية يرسم ما يشاء دون رجوع الى الراي العام الصريح والمنظم.

 لقد عانى المجتمع العربي ولايزال يعاني الامرين ، من سياسات الاشخاص او الجماعات التي تعتبر نفسها ضرورة للشعب والوطن ، ونبتا فريدا في صحراء عجزت ارضها عن انبات غيره ، وظهر لنا ان هذا النبت الفريد لم يكن غير اثل وشوك ، لا هو بالمطعوم حتى يسمن من جوع ، ولا هو بالصلب العود حتى يدفيء من برد ، بل ربما يمكن القول ـ من واقع تجارب عربية عديدة ـ
  ان الجماعات او الزعماء الاكثر تبجحا وادعاء ، هم الاقل نجاحا في بلوغ ما يدعون من اهداف ، فكانه ثمة تناسب عكسي بين التبجح والنجاح ، وما تجربة صدام حسين عنا ببعيدة ، ولاتجربة الزعيم الليبي  بمجهولة .
يقول يونس بحري ، الاعلامي العراقي القديم (1900-1979) ان الشعار الفارغ كان منقذا له من السجن ، فقد كان سجينا في عهد اللواءعبد الكريم قاسم ، وقد زار قاسم السجن مرة ، فاراد الرجل انتهاز الفرصة ، فهتف وهتف معه بقية السجناء (يعيش الزعيم الاوحد) وصدق قاسم انه زعيم اوحد فامر باطلاق اولئك السجناء ، ثم اشار بضم الشعار الجديد الى قائمة الشعارات الرسمية ، لكن الزعيم الاوحد لم يلبث غير اسابيع حتى اصبح وحيدا تحت التراب .

 لقد ولى الان زمن (القائد الضرورة) و (الزعيم الاوحد) و (حزب الرسالة الخالدة) وكشف توالي الاحداث والتجارب هزال هذه الاوصاف بل زيفها ، وقد حان الوقت ، بل لقد حان منذ زمن طويل ، لكي يستعيد الجمهور دوره في اختيار مستقبله بنفسه ، دون وصاية عليه او نيابة عنه ، لقد بلغنا سن الرشد ، ولانحتاج الى اوصياء علينا او وكلاء يبيعوننا الاحلام .

اذا كان الجمهور يريد اقامة الشريعة ، فلا يمكن لاحد - اخلاقيا - منعه من مراده ، واذا كان قلقا منها فهو غير مكلف  شرعا بقتال الناس حتى ينصاعوا للنموذج الذي اختاره. كل فرد من الناس مكلف ومسؤول امام الله ، بقدر ما نحن مكلفون ومسؤولون ، وفي داخل كل مسلم عقل كامل ، كما في رؤوسنا عقول ، ثم اننا موقوفون يوم القيامة للحساب افرادا ، ليواجه كل نتائج خياراته في الحياة الدنيا فـ (كل امريء  بما كسب رهين) ،  وعليه فليس لنا ، وليس لاحد مهما كانت صفته ، الحق في ان يسوق الناس  ـ سوق الانعام ـ من حظيرة الغير الى حظيرته ، ولو كانت ـ في عينه ـ اوسع واجمل ، ان اقوى المبررات لا يكفي للبرهنة على جواز اجبار الناس على اتخاذ خيار محدد ، ولو كان الجبر متاحا ، لاتيح لرسول الله (ص) الذي يخاطبه القرآن قائلا (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)  لقد اثبتت التجربة الباكستانية ، كم كان الثمن غاليا حينما فرضت القوانين الشرعية بقوة الجيش ، حيث تظهر الاحداث ان التأييد الشعبي للاسلاميين ، في الانتخابات التي اعقبت نهاية الحكم العسكري ، بوفاة الجنرال ضياء الحق عام 1988، قد انكمش الى مستويات مقلقة ، بالمقارنة مع الاوضاع السابقة على قيام الحكومة العسكرية في يوليو 1977.

الناس ومصالحهم

نؤمن بان اقامة الشريعة ستوجد اليات مثلى لضمان مصالح الجمهور ، لكن لا يمكن ـ من الناحية العملية ـ ضمان مصالح الجمهور دون موافقته المسبقة على المنهج الذي تقوم في اطاره هذه الاليات ، ان الادعاء بامكانية التحديد المسبق والالزامي لطبيعة المصالح العامة ، هو ادعاء يعوزه المنطق ، اذ لا يوجد في العالم كله ، شخص او حزب هو اعرف بمصالح الناس من الناس انفسهم ، ولايوجد في العالم كله ، احد اقدر على ضمان مصالح الناس من الناس انفسهم ، وتدلنا تجربة التنمية في البلاد العربية وكثير من اقطار العالم الثالث ، على النتائج المريرة التي انتهت اليها محاولات الانماء المعزول عن المشاركة الشعبية ، بما يكفي للتدليل على ان أي برنامج تطوير لايرضى به الشعب ولا يشارك فيه ، لن يصل الى غاياته ولو دفع في سبيله الكثير من المال وبذل لانجاحه الغالي من الجهد والوقت ، ربما نفعل المستحيل لانماء البلاد وتطويرها ، لكن كل انجازاتنا ستكون بلا قيمة ، اذا لم يكون الجمهور شريكا فيها ومساهما وحاميا ، ولا يختلف الامر بين ان يكون هذا التطوير قد جرى وفقا لاحكام الشريعة او وفقا لغيرها .
 واذا اتخذ الجمهور جانب المتفرج ، فلن نحصد من وراء جهدنا غير التعب ، وسوف ينسانا الناس ، على ان ما نخشاه حقا هو ان نكون من (الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا) ، فلعلنا نسعى الى فرض اجتهاداتنا على الناس فنظلمهم تحت هذا المبرر او ذاك ، فنخسر ما نأمله من عون الله ومحبته ورضاه .

في كل الاحوال فانه لا ينبغي للمؤمن الحق ، ان يستبدل دور الداعية بدور الجلاد ، اذا قبل الناس دعوتنا واستطعنا ان نقيم الشريعة بالتعاون معهم فقد كسبنا صفقة العمر ، واذا لم يقتنع الناس بما ندعوهم اليه ، فليس لنا ان نضع السيوف في اعناقهم حتى يأخذوا بمذهبنا او يروا رأينا ، لن تقوم الشريعة بالاكراه ، ولسنا مسؤولين ـ شرعا ـ عمن ابى او جفى (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) واذا ثبت هذا فاننا بحاجة الى وسائل في العمل تتجه نحو اقناع الناس ، دون وضعهم في الحرج ، نحن بحاجة  الى جدل يرتفع بمستوى الساحة ، جدل يعزز قدرة الناس على الاختيار ، ولئن فشلنا اليوم فان في مستقبل الايام متسع لكل طالب حق عادل .

09/03/1997

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟


كانت الجزائر هي القطر العربي الاخير ، الذي طرح فيه الاسلام كمشروع سياسي ، تتبناه حركة سياسية تسعى رسميا الى الحكم . وبين الحدث الجزائري واحداث مماثلة ، تكررت خلال التاريخ المعاصر لا سيما في العقدين الأخيرين ، اثار طرح المشروع السياسي الاسلامي ما وصفه رئيس الوزراء الايراني السابق محمد جواد باهنر بطوفان من الاسئلة ، اسئلة لا بد منها في ظروف انتقال وتحول ، كالتي يشهدها العالم الاسلامي ، ويتراوح التركيز في هذه الأسئلة ، بين قدرة الاسلام ذاته على تلبية الحاجات الثقافية والتنظيمية المعاصرة للمجتمع والدولة ، وبين كفاءة الحركيين الاسلاميين ، للحلول كبديل اصلح عن النخب السياسية ، التي اعتاد عليها العالم العربي منذ قيام الدولة الحديثة ، من نوع ... هل يملك الحركيون الاسلاميون مشروعا لانقاذ بلادهم من حالة التخلف والسقوط الاقتصادي ، هل ينوون إعادة هيكلة المجتمع ، وضع المرأة في ظل حكومة الاسلام ، العلاقة مع غير المسلمين في ظل النظام الاجتماعي الجديد ، والعديد من الاسئلة المشابهة ، التي تعبر جميعها عن حقيقة كون الاسلام في بعده الإجتماعي والسياسي ، مجهولا عند اكثرية الناس ، فضلا عن كونه مرفوضا عند المنافسين الأيديولوجيين .

يمكن ارجاع السبب في ظهور هذا الموج من الاسئلة ، الى سببين ، غموض المشروع الاسلامي المعاصر ،  وكون الحركة الاسلامية بنموذجها الذي تبلور في السبعينات وما بعدها ، حديثة الظهور الى حد ما ، فخلال الفترة السابقة للحرب العالمية الثانية ، لم يكن هناك ما يصح تسميته حركة اسلامية بالمعنى الحديث للجماعة السياسية ، كما ان النشاط الفكري الذي جرى حتى ذلك الحين كان محدودا جدا ، فوق انه تكرس ـ باستثناءات محدودة ـ للموضوعات التقليدية ، التي لم تعد الآن موضع اهتمام الباحثين ، لأن معظمها لا يعالج قضايا جديدة او معاصرة ، ولاسيما قضايا عامة .

 اما بعد الحرب فقد انصرف الاسلاميون ، الذين خرجوا عن الاطارات التقليدية الى الدفاع عن الاسلام ، الذي واجه يومئذ محاولات جادة للتهميش والعزل ، في نطاق الدعوة المشهورة الى الفصل بين الدين والسياسة ، فاتسم النتاج الثقافي لتلك الحقبة ، وحتى وقت متأخر من عقد السبعينات الميلادية ، بالصبغة الدفاعية او التبريرية في الغالب ، كما ان معظم النظريات الجديدة التي طرحت يومها ، وهي قليلة على اي حال ، قد اقيمت في سياق المقارنة بين الاسلام والايديولوجيات المناوئة ، ضمن ذات السياق الدفاعي التبريري المشار اليه . نقول هذا ونقصد الأعم الأغلب وليس الكل الحقيقي ، فقد ظهرت كتابات من النوع التنظيري ، المتحرر من قيود السياق الدفاعي والتبريري ، لكنها قليلة جدا بل نادرة .

نشير هنا الى المحاولات النظرية الفريدة التي قدمها عدد من الفقهاء في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين ، مثل المرحوم النائيني ، والافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ، لكن هذه المحاولات لم تتواصل ولم تتحول الى اساس يبني عليه اللاحقون ، فكانما هي نبتات برية منفصلة عن التسلسل الثقافي العام .

وعليه فان عدم وضوح صورة المشروع الاسلامي ، لا سيما مشروع الدولة ، يعطي مشروعية تامة لتلك التساؤلات ، ويوجب على الاسلاميين تقديم الجواب ، وهنا مربط الفرس ، فالاجابة على ذلك النوع من الاسئلة وغيرها يقتضي وجود نظرية اجتماعية تقام عليها الاجابة ، والقبول بالنقاش يقتضي توفير الفرصة لسماع النقد والاعتراض ، فالذي يبحث عنه السائلون هو نظرية قابلة للتطبيق ، ضمن شروط الزمان والمكان الحاضر ، وليس العرض التقليدي للقصص التاريخية عن عدل الخلفاء الراشدين ، او فتوحات بين امية ، أو الانجازات العلمية للعباسيين ، كما يصعب الافتراض بان السائلين سيتوقفون عند حدود النظرية ، ومن الطبيعي احتمال أن يعرض النقاش للتجربة السياسية ، كما للفكرة التي تشكل اساسا للمشروع .

لم يعد من المنطقي التساؤل عما اذا كان الاسلام كعنوان لحركة سياسية ، او الاسلاميون كتيار اجتماعي ، قادرين على الوصول الى السلطة او ممارسة الحكم ، وإقامة النظام الذي يعرضونه بديلا عن الانظمة القائمة ، بعد ان اصبح هذا المشروع قيد التطبيق الفعلي منذ نهاية السبعينات ، وفي العالم الاسلامي اليوم حكومتان تتبنيان المشروع الاسلامي في صيغته الحديثة ، ايران والسودان .

ومع عدم اغفال ما يبدو من نقاط ضعف في تجربة الحكومتين المذكورتين ، وهي على اي حال نقاط ضعف متوقعة في اي تجربة سياسية ، الا أن قيام التجربة وثباتها لمدة تزيد على عقد ونصف من الزمن ، كما في المثال الايراني ، يدل على ان الحركيين الاسلاميين ليسوا اقل قدرة من منافسيهم على ممارسة القيادة ، كما يعني ضمنا ثبوت امكانية اقامة الحكم الاسلامي ، بعد مرور قرون متمادية على زوال النموذج الاسلامي القديم في الحكم  .

لكن لايزال تصوير الاسلام عند اكثرية الناس بعيدا عن الحقيقة ، فهو اقرب الى الاماني منه الى الموضوعات ، وهو في معظم الحالات يتراوح بين واحد من تصويرين:

ـ التصوير الخرافي الذي يعرضه كما لو كان مشروعا لاحياء ايام هارون الرشيد وليالي الف ليلة وليلة ، اي استدعاء صور من التاريخ وتركيبها على الواقع المعاصر ، بافتراض ان هذا يشكل مشروع انهاض او سياسة .

ـ التصوير الاخلاقي المجرد ، الذي لا يمكن تقدير فاعليته على الصعيد العام العملي ، وخاصة على صعيد الدولة ، ويتضمن هذا التصوير تفريغا للمشروع الاسلامي ، في قالب محدد هو الاخلاقيات الفردية .

 وفي تقديرنا ان قيام تجارب اسلامية في اكثر من بلد ، ونجاح القوى الاسلامية في الوصول الى السلطة او المشاركة فيها ، قد ساعد الى حد ما في ايضاح الجوانب الغائبة من المشروع الاسلامي ، لكن بالنظر الى ان تلك القوى لا تزال حديثة التجربة في الحكم نسبيا ، او انها لا تزال في مرحلة الانتقال ، فان جوانب الصورة لم تكتمل ، لا سيما اذا اضفنا اليها حقيقة ان كثيرا من الاسلاميين يعترضون على جوانب من التطبيقات الموصوفة بالاسلامية ، التي تجري في ايران منذ 1979 والسودان منذ 1989 ، اننا نجد بين الاسلاميين ، من يشكك او ينفي اسلامية احدى التجربتين ، او كلاهما او بعض جوانبهما .  ولا ينبغي اغفال ان معظم الناس من الاسلاميين وغيرهم ، ينظر بشك عميق الى التجربة الافغانية الشديدة الالتباس والمثيرة للدهشة .

وخارج هاتين التجربتين فان الحركات الاسلامية تطرح شعارات عامة ، من نوع (الاسلام هو الحل) وامثالها ، لكن نادرا ما يتحدث احد ، عن ماهية هذا الحل وتفصيلاته وآليات عمله ، واتذكر في هذا السياق حادثة بسيطة لكنها مشحونة بالعبر ، في سيارة تاكسي في العاصمة الايرانية ، شتاء 1982 ، فقد دار جدل بين سائق السيارة وركابها حول تقنين البنزين ، الذي تقرر حينها بسبب الحرب ، ففي سياق هذا الجدل قال احد الركاب ما مضمونه ، ان على الايرانيين ان يحمدوا الله تبارك وتعالى ، لان بلدهم يقيم حكم الاسلام ، وهو سياتي بالبركات ، فاجابه سائق التاكسي بان بنزين السيارة سينفذ عند منتصف النهار ، ولن يكون لديه وسيلة لتحصيل رزقه في اليوم التالي  (انني بحاجة الى البنزين لتشغيل السيارة ، فهل اصب الاسلام في خزانها كي احصل على لقمة العيش) .

 ان شعار (الحل الاسلامي) جذاب ومثير لاهتمام المسلمين ، فهو يستدعي الى اذهانهم تلك الصور الجميلة ، التي سمعنا بها او قرأنا عنها في تراثنا التاريخي ، من العدالة الاجتماعية وتواضع الحاكم والمساواة بين الناس ، وقوة الدولة وعظمة الحضارة ، الى السمو الاخلاقي للفرد وفاعليته الاجتماعية ، ومثل هذه الصور اشد تاثيرا في مسلم اليوم ، بالنظر لما يعيشه من مرارات واحباطات استعصى علاج اسبابها على امهر النطاسين .

 لكن أنى لنا باعادة عجلة التاريخ الى الوراء ، للعيش في عصر اولئك الاماجد ، ان ما لدينا اليوم هو النتاج العلمي الذي خلفوه لنا من التجربة الكبرى ، وما نحتاجه تحديدا هو تحويلها من صورة الاقاصيص والحكايات التاريخية ، الى مشروع للنهضة يتضمن ما يجاوز الموضوعات التعبوية او التحريضية الى التنظيمية ، او على الاقل الاستعانة بها في وضع المشروع .

 اذا كان الاسلاميون جادين في تقديم مشروع ديني للحكم ، فان فضله على غيره يجب ان يتضح في قابليته لانهاض الامة الاسلامية ، او بعض شعوبها على الاقل ، والاقلاع بها من مستنقع التخلف والهامشية ، لان هذا هو مقتضى قوله تعالى (ولو ان اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) .

النقد الموجه الى المشروع الاسلامي ، يستمد بعض مبرراته من كونه غير واضح المعالم ، ولاسيما في تفاصيله واليات عمله ، فنحن بحاجة الى الخروج من مقام التجريد الى مقام التفصيل و التطبيق على الوقائع ، وبيان حقيقة التطابق بين الحلول التي ندعي انها مراد الاسلام وبين المصالح الحقيقية للناس ، واثبات قدرتنا على تقديم بديل للتجارب الفاشلة ، التي عاصرتها امتنا الاسلامية ، منذ ان اصبح الاسلام على هامش الحياة العامة .

الراي العام 9 مارس 1997

02/03/1997

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

عند مطلع القرن العشرين شهدت ايران انتفاضة شعبية ، استهدفت تحديد سلطات الشاه مظفر الدين القاجاري ، وعرفت تاريخيا باسم ثورة الدستور ، وشهد الجدل حول صورة الحكم ، ظهور فكرة الدولة الاسلامية التي طرحت يومها تحت عنوان (الدستورية المشروعة) واراد اصحاب هذه الفكرة وضع السلطة تحت وصاية الفقهاء ، الذين يصنفون في الفقه الشيعي باعتبارهم الحكام الشرعيين ونواب الامام المعصوم، لكن الثورة الدستورية فشلت بعد سنوات قليلة فحسب، ولم يتحقق اي من اهدافها، لا تحديد سلطات الشاه ولا اخضاعه لوصاية الفقهاء.

ومنذئذ اختار المجتمع الديني اعتزال السياسة ، وتعزز هذا الاتجاه اثر الحرب العالمية الاولى ، وسقوط الخلافة العثمانية ، الرمز الوحيد الباقي من رموز الدولة الاسلامية القديمة ، وخلال نصف القرن التالي لم تطرح فكرة الدولة الاسلامية كمطلب تتبناه جماعة سياسية ، حتى لقد تشكك كثـير من الناس ـ حينما طرحت لاول مرة ـ في قدرة الاسلام على تاسيس دولة او قدرة الجماعات التي تصنف باعتبارها اسلامية على ممارسة السلطة ، وقد اشار الاستاذ محمد جلال كشك في سلسلة مقالات نشرها عام 1979 الى جدل دار احيانا بين المرحوم حسن البنا وتلاميذه حول قدرة الاسلاميين على ممارسة الحكم فيما لو اتيحت لهم الفرصة .

لكن الامر لم يبق هكذا ، فمنذ أواخر السبعينات دخل المشروع الاسلامي طور التطبيق في الحياة السياسية مضمونا لأنظمة حكم ، أو لتيارات تسعى علنا الى الحكم ، شأنه في ذلك شأن اي تيار اجتماعي او سياسي ، يسعى لاكتساب القوة المادية وممارسة القيادة ، بغض النظر عن مثالية الأفكار التي يعبر عنها او يتبناها .
ومنذ بواكير الصحوة الجديدة ، جرى عرض المشروع الاسلامي باعتباره بديلا عن الانظمة القائمة ، غير قابل للنقاش او التجزيء ، فلم يوضع على طاولة واحدة مع المشروعات الاخرى المنافسة لكي يختار الشعب ما يشاء ، ذلك ان الاسلام لم يكن ـ في نظر الاسلاميين ـ خيارا للناس ، بل ضرورة  يتوجب عليهم قبولها باعتباره رسالة الله للانسان ، وباعتباره البديل الوحيد الذي يتمتع بالمشروعية عند العرض وعند التطبيق .

ويبدو لي ان اسلوب العرض هذا ، قد تسبب ـ رغم قيامه على مبررات نظرية مقبولة ـ في تعطيل المشروع الاسلامي ، فقد أبقته وحدانيته ونفوره من المنافس ، سجين العناوين العامة ، لقد تحاشى التفاصيل ، من اجل المحافظة على قدر اكبر من الالتفاف الشعبي حوله ، فاذا تجاوز الكليات الى الجزئيات ، تحول الى موضوع اختلاف بل تنازع في بعض الاحيان ، والسر في هذا التحول ، يكمن في حقيقة ان الاسلاميين مختلفون في فهم القواعد والنصوص والاساسات ، التي تشكل المصـادر الفكرية لهذا المشروع .

وبسبب هذا الاختلاف فان الجماعات الاسلامية التي تتبنى مشروعات للتغيير ، تزيد عددا عن معظم الجماعات الاخرى غير الاسلامية ، ولا تخطيء العين ، مظاهر الاختلاف الوسيع ، بل التناقض احيانا ، بين هذا المشروع وذاك ، مع انها جميعا تدعي الصدور عن الاسلام والوفاء لاراداته ، واذا لم يكن هذا الاختلاف مدعاة للقلق ، من حيث انه تعبير عن حيوية في التفكير واتساع لنطاق الاجتهاد ، فان المقلق حقا هو اعتبار كل جماعة ان مشروعها مجسد لحقيقة الاسلام ، تجسيدا وحيدا منفردا ، لا يدع محلا لفصيل آخر كي يقول رايه او يعلن مشروعه ، فهي مشروعات متباينة وليست متكاملة ، مشروعات تحكم على بعضها بالابتداع والمروق من الدين ، ولاتقبل كونها صادرة عن جهد عقلي كما كل مشروع او فكرة ، فكأن كل فريق استعار ـ من حيث لا يدري ـ صفة الخالق العالم  بالحقيقة الكاملة ، وجلس في كرسي المشرع الذي لا يخطيء حين يقول الحكم .

على انه لا ينبغي الاسراف في توجيه الملام ، فثمة جماعات وثمة علماء وثمة سياسيون يطرحون مشروعاتهم باعتبارها اجتهادا ، يحترمونه قدر ما يحترمون غيره ، ويقدمونه باعتباره اصوب الخيارات ، في الوقت الذي لا ينفون بالمطلق احتمال صواب الغير ، واجد ان هذا التيار السليم يتسع تدريجيا ويحتل مكان التيار الاول ، وهو يميل الى اقناع الناس بمشروعه لا الى فرضه عليهم ، باعتبار الدعوة تبشـيرا وانذارا ، لا منهج سيطرة وتحكم في العقول او الرقاب .
وعلى أي حال فانه ينبغي للاسلاميين ، الانطلاق من وجوب الاحسان والحكمة في الدعوة الى الله ، والصبر على الناس ، حتى يأذن الله فتنفتح القلوب وتقبل النفوس  .

فاذا وافق حملة المشروع السياسي الاسلامي على طرح مشروعهم هذا أمام الشعب ، وعرضه للمقارنة مع المشروعات الأخرى ، فينبغي ان لا تضيق صدورهم حينما يتوجه النقد الى المشروع ، اساساته او تفصيلاته ، إن عليهم التحلي بالكثير من الصبر ، لأن النقـد سيكون موجها في حقيقة الأمر الى كل شيء لديهم ، بما فيه فهمهم للاسلام  .

تستمد الدعوة الى فتح الابواب امام النقد اهميتها ، من ارتباطه الوثيق بموضوع الاجتهاد ، حيث يشعر الجميع  بان حاجة المسلمين اليوم ، تدعو الى تجاوز شجاع لظروف الحقب السابقة ، بكل ما فيها من معوقات ثقافية واجتماعية ، جعلت القكر الاسلامي محصورا في اطار ضيق ، دفاعي او تبريري في الغالب ، اننا بحاجة اليوم الى اجتهاد يجـيب على حاجات عصرنا ، ويتناول خصوصا الامور العامة ، ذات التأثير المباشر او غير المباشر على معظم الناس ، في الشان السياسي وفي غيره من الشؤون ، التي لا تتعلق بفرد واحد او عدد معين من الافراد ، بل بعامة المسلمين ، او على الاقل بعامة المسلمين من اهل قطر معين من الاقطار الاسلامية ، لا سيما في المرحلة الحالية ، التي تشهد تناميا في شعور المسلمين بقدرة دينهم وكفاءته ، كمشروع لادارة المجتمع وتنظيمه ، بالمقارنة مع المشروعات الاخرى .

ان الحركة المستقيمة والمتنامية للاجتهاد ، لا تقوم بغير قبول النقد وأدواته ، كواحد من المدخلات الرئيسية للمعرفة الجديدة والتفكـير الجديد ، النقد لما ابدعته عقولنا من تصورات عن  الشريعة ، او لما ورثناه من تصورات الاسلاف .

 لقد تراجعت حرية الرأي في المجتمع الاسلامي مع اغلاق باب الاجتهاد ، ثم انكفائه على  نفسه وافتصار مجال اشتغاله على اعادة انتاج تحليلات علماء الازمنة السالفة ، دون ابداع او تجديد ، حتى انتهى به الامر الى اضفاء رداء القداسة على تلك الاجتهادات والتحليلات وعصمها عن النقد ، ان الاجتهاد الكامل هو الممارسة المثلى لحرية الرأي والنقد ، المنتجة للافكار الجديدة والخلاقة .

ان فتح الأبواب أمام النقد ، يساعد على حل معضلة التوقف امام تراثنا التاريخي ، الذي يمثل اليوم قاعدتنا الثقافية ، فقيام تقاليد متكاملة في نقد الفكر ، يعين على ارساء معايير للتعامل مع هذا التراث الضخم ، ولاسيما في وضع سلم للتناسب بينه وبين الفكر المعاصر ، الناتج عن اجتهادات لعلماء ، او عن ظهور حقائق علمية لم تكن معروفة في الماضي ، ثمة من ينظر الى التراث الاسلامي كما لو كان دينا ، ويعتبر التعرض له بالنقد والمناقشة تجاوزا للمقدسات ، كما لو كان الفكر والتفكير الاسلامي ، نهرا آسنا جف نبعه وتوقف عن الجريان ، مع انقراض اهل القرون المفضلة .

 ان تعاملا علميا وصحيحا مع التراث التاريخي للامة الاسلامية ، سيعين على حل المعضلة ، بعد تاخير انتج اشكالات اساسية ، في العلاقة بين الثقافة والنهضة ، وبينها وبين الهوية ، وبالتالي بين الجمهور المسلم وعصـره وبينه وبين توجهاته المستقبلية .

 وعلى الصعيد الاجتماعي فان التوصل الى ثوابت اطارية في الممارسة النقدية ، يساعد على تكييف صحيح ، للتعامل مع التيارات الاخرى في المجتمع المسلم ، التي تتبنى تفسيرا للاسلام يقدم وجهة نظر تخالف ما نتبناه ، والتي لا تتبنى الاسلام كمشروع نهضوي ، فضلا عن تلك التي وقفت على جانب العداء للمشروع الاسلامي ، او اعتبرت نفسها محايدة في الصراع بين المشروع الاسلامي ومخالفـيه ، ان كثيرا من الاسلاميين ما زالوا غير واثقين من صحة التعامل مع التيارات الاخرى ، الاسلامية المخالفة او غير الاسلامية ، فثمة من يدعو الى حوار من أجل علاقة متينة ، وثمة من يعارض ما يعتبره تشريعا لوجود الفكر المتناقض مع الاسلام ، وعلى كلا الجبهتـين يوجد من ينتـقـد الاخرى ، مقيما رايه على حجج دينية أو غير دينية .

لقد اثار ظهور الاسلام السياسي اسئلة كثيرة ، لا بد من الاجابة عليها ، لان المسلمين ـ لا سيما عامتهم ـ لا يعرفون من الاسلام المعاصر ، غير كونه املا في تطبيـق الاسلام الذي جاء به رسول الله ، فجاء في رحاله العـدل الاجتماعي والأمان والتقدم والقوة ، وهم اذ يهتفون له ويستبشرون بقدومه فانما يرحبون في حقيقة الامر بالمثال الذي في اذهانهم ، والا فان ما هو معروف من المشروع الراهن ، نادر الى درجة يصعب على المثقف ، فضلا عن الانسان العادي ، اعتباره مدعاة للاستبشار .

 لقد جرت العادة على اعتبار النقد الموجه الى الاسلاميين ، كتيار ثقافي او كحركة سياسية ، نقدا للاسلام ، ووُصف الناقدون في معظم الأحيان باعتبارهم علمانيين ، وهو وصف مرادف ـ في عرف المؤمنين ـ للالحاد ، وبغض النظر عن دوافع الناقدين ، فإن من البديهيات عند طرح ايديولوجيا معينة ، كمضمون لمشروع سياسي او اجتماعي ، القبول مبدئيا بوضعها على مائدة المقارنة مع المشروعات الأخرى ، ليختار الناس ما يرونه الأفضل ، سيما اذا اراد اصحاب هذا المشروع ، ايصاله الى مستوى الحاكمية عن طريق التعبئة الشعبية ، وليس على متن الدبابات .

 لكن هذا الظرف ليس هو الوحيد ، الذي يدعو اصحاب المشروع الاسلامي ، لتفهم النقد الموجه اليهم والى طروحاتهم ، إن تحولات العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين ، توجب اعادة تقييم للكثير من الطروحات ، ومضامين الخطاب الاجتماعي للاسلام المعاصر ، الاسلام بوصفه حركة اجتماعية ومشروعا للمستقبل ، النقد اذن هو الطريق الوحيد للانتقال بالاسلام من التاريخ الى الحاضر ، وما لم يتمكن المشروع الاسلامي من تجاوز حاجز المعاصرة ، فان الامل في ان يكون سفينة الانقاذ ، لن يكون غير طريق لاحباط جديد يضاف الى قائمة الاحباطات .

الراي العام 2 مارس 1997

مقالات  ذات علاقة
-------------------


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...