"القدر الأكبر من المساءلة حول حريق مستشفى جازان ، يقع على المسؤول الأول عن قطاع الصحة. ولذا فالمساءلة تقع علي شخصيا قبل أي احد".
هذا تصريح لوزير الصحة السعودي المهندس خالد الفالح ، وأظنه أهم تصريح لوزير عربي خلال سنة 2015. هناك طبعا تصريحات كثيرة مهمة لسياسيين ووزراء حول مختلف قضايا الشأن العام. لكنا نادرا ما سمعنا قياديا في قطاعات الخدمة العامة يخرج الى العلن بعد حدث كارثي كالذي جرى في جازان ويعلن انه يتحمل المسؤولية عن التقصير الذي قاد الى الكارثة.
مثل
هذا السلوك كان قصرا على المجتمعات المتقدمة. سمعنا مثلا رئيس فنزويلا يقول قبل
ثلاثة اشهر انه سيحلق شاربه ، ان لم تنته الحكومة من بناء ربع مليون وحدة سكنية ،
وعدت بها خلال هذا العام. وسمعنا عن وزير بريطاني استقال بعدما كشفت الصحافة انه
قبل ضيافة على حساب احد السماسرة. وعن وزير ياباني انتحر بعدما انكشفت علاقاته
العاطفية خارج اطار الزواج .. الخ.
اما
في العالم العربي فيقضي العرف بان يعلق الوزير مسؤولية الكوارث على مشجب القضاء
والقدر ، او تقصير المقاولين أو كسل الموظفين أو حتى جهل الشعب. هذا اذا لم يكن
مؤدلجا فيحولها على احدى المؤامرات الدولية الكثيرة.
تحمل
الوزير المسؤولية عن أخطاء وزارته تقليد راسخ في المجتمعات المتقدمة. وهو يكافأ
عادة على انجازاتها ، فعليه بالمقابل تحمل المسؤولية عن عيوبها. والغرض من هذا
التقليد هو مقاومة الفساد والتسيب في رأس الهرم الأداري. ان معرفة قادة الجهاز
بانهم سيكونون الملومين على أي تقصير ، هو الذي يجعلهم حريصين على مقاومة الفساد
والتسيب في المستويات الأدنى.
نعرف
أيضا ان المسؤولية المقصودة هنا هي مسؤولية أخلاقية وسياسية وليست جنائية. وهي
تعني قبول الوزير بمبدأ التحقيق المحايد (اي غير الخاضع لتاثيره أو تأثير العاملين
تحت إدارته) في اسباب الخطأ ثم الاستعداد للاستقالة وتحمل اللوم ، اذا تبين انه
كان قادرا على منع الخطأ لكنه تهاون او قصر في أداء الواجب. ومن ذلك مثلا وضع
لائحة عمل خاصة بالسلامة المدنية في المباني والمشروعات التي تديرها وزارته ، ووضع
برنامج للتفتيش الدوري للتأكد من التزام الادارات الفرعية بالمعايير واللوائح ،
وتوفير الأموال اللازمة لضمان تطبيق هذه المعايير.
لقد
اعتدنا على سماع "كليشيه" ان المنصب تكليف لا تشريف ، من معظم الذين
تقلدوا مناصب رفيعة. لكنا وجدناهم لاحقا ، احرص على التمسك بالكرسي ، من حرص الطفل
على حليب أمه. معنى التكليف ان تتخلى عنه اذا تبين فشلك فيه او عجزك عن القيام به.
لو
تقبل كافة القياديين في الاجهزة الرسمية مبدأ المسؤولية السياسية والاخلاقية ،
واعلنوا استعدادهم لترك مناصبهم في حال الاخفاق ، لتحولت الادارة الحكومية الى
مصنع للقادة وخبراء الادارة ، ولأصبحت الخدمات العامة مضرب المثل في الكفاءة
والانجاز.
بالعودة
الى تصريح الوزير الفالح ، فاني ادعو جميع وزرائنا ومديري قطاعات الخدمة العامة في
بلدنا ، الى الاعتبار بما فعله هذا الوزير الشجاع ، وتكرار مبادرته حتى تتحول الى
تقليد ثابت في اجهزة الدولة وقطاع الأعمال. يجب ان يؤمنوا جميعا بان رأس الجهاز
يتحمل كامل المسؤولية ، عن كل عيب في الادارات التابعة له ، مثلما يتقبل المديح
حين يحقق انجازات ونجاحات. هذا طريق مجرب لترسيخ الانضباط وتعزيز قيمة الكفاءة.
الشرق الاوسط 30 ديسمبر 2015
http://aawsat.com/node/531686/