28/02/2004

المطالب الشعبية والنظام العام


||علة وجود الدولة هي تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد انجازها بانفسهم. اذا لم يمكن توفير جميع هذه الحاجات فان تحديد اولوياتها هو جوهر موضوع السياسة||
يبدو ان صيانة التوازن بين النظام العام وتلبية المطالب المتغيرة للجمهور هي اكثر مهمات السياسيين حرجا. فكرة التوازن ليست اختراعا جديدا على اي حال ، فقد شكلت جزءا هاما من الدراسات الغربية حول الدولة والتحديث . وقد اشتهرت في هذا السياق اراء المفكر الامريكي صمويل هنتينجتون (وهو بالمناسبة معروف في الوسط الاكاديمي كعالم سياسة ومنظر للتنمية قبل اشتهاره عندنا بنظرية صراع الحضارات). يدعو هنتينجتون الى تحديث متوازن وتدريجي لاجهزة الدولة والنظام الاجتماعي . وفي رايه ان التحديث السريع وما يوفره من حريات وما يكشف عنه من فرص يطلق تيارا هائلا من التوقعات والامال التي يستحيل تلبيتها في فترة وجيزة . عجز الدولة والنظام الاجتماعي عن تلبية تلك الامال ، يحولها الى مولد للقنوط والقلق بين الاكثرية من الجمهور. ويقود بالتالي الى تصدع المجتمع وتبلور ظواهر العنف والخروج على القانون والفساد الخ .
ومع اني لا اميل الى نظرية التنمية التي دعا اليها هذا المفكر ، الا انها تقدم حلولا جديرة بالتامل ، من بينها مثلا تركيزها على مؤسسات العمل الجمعي. النظام العام عند هنتينجتون وليد لتوازن فعال بين مطالب الجمهور وحاجات الدولة . على المستوى الاجتماعي ، يتحقق هذا التوازن اذا امكن تأطير مطالب الجمهور في قنوات عمل جمعي تعمل على تحويل التطلعات الفردية من افكار غائمة الى مشروعات عمل . كما يتحقق التوازن على مستوى الدولة اذا امكن تقريب المسافة التي تفصلها عن المجتمع ، من خلال التوسع في الحوار وانتقال الافكار بين الطرفين. النظام العام – حسب هذه التصوير – ليس وليد استعراض الجبروت الدولتي بل وليد القناعات المشتركة التي يخلقها التفاعل عند الطرفين.
لا يمكن لاي دولة في العالم ان تلبي "جميع" مطالب الناس ، كما يستحيل عليها ان تعرف جميع تلك المطالب . لكن في الوقت نفسه فان النظام العام لا يمكن ان يستقر دون تلبية حد معقول منها . فلسفة عمل الدولة بل وعلة وجودها هو تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد تحقيقها بانفسهم. وبالتالي فان جوهر المسألة هو تحديد ما يحظى باهمية قصوى وما يمكن تاخيره . عمل الدولة – اي دولة في العالم – لا يتجاوز في حقيقة الامر هذا المعنى. كل حاكم او وزير او مسؤول يتمنى ان يفعل كل شيء ، لكنه في نهاية المطاف مضطر الى ملاحظة الامكانات المتوفرة والزمن المتاح وبالتالي فلا مفر من الرجوع الى جدول اولويات مناسب.
السؤال الان : من يقرر ان مطلبا معينا اولى من غيره ، وما هو المعيار في التقديم والتاخير؟.
في اعتقادي ان رضى عامة الناس يجب ان يكون المعيار الاول لاختيار اولويات عمل الدولة. ويرجع هذا الاختيار الى فكرة النظام العام التي بدأنا بها هذا الموضوع . ثمة دائما اعمال مهمة وضرورية لكنها لا تحظى برضى الجمهور ، واخرى اقل اهمية لكنها توفر الرضى. اذا قبلنا بفكرة ان التفاعل بين الدولة والمجتمع هو القاعدة التي يقوم عليها النظام العام والاستقرار ، فيجب ان نأخذ بهذا المبدأ حتى لو بدا لبعض النخبة ناقصا او معيبا.

يستتبع هذا - بالضرورة – توفير الفرصة لافراد الجمهور كي يحولوا اراءهم وتطلعاتهم الى مطالب عقلانية ، منظمة وقابلة للطرح العلمي والمناقشة الموضوعية ، اي – بصورة مختصرة – تحويلها من راي خاص الى راي عام . الوسيلة التي توصل اليها العالم المعاصر للقيام بهذه المهمة هي ما يعرف بالمجتمع المدني . مؤسسات المجتمع المدني ، من صحافة وجمعيات نفع عام وجمعيات حرفية وتخصصية ، هي الوسيلة التي مهمتها بلورة الاراء وعقلنتها وتحويلها من ثم الى مشروعات عمل . تحديد المطالب والاولويات هو – اذن - عمل المجتمع ، وهو التجسيد الابرز لفكرة التفاعل بين الدولة والمجتمع كقاعدة للاستقرار والنظام العام.

21/02/2004

اعادة بناء الاجماع الوطني


يعرف علم السياسة الاجماع الوطني بانه منظومة القيم والمفاهيم والتفاهمات والتقاليد المجتمعية التي تشكل قاعدة للتوافق بين اطراف المجتمع على طريقة معينة لتنظيم امورهم العامة ، والامور العامة هي تلك القضايا التي لا تخص فريقا بعينه ولا جهة بعينها ، بل يشترك فيها – غنما وغرما – مجموع المواطنين. 

فالاجماع الوطني بهذا المفهوم هو القاعدة المفهومية التي يقوم عليها المجتمع الوطني في صورته الموسعة . ما ندعوه بالمجتمع السعودي ، ليس في حقيقة الامر سوى تلك القاعدة وما يقوم عليها من مؤسسات وانماط عمل وعلاقات. ومن نافل القول ان الاجماع هو مصدر شرعية النظام العام والاستقرار في معناه الاجتماعي والسياسي.

مع انهيار الاجماع القديم بسبب المؤثرات الاقتصادية والثقافية والاندماج في السوق العالمي ، فان اعادة تكوين اجماع وطني جديد تتوقف على الاخذ بعين الاعتبار ما نتج عن تلك التاثيرات . وذلك لا يعني بالضرورة ان نحبها او نبغضها ، بل ان نتعامل معها كحقائق موضوعية اصبحت – شئنا ام ابينا – جزءا من الهيكل العام للحياة في بلادنا.
في عالم اليوم فان "المواطنة" هي المفهوم المحوري للاجماع الوطني ، بمعنى ان كل مفهوم او قيمة او تقليد او تفاهم بين اطراف المجتمع لا بد ان ينطلق من اقرار مسبق وغير مشروط بان المجتمع الوطني هو تأليف موسع من مجموع المواطنين الذين يحملون الجنسية ويقيمون ضمن الحدود الاقليمية للبلد. 
مفهوم المواطنة ليس عميق الجذور في ثقافتنا لكنه اصبح جزء لا ينفك منها مع قيام الدولة الحديثة ، الدولة التي تعرف من جانب اهلها والعالم على اساس السيادة ضمن اقليم جغرافي معين ، او ما يسمى بالتراب الوطني. ان اقرب مصطلح عربي تاريخي لمفهوم المواطنة هو مصطلح "الرعية" ، وهو مصطلح يمكن بالرجوع الى معناه اللغوي الاقتراب من مفهوم المواطنة ، لكنه تطور خلال التاريخ ليصب في مفهوم معارض تماما لفكرة المواطنة الحديثة ، ولهذا فانه يستعمل اليوم كمقابل لمفهوم المواطنة لا كمرادف او نظير.

 المواطنة في الدولة الحديثة هي تلخيص لمنظومة من الحقوق يتمتع بها الافراد مقابل ولائهم للنظام السياسي، وقد تطور هذا المفهوم خلال الثورتين الفرنسية والامريكية كبديل عن مفهوم "التابع = subordinate" او "الخاضع=subject" اذا اردنا الترجمة الحرفية. قبل القرن العشرين كان العضو في المجتمع السياسي "التابع او الخاضع في المفهوم الغربي"  يتمتع بحق وحيد فقط هو حق الحماية من العدوان ، ويؤدي في المقابل الواجبات التي تقررها الدولة . وفي كلا الحالين ، فلم يكن له اي دخالة في تقرير طبيعة تلك الحقوق والواجبات ولا كيفية ادائها.

ادى تطور علم السياسة والحياة السياسية معا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الى اعادة صياغة الاساس النظري للعلاقة بين الفرد والمجتمع ، ترتب عليه اعادة صياغة للعلاقة بين اعضاء المجتمع السياسي حيث ظهرت ثلاثة مفاهيم جديدة : المفهوم الاول هو ان المجتمع السياسي يتكون من اعضاء متساوين تقوم العلاقة بينهم على اساس الشراكة . الثاني : ان المجتمع السياسي هو اطار له اقليم جغرافي خاص وحدود تفصله عن المجتمعات الاخرى. الثالث : ان الحكومة في هذا المجتمع تمثل كل اعضاء المجتمع ، فهي وكيل ينوب عنهم في القيام بالامور العامة.

هذه المفاهيم الثلاثة اسست لكيان لم يكن معهودا في التاريخ القديم ، هو "الوطن" او الدولة الوطنية . وبالتالي فان اعضاء المجتمع السياسي اصبحوا مواطنين . بناء على المفهوم الاول والثاني ، فان العلاقة بين المواطنين تقوم على الشراكة المتساوية في التراب الوطني ، وبناء على المفهوم الثالث فان الحكومة هي مؤسسة تستهدف في المقام الاول خدمة اغراض المجتمع وليس قهره او التسلط عليه.

تطبيقا لهذا المفهوم ، فان تحول المنظورات والاعتقادات الخاصة ، ثقافية كانت او قيمية او سياسية ، الى التزامات عامة وقانونية يتوقف على الاختيار الحر والرضا الصريح من جانب بقية المواطنين . ولا يجوز لاي طرف اجتماعي فرض منظوراته على البقية ، مهما كانت في نظره صحيحة او مفيدة . علاقة الشراكة تعنى ان قبول الشركاء – وليس صحة الموضوع المطروح - هو الشرط الاول لكي يتحول الراي الى التزام قانوني عام .

بناء الاجماع الوطني الجديد يبدأ إذن من اعادة صياغة فكرة المواطنة على اساس الشراكة المتساوية في التراب الوطني ، الشراكة التي تعني المساواة في الفرص والمساواة في المسؤولية .
 Okaz ( Saturday 21 Feb 2004 ) - ISSUE NO 979

14/02/2004

انهيار الاجماع القديم


يمكن تلخيص مضمون التغيير التي طرا على المجتمع تحت عنوان "ظهور الفرد" . لو تاملنا في المنظومة الثقافية التي سادت مجتمعنا في الماضي ، لوجدنا انها تدور في المجمل حول تكريس مكانة الجماعة وسلطتها ، وتلغي تماما دور الفرد ، وفي المقابل فان الثقافة التي جاءتنا مع الانفتاح على العالم تنظر للامر من الزاوية المعاكسة تماما ، الفرد فيها هو الاساس ، وهو عندها مستقل ومسيطر على مصيره وحر في اختيار انتمائه ومصالحه واسلوب عيشه وعلاقاته.
 شكا الاستاذ عبد العزيز الخضر مما يصفه باختلاط الرؤية تجاه مسألة التجديد ، وهو يرجع جانبا من المشكلة الى الانفصام بين الثقافة والواقع ، والى تزاحم الفقهي والفلسفي في الخطاب الديني . هذه القضية – رغم قلة المنشغلين بها بين الناس – هي لب المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا ، بل والمجتمعات العربية  عامة . ومنذ ستينات القرن الماضي كانت موضوعا للكثير من النظريات و الابحاث التي اهتمت بقضية النمو في العالم الثالث. يمكن اختصار المسألة كلها في ثلاث كلمات : التغيير، الاجماع ، والاستقرار.
الفرضية الاساسية هي ان النشاط الاقتصادي وانتشار التعليم والاعلام والانفتاح على العالم يؤدي الى تغييرات عميقة في النظام الاجتماعي، في القيم الناظمة لسلوك الافراد وفي هيكل العلاقات الاجتماعية وفي المفاهيم المعيارية التي تتحكم في رؤية الفرد لنفسه ومحيطه. ومن بين ابرز ما يتغير هو تصور الفرد لمنظومة السلطة ، سواء سلطة العائلة او سلطة الدين او سلطة الدولة او سلطة المدرسة ، او غيرها من السلطات التي ينظر اليها عادة باعتبارها ذات حق في فرض ارادتها على الجميع.
يؤدي التغيير الى  نوع من توحيد الافكار بين الداخل والخارج ، ونجد ابسط تمثلات هذا الامر في انتشار اللغات الاجنبية - الانكليزية مثلا - في البلاد ، وتماثل اساليب المعيشة والاستهلاك ، والرغبة في السفر والاهتمام بقضايا العالم البعيد .. الخ . هذا التوحيد – وهو ابسط اشكال العولمة – يؤدي في احد وجوهه الى انحسار منظومات القيم ومعايير السلوك المحلية لصالح تلك التي سادت في العالم واصبحت معيارية على المستوى الكوني.

فلنأخذ مثلا فكرة الحرية ، حرية التعبير وحرية السلوك الاجتماعي وحرية الانتماء ..الخ . مفهوم الحرية لم يكن على  الاطلاق جزءا من ثقافتنا القديمة ، ولعل كثيرا من الاباء شعر بالقلق حين تكاثر الكلام حولها ، وقفزت الى اذهانهم مظاهر العجز عن ضبط الاجيال الجديدة التي تريد العيش بحرية غير معتادة . ومثل ذلك يقال عن فكرة المشاركة وتقرير المصير الخ .

بعد اربعين عاما من الانفتاح الواسع على العالم ، فان الفرد المذكور لم يعد واحدا او عشرة او مئة الف خريج جامعي ، بل جيلا باكمله يسيطر اليوم على مفاتيح الحياة على  امتداد المجتمع . سيادة الجيل الجديد ، تعني بالضرورة ان المنظومة الثقافية التي كانت سائدة في المجتمع لم تعد كذلك اليوم . لكن المشكلة ان هذا التغيير لم يجر على وفق نظام محدد ومخطط سلفا ، لاننا في الاساس لم نعتبره قضية كبرى . والعادة في العالم العربي انهم يخططون لخمس سنوات او عشرا ، لكنهم لا يفكرون في صورة البلاد بعد ثلاثين عاما ولا يدرسون انعكاسات التغيير المقصود وما يتبعه من هزات ارتدادية على المدى الطويل ، ولهذا فان ما نحن بصدده اليوم يبدو للكثير من الناس مفاجأة غير سارة .
اذا اردنا وضع التغيير المذكور تحت عنوان اوسع ، فان افضل وصف له هو "انتهاء الاجماع القديم" . الاجماع الوطني هو الاساس في التوافق بين اطراف المجتمع وهو الوسيلة الوحيدة لضمان الاستقرار . على المستوى السياسي ، فان اعادة تكوين الاجماع الوطني هو المهمة الاكثر الحاحا ، ذلك ان الاجماع هو القاعدة التي تقوم عليها مشروعية النظام . اعادة تكوين الاجماع لا تتحقق بالدعوة الى الوحدة والحث على ترك الاختلاف كما يفعل بعض الدعاة والكتاب ، بل بالنظر في الهموم التي ينشغل بها الجيل الجديد من المواطنين والتطلعات التي يسعون الى تحقيقها .
 في ظرف مجتمعنا الحاضر ، فان اعادة انتاج الاجماع القديم في اي صورة ، لن يولد اجماعا جديدا ، بل مزيدا من الانقطاع بين الشرائح الاجتماعية . ويبدو لي ان الخطوة الاولى لتكوين اجماع جديد ، هي الاعتراف بالمجتمع كما هو ، اي بما يتمثل فيه من تيارات ومصالح وتوجهات ، سواء رضينا عنها او أساءتنا . هذه الخطوة ستمهد لاجماع لا يتناقض مع التعدد والتنوع ، اجماع يتيح الفرصة للجميع كي يشعروا بمعنى المواطنة الحقة والشراكة المتساوية في تراب الوطن.


Okaz ( Saturday 14 Feb 2004 ) - ISSUE NO 972

07/02/2004

جدل الدين والدولة في ايران


  

اذ نظرنا الى الجدل الدائر بين المحافظين والاصلاحيين في ايران من خارج اطاره ، فهو مجرد صراع سياسي يرتبط بالسمات الخاصة للمجتمع والنظام السياسي في هذا البلد . لكن اذا نظرنا الى المكونات الاولية لهذا الجدل ، ولا سيما المقدمات التي اوصلت اليه ، فهو نموذج قابل للمقارنة بنظائر له في مختلف البلدان الاسلامية. من هذا المنظور ، فهو صراع بين القوة السائدة ، او ما يعرف في الادبيات السياسية بالمؤسسة ، وبين تيار يسعى للتغيير، وحينئذ فان كلا من الطرفين هو عنوان لقوة اجتماعية تتبنى منظومة خاصة من المفاهيم والاهداف ، تتعارض جوهريا مع الاخرى.

يتبنى المحافظون فكرة الدولة الدينية المثالية ، ويجادلون بان تطبيق الشريعة في مداه الاقصى يتطلب تدخلا واسعا  من جانب الدولة في حياة الناس . وهذا يترجم عمليا في سيطرة الدولة على وسائل الاعلام ، ومراقبة المطبوعات غير الحكومية ، وفرض معايير خاصة للسلوك الاجتماعي. على المستوى الاقتصادي يسعى المحافظون الى اقتصاد حر تتحكم فيه اليات السوق. ولمعالجة التناقض الظاهر بين فكرة تدخل الدولة سياسيا واجتماعيا وانكماشها على المستوى الاقتصادي ، اقترح محمد جواد لاريجاني ، وهو احد منظري التيار المحافظ ، احتذاء النموذج الصيني. لقد نجحت الصين ، التي اتبعت نظاما يجمع بين التخطيط المركزي وتحرير الاستثمار ، في تحقيق معدلات نمو اقتصادي كبيرة ومنتظمة طوال اكثر من عقد من الزمن ، بلغت احيانا سبعة في المائة ولم تنخفض ابدا عن اربعة في المائة ، في مقابل معدل نمو يدور حول الواحد في المائة في معظم الاقطار الغربية. والاشارة بالطبع هنا الى ان النمو المنتظم في الصين لم يتلازم مع تنمية سياسية موازية ، فلا زالت الصين دولة غير ديمقراطية ولا زالت حقوق الانسان فيها دون الحد الادنى المتعارف في العالم .

يتبنى الاصلاحيون في المقابل نموذج الديمقراطية الليبرالية باعتباره الصورة الامثل لدولة حديثة. وطبقا لآية الله شبستري وهو احد المنظرين الاصلاحيين البارزين ، فان هذا النموذج هو الوحيد الذي يسمح بتحقيق ابرز اهداف الشريعة الاسلامية ، اي كرامة الانسان وانبعاث العقل. وهو يرى ان تحرير ارادة الانسان هو السبيل الوحيد لاقامة مجتمع رشيد ، وتحرير العقل هو السبيل للنهوض العلمي الضروري لاستثمار الامكانات المادية والطبيعية التي لا تستغل فعلا على افضل الوجوه.

 ويريد الاصلاحيون تخصيص الاعلام الحكومي والغاء الرقابة على المطبوعات بشكل كامل. كما يدعون الى دولة صغيرة يقتصر تدخلها في المجتمع على الحد الادنى . وفي رأيهم ان التدين والسلوك الاجتماعي بشكل عام ، ليست من مهمات الدولة ولا اشغالها ، بل ان التدخل في مثل هذه الامور يتناقض نظريا وسياسيا مع فكرة التكامل بين السلطة السياسية والمجتمع التي هي الاساس في نظرية الدولة الحديثة.

على المستوى الاقتصادي لا يختلف الاصلاحيون كثيرا عن منافسيهم المحافظين لكن الربط بين الحريات العامة ، سيادة القانون ، الانفتاح على العالم ، وحرية الاستثمار هو نقطة القوة التي تميز الخطاب الاصلاحي. وخلال السنوات الاربع الماضية حقق الاقتصاد الايراني معدل نمو منتظم ، زاد في العام المنصرم عن سبعة في المائة كما وفر نصف مليون وظيفة جديدة.

وكما هو واضح ، فان خلاف الطرفين يدور حول حدود تدخل الدولة ، ولا سيما علاقة الدين بالدولة . وفي هذا المجال بالخصوص ، فان جوهر الجدل يدور حول ما اذا كان للدولة الحق في اجبار المواطنين على الالتزام بطريقة معينة في التدين ام ترك الامر لهم . بكلمة اخرى ، فان المحافظين يدعون الى استخدام سلطة الدولة وامكاناتها في فرض خطاب ديني محدد ، بينما يرى الاصلاحيون ان المجتمع اقدر من الدولة على ادارة اموره الدينية والاخلاقية . الدولة – بكلمة اخرى – مسؤولة عن دنيا الناس ، اما دين الناس فالناس اولى به وهم المسؤولون عنه.

على المستوى النظري يبدو الامر بسيطا ، لكن على المستوى العملي، فان هذا الاختلاف يتناول حدود الدولة ومدى قانونية تدخلها في حياة الناس وسلوكهم ، وبالتالي حقها في استعمال القوة لفرض نموذج سلوكي معين ، وبهذا المعنى فان الخلاف يتناول فلسفة الدولة والاساس الذي تقوم عليه . المحافظون مع دولة فوق المجتمع وسيدة له ، بينما يدعو الاصلاحيون لدولة تستمد شرعيتها من المجتمع ، فهي خاضعة لارادته تابعة لتوجهاته.


Okaz ( Saturday 7 Feb 2004 ) - ISSUE NO 965

31/01/2004

الوجوه المتعددة للشفافية

في تمثيل لا يخلو من مبالغة ، وصف حسن العلوي الكاتب العراقي حكومة صدام حسين بدولة "المنظمة السرية". وهذا وصف قابل للتمديد الى معظم دول العالم ، ففي كل دولة ثمة درجة من التكتم المقصود او العفوي ، على المستوى السياسي او الاقتصادي او سواه.


نظريا فان السيطرة متلازمة عضويا مع التكتم ، فالذين على راس العمل يهمهم ان يحافظوا على مكانتهم على المدى الطويل من خلال استبعاد المنافسين. التكتم على الامكانات والتكتم على القرارات هي احدى الوسائل الفعالة في تحديد اطار المنافسة وبالتالي التحكم في شروطها وعدد الاطراف الداخلة فيها.

في غمرة التطور الاقتصادي الذي ساد اوربا عقب الحرب العالمية الثانية ، اكتشفت الاجيال الجديدة من السياسيين ورجال الاعمال ان تقاليد التكتم تعيق بشكل جدي النمو الاقتصادي والتطور السياسي في الوقت نفسه. ان جهل غالبية الناس بالامكانات الفعلية التي تحتويها السوق ثبط الكثير من الناس عن الاستثمار ، كما ان صعوبة التنبؤ بالسياسات المستقبلية للحكومات دفع كبار المتمولين الى تركيز استثماراتهم في القطاعات السريعة المردود او المضمونة (تملك العقارات مثلا) بدلا من تلك القطاعات التي تلعب دور المحرك لنشاطات اخرى (الصناعة مثلا). من هذا المنطلق فقد تحول موضوع العلنية او الشفافية الى واحد من ابرز القضايا التي يدور حولها الجدل في ادبيات التنمية منذ اوائل الستينات. الفكرة البسيطة وراء الموضوع برمته هي ان كل الناس يجب ان يحصلوا على فرص متساوية للارتقاء ، وهذا يتطلب ان تكون المعلومات متوفرة للجميع بحيث تكون كفاءة المتنافسين هي المعيار الاساسي للتقدم.  وثمة دراسات تؤكد ان توفر المعلومات حفز انواعا جديدة من النشاطات الاقتصادية في السنوات الاخيرة، وهو ما يعتبر ابرز فضائل انتشار الانترنت.

على المستوى السياسي ايضا فان الشفافية وتوفر المعلومات هي عامل رئيسي في تحقيق مفهوم الحرية. وتقوم هذه الفكرة على دعوى عميقة الجذور فحواها ان المجتمعات التي ابتليت بالعبودية انما بقيت اسيرة لتلك الحالة بسبب جهلها وانعدام الخيارات المتاحة امامها . حينما تجبر مجتمعا على سلوك طريق واحد دون سواه فانك في حقيقة الامر تستعبده . الجبر قد يتحقق من خلال الارغام المادي وقد يتحقق من خلال حرمان الغير من الخيارات البديلة.
على المستوى الاداري ، ترتبط فكرة الشفافية بالمسؤولية . نحن نطلق على كل صاحب قرار في المؤسسات التجارية والحكومية لقب "المسؤول" . ويثير هذا الاطلاق - الذي نادرا ما نتوقف عنده - تساؤلات مثل : مسؤول امام من؟ ومسؤول عن ماذا ؟ وما هي حدود هذه المسؤولية ؟.

الفهم السائد – العفوي غالبا – يقرن فكرة المسؤولية بالسلطة ، فحينما نصف شخصا بانه مسؤول ، فاننا نقصد تحديدا انه صاحب سلطة ، وهذا ينطوي – ضمنيا – على دعوى ان احدا لا يستطيع مناقشته او الرد عليه او نقده . بكلمة اخرى فثمة تناقض كامل بين العنوان ومضمونه الداخلي بحيث يمكن ان تصف المسؤول بانه غير مسؤول دون ان يتغير المضمون الذي يشير اليه العنوان الخارجي.

ثمة تاكيد في الادبيات السياسية على ان اي صاحب منصب في الدولة الحديثة هو مسؤول ، فكرة المسؤولية هنا تشير الى ان صاحب المنصب يؤدي وظيفة وليس مالكا للمنصب ، وانه يؤدي وظيفته اعتمادا على قانون مكتوب يحدد اهداف العمل وطريقة ادائه وحدود الصلاحيات المتاحة له. وهو ايضا خاضع للمساءلة والمحاسبة ، من خلال مقارنة ادائه مع المعايير المحددة في القانون ، اي انه "مسؤول" عن عمله.

يمكن تحقيق فكرة كون الموظف مسؤولا اذا تحددت الجهة التي تسأله وتحاسبه . في المؤسسات التجارية فان هذه الجهة هي المالكين او حملة الاسهم ، اما في الحكومات فان هذه الجهة هي المجتمع ككل.  هذا يفترض بطبيعة الحال ان يكون كل من القانون الذي يرجع اليه في المساءلة ، والتقارير المتعلقة بالاداء علنية ومعروفة في المجتمع. في بلد مثل تركيا ، يقول رئيس الوزراء ، كان هناك على الدوام فرص لمعالجة المشكلات التي بدا للجميع انها مستعصية ، لكن العقبة كانت عجز اولئك الذي يطرحون الحلول عن الوصول الى عقول الناس. وقد ادت الشفافية التي سادت البلاد منذ اوائل التسعينات الى تمكين هؤلاء من عرض البدائل التي يقترحونها على المجتمع والدولة معا ، وهكذا اصبح بالامكان الحديث عن حلول بعدما كان الجميع غارقا في المشكلة.

Okaz ( Saturday 31 Jan 2004 ) - ISSUE NO 958
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/1/31/Art_70875.XML

24/01/2004

أم عمرو وحمار أم عمرو


حين تقع العين على كلمة مثل "البيروقراطية" في صحيفة فان ذاكرة القاريء تستحضر صفات اصبح تلازمها مع البيروقراطية شبه بديهي ، منها مثلا البطء والجمود والتحكم واحيانا البلاهة. وقبل بضعة اسابيع كتب د. حمود البدر مقالة ظريفة اخبرنا فيها عن قصة حمار ابتلي به بيروقراطي صغير فكلف الخزينة العامة اموالا كما استهلك الكثير من الوقت والورق ، لا لشيء الا لان القانون لم يلحظ احتمالا مثل القبض على حمار، اما البيروقراطي الصغير فكان عاجزا عن فعل شيء دون تعليمات ، كما ان رئيسه البيروقراطي الكبير لم يشأ تخويل مرؤوسه صلاحية اتخاذ القرار المناسب في امر الحمار، وانتهى الامر على طريقة العربي القديم :
 لقد ذهب الحمار بام عمرو
فلا رجعت ولا رجع الحمار
  لكن على رغم ما قيل في البيروقراطية من هجاء ، فان لها وجها مشرقا وان قل مادحوه . بل لقد اعتبرها ماكس فيبر وهو من اباء علم الاجتماع المعاصر سمة اساسية من سمات الدولة الحديثة . نحن نعرف الكثير عن بيروقراطية الحمار ، لكننا لا نلتفت غالبا الى ان الحمار ليس مشكلة البيروقراطية بذاتها بل مشكلة البيئة القانونية او الادارية التي يعمل فيها البيروقراطيون . ولهذا فانك قد تجد نظائر لمشكلة الحمار في بعض الشركات الخاصة والصحف وحتى في بعض العائلات.
 لو اصلحنا البيئة القانونية والادارية للادارة الحكومية فسوف تكون البيروقراطية محركا للتحديث والتطوير ، وسوف توفر على القادة السياسيين الكثير من العبء النفسي والمادي الذي يتحملونه من وراء خطايا البيروقراطيين.
 تتناول الاصلاحات المعنية هنا ثلاثة عناصر متفاعلة: القانون ، الصلاحيات ، والرقابة.
 ثمة جدلية يبدو انها سائدة في معظم الدوائر الحكومية ، تتعلق بالوزن النسبي لكل من نصوص القانون المكتوب وتعليمات الرئيس ، فالبديهي ان واجب الموظف الحكومي هو تطبيق القانون بالحد الاقصى من الالتزام بنصوصه.  لكن ما يحصل عادة هو ان تعليمات الرئيس تتمتع بفوقية مفتعلة بحيث تحل محل القانون . ويزيد الامر سوءا حاجة الموظف لارضاء رئيسه مما يحول العلاقة بينهما الى نوع من الاستزلام . كما ان شعور الرئيس بالقدرة على فرض سلطته تشجعه على المضي قدما في تحويل ادارته الى ما يشبه مجلس العائلة حيث تسوى الامور بالتراضي وليس بموجب القانون ، وتتخذ القرارات بناء على معايير شخصية لا موضوعية .
لمعالجة هذه الحالة فاننا نحتاج الى :
1- تطوير الصيغ القانونية العامة التي يفترض ان تحكم عمل الادارات الحكومية الى لوائح عمل تفصيلية ، تشرح طبيعة الاهداف التي انشئت الادارة لتحقيقها وصلاحيات الموظفين في مختلف المراتب والحقوق/الواجبات المتبادلة لكل من الموظفين والمراجعين ، والمعايير المعتمدة لقياس اداء الموظف فيما يتعلق بتحقيق الاهداف.
2- توزيع الصلاحيات : التقليد الجاري في الادارة الحكومية يفترض ان يعجز صغار الموظفين عن اتخاذ قرار فيرسلون المعاملة الى رئيسهم الذي يلعب هنا دور "ماكينة التوقيع". ثمة قضايا لا تحتاج اصلا الى مراجعة اي دائرة حكومية ، لكن رغبة الاداريين في تأكيد سلطتهم (وربما رغبتهم في قتل الوقت) هي التي تجعلهم يفرضون على الناس مراجعات وكتابة عرائض والتوسل بهذا وذاك لانجاز اعمال ليست من شأن الادارة الحكومية اصلا. وعلى نفس المنوال ، فان كثيرا من المعاملات التي تقدم للدوائر الحكومية يمكن ان تنجز في دقائق بواسطة موظف صغير ، لكنها تنقل الى الاعلى بسبب رغبة الكبير في تأكيد وجوده ، وخوف الصغير من تحمل المسؤولية ، ولهذا فقد تجد على طاولة وكيل وزارة طلبا لاستقدام عامل او اذنا في صرف الف ريال او منح اجازة اسبوع لموظف او شراء قطعة غيار رخيصة لسيارة .. الخ . نحن بحاجة اذن الى توزيع الصلاحيات بصورة مناسبة وطمأنة الموظف الصغير الى حقه في البت في المعاملات التي تاتيه دون خوف من تحمل المسؤولية المترتبة عليها .
3- الرقابة:  تتطور البيروقراطية بفعل الضغط الاجتماعي وليس بسبب الرقابة الداخلية . الضغط الاجتماعي يتحقق من خلال الصحافة ومؤسسات المجتمع المدتي ومبادرات الافراد ، ويتضمن نقد الممارسات الخاطئة ، واقتراح البدائل. وتظهر تجربة السنوات الاخيرة ان الصحافة كانت فعالة في تحسين اداء الادارة الحكومية. ولكي نحقق المدى الاعلى من فوائد الرقابة الاجتماعية ، فينبغي المطالبة بشفافية العمل الاداري ، بما في ذلك جعل القوانين والتعليمات جميعها علنية. كما ان الصحافة مطالبة بالتحول من دور الراوية الى دور المحقق ، وحينئذ ستكون صوت المجتمع واداة ضغطه. الصحافة المنشغلة بالمدائح لا تساهم في الاصلاح ، الصحافة التي ترسل رجالها للتحقيق في القضايا واستنطاق الاوراق والبشر والكشف عن الخبايا هي التي تستحق وصف "السلطة الرابعة".




13/01/2004

الاصلاح من فوق والاصلاح من تحت



؛؛ اذا عجزنا عن الاصلاح السياسي الشامل ، فاننا نستطيع البدء بتقنين اغراضه الاساسية مثل اقرار المساواة في شكل قانوني ومؤسسي ؛؛

يمكن البدء بالاصلاح السياسي من تحت كما يمكن ان يبدأ من فوق . سوف تجد بين منظري التنمية السياسية من يجادل دون البدء في تطوير المؤسسات الاجتماعية والادارية باعتبارها اداة النمو وتجد اخرين يشترطون البدء باصلاح القانون الذي يمثل مرجعا لعمل هذه المؤسسات قبل كل شيء . ولعل جانبا من الجدل حول الاصلاح في بلدنا يعبر عن اختلاف في انتخاب اي من المسارين. لكن في كل الاحوال ، فان العزم على الاصلاح ينبغي ان يترجم في اجراءات عملية.

ثمة اهداف للاصلاح المنشود لا يختلف عليها اثنان ، ولناخذ مثلا مفهوم المساواة الذي اقره النظام الاساسي للحكم ويتفق على الدعوة اليه جميع دعاة الاصلاح والمسؤولين الرسميين في الوقت نفسه. من الناحية النظرية المجردة ، فان المساواة بين الناس هي قيمة ثابتة ومركزية في الشريعة الاسلامية ، وهي العنصر الاساس في منظومة حقوق الانسان التي ينادي بها عقلاء العالم . لكن هذا المفهوم النظري لا يمكن ان يحقق غايته الا اذا تحول الى اجراءات قانونية وتنظيم مؤسسي له وجود ملموس وفاعل في الحياة اليومية لعامة الناس.

بين القبول بالفكرة وممارستها ثمة مسافة لا يمكن قطعها الا بمركب ملائم ، وهذا المركب هو منظومة العمل القادرة على التعاطي مع المشكلة التي يعالجها ذلك المفهوم النظري. اهمية هذا المركب تظهر ايضا باستذكار ما اظنه ميلا عاما لدينا الى الاحتماء بالمجردات للهروب من مواجهة الوقائع. اذا اتهمنا احدهم بالتمييز ضد النساء او الاقليات مثلا ، فسوف نسارع الى القول بان الاسلام ساوى بين الناس منذ اربعة عشر قرنا ، وان الاسلام كرم المرأة ..الخ ، ونحسب ان هذا القول يجيب على ذلك النقد فنرتاح . بديهي ان لا علاقة لجوابنا بالنقد من قريب ولا بعيد ، فالناقد لا يتكلم عن الاسلام او تعاليمه ، بل عن ممارساتنا الاجتماعية او السياسية. وهذا يبين ان الايمان بالمفهوم المجرد لا يعالج مشكلة. نحن اذن بحاجة الى منظومات العمل التي تكفل تحويل المفهوم الى ممارسة مادية.    

لا يخلو بلد في العالم كله من بعض اشكال التمييز ، ولهذا فلا ينبغي ان نشعر بالحرج اذا ما تحدثنا عن ظواهر تمييز في بلادنا ، كما ان ظرف الانتقال الى الحداثة الاجتماعية والاقتصادية ، يولد بدوره ظواهر كثيرة للتمييز بين الناس يتخذ صورا شتى بعضها جميل المظهر . وفي مثل هذه الحالة فمن الواجب ان يكون لدينا وسائل لحماية اولئك المتضررين ، وهم في العادة ضعفاء القوم . في المملكة المتحدة مثلا اقامت الحكومة (هيئة المساواة العرقية) وهي هيئة رسمية لكنها تتمتع باستقلال قانوني ، على رأسها شخصية بارزة من الاقليات التي تتعرض للتمييز ، وبين اعضائها هناك من يمثل النساء والسود والاسيويين والمسلمين .  قامت هذه الهيئة باستصدار قوانين تجرم التمييز في الوظائف ، وهي تستقبل الشكاوى من الافراد والجماعات التي تدعي تعرضها للتمييز ، وتسعى لحلها من خلال القضاء والاعلام والمؤسسات السياسية، كما وضعت برنامجا لزيادة حصة الاقليات في جهاز القضاء والشرطة والاعلام والبرلمان والوزارة.
يوضح هذا المثال كيفية تحويل المفاهيم النظرية للاصلاح الى اجراءات عملية ، تساعد صاحب القرار من جهة وتوفرللمواطن الوسيلة التي يحقق من خلالها حاجاته من الجهة الاخرى.

خلال مناقشات جرت في العام المنصرم ، اقترح بعض السادة تشكيل لجنة وطنية من هذا النوع يمكن ان تكون استشارية او توجيهية ، وقال بعضهم ان لجنة حقوق الانسان التي وافق المقام السامي على تشكيلها سوف تقوم بهذا الدور ، لكني اجد المسألة اكبر من لجنة حقوق الانسان المقترحة ، ولعل من المفيد تشكيل هيئة مستقلة. ثمة من ينفي وجود اي نوع من التمييز في بلادنا ، وربما تكون دعواه صحيحة ، وهناك من يشكو من تعرضه للتمييز ولا يمكننا ايضا رد دعواه ، ان هيئة متخصصة ستكون اقدر على تمييز خيط النور. 
بالامكان اذن المبادرة في الاصلاح الهيكلي  حتى تنضج امكانات الاصلاح القانوني ، "الاصلاح من تحت" يوفر نفس الفوائد المبتغاة من "الاصلاح من فوق" . ما نحتاجه في المقام الاول هو النظر في تحويل المفاهيم التي نتفق عليها مجردة الى منظومات عمل يلمسها كل مواطن.

عكاظ 13 يناير 2004

29/11/2003

حتي لا يأخذ الناس القانون بايديهم


؛؛ اذا اخذ افراد الجمهور القانون بايديهم فسوف ينتهي السلم الاهلي ونعود الى قانون البحر: السمك الكبير ياكل السمك الصغير؛؛

كل قرار تتخذه جهة حكومية يفيد شريحة من الجمهور ويضر اخرى ، والفرضية الثابتة ان تكون الشريحة المستفيدة هي الاغلبية العظمى . ويندر – بل ربما يستحيل – ان لا يكون ثمة متضرر من اي قرار . كما يفترض ان يلحظ صاحب القرار الوسائل التي تعوض الاقلية المتضررة او تخفف الاضرار التي لحقت بها.  ترى ما هو الاساس في تحديد الفائدة المفترضة وحجم الشريحة المستفيدة؟.

اهمية هذه السؤال تنبع من الحاجة الى اقناع الجمهور بان القرارات التي تتخذها الدوائر الحكومية تستهدف – فعليا – ضمان مصالحه . ثمة قرارات تراها النخبة الرسمية ضرورية ، لكن الجمهور ينظر اليها بارتياب ، او ربما يرى فيها اضرارا بمصالحه . وربما تفيد شريحة واسعة وتضر اخرى . في كلا الحالتين ، فان تكرار هذه الممارسة ، دون الاخذ بعين الاعتبار وسائل التعويض عن اضرار القرار ، قد تؤدي الى تبلور فكرة " ما حك جلدك مثل ظفرك " . هذه الفكرة العميقة الجذور في الثقافة الشعبية ، هي الاساس لما يوصف اليوم باخذ القانون باليد . وهي تتبلور اذا شعرت شريحة من الجمهور بان صاحب القرار لا يسمع صوتها ، او ليس مهتما بمصالحها ، او عاجز عن حمايتها . عندئذ يتنادى البعض الى فرض قانونهم الخاص ، اي اخذ ما يعتبرونه حقا بيمينهم ولا يلقون بالا الى القانون العام او هيبة الدولة .

كل مواطن ، سواء كان في السلطة او خارجها ، معني بتوفير الوسائل التي تضمن النظام العام ، وفي ظني ان ابرز تلك الوسائل هي رضى الجمهور.

في مثل بلادنا فان ما يفيد الجمهور وما يضره يتقرر في اجتماعات تضم عددا محدودا ممن يوصفون بالنخبة ، وهم اما موظفون تنفيذيون او مستشارون. في كل هذه الحالات فان صوت الاغلبية العظمى من الشعب ، اي الشريحة المستهدفة بالقرار ، غائب تماما . وهذا يثير امامنا السؤال الذي طالما أرق علماء السياسة : هل تستطيع النخبة الاحساس بحاجات الجمهور العام كي تقرر ما يصلح له وما لا يصلح ؟ . بديهي ان بعض قومنا سيجيب بسؤال آخر : وهل يستطيع عامة الناس تقرير ما يفيدهم وما يضرهم ؟ . او – بكلمة اخرى – : هل بلغوا سن الرشد ؟.

- منذ زمن طويل افترض الفلاسفة اليونانيون (ارسطو وافلاطون مثلا) ان العيب الاكبر للديمقراطية هو مساواتها راي رجل الشارع براي العالم حين يتعلق الامر باتخاذ قرار او وضع قانون. وتأسيا بدعوة افلاطون الى حكومة النخبة ، فقد مال معظم قراء التراث من قومنا الى هذا المنحى ، ذلك ان افضل ما في الفكر السياسي الذي ورثناه ، لا يعدو ان يكون اعادة انتاج لما ترجم عن الفلسفة اليونانية.

 بين تلك الازمان وهذا الزمن ، حدث تغيير في غاية الاهمية ، ربما لم يلحظه كثير من قراء التراث ، الا وهو تحول قاعدة الحق او ما يسمى اليوم بمصدر السلطة . قاعدة الحق هي جواب على سؤال فحواه : باي مسوغ يجوز لزيد من الناس ان يأمر وينهى ويتصرف في حياة الغير واموالهم ، اي يمارس السلطة ؟ . وفي الماضي كان الجواب على هذا السؤال يقول ان الكفاءة هي التي تعطي هذا الحق . وبالتالي فان النخبة ، لا سيما تلك التي جرى استيعابها في اطارات الدولة المختلفة ، هي الموصوفة بالكفاءة ، والتي تملك – بالتالي – الحق في تقرير واجبات الناس وحقوقهم . في العصور الحديثة تغيرت هذه القاعدة كليا ، فتحولت من مصدر للحق الى شرط لممارسته . اما مصدر الحق فاصبح رضى الجمهور. بكلمة اخرى ، فان حق زيد في ممارسة السلطة قائم على رضى الجمهور بزيد وقبولهم بممارسته لهذا الحق ، اما الكفاءة فـتأتي كشرط فرعي او متأخر.
- سيقول سائل : ان هذا التحول ليس تطورا الى الافضل ، بل ربما هو اقرب الى التراجع ..

وقد اجيب عليه بان التحول المذكور نتج عن تطور سابق ، الا وهو تحول مفهوم الشعب من وصف "الرعية" الذي اشتهر في الازمان القديمة الى وصف "المواطن" الذي اصبح من اركان علم السياسة المعاصر. مفهوم الرعية يوحي بالتبعية المطلقة ، وهي تنطبق تماما على جمهور غافل القى ازمة امره الى سيد ذكي ينوب عنه في التفكير والتخطيط وتحديد ما هو صحيح وما هو باطل .

في الازمان الحديثة ، فان كل فرد من الشعب هو مواطن ، يتساوى مع غيره من المواطنين على قاعدة المشاركة في التراب ، اي المنطقة الجغرافية المحددة باعتبارها دولة قومية. بناء على المساواة المذكورة ، فانه لم يعد لشخص محدد الحق في ان يقرر بمفرده انه متفوق على الغير . لا بد ان يوافق الاخرون على هذا التصور فيمنحونه الحق في امرهم ونهيهم . هذا المفهوم هو ما يسمى اليوم بالشرعية السياسية . ان شرعية القرار تنبع من قبول عامة المواطنين بالاساس الذي يقوم عليه.

 لا بد ان تكون المصالح المنظورة في اي قرار مقبولة من جانب اغلبية الشعب ، ولا بد من تعويض الاقلية عما سيترتب عليها من اضرار من جراء تطبيق القرار . وهذا هو السبيل الوحيد – ضمن الظروف الحالية – لتلافي ميل الجمهور ، او بعض فئاته ، الى اخذ القانون بيدها بدلا من الخضوع للقانون العام الذي يفترض ان يتساوى تحته الوزير والغفير. ان الشرعية السياسية مثل الكائن الحي ، تقوى وتضعف وتتأثر بعوامل البيئة المختلفة ، ولا بد اذن من الاهتمام بصيانتها ، لانها الاساس في تثبيت استقرار البلاد ونظامها العام.

عكاظ 29 -11- 2003

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...