حظيت هذا الاسبوع بالمشاركة في نقاشات ناضجة وحيوية ، احتواها "مؤتمر الوحدة الاسلامية" في ابو ظبي. وهي تشكل - في رايي - إشارة قوية على اجتيازنا مرحلة اسميتها يوما بمرحلة "التكاذب". مرحلة التكاذب ببساطة ، هي ظرف يجد فيه جميع الناس انفسهم مضطرين للحديث بلغة معينة ، بطريقة معينة ، حتى لو كانوا غير مؤمنين بها. مرحلة اتسمت فيها الحياة الاجتماعية بالتكلف والازدواجية.
في تلك الاوقات كان كل شيء ينسب الفضل فيه الى الدين ، فما ذكر ابتكار او نظرية جديدة ، الا وألحقت به عبارة في معنى "قالها الاسلام قبلهم" ، مع ان اهل المعرفة فينا يعلمون ان هذا كله غير صحيح. لكن بات من لوازم المقبولية في المجتمع ، ان تلبس الثوب الذي يتوهم بعضنا انه ثوب الدين ، وتتحدث باللغة التي تشابه ما نراه في كتب التراث وعند المتحدثين من قرائه. حتى اني قابلت يوما صديقا يراجع دائرة رسمية ، فوجدت ذقنه قد امتدت الى ما شاء الله ، فضحكت في وجهه ، لأني أعرف أنه ملحد ، فقال لي ضاحكا: "عدة الشغل" ، ومضى في طريقه.
اما الاحاديث التي اعتبرتها إشارة لاجتيازنا مرحلة التكاذب تلك ، فأبرز مثال عليها هو العودة لتسمية الاشياء بأسمائها الحقيقية ، وبيان الفجوات والفرص ، دونما مجاملة للذات او لمراكز القوى ، التي اعتادت إلزام الناس بالتملق لها وتكرار اقوالها.
في هذا السياق تحدث عدد ملحوظ من العلماء والوزراء ، بطريقة وجدتها مختلفة جدا عما اعتدناه في سابق الأيام. لا يتسع المجال لمعظم ما اود شرحه. لكني سأكتفي بجزء من حديث العلامة عبد الله بن بيه ، الفقيه المعروف ، الذي أثار انتباهي بتركيزه على نقاط اعتاد الناس تحاشيها فيما مضى. اذكر منها مثلا محاججته بان الهوية الدينية مشروطة بالدولة الوطنية ، وأن الوحدة الاسلامية امتداد للوحدة الانسانية ، على خلاف الفكرة الرائجة سابقا ، والتي فحواها ان المسلمين امة دون غيرهم وانهم اعلى ممن سواهم.
يجادل بن بيه بان الوحدة الاسلامية غير ممكنة (وغير مفيدة) خارج اطار الوحدة الانسانية او على الضد منها. فكلا الوصفين ينطلق من قيمة واحدة ، من أراد هذه سيصل الى تلك والعكس صحيح. اما دعاة الوحدة الاسلامية المنفصلة ، فسينتهون الى تشريع الانفصال المؤدي - في نهاية المطاف - الى تفكيك مجتمع المسلمين نفسه. الذين دعوا في العقود الخمسة الاخيرة ، الى وحدة اسلامية منفصلة عن بقية خلق الله ، تحولوا في النهاية الى جماعات صغيرة ترتاب في الجميع حتى ضمن مجتمعها الصغير.
تحدث العلامة بن بيه أيضا عن "المشترك الانساني" كوسيط رئيسي لنشر السلام والايمان. وخلاصة الفكرة انه ثمة قضايا تشكل محورا لعمل مشترك بين كافة بني آدم ، قضايا تسهم في انجاز اغراض الرسالات السماوية ، وابرزها تحقيق كرامة الانسان ونشر الرحمة والتراحم وتعزيز الايمان بالله فيما بينهم. اذا كان الفقر كفرا اكبر ، كما في الأثر ، فان العمل لتحرير البشر من ربقة الفقر ، طريق موثوق للايمان بالله المنعم الرحيم.
في كل زمن يركز الدين الحنيف على قيم تحتاجها البشرية أكثر من غيرها. قد نركز زمنا ما على الفقر ، ونركز زمنا آخر على اللاعنف ، وفي زمن ثالث نهتم بالبيئة الكونية.. وهكذا. هذه قضايا تمثل – في وقتها - حاجات ماسة للانسان ، وهي موارد ينبغي للمؤمنين بالله ان يولوها الاهتمام اللائق ، فضلا عن كونها نقطة التقاء وتعاون بين كافة البشر ، وبين المجتمعات والحكومات ، لان حلها مشروط بتكاتف الجميع.
الشرق الأوسط الأربعاء - 10 شوال 1443 هـ - 11 مايو 2022 مـ رقم العدد [15870]
https://aawsat.com/node/3638896/