05/03/2008

حول الفصل بين الدين والعلم



؛؛ شرط الموضوعية هو تحرر البحث العلمي من القيود. وصف الواقع ونقده يجب ان يبنى على قواعد علمية موضوعية بحتة متجردة عن كل قيد ديني او غيره؛؛

زميلنا المهذب د.عبد العزيز قاسم رأى في دعوة هذا الكاتب للفصل بين الدين والعلم تكرارا لدعاوى علمانية اكل الدهر عليها وشرب وتركها اهلها فضلا عن غيرهم (عكاظ 28 فبراير 2008). وهو يخلص في مناقشته المختصرة لتلك الدعوة الى ان "كل الطروحات التي نادت بفصل الدين باءت بالفشل الذريع، لأن ثمة حقيقة تتمثل في أن محاولة استنساخ التجربة الغربية كاملة في بيئتنا العربية هو استنساخ شائه وبليد لا يصمد أمام بيئة أشربت ثقافتها الدين".

تركيا الجديدة: شرق وغرب

 هذا الاستنتاج الذي صيغ في لغة خطابية يحتمل معاني عديدة، فهو قد يكون تقريرا لحقيقة كما ادعى في السياق. وقد يكون وصفا لواقع قائم، بغض النظر عن سلامة هذا الواقع او خطله. وقد يكون تكثيفا لموقف مسبق هو رد فعل على مواقف مضادة، فهو اقرب الى السجال منه الى المناقشة العلمية.

اتفق تماما مع د. قاسم في ان بيئتنا العربية قد فشلت تماما في استنساخ التجربة الحضارية الغربية. واضيف اليه ان الفشل في استنساخ تجربة الغرب اقترن بفشل مماثل في استنباط مسار حضاري بديل ينبعث من ثقافتها الخاصة. لهذا فإن أمة الاسلام ضائعة بين فشلين: فشل في الابداع وفشل في الاتباع.

ويحتاج الامر الى مناقشة في سلامة الدعوى على المستوى النظري، وعرض التجارب التي تمثل تقريرا عن واقع مرتبط بالدعوى النظرية. فالصواب والخطأ انما يعرفان بالناتج الفعلي القابل للاختبار والمقارنة، وليس بالتأملات الذهنية المجردة.

يفخر المسلمون بتجربة ماليزيا التي جربت المزاوجة بين المحافظة على الهوية واستنساخ تجربة الغرب، وحاولت استنباط مسار وطني يجمع بين الاثنين. اتبع الماليزيون النموذج الغربي في الاقتصاد والتعليم والسياسة، وحاولوا في الوقت نفسه تطوير مكونات هويتهم التاريخية كي تستوعب مستجدات العصر، من منظومات القيم الاجتماعية الداخلية الى العلاقة مع اتباع الملل الاخرى، وابدعوا نظاما يتسع للكثير مما يتطلع اليه عقلاء الناس، وان لم يخل من عيوب.

يفخر بعض المسلمين ايضا بتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، الذي طور خطابا سياسيا يستلهم القيم الدينية ولا يتنكر لقيم الحداثة. ونجح هذا الخطاب في الاقتصاد والسياسة، كما وفر فرصة لمصالحة تاريخية بين هوية تركيا المسلمة وواقعها العلماني. معظم البرامج التي تبناها الحزب هي إعادة انتاج لاستراتيجيات عمل طورت في الاطار الحضاري الغربي. لا نريد الاستطراد في هذا، لكن نضيف على سبيل الاشارة ان انجح الدعاة المسلمين المعاصرين هم اولئك الذين تبنوا او استثمروا نتاج الحضارة الغربية من مفاهيم او مناهج علمية او عملية او منتجات مادية. نجاح هؤلاء واولئك دليل على سلامة المزاوجة المطلوبة بين المحلي والاجنبي.

يقودنا هذا الى جوهر المزاوجة التي ندعو لها. تحدث د. قاسم عن "استنساخ" يعتبره فاشلا، ولا نجادله في رأيه. اما الذي يدعو اليه هذا الكاتب فليس الاستنساخ، بل اعادة الانتاج من خلال العلاقة النقدية. كمثال على ذلك فان نسخ مقال او كتاب هو نقله كله والاقتصار على تغيير الاسم او العنوان او الشكل الخارجي، وهذا ما يفعله الضعفاء والفارغون. اما اعادة الانتاج فهي عملية نقدية، تتضمن قراءة ناقدة للاصل، ومقارنة بالاشباه والنظائر، وبحثا عن نقاط القوة والضعف، وتقديم علاجات بديلة والاستدلال عليها، ثم تجربتها على ارض الواقع وعرضها للنقد والمراجعة. هذه هي طريقة الباحثين الجادين، وهي قد تثمر ابداعا جديدا مختلفا عن الاصل، او تعديلا على الاصل، وربما تكرارا وتعضيدا. لكن في كل الاحوال فان التطور يبدأ من هذه النقطة. اذا اردنا استنباط مسار حضاري جديد فلا بد من البدء بما احرزه الانسان من تطور في العلوم والمفاهيم والفلسفة والمنهج وادوات العمل. ولو اغفلناه لاي مبرر فسوف يكون سعينا عبثا لا خير فيه. الامم تتكامل والحضارات تتكامل وتجربة الانسان تتكامل، فهي جميعا حلقات متواصلة، يبدأ اللاحقون من حيث وصل سابقوهم. لهذا السبب فإن التفاعل مع الغرب واعادة انتاج معرفته ليس خيارا بل هو ضرورة، الا اذا شئنا ان نبقى قرنا آخر اسرى بين فشلين كما اشرت سابقا.

اما دعوى الفصل بين الدين والعلم التي اغضبت الزميل العزيز فخلاصتها ان الكاتب يرى ان العمل الفكري والبحث العلمي يجب ان يتحرر ويتجرد من كل قيد، وان وصف الواقع ونقده يجب ان يبنى على قواعد علمية موضوعية بحتة متجردة عن كل قيد، فاذا وصلنا الى نتائج، فنحن احرار في توجيهها صوب الوجهة التي تقتضيها الظروف، وهذا فحوى القول المشهور "ما كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال حان وقته او حضر صاحبه". الاصل اذن هو البحث العلمي المتجرد. ولنا عودة الى الموضوع في وقت لاحق.


عكاظ - الأربعاء 27/02/1429هـ ) 05/ مارس/2008  العدد : 2453
https://www.okaz.com.sa/article/168130

مقالات  ذات علاقة
-------------------


27/02/2008

الشيخ القرني في باريس


|| الايمان بفردانية الفرد وحريته وتساويه مع غيره في القيمة والعقل ، هو الذي مكن عقل الانسان الغربي من التفكير الحر والتخيل والتأمل وتحدي المجهولات ، فحوله الى مبدع ||

 

قبيل منتصف القرن العشرين ، قيل للامام يحيى حميد الدين امام اليمن السابق ، ان فلانا وفلانا من ضباط جيشه يميلون للشيوعية ويدعون اليها، فطلب ارسالهم الى موسكو في دورات تدريبية. وفرح الضباط الشباب بهذه النعمة غير المتوقعة. وضحك الامام في سره لما عرف انه سيأتي في قادم الايام.

وانتهت القصة بسفر الشباب مدفوعين بالامال العريضة والفرح، ثم عودتهم محملين بخيبة الامل مما رأوه على ارض الواقع.

قصة الشيخ عايض القرني في باريس تحمل نفس الروح، وان جاءت على عكس ما حصل لضباط الامام يحيى.

الشيخ عايض القرني

في احاديثه السابقة تحدث الشيخ عن حياة تشبه حياة البهائم يعيشها انسان الغرب، مقارنة بالحياة الفاضلة التي يعيشها قومنا في ديار الاسلام.

وفي مقالته الاخيرة عن رحلته الى باريس تحدث بعكس ذلك تماما: حياة فاضلة يعيشها انسان الغرب مقابل حياة تشبه حياة البهائم يعيشها العرب. والحق ان كلام الشيخ اليوم مثل كلامه بالامس، ثمرة انفعال باللحظة، بعيدا كل البعد عما ينبغي لصاحب الفكر من التأمل في الاشياء والسعي للكشف عما وراء قشرتها الخارجية.

ويظهر ذلك جليا في استنتاجه بان "المجتمع عندنا يحتاج إلى تطبيق صارم وصادق للشريعة لنخرج من القسوة والجفاء الذي ظهر على وجوهنا وتعاملنا". ولو اعاد قراءة مقاله قبل نشره، فلربما اعاد النظر في هذا الاستنتاج.

فالذين امتدح اخلاقهم في باريس لم يصبحوا بالجمال الذي وصفه بعد تطبيقهم للشريعة، بل لأن "الحضارة ترقق الطباع" كما قال اولاً.

والحضارة التي رآها هناك ليست الشوارع الواسعة ولا البنايات الضخمة ولا السيارات الفخمة، ولا الفترينات الانيقة، فعندنا من هذه خير وزيادة. اول الحضارة هي تنوع الافكار والثقافات وحرية النقد والفصل الحازم بين المعرفة والسلطة الاجتماعية.

وثانيها هو المبالغة في قيمة الانسان الفرد، واعتباره كفؤا مستقلا متمايزا بعقله.. وثالثها هو الحماية القانونية للحريم الشخصي للفرد، اي المجال الذي يتمتع فيه بحرياته الخاصة التي هي جوهر وجوده كانسان، مثل حرية التفكير والتعبير، وحرية التملك والتنقل والعمل. هذا الحريم هو المجال الذي يسمح للفرد بتحقيق ذاته والاستمتاع بوجوده ككائن أعلى من بقية ما في الكون. وهو حريم ينبغي حمايته ضد اي تدخل او خرق لأي مبرر ديني أو أخلاقي أو سياسي أو سواه.

الايمان بفردانية الفرد وحريته وتساويه مع غيره في القيمة والعقل، هو الذي مكن عقل الانسان الغربي من التفكير الحر والتخيل والتأمل وتحدي المجهولات، فحوله الى مبدع. كما ان الضمان القانوني لحريمه الشخصي وحريته المطلقة ضمن هذا الحريم، هو الذي مكن انسان الغرب من تحقيق ذاته والاعتزاز بكفاءته، واغناه عن الاعتزاز بالقبيلة والجماعة والجنسية والبطولات المتوهمة، فاصبح من بعدها انسانا مكتملا بقطع النظر عن أصله.

الفرد الذي يؤمن بكماله الذاتي وكونه كفؤاً، يعرف ان هذه الاوصاف ثابتة له اذا اثبتها لغيره، فتساويه مع الغير مشروط بتساوي اولئك معه، وحقوقه الفردية جميعا مشروطة بتمتع جميع الناس غيره بنفس الشريحة من الحقوق.

 لا يجادل أحد حول فائدة تطبيق الشريعة، لكننا جميعا نجادل في تفاصيل التطبيق وكيفيته وشروطه والقائمين عليه، والحق ان بلادنا وكثيرا من بلاد المسلمين لم تتخل عن تطبيق الشريعة في اي وقت، لكنها مع ذلك لم تصل الى ما وصل اليه اهل باريس وغير باريس ممن رآهم الشيخ القرني وممن لم يرهم.

تبدأ الحضارة بالانسان، وتتواصل مع الفكر، وتتعمق مع العلم، فتصل أخيرا الى الانسان اللين المتسامح الحريص على اداء الواجب، الذي يشعر بقيمته وقيمة الاخرين المساوية له، قيمته كانسان وقيمتهم كاعضاء في المجتمع الانساني، قبل ان يكونوا مسلمين او عربا او حملة جنسية محددة او ابناء قبيلة او مذهب محدد.

فيما مضى ذهب الشيخ القرني الى امريكا وبريطانيا داعيا، متحدثا من فوق، ناظرا الى من دونه كمساكين يفتقرون لما يملكه، وذهب اليوم الى باريس محتاجا فنظر اليهم كأناس يملكون ما يفتقر اليه، فوجد فيهم ما لم يجده في زياراته السابقة.

تمنيت لو ان الشيخ وربما بقية المشايخ ذهبوا الى بلاد العالم سياحا لا دعاة، والتقوا بأهل تلك البلاد لا بمن هم على شاكلتهم، عندها سيرون في العالم غير ما عرفوه وسيكشفون حقائق ما خطرت على بالهم، ولعلهم من ثم يجدون ان ما يقوله معارضوهم هنا ليس ثمرة انبهار بحضارة الغالب، ولا هو توهم او خيال، ولا هو تنفيس عن عقد نقص، بل هو معرفة جديدة توصل اليها هؤلاء وتأخر عنها أولئك .

  صحيفة عكاظ 27 فبراير 2008  https://www.okaz.com.sa/article/166529

مقالات ذات علاقة


06/02/2008

المجتمع السري


يقول باحثون إن الاقتصاد السري في مصر يعادل تقريبا ثلث الناتج القومي الإجمالي. والاقتصاد السري هو وصف للنشاطات التجارية التي لا تخضع للتنظيم الرسمي، وهي واسعة في مصر بسبب ضيق الإطارات القانونية والمؤسسية، لا سيما التعقيدات البيروقراطية وتعسف إدارات الضرائب، والقوانين المعيقة. حالة الاقتصاد السري في مصر هي نموذج لظاهرة عامة في العالم العربي تتلخص في التباين بين القدرة الاستيعابية للإطارات النظامية من جهة وبين مستوى الحركية والنشاط الاجتماعي من جهة أخرى.
سوق شعبي في القاهرة
يمكن تشبيه العلاقة بين الحركية الاجتماعية والتنظيم القانوني بالعلاقة بين ماء النهر ومجراه، إذا كان مجرى النهر واسعا ومرنا فسوف يستوعب كل ما يصب فيه من مياه وسوف يقوده إلى الجهات الصحيحة والمفيدة، واذا كان المجرى ضيقا، فإن الماء الزائد سوف يفيض على جوانب المجرى أو يشق طرقا جديدة بعيدة عن مجرى النهر، أو يتحول إلى فيضان. قد تكون المجاري الجديدة مفيدة للأراضي العطشى وقد تكون مضرة، مثلما هو الفيضان الذي قد يفيد وقد يدمر ما يجد أمامه. في كل الأحوال فإن عجز الإطارات القانونية والمؤسسية عن استيعاب الحراك الاجتماعي سوف يؤدي بالضرورة إلى قيام مسارات ومؤسسات ونشاطات اجتماعية غير خاضعة للتنظيم الرسمي وغير قابلة للإدارة، يصفها الباحثون الاجتماعيون بالمجتمع السري مثلما يصفون التجارة غير المنظمة بالاقتصاد السري.
المجتمع السري ليس بالضرورة مجهولا او مكتوما، فالناس جميعا أو شريحة منهم على الأقل تعرف بوجوده وتمارسه وتستريح إليه، بل وتعتبره سياقا حياتيا اعتياديا مثلما النشاط المؤطر قانونيا هو نشاط حياتي اعتيادي. الفارق بين الاثنين يكمن تحديدا في وجود إطار رسمي ينظمه، لا أكثر ولا أقل. سواء عرف البيروقراطيون بوجود المجتمع السري أو غفلوا عنه، وسواء استعظموه او استهانوا به، فإن فعله وتأثيره في نفوس الناس وفي حياتهم، لا يقل عن فعل المؤسسة الرسمية وتاثيرها. وعلى أقل التقادير فإنه يؤثر في جوانب من حياة الناس لا تصل إليها يد المؤسسة الرسمية.
وفي العادة فإن الدوائر الرسمية في جميع الدول تسعى للتعرف إلى تلك النشاطات. يحركها في هذا السعي القلق الأمني، أو الرغبة في التنظيم والإدارة. لهذا يمكن القول إن الدوائر الرسمية تعرف غالبية النشاطات الأهلية غير المنظمة، معرفة كاملة او جزئية. ومن المفترض ـ نظريا على الأقل ـ أن تقود المعرفة بها الى المرحلة التالية، أي تنظيم تلك النشاطات وتأطيرها. وهنا تكمن المشكلة التي تعانيها معظم الدول العربية، أعني التباطؤ والتلكؤ في توفير المتطلبات اللازمة لتأطير النشاط الأهلي، بل وفي بعض الأحيان تنميطها جميعا كمشكلات أو تهديدات، بدل النظر إليها كفرص وعلامات صحة في المجتمع.
لعل منتديات الانترنت هي أكثر أشكال المجتمع السري شيوعا في الوقت الراهن، ويكشف العدد الكبير من هذه المنتديات عن شريحة ضخمة من الاهتمامات والهموم والنقاشات الدائرة في المجتمع. والحقيقة أنها قد أصبحت موردا رئيسيا للأفكار والمعلومات لمعظم المهتمين بالرأي العام والمشتغلين بالشأن العام. منتديات الانترنت هي شكل واحد فقط من أشكال المجتمع السري، وربما أكثرها إثارة للاهتمام. لكن الى جانبها ثمة أشكال عديدة أخرى للنشاط الأهلي، بعضها أكثر نضجا ولعله أعمق تأثيرا. هذه الأشكال وتلك هي نماذج أولية لتيارات جديدة في المجتمع، أو هي تعبيرات عن تيارات قائمة فعالة في المجال العام.
سواء أعجبتنا هذه التعبيرات أم أزعجتنا، فهي تمثِّل في مجموعها حقيقة المجتمع في لحظته الراهنة. حقيقة المجتمع كنطاق واسع ومتنوع، وهو يزداد تنوعا واتساعا مع مطلع كل شمس. إذا تخلى المجتمع عن ركوده وبدأ في الحركة، فإن الحركة بذاتها تفرز أنواعا من النشاط معظمه جديد وغير مألوف. المجتمعات الحية هي التي تسارع إلى الإقرار بحقيقة ذاتها وما تنطوي عليه من تنوع وتغير ، فتبادر إلى توسيع إطاراتها وتنظيماتها القانونية والمؤسسية كي تستوعب الوافدين الجدد إلى الحياة العامة. بينما ترفض المجتمعات الخاملة أو اليائسة الاعتراف بالجديد والتعارف معه حتى لو امتلأت الساحة بوجوده وفعله.
 عكاظ 6 فبراير 2008  العدد : 2425
https://www.okaz.com.sa/ampArticle/161781

مقالات ذات علاقة

23/01/2008

البيروقراطية والإدارة


 في العالم اليوم موجة جديدة عنوانها "تطبيق معايير الإدارة الصالحة". تستهدف هذه الفكرة وضع نظام محدد لاختبار وتقييم كفاءة الادارة العامة واهليتها لتحقيق اغراضها. انها بعبارة اخرى محاولة للاجابة على سؤال: كيف تحقق الادارة هدفها المحوري -اي خدمة المجتمع- على اكمل وجه؟.
في ما مضى من الزمن كان يقال انه لا يمكن وضع مقاييس مالية لتقييم كفاءة البيروقراطية الرسمية، لأنها لا تستهدف الربح بل الخدمة العامة. والخدمة العامة بطبيعتها انفاق من دون عائد فوري او ملموس. بخلاف الادارة التجارية التي تستهدف مباشرة زيادة الارباح من خلال زيادة الانتاج وتخفيض الكلف، والتي لهذا السبب يمكن قياس كفاءتها بالرجوع الى حجم الارباح وحجم الخسائر. لكن اقطاب الموجة الجديدة، وابرزهم -ربما- البنك الدولي، يرون جانبا آخر للمسألة. الادارة، ايا كانت طبيعتها، عمل انساني قابل للقياس والتقييم بالرجوع الى اهداف معينة ومسار عمل معين.
في بداية القرن الماضي شدد ماكس فيبر على اهمية البيروقراطية ودورها في عقلنة السياسة وتحديث الحياة العامة. واشار خصوصا الى العنصر الجوهري في البيروقراطية، اي اعتمادها على القوانين والتعليمات المكتوبة، الامر الذي يسهل المتابعة والمحاسبة ويخفف من الطابع الشخصي في العمل العام. نحن اليوم في عالمنا العربي نضيق من بطء البيروقراطيين وترددهم، لكن هذا افضل على اي حال من ادارة مفككة يعمل كل رئيس فيها بحسب مشتهياته واهوائه، وربما مصالحه وتوجهاته الشخصية.
لكننا مع ذلك بحاجة الى وضع نظام يحول دون تحول الادارة من صورتها المثالية كوسيلة لخدمة الجمهور، الى مؤسسة خاصة للافراد النافذين او ذوي المصالح. او ربما تحولها من وسيلة لتسهيل وتطوير الخدمة العامة الى عائق يسد ابواب الخير على الناس باسم القانون او باسم المصلحة العامة. ولهذا السبب بالتحديد ظهرت الموجة الجديدة التي تسعى لنزع الصورة السلبية التي ارتسمت في اذهان الناس عن البيروقراطية وقدرتها الفائقة على التعطيل والاعاقة. في فبراير 2005 استضاف الاردن مؤتمرا شاركت فيه 16 دولة عربية، لمناقشة العلاقة بين الادارة والتنمية. وكشفت مناقشات المؤتمر عن خسائر بمئات الملايين يتكبدها العالم العربي بسبب سوء الادارة. وضرب المشاركون امثلة كثيرة على تلك الخسائر، ومن بينها تعطيل استثمارات محلية واجنبية كانت ستوفر فرص عمل جديدة، وبينها ايضا مشروعات حكومية كانت سترفع الدخل القومي وتحسن مستوى المعيشة، وصولا الى ابطاء او اعاقة تحديث قطاعات الخدمة الحكومية.
حاولت مؤسسات عديدة وضع معايير للإدارة الصالحة، من بينها البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبرنامج الامم المتحدة الانمائي، واخيرا منتدى التنمية في مؤتمره الخامس والعشرين الذي انعقد في البحرين مطلع 2004. بالنسبة لهذه المؤسسات جميعا فان الاهداف الكبرى للادارة الحكومية هي: الارتقاء بمستوى معيشة المواطنين، حماية حقوقهم المدنية والمعالجة العقلانية للمشكلات التي تظهر في البيئة الاجتماعية. وبناء على هذه الاهداف فإن كل عمل مضاد او معطل لواحد منها يعتبر فسادا.
تختلف المعايير التي وضعتها كل من المؤسسات المذكورة عن بعضها في جوانب محددة، لكنها تتفق على مبادئ اساسية، من بينها: الشفافية، اي جعل عمل الادارة علنيا وقابلا للكشف لعامة المواطنين، واخضاع كل الاعمال للمساءلة والمحاسبة بغض النظر عن شخص المدير او رتبته، ووجود هيئات محايدة يرجع اليها المواطنون عند التنازع مع المؤسسات الحكومية. وأظن أن أبرز مشكلات الادارة في البلاد العربية هو افتقارها للحياد. ومن المؤسف ان هذا الجانب لم يتعرض للنقاش والدراسة بشكل مركز وموضوعي. الادارة العامة غرضها الخدمة العامة، ويجب ان يتم هذا من دون التفات الى أي جانب. بعبارة أخرى فإنه ينبغي التأكيد على ضرورة أن تكون محايدة، لأن حيادها واجب وضرورة وإلا دخلت في نفق الفساد، مهما حاولت اتقاءه.
  عكاظ 23 يناير 2008  

02/01/2008

الدور الممكن للمثقفين في تعميم العلم



يمكن لمثقفي البلاد ان يلعبوا دورا فعالا في انعاش الحركة الفكرية وتعميقها. يستبطن هذا القول ادعاء بان هذه الحركة ما تزال دون المستوى المطلوب، وان دور المثقفين ما زال ادنى من قدراتهم الفعلية. ولعل الجميع يتفق معي على ان بوسعنا ان نفعل اكثر مما هو قائم، سواء على مستوى الكم أو الكيف.

على المستوى الكمي والافقي، ثمة شريحة واسعة من العلوم غير مطروقة اصلا في المجال العام. من ذلك مثلا الفلسفة بمختلف فروعها. فهي على ضرورتها للتفكير والبحث العلمي والثقافة في مختلف اشكالها وممارساتها، الا انها غائبة تماما عن مناقشاتنا وكتاباتنا. ولا تكاد تجدها الا في عدد قليل من المحاضرات الجامعية. وقد عبر الدكتور راشد المبارك في محاضرة له الاسبوع الماضي في القطيف عن شعور عميق بالحسرة لان احدا لا يهتم لهذا العلم، بل ان هناك من يمانع الحديث فيه ومناقشة قضاياه. من تلك العلوم ايضا، علم الاجتماع، وهو ايضا من العلوم الاساسية التي يتفرع عنها طائفة مهمة من العلوم مثل السياسة والتربية كما ان قضاياها وبحوثها تؤثر في شريحة واسعة من نشاطاتنا الحياتية من التنمية الاقتصادية الى العمران والادارة والتنظيم، الخ. ومثله ايضا علم القانون واهميته اوضح من اي بيان

نضيف الى العلوم الغائبة، تلك العلوم الحاضرة لكن في بعد واحد، منهجي أو اجتماعي أو تطبيقي. من ذلك مثلا الهندسة بمختلف تخصصاتها، فرغم امتلاكنا لعدد كبير نسبيا من الكليات الجامعية المتخصصة، ورغم العدد الكبير جدا من خريجي فروع الهندسة، اولئك الذين درسوا في المملكة أو خارجها، الا ان الانتاج العلمي في مختلف التخصصات الهندسية لا يزال ضئيلا جدا. يعرف حجم الانتاج العلمي من خلال الكتب والمقالات العلمية والمؤتمرات والنقاشات العلمية فضلا عن التطبيقات. بالرجوع الى الاحصاءات التي تنشرها هيئات عالمية متخصصة، فان نشاطنا في مختلف هذه الجوانب لا يزال في مستوى متدن جدا حتى بالقياس الى البلدان المجاورة مثل مصر وايران وباكستان

على المستوى الاجتماعي فان العلم ليس من موضوعات الاهتمام اليومي عند الاغلبية الساحقة من المواطنين. ويرجع هذا في ظني الى الفاصلة الاجتماعية الكبيرة بين النخبة العلمية والمثقفة وبين عامة الناس. اجد ان الغالبية الكبرى من اولادنا يستعملون الكمبيوتر ويقودون السيارة، لكنهم في المجمل يستعملونها كمنتج جاهز ونهائي، لا كموضوع للتجربة والاختبار. بعبارة اخرى فان تعاملهم مع العلوم ذو طابع استهلاكي في المجمل، وان معرفتهم بالتقنية لا تتجاوز استهلاكها ولا تصل الى انتاجها أو تعديلها أو تطويرها

في هذا الجانب والجوانب السابقة، تستطيع الحكومة فعل الكثير، لكن المسؤولية الكبرى تقع على المثقفين الافراد. بامكان هؤلاء ان يتنادوا الى عرض العلوم الغائبة أو المغيبة على الساحة، كي يجعلوها مألوفة لعامة الناس. كما ان بامكان حملة العلوم الطبيعية والهندسية فعل الشيء نفسه بطرح الجوانب التي تمس حياة الناس من تلك العلوم. في البلدان الغربية مثلا اصبحت قضايا مثل البيئة والتلوث والتنظيم العمراني وقضايا الاقتصاد والتمويل والطاقة، اصبحت مسائل متداولة ومفهومة حتى لطلبة المدارس، حين طرحها المتخصصون في اطارات بسيطة وقريبة من يوميات الناس وهمومهم المعيشية

يمكن للاعلام ان يلعب دورا هاما في ردم الفجوة التي تفصل العلماء والمتخصصين عن عامة الناس، واجد في تجربة التلفزيون البريطاني مثلا، دليلا قويا على جدوى هذا النوع من النشاط. ان معظم البرامج التي تسمى اجمالا بالوثائقية التي تعدها البي بي سي مثلا، تهدف اساسا الى توضيح قضايا علمية وتوصيلها الى عامة الناس. ووجدت ان وزارة التعليم البريطانية تمول وتدعم مثل هذه البرامج وتستعملها في مدارسها كاضافة الى برامج تعليم العلوم. خلاصة الكلام ان مبادرات المثقفين يمكن ان تسد جانبا من الفراغ المشهود في التداول الاجتماعي للثقافة والعلم ولعلها – من خلال ذلك - تسهم ايضا في استنقاذ الاعلام المحلي من حالة الهبوط والتكرار التي تغلب عليه، وهذا بذاته مطلب وحاجة.
عكاظ 2 يناير 2008  العدد : 2390
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080102/Con20080102163163.htm

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...